لجريدة عمان:
2025-04-26@10:58:09 GMT

ما بين بينونية العقل واستحقاقات الثقافة

تاريخ النشر: 1st, September 2024 GMT

نلحظ جل البرامج التي تذهب إلى شيء من التحرر أو الانعتاق، توجه إلى الفئات العمرية الصغيرة، لسهولة التأثير على قناعاتها، التي لم تحتوها الهويات بعد، بخلاف الكبار، الذين تأصلت فيهم الهوية والتجذر، حيث يبقى من الصعوبة بمكان إحداث خلل في تركيبتها البنيوية

لا تزال العلاقة بين الإنسان ومحيطه علاقة جدلية، ويعود هذا الجدل إلى مقررات منطقية، توجدها مجموعة من التساؤلات منها: أيهما المؤثر في الآخر، الإنسان هو الذي يؤثر في محيطه -مع اتساع رقعة مفهوم المحيط- فيوجد فيه واقعًا مختلفًا وغير مألوف؟ أم أن العكس هو ما يحدث، حيث يؤثر المحيط على الإنسان فيوجد فيه قناعات جديدة، تنقله من حالته التي كانت، إلى حالة جديدة تمثل صدمة يحس بأثرها الآخرون؟ ولنضرب لذلك مثالا: إنسان يعيش في بيئة خاملة، بينما هو يشتعل نشاطًا، وإبداعا، وحماسة، ويسعى بكل ما عنده من طاقة ليغير واقعه الذي يعيشه، فهل سيكتب له نجاح ما يسعى إليه، أم سيعود مع نهايات اليوم، وقبل مغيب الشمس مكسور الخاطر، لا يلوي على أحد؟ وبالمقابل: هناك إنسان خامل كسول، ولكن محيطه شعلة من النشاط، لا تكاد تغرب عنه الشمس، فإن غابت الشمس الحقيقية، استبدلها ما يعوضه ذلك، فهل واقع كهذا يمكن أن يخرج هذا الكسول عن صمته، فيعلو صوت ضميره، ونفسه، ويملك الشجاعة بالمجاهرة بما عنده من معززات القوة والنشاط، كحال أي إنسان يعيش في هذا الكون؟ فإن كان الأمر كذلك، يمكن التسليم للحالتين، وهو قدرة البيئة على التأثير على الأفراد والمجموعات لتخمد جذوة نشاط عند فرد ما، أو تعلي معطيات السبات عند فرد آخر، وحينها لا يلام الشخص على تقصيره؛ لأن البيئات المحيطة هي التي ترسم مسارات الحياة في كل بقعة جغرافية تضم مجموعة من الناس، يتفاعلون فيما بينهم، أو يواسون أنفسهم امتثالا لواقعهم، وبالتالي فالصورة العامة للحراك البشري القائم خاضع لحتمية البيئة الإنسانية، فهي التي تقرر وفق ما قاله الشاعر نزار قباني: «أنا أقرر من سيدخل جنتي، وأنا أقرر من سيدخل ناري».

من هنا إذن يأتي تقسيم العالم إلى دول متقدمة، ودول متأخرة، وشعوب متقدمة، وشعوب متأخرة، وللتقليل من قسوة مفردة «متأخرة» قالوا: «نامية» مع أن النمو له مراحل، وهذه المراحل لا تتوقف عند مستوى معين، وإنما يواصل نموه مزدهرا حتى تتحقق الغايات الكبيرة، وعندما نصف واقعًا كهذا بـ«الحتمية» فإن زوال هذه الحتمية -وفق هذا الواقع- لن يكون سهلًا، ويبقى المنفذ الوحيد لذلك هو خروج هذا الفرد من حتمية البيئة التي يعيش فيها إلى حتمية بيئة أخرى أكثر نشاطا، إن كان هو نشيط في الأصل ويعيش في بيئة خاملة، وهناك الكثير مما نسمع، ونقرأ عن أناس فارقوا أوطانهم هروبا من حتمية غير محفزة، إلى بيئة أكثر نشاطا وحراكا ونموا.

