مِصْرِيُّونَ فِي سَلْطَنَةِ عُمَانَ (4)
تاريخ النشر: 1st, September 2024 GMT
السفير خير الدين عبداللطيف
محمد السعداوي
(كل بعثة دبلوماسية لها أهداف تحققها، ولا بُد من أن تكون تلك الأهداف معروفة ومُعلنة وواضحة، لأنَّ العمل الدبلوماسي تحكمه قواعد الشفافية والمساءلة).
(إن تطوير وتحديث العمل الدبلوماسي لا يتوقف على وجود مفاهيم ومُعطيات جديدة في العلاقات الدولية المتغيرة بصفة مستمرة).
هذه بعض القواعد التي يسير عليها العمل الدبلوماسي، العمل الذي يبدو للناظر إليه شيئا جيدًا وراقيًا فقط، ولا نبصر منه إلا وجهه الحسن (الأناقة وحسن المظهر ودبلوماسية الحوار) وغيرها من الصفات التي يفترض أن يظهر بها الدبلوماسي بين أفراد البعثة، وعند الدولة المبعوث إليها.
الدبلوماسية فنٌ يجمع بين السياسة والإدارة والتواصل الجيِّد، لذلك فلا يجيدها كثير من العاملين في هذا الحقل الهام.
وعندما نجد دبلوماسيًا ناجحًا أو سفيرًا مُتميزًا، ندرك مدى أهمية ذلك وتأثيره المباشر، على العلاقات مع الدولة المضيفة أولا، وثانيا على أبناء الجالية المصرية في تلك الدولة.
وأحسب أني كنت شاهد عيان على حُسن أداء عدد من الدبلوماسيين والسفراء المصريين في سلطنة عمان لمدة طويلة، وكان منهم سفراء ودبلوماسيون متميزون يجب أن نوفيهم حقهم، جزاء تميزهم وما قدموه من خدمات جليلة لمصر والمصريين في سلطنة عمان وغيرها من البلدان.
وأذكر مثالا لدبلوماسيين متميزين كانت لهم بصمات واضحة طوال مدة عملهم في سلطنة عمان ألا وهم السفير خير الدين عبد اللطيف، والسفير حازم حنفي، والسفير محمد غنيم، رغم الفاصل الزمني لتواجدهم في سلطنة عمان واختلاف عمل كل منهم، إلا أنهم- وأحسبني على صواب- لم يتكرروا وحققوا الكثير من التميز في العمل الدبلوماسي بالسفارة المصرية في مسقط.
السفير خير الدين عبداللطيف عطا الله، ذلك الرجل الذي بدأ حياته الدبلوماسية وهو أول دفعته بمعهد الدراسات الدبلوماسية، ثم التحق بالسلك الدبلوماسي المصري، وتدرج في المناصب، وصولًا إلى درجة سفير من الفئة الممتازة، وعمل سفيرًا لمصر لدى كل من جمهورية الهند، وسلطنة عُمان، وقبل ذلك عمل بسفارات مصر بالخارج في لندن، وكنشاسا، وأديس أبابا، وموسكو، والدوحة.
وخلال فترة العمل بديوان عام وزارة الخارجية المصرية، شغل الدكتور خير الدين عبداللطيف عددًا من المناصب المهمة، فعمل مديرًا لمكتب الدكتور أسامة الباز المستشار السياسي لرئيس الجمهورية سابقًا، كما عمل مستشارًا مُنتدبًا بمكتب رئيس الجمهورية، ونائبًا لمساعد وزير الخارجية لشؤون المُعاهدات الدولية، ومساعدًا لوزير الخارجية ومديرًا لمعهد الدراسات الدبلوماسية، ومساعدًا للوزير للشؤون المالية والإدارية، كما عمل عضوًا بمجلس مساعدي وزير الخارجية.
والسفير خير الدين عبد اللطيف شغل العديد من المناصب القيادية أهمها مساعد وزير الخارجية المصرية الأسبق، ونائب رئيس مجلس أمناء جامعة 6 أكتوبر سابقًا، ومستشار مجلس أمناء جامعة ظفار للتطوير سابقًا.
كما حظي بخبرات متنوعة في المجالات الدبلوماسية والأكاديمية والإدارية، كذا في مجال التدريب والقضايا الإنسانية والبيئية والتنمية المستدامة.
