ما بين بينونية العقل واستحقاقات الثقافة
تاريخ النشر: 1st, September 2024 GMT
نلحظ جل البرامج التي تذهب إلى شيء من التحرر أو الانعتاق، توجه إلى الفئات العمرية الصغيرة، لسهولة التأثير على قناعاتها، التي لم تحتوها الهويات بعد، بخلاف الكبار، الذين تأصلت فيهم الهوية والتجذر، حيث يبقى من الصعوبة بمكان إحداث خلل في تركيبتها البنيوية
لا تزال العلاقة بين الإنسان ومحيطه علاقة جدلية، ويعود هذا الجدل إلى مقررات منطقية، توجدها مجموعة من التساؤلات منها: أيهما المؤثر في الآخر، الإنسان هو الذي يؤثر في محيطه -مع اتساع رقعة مفهوم المحيط- فيوجد فيه واقعًا مختلفًا وغير مألوف؟ أم أن العكس هو ما يحدث، حيث يؤثر المحيط على الإنسان فيوجد فيه قناعات جديدة، تنقله من حالته التي كانت، إلى حالة جديدة تمثل صدمة يحس بأثرها الآخرون؟ ولنضرب لذلك مثالا: إنسان يعيش في بيئة خاملة، بينما هو يشتعل نشاطًا، وإبداعا، وحماسة، ويسعى بكل ما عنده من طاقة ليغير واقعه الذي يعيشه، فهل سيكتب له نجاح ما يسعى إليه، أم سيعود مع نهايات اليوم، وقبل مغيب الشمس مكسور الخاطر، لا يلوي على أحد؟ وبالمقابل: هناك إنسان خامل كسول، ولكن محيطه شعلة من النشاط، لا تكاد تغرب عنه الشمس، فإن غابت الشمس الحقيقية، استبدلها ما يعوضه ذلك، فهل واقع كهذا يمكن أن يخرج هذا الكسول عن صمته، فيعلو صوت ضميره، ونفسه، ويملك الشجاعة بالمجاهرة بما عنده من معززات القوة والنشاط، كحال أي إنسان يعيش في هذا الكون؟ فإن كان الأمر كذلك، يمكن التسليم للحالتين، وهو قدرة البيئة على التأثير على الأفراد والمجموعات لتخمد جذوة نشاط عند فرد ما، أو تعلي معطيات السبات عند فرد آخر، وحينها لا يلام الشخص على تقصيره؛ لأن البيئات المحيطة هي التي ترسم مسارات الحياة في كل بقعة جغرافية تضم مجموعة من الناس، يتفاعلون فيما بينهم، أو يواسون أنفسهم امتثالا لواقعهم، وبالتالي فالصورة العامة للحراك البشري القائم خاضع لحتمية البيئة الإنسانية، فهي التي تقرر وفق ما قاله الشاعر نزار قباني: «أنا أقرر من سيدخل جنتي، وأنا أقرر من سيدخل ناري».
من هنا إذن يأتي تقسيم العالم إلى دول متقدمة، ودول متأخرة، وشعوب متقدمة، وشعوب متأخرة، وللتقليل من قسوة مفردة «متأخرة» قالوا: «نامية» مع أن النمو له مراحل، وهذه المراحل لا تتوقف عند مستوى معين، وإنما يواصل نموه مزدهرا حتى تتحقق الغايات الكبيرة، وعندما نصف واقعًا كهذا بـ«الحتمية» فإن زوال هذه الحتمية -وفق هذا الواقع- لن يكون سهلًا، ويبقى المنفذ الوحيد لذلك هو خروج هذا الفرد من حتمية البيئة التي يعيش فيها إلى حتمية بيئة أخرى أكثر نشاطا، إن كان هو نشيط في الأصل ويعيش في بيئة خاملة، وهناك الكثير مما نسمع، ونقرأ عن أناس فارقوا أوطانهم هروبا من حتمية غير محفزة، إلى بيئة أكثر نشاطا وحراكا ونموا.