وهذه الصورة أعلاه تجبرنا إلى استحضار أثر الثقافة، والثقافة هنا -وفق مفهومها الشامل- وليست القراءة وكتابة النص الأدبي، بل تذهب المسألة إلى الأبعد من ذلك، وهي القدرة المعرفية على خلخلة البنى الذاتية التراكمية للأجيال، فهناك تراكم غير عادي (مادي/ معنوي) كما هو حالة كرة الثلج للأجيال المتقدمة، تفرغ هذا التراكم مع كل نهاياتها في الأجيال المتأخرة، فيما يعرف بعملية التقليد، والتأثير، ومن هنا يأتي ترديد عبارة: «لن يصلح حال الحاضر، إلا بما صلح به حال الماضي» وبالتالي، فوفقا لهذا المنطق فحياة الشعوب مرتهنة بماضيها أكثر من حاضرها، وهذا يناقض الواقع، ويتصادم معه صداما مباشرا، فالمنجز المعرفي الذي عليه الحياة اليوم، وما سيكون عليه في الغد، لا يمكن أن يربط بهذا الفهم، مع التأكيد بحق التأسيس للمعرفة، وحق البناء على هذا التأسيس عبر مراحل الزمن، ولا انفصام بين تأثير البيئة المحيطة على البناءات الفكرية وتعزيز دورها، وبين معادات أي تقدم يحدث في بيئة مختلفة، والدليل على ذلك أن جل العاملين في البيئات الفكرية النشطة هم، أو جذورهم تعود إلى البيئات الفكرية الخاملة كبيئات الدول النامية، وهنا لا نزال نمتحن الثقافة في قدرتها على انتزاع الحالة الخاملة، وزجها في متون الاشتعال، أو العكس، ولذلك فهناك هروب (فردي/ جماعي) لكلا الحالتين، وهذا الهروب الذي يوقعنا في صدمة الحيرة، هو ما يذهب إليه تفسير قدرة الثقافة على خلخلة التركيبة البنيوية للإنسان، وقد تعاد المسألة أكثر إلى أثر التراكم العمري للفرد، فبينما في مرحلة العمر النشطة يبقى من السهل هذا الانتزاع، بينما في العمر التراكمي غير النشط، لن يكون الأمر سهلًا، ولذلك نلحظ جل البرامج التي تذهب إلى شيء من التحرر أو الانعتاق، توجه إلى الفئات العمرية الصغيرة، لسهولة التأثير على قناعاتها، التي لم تحتوها الهويات بعد، بخلاف الكبار، الذين تأصلت فيهم الهوية والتجذر، حيث يبقى من الصعوبة بمكان إحداث خلل في تركيبتها البنيوية، ومع ذلك فالثقافة المعنية هنا -يقينا- لا تصطدم بالمعرفة في جزئها التقني، والعمر المتراكم الذي يؤصل الهويات أكثر، هو الآخر لا يتصادم مع المعرفة كمعرفة، ولكنه قد يواجه صعوبة في استيعابها بالجملة، وتبقى الأجيال في أعمارها الصغيرة هو المحرك في التفاعل، وهي النشطة في الإبداع والابتكار، ومع ذلك كله، لا يمكن إقصاؤها عن هوياتها الأصل، وإن كانت هناك استثناءات فستظل عند مستوى استثناءاتها فقط.

يحضر ميزان العقل في الأعمار المتأخرة، وبعد أن قطعت التجربة العمرية سنا متحققا من المواقف، والقناعات، والتجارب صغيرها وكبيرها، وتأخير ميزان العقل إلى هذا العمر المتقدم في حياة كل فرد، ليكون له استحقاق مصيري مطلق، فما بعد العقل لا يكون إلا الجنون، أليس كذلك؟ فالعقل بخلاف غيره من معززات النفس، له القدرة على أن يقيم حراكا تفاعليا يسقط فيه الثقافة بكل سهولة، وقد سمعنا الكثير من المواقف عن أشخاص كانت لهم ردة فعل عنيفة لواقعهم الذي عايشوه، وتربوا فيه، وانغمسوا في كل جزئياته، ولكن في لحظة ما من منجزات العمر، ضربوا بكل ذلك عرض الحائط، وانتصروا لرؤيتهم الخاصة، وبذلك اتهموا بالجنون، وبنكران الجميل، وهناك من أسقط في بئر الخيانة، وطبعا هذه التهم كلها تأتي في سياق التنظير، وعدم التيقن من الفرد نفسه، ومعرفة أسباب هذا الجنوح الكبير الذي قام به، ويقينا المسألة الإنسانية عند هذا الفرد أو ذاك ليست وليدة الساعة، وإنما هي عملية تراكمية، وهي نتيجة صراع قاسٍ يعيشها الفرد بين تجاذبات النفس، واستحكامات العقل الذي يتجاوز كل مغريات الواقع، فيتخذ قراره المصيري، ولا يهمه في ذلك مجموعة القناعات التي عليها من حوله، معتبرا ذلك محصلة طبيعية وصل إليها هؤلاء وهؤلاء، كما يعتبر ما هو عليه الآن هو أيضا محصلة طبيعية، وبذلك يمكن نفي السؤال التالي: هل العقل صناعة محلية، وماذا عن تأثيرات الثقافة على توجهات العقل؟ لا أبدا، فالعقل لن يكون صناعة محلية، وإلا تشابهت الشعوب التي تعيش في بيئة معينة في كثير من جوانب حياتها، وفي قناعاتها، وفي مواقفها، والواقع يؤكد هذا النفي، ومن يدقق أكثر في هذا الأمر يصل إلى قناعة من أنه ليس في صالح الأوطان أن تتشابه العقول والقناعات والمواقف، وبالتالي فحالات التباين التي تحدث بين أفراد المجتع حول موضوع ما، هي ظاهرة صحية، ولا تشكل أية خطورة على الأمن العام، بل هي توجد مخارج، ومجموعة حلول لكثير من القضايا التي يعتقد أنها قد وصلت إلى طريق مسدود، وحتى لا نظلم الثقافة - سواء في اتفاقها مع توجهات العقل، أو تضادها معه - يمكن القول أن الثقافة تستطيع أن تشكل قناعات أكيدة في نفوس جمهورها، وتتوافق مع معطيات العقل، ونقصد به هنا العقل الراشد، ومبادرات التحرر التي يسعى العقل إلى الالتفاف معها لن تربك الثقافة في شيء، بل لدى الثقافة القدرة على الالتحام مع العقل والخروج بهيئة الفرد مكتمل النمو من القناعات والمواقف والرؤى، بما يؤول ذلك إلى خدمة الأوطان والاعتزاز بأدوارها الوطنية السامية، حيث تتكامل هنا البناءات الفكرية، فيتعزز دور الإنسان، على أن لا يتشابك مع هذا المسار شيء مما يسمى بـ «سوسة» التي تنخر مثل هذه البناءات الفكرية الراقية، وهذا غالبا ما يأتي بها المحتل في صور غير مباشرة، عبر برامج يقال عنها «تنموية» منسوبة إلى بيئات لا علاقة لها بالبيئات المنقولة إليها، حيث تبدأ حالات التباين بين الفكرة والتطبيق.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی بیئة