وحصل سعادة السفير على العديد من شهادات التقدير والجوائز والأوسمة، أهمها وسام النعمان من الدرجة الأولى من السلطان قابوس بن سعيد، وجائزة نهرو لعامين على التوالي.
وقد كان لسعادته طوال فترة عملة بسلطنة عمان رؤية متميزة لدور السفارة والجالية بدأها كما يلي:
* توطيد علاقات الجالية المصرية
لم يكن غريبًا أن تجد سعادة السفير يشارك في دورة رمضانية لكرة القدم، أو يلبي دعوة إفطار يقيمها المصريون العاملون في جامعة السلطان قابوس، أو حضور حفل أو تكريم لبعض العاملين في المدارس الحكومية أو الخاصة بالسلطنة، أو الذهاب في زيارات ودية الى وزارة التربية والتعليم في نهاية السنة الدراسية عند وجود إنهاءات للمعلمين المصريين وكانت كلها بفضل الله إيجابية.
لذك فقد ساهم قربة ومعرفته المباشرة بأبناء الجالية في حل كثير من المشاكل، ومعرفة كثير من أوجه التعاون بين مصر وسلطنة عُمان فقد زاد عدد المبعوثين المصريين إلى سلطنة عمان طوال فترة وجوده، كما تَدين الجالية المصرية له بالفضل كأول سفير طلب استبدال رخصة القيادة المصرية برخصة قيادة عمانية؛ حيث قام سعادته بدعوة قيادات المرور بسلطنة عمان الى التعرف على أنظمة المرور في مصر وطرق استخراج الرخص، والتطور المواكب للأنظمة المرورية الحديثة.
وقد سن سعادته سُنة حسنة لم تك من قبله، وسار عليها بعض السفراء وأهملها كثيرون منهم، ذلك أنه دأب على إرسال بعضًا من العاملين بالقسم القنصلي الى مختلف المحافظات، مثل ظفار والظاهرة وشمال الباطنة وجنوب الشرقية، وغيرها، لإنجاز التصديقات والتوكيلات وكل أعمال القسم القنصلي، كي يوفر على كثير من أبناء الجالية مشقة السفر إلى مسقط، وكان كثيرًا ما يصاحب تلك البعثة بنفسه للقاء أبناء الجالية وحل مشاكلهم.
* لقاءات وندوات بالسفارة المصرية بمسقط
كان سعادته شديد الحرص على اللقاء مع أبناء الجالية المصرية في كل المناسبات، بدعوتهم إلى مقر السفارة باعتبارها بيتًا لكل المصريين، فنُظِّمت ندوات ولقاءات ثقافية وفنية، للمصريين والعمانيين، ودعا إلى السفارة كل مسؤول أو ضيف مصري يزور السلطنة، ونظم لهم لقاء بأبناء الجالية للتعرف على أحوالهم وعرض مشاكلهم في حوار مفتوح دون اية قيود، وأذكر أننا التقينا أكثر من مرة بأكثر من وزير للخارجية ووزراء آخرين وبالدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس، ومثقفين وكتاب ورياضيين وإعلاميين وفنانين.
* العلاقات المصرية العمانية
لم يكن سعادته يدخر جهدًا أو يتوانى لحظة عن العمل الدؤوب كي يرفع اسم مصر عاليًا، وكان الملف الاقتصادي من أهم أولوياته، وشهدت بعثتنا الدبلوماسية تطورًا جادًا ولافتا ومؤثرًا طوال وجوده، يكفي أن البعثة كانت تتضمن مستشارًا تجاريًا وإعلاميًا وثقافيًا، إضافة لنائب للسفير وقنصل ومستشار سياسي، فكانت بعثة وبحق مؤثرة ومتواصلة وناجحة بشهادة الجانب العماني وكثير من العمانيين الذين لمسوا دورًا ظاهرًا للبعثة المصرية في تلك الفترة، وكانت علاقاته الرسمية والودية بغير تكلف عاملًا مهمًا في نجاح كل مساعيه، المباشرة وغير المباشرة لحل وتذليل العقبات في مختلف الأصعدة.
وإن كان سعادة السفير خيرالدين عبداللطيف هو المايسترو والقائد، إلّا أنة والحق يقال كان كل أعضاء البعثة على تناغم وتواصل أثمر عن نجاحات متعددة.