وهذه الصورة أعلاه تجبرنا إلى استحضار أثر الثقافة، والثقافة هنا -وفق مفهومها الشامل- وليست القراءة وكتابة النص الأدبي، بل تذهب المسألة إلى الأبعد من ذلك، وهي القدرة المعرفية على خلخلة البنى الذاتية التراكمية للأجيال، فهناك تراكم غير عادي (مادي/ معنوي) كما هو حالة كرة الثلج للأجيال المتقدمة، تفرغ هذا التراكم مع كل نهاياتها في الأجيال المتأخرة، فيما يعرف بعملية التقليد، والتأثير، ومن هنا يأتي ترديد عبارة: «لن يصلح حال الحاضر، إلا بما صلح به حال الماضي» وبالتالي، فوفقا لهذا المنطق فحياة الشعوب مرتهنة بماضيها أكثر من حاضرها، وهذا يناقض الواقع، ويتصادم معه صداما مباشرا، فالمنجز المعرفي الذي عليه الحياة اليوم، وما سيكون عليه في الغد، لا يمكن أن يربط بهذا الفهم، مع التأكيد بحق التأسيس للمعرفة، وحق البناء على هذا التأسيس عبر مراحل الزمن، ولا انفصام بين تأثير البيئة المحيطة على البناءات الفكرية وتعزيز دورها، وبين معادات أي تقدم يحدث في بيئة مختلفة، والدليل على ذلك أن جل العاملين في البيئات الفكرية النشطة هم، أو جذورهم تعود إلى البيئات الفكرية الخاملة كبيئات الدول النامية، وهنا لا نزال نمتحن الثقافة في قدرتها على انتزاع الحالة الخاملة، وزجها في متون الاشتعال، أو العكس، ولذلك فهناك هروب (فردي/ جماعي) لكلا الحالتين، وهذا الهروب الذي يوقعنا في صدمة الحيرة، هو ما يذهب إليه تفسير قدرة الثقافة على خلخلة التركيبة البنيوية للإنسان، وقد تعاد المسألة أكثر إلى أثر التراكم العمري للفرد، فبينما في مرحلة العمر النشطة يبقى من السهل هذا الانتزاع، بينما في العمر التراكمي غير النشط، لن يكون الأمر سهلًا، ولذلك نلحظ جل البرامج التي تذهب إلى شيء من التحرر أو الانعتاق، توجه إلى الفئات العمرية الصغيرة، لسهولة التأثير على قناعاتها، التي لم تحتوها الهويات بعد، بخلاف الكبار، الذين تأصلت فيهم الهوية والتجذر، حيث يبقى من الصعوبة بمكان إحداث خلل في تركيبتها البنيوية، ومع ذلك فالثقافة المعنية هنا -يقينا- لا تصطدم بالمعرفة في جزئها التقني، والعمر المتراكم الذي يؤصل الهويات أكثر، هو الآخر لا يتصادم مع المعرفة كمعرفة، ولكنه قد يواجه صعوبة في استيعابها بالجملة، وتبقى الأجيال في أعمارها الصغيرة هو المحرك في التفاعل، وهي النشطة في الإبداع والابتكار، ومع ذلك كله، لا يمكن إقصاؤها عن هوياتها الأصل، وإن كانت هناك استثناءات فستظل عند مستوى استثناءاتها فقط.
يحضر ميزان العقل في الأعمار المتأخرة، وبعد أن قطعت التجربة العمرية سنا متحققا من المواقف، والقناعات، والتجارب صغيرها وكبيرها، وتأخير ميزان العقل إلى هذا العمر المتقدم في حياة كل فرد، ليكون له استحقاق مصيري مطلق، فما بعد العقل لا يكون إلا الجنون، أليس كذلك؟ فالعقل بخلاف غيره من معززات النفس، له القدرة على أن يقيم حراكا تفاعليا يسقط فيه الثقافة بكل سهولة، وقد سمعنا الكثير من المواقف عن أشخاص كانت لهم ردة فعل عنيفة لواقعهم الذي عايشوه، وتربوا فيه، وانغمسوا في كل جزئياته، ولكن في لحظة ما من منجزات العمر، ضربوا بكل ذلك عرض الحائط، وانتصروا لرؤيتهم الخاصة، وبذلك اتهموا بالجنون، وبنكران الجميل، وهناك من أسقط في بئر الخيانة، وطبعا هذه التهم كلها تأتي في سياق التنظير، وعدم التيقن من الفرد نفسه، ومعرفة أسباب هذا الجنوح الكبير الذي قام به، ويقينا المسألة الإنسانية عند هذا الفرد أو ذاك ليست وليدة الساعة، وإنما هي عملية تراكمية، وهي نتيجة صراع قاسٍ يعيشها الفرد بين تجاذبات النفس، واستحكامات العقل الذي يتجاوز كل مغريات الواقع، فيتخذ قراره المصيري، ولا يهمه في ذلك مجموعة القناعات التي عليها من حوله، معتبرا ذلك محصلة طبيعية وصل إليها هؤلاء وهؤلاء، كما يعتبر ما هو عليه الآن هو أيضا محصلة طبيعية، وبذلك يمكن نفي السؤال التالي: هل العقل صناعة محلية، وماذا عن تأثيرات الثقافة على توجهات العقل؟ لا أبدا، فالعقل لن يكون صناعة محلية، وإلا تشابهت الشعوب التي تعيش في بيئة معينة في كثير من جوانب حياتها، وفي قناعاتها، وفي مواقفها، والواقع يؤكد هذا النفي، ومن يدقق أكثر في هذا الأمر يصل إلى قناعة من أنه ليس في صالح الأوطان أن تتشابه العقول والقناعات والمواقف، وبالتالي فحالات التباين التي تحدث بين أفراد المجتع حول موضوع ما، هي ظاهرة صحية، ولا تشكل أية خطورة على الأمن العام، بل هي توجد مخارج، ومجموعة حلول لكثير من القضايا التي يعتقد أنها قد وصلت إلى طريق مسدود، وحتى لا نظلم الثقافة - سواء في اتفاقها مع توجهات العقل، أو تضادها معه - يمكن القول أن الثقافة تستطيع أن تشكل قناعات أكيدة في نفوس جمهورها، وتتوافق مع معطيات العقل، ونقصد به هنا العقل الراشد، ومبادرات التحرر التي يسعى العقل إلى الالتفاف معها لن تربك الثقافة في شيء، بل لدى الثقافة القدرة على الالتحام مع العقل والخروج بهيئة الفرد مكتمل النمو من القناعات والمواقف والرؤى، بما يؤول ذلك إلى خدمة الأوطان والاعتزاز بأدوارها الوطنية السامية، حيث تتكامل هنا البناءات الفكرية، فيتعزز دور الإنسان، على أن لا يتشابك مع هذا المسار شيء مما يسمى بـ «سوسة» التي تنخر مثل هذه البناءات الفكرية الراقية، وهذا غالبا ما يأتي بها المحتل في صور غير مباشرة، عبر برامج يقال عنها «تنموية» منسوبة إلى بيئات لا علاقة لها بالبيئات المنقولة إليها، حيث تبدأ حالات التباين بين الفكرة والتطبيق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی بیئة
إقرأ أيضاً:
من هو ليانغ وينفنج.. العقل المدبر لـديب سيك؟
في غضون 48 ساعة فقط، شهد العالم تغيراً كبيراً في مشهد الذكاء الاصطناعي.