إقرأ أيضاً:

هل يمكن أن يسبب الزبادي قليل الدسم السرطان؟.. تحذير مهم

يُعتبر الزبادي من أهم الأطعمة المفيدة لصحة الأمعاء، بفضل احتوائه على البروبيوتيك، الألياف، والفيتامينات الأساسية مثل الكالسيوم والبوتاسيوم وفيتامين ب12، ومع ذلك، قد يحمل الزبادي قليل الدسم مفاجأة غير سارة تهدد صحتك.

كشف الدكتور ويليام لي، الطبيب الشهير ومؤلف كتاب "تناول الطعام لتحسين نظامك الغذائي"، عن خطر محتمل للزبادي قليل الدسم على الأمعاء، مما قد يزيد من خطر الإصابة بـسرطان القولون.

كيف يتحول الزبادي قليل الدسم من غذاء مفيد إلى مصدر خطر؟

حسب الدكتور لي، عندما يتم إزالة الدهون الطبيعية من الزبادي لتحويله إلى منتج قليل الدسم، يلجأ المصنعون إلى إضافة مستحلبات ومواد كيميائية مثل الكاراجينان وبوليسوربات 80 لتحسين قوامه.

ما هي خطورة هذه المواد المضافة؟

الكاراجينان: مستخلص نباتي يُستخدم لتحسين سماكة المنتجات، لكنه مرتبط بزيادة التهابات الأمعاء.

بوليسوربات 80: مادة مستحلبة أخرى يمكن أن تضر ميكروبيوم الأمعاء الصحي.

تشير الدراسات إلى أن التهاب الأمعاء المزمن الناتج عن هذه المواد قد يؤدي إلى تلف الحمض النووي وزيادة خطر الإصابة بـسرطان القولون والمستقيم.

دراسة علمية تدعم التحذير

أظهرت دراسة نُشرت في مجلة Gastroenterology أن الإصابة بمرض التهاب الأمعاء تُعد من أبرز عوامل الخطر لسرطان القولون، كما كشفت تجارب جامعة باريس على الفئران أن تناول المستحلبات بانتظام أدى إلى التهابات معوية حادة.

كيف تحمي نفسك؟اقرأ قائمة المكونات بعناية عند شراء الزبادي.اختر الزبادي الكامل الدسم الطبيعي الخالي من الإضافات الصناعية.ابتعد عن المنتجات التي تحتوي على الكاراجينان أو بوليسوربات 80.

يُشدد الدكتور لي على أهمية اختيار الأطعمة الطبيعية لضمان صحة الأمعاء والوقاية من الأمراض المزمنة.

مقالات مشابهة

  • اشتباكات عنيفة في حبان شبوة على خلفية ثأر قبلي
  • هل يمكن أن يسبب الزبادي قليل الدسم السرطان؟.. تحذير مهم
  • هل يمكن للفول السوداني علاج حساسية الفول السوداني؟
  • منظمات دولية تحذر: أمراض يمكن الوقاية منها تهدد الملايين
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • عاجل. ترامب: عدم السيطرة على كامل أراضي أوكرانيا هو التنازل الذي يمكن أن تقدم
  • كل شيء يمكن فعله على هاتفك.. خدمة جديدة من إنستجرام لمنافسة تيك توك
  • مشاكل شائعة في الفك تسبب صداع
  • صدمات الطفولة.. كيف تترك بصمتها في العقل والجسم؟
  • موقف عمومي