كانت فترة زاخرة بالفعاليات المصرية، فقد أقيم وبانتظام عدد كبير من المعارض التجارية المصرية، شاركت فيها شركات حكومية وخاصة بارزة، وأقيمت مهرجانات وفعاليات ثقافية وفنية أظهرت الدور الثقافي والفني لمصر كقوى ناعمة، وكان لها أثرًا كبيرًا على تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية المصرية العمانية.
حقًا.. الذكري الطيبة والعمل الجاد لهما أثر لا ينسى مهما تعاقبت الأيام، والقائد الدبلوماسي الذي يُحسن تمثيل بلده، يبقى أثره خالدًا في أعماله وشاهدًا على نجاحاته.. فشكرًا سعادة السفير خير الدين عبداللطيف على ما قدمته لمصر وللمصريين.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الدبلوماسية العمانية والمفاوضات النووية
كمراقب للشأن الوطني والإقليمي والدولي منذ عقود يمكن القول بأن الدبلوماسية العمانية ارتكزت على محددات أساسية منذ فجر نهضتها الحديثة التي قادها السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- يوم ٢٣ يوليو ١٩٧٠، حيث إن تحديد الأسس لأي سياسة خارجية ينتج عنه سلوك محدد واضح لا يتغير إلا في إطار الآليات التي تفرضها الأحداث ومع ذلك تبقى الثوابت راسخة وهو الأمر الذي أكد عليه السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في خطابه الأول عند تسلمه مقاليد الحكم في البلاد في الحادي عشر من يناير 2020. ومن هنا فإن ثبات مرتكزات السياسة الخارجية لسلطنة عمان على مدى ٥٥ عامًا أعطى للمجتمع الدولي ثقة كبيرة في نزاهة ومصداقية تلك السياسة التي تقوم على آليات الحوار والمصداقية وعدم التدخل في شؤون الآخرين ومناصرة القضايا العادلة.
وخلال أكثر من خمسة عقود كانت هناك اختبارات حقيقية للسياسة الخارجية العمانية على الصعيد العربي والإقليمي والدولي وكمراقبين وصحفيين لسياسة بلادنا الخارجية، ومن خلال عشرات الحوارات مع القيادات السياسية من القارات الخمس هناك إجماع بأن السياسة الخارجية لسلطنة عمان هي الأعلى مصداقية وثباتًا، وهناك شعور بالارتياح للأطراف والفرقاء عندما لا تكون الدبلوماسية العمانية حاضرة لمساعدة الآخرين.
هذه المقدمة ضرورية والعالم شرقه وغربه تابع انطلاق المفاوضات الأمريكية الإيرانية في الثاني عشر من أبريل، حيث انطلاق الجولة الأولى في عاصمة السلام مسقط وبعدها الجولة الثانية في العاصمة الإيطالية روما وتحديدًا في مقر السفارة العمانية، وكانت الجولة الثالثة المهمة في مسقط، حيث دخلت المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن مرحلة حاسمة من خلال الفرق الفنية والدخول مباشرة إلى قضايا أساسية في البرنامج النووي الإيراني علاوة على الموضوع الأساسي الذي يهم إيران وهو رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران وهي عقوبات قاسية منذ عقود، وكان لها تأثيرات سلبية على الاقتصاد الإيراني.
إنَّ جهود سلطنة عمان من خلال الدبلوماسية والحوار وتقريب وجهات النظر بين طهران وواشنطن ليست جديدة بل تعود إلى عام ٢٠٠٨ خلال وجود الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد وتطورت الجهود الدبلوماسية العمانية حتى انطلاق المفاوضات السرية في مسقط وبعد ذلك علنية في عدد من العواصم الدولية ومنها الجولة قبل الأخيرة في مسقط التي تبعها توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة القوى الدولية وهي الدول الخمس في مجلس الأمن الدولي وهي: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا الاتحادية، والصين، وكانت جولة مسقط التي شهدنا أحداثها، حيث الحوار الأمريكي الإيراني وبقية الوفود ونجاح الدبلوماسية العمانية في خفض التصعيد وإنقاذ المنطقة من نشوب حرب كارثية، وعلى ضوء ذلك نشهد مجددًا عودة الجهود الدبلوماسية العمانية من خلال العودة إلى المفاوضات الأمريكية الإيرانية بهدف الوصول إلى اتفاق شامل وملزم بحيث يبقى الاتفاق ملزمًا لكلا الطرفين بغض النظر عن تغيير القيادات خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث انسحبت إدارة ترامب عام ٢٠١٨ من الاتفاق النووي الإيراني رغم التصديق عليه بقرار من مجلس الأمن الدولي ومن خلال تأييد المجتمع الدولي لإنهاء التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة.