حيث تراجعت أسهم التكنولوجيا بمقدار تريليون دولار، وبدأت الشكوك تحوم حول زعامة الولايات المتحدة وتفردها في مجال الذكاء الاصطناعي، والسبب الرئيسي كان مختبر أبحاث صغير في الصين يُدعى ديب سيك، الذي أسسه الملياردير ليانغ وينفنج قبل عام فقط، ليصبح منافساً قوياً لشركات مثل OpenAI ويغير موازين القوى في صناعة التكنولوجيا.
من هو ليانغ وينفنج؟
ليانغ وينفنج، البالغ من العمر 40 عاماً، هو رجل أعمال صيني ذو خلفية في التمويل.
في عام 2015، شارك في تأسيس صندوق التحوط الكمي High-Flyer بعد تخرجه من جامعة تشجيانغ. استخدم ليانغ الذكاء الاصطناعي في استراتيجيات التداول للتنبؤ باتجاهات السوق ودعم اتخاذ القرارات الاستثمارية.
اقرأ أيضاً.. "ديب سيك".. ماذا حصل في آخر 48 ساعة؟
البداية مع الذكاء الاصطناعي
في 2021، بدأ ليانغ شراء آلاف الرقائق الرسومية من "إنفيديا" كمشروع جانبي في مجال الذكاء الاصطناعي قبل أن تفرض الحكومة الأميركية قيوداً على تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين. حينها، اعتقد معارفه أن هذا المشروع كان مجرد هواية غريبة، ولم يأخذوه على محمل الجد.
ديب سيك وتأثيره على الأسواق الأميركية
تم إطلاق تطبيق ديب سيك في 2023 ليصبح منصة متقدمة في الذكاء الاصطناعي، مشابهة لـ ChatGPT في مهام معالجة اللغة الطبيعية وتحليل البيانات. بعد إطلاقه، أصبح التطبيق الأكثر تحميلًا في الولايات المتحدة، مما أدى إلى انخفاض أسواق الأسهم الأميركية. تراجعت أسهم انفيديا بنسبة 17%، بينما انخفض مؤشر ناسداك بنسبة 5% في يوم الاثنين التالي.
تأثير سلبي على أسواق الأسهم
تأثرت أسواق التكنولوجيا الكبرى بشكل واضح. فقد شهد مؤشر ناسداك المركب انخفاضًا بنسبة 3.1%، مما أسفر عن خسارة أكثر من تريليون دولار من قيمته السوقية بعد أن بلغ قيمته 32.5 تريليون دولار في الأسبوع السابق.
استراتيجية التوظيف في ديب سيك
رغم أن ديب سيك بدأت كمشروع جانبي، إلا أن ليانغ كان شخصيًا مشاركًا في أبحاث الشركة وكان لديه خطة لتحويلها إلى رائد محلي في مجال الذكاء الاصطناعي. اعتمد في ذلك على جذب أفضل المواهب من الجامعات الصينية ودفع رواتب على مستوى الشركات الكبرى مثل ByteDance المالكة لتطبيق تيك توك.
الخلاصة
بفضل استراتيجيته المبتكرة وتطويره لتطبيق ديب سيك بتكلفة منخفضة مقارنة بنظيراتها الغربية، تمكن ليانغ وينفنج من أن يصبح أحد اللاعبين الرئيسيين في مجال الذكاء الاصطناعي، ما أثار قلق الأسواق الأميركية وحفز منافسة قوية في هذه الصناعة.
إسلام العبادي(أبوظبي)