لقد تابع العالم انطلاق الجولة الأولى في مسقط وهو يترقب نتائج تلك الجولة الحاسمة لأن مسار أي مفاوضات يتحدد إيجابا أو سلبا من خلال الساعات الأولى لتلك المفاوضات وعند صدور البيانات الرسمية من مسقط وطهران وواشنطن جاء الارتياح الدولي من أن هناك فرصة تاريخية للاتفاق بين طهران وواشنطن وهو الأمر الذي دفع بالجولات الثانية والثالثة إلى تحقيق اختراق سياسي مهم.
كان للجهود الدبلوماسية لسلطنة عمان بقيادة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه - دور محوري في التوصل إلى النتائج الإيجابية من خلال الجهود المقدرة لمعالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية، حيث تصدرت جهود سلطنة عمان نشرات الأخبار العالمية ووكالات الأنباء والصحافة العالمية والسبب يعود إلى خطورة الملف النووي الإيراني والتهديدات الخطيرة من قبل الرئيس الأمريكي ترامب والتحريض المتواصل من قبل نتنياهو وحكومته المتطرفة في الكيان الصهيوني، وعلى ضوء ذلك تنفس العالم الصعداء من خلال البيانات الرسمية العمانية والأمريكية والإيرانية التي تصدر بعد انتهاء كل جولة من جولات المفاوضات وكانت تلك البيانات تتحدث عن تقدم إيجابي ومسار المفاوضات يسير بشكل مشجع بحيث ينتهي إلى التوافق والتوقيع على الاتفاق النووي الإيراني وإخراج المنطقة من جو التوتر والتهديدات إلى مناخ أكثر هدوءًا، وأن الحوار والمفاوضات هي الآلية الصحيحة للوصول إلى حلول سياسية واقعية.
الملف النووي الإيراني من الملفات المعقدة والصعبة، كما أن الخلاف وعدم الثقة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية هو خلاف وعداء متواصل منذ قيام الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني عام ١٩٧٩ كما أن الكيان الصهيوني يصب الزيت على النار، ويسعى إلى إشعال حرب إقليمية كبرى قد تتدحرج إلى حرب عالمية تفتك بالملايين من البشر وتخلق حالة من العداء والكراهية بين الشرق والغرب.
إنَّ المفاوضات الأمريكية الإيرانية تسجل تقدمًا إيجابيًا ولعل ذلك يعود إلى عوامل موضوعية منها أن سلطنة عمان أوجدت المناخ المناسب عند عقد أي مفاوضات صعبة علاوة على أن الطرفين الإيراني والأمريكي لديهم ثقة كاملة بمصداقية وتوازن وموضوعية الموقف العماني، حيث تتحرك جهود الدبلوماسية العمانية بكل صدق ونزاهة لمساعدة الطرفين للوصول إلى حل لكل الخلافات والصراعات بينهما على مدى عقود.
إنَّ الدبلوماسية العمانية تسجل نجاحات متواصلة ليس للدعاية الإعلامية ولكن لإنقاذ المنطقة وشعوبها ومقدراتها وأيضا ترسيخ مبدأ السلام وإيجاد الحوار البناء، الذي يتم من خلاله حل الإشكالات والخلافات، خاصة وأن الخيار العسكري ومن خلال تجارب عديدة لن ينجح، وهناك نماذج عديدة في أفغانستان والعراق وفلسطين وحتى في اليمن وهذا يقودنا إلى أهمية استخدام القوة الناعمة في إيجاد الحلول السلمية، حيث إن القوة الصلبة لا تساعد في حل الخلافات كما هو الحال الآن بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويبدو لي أن هناك قناعات مشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بأن الوصول إلى اتفاق هو الأفضل وأن إيجاد قواسم مشتركة والتطلع إلى إقامة علاقات طبيعية هو في مصلحة البلدين والشعبين وأيضا في صالح المنطقة والعالم.