"الناس والخريف" يتحدى نفسه
تاريخ النشر: 1st, September 2024 GMT
ماجد المرهون
majidalmrhoon@gmail.com
مِما لا شك فيه أنَّ بلوغ القمَّة ليس بالأمر اليسير وقد يتحقق ذلك المبلغ لقِلَّةٍ منزورة آثرت الصعب على السَّهل، ولكن البقاء على القمةِ قد يتطلب عملًا مضاعفًا يناهز الجهد السابق ويضاهيه ذلك بأن القِمم لا تتسع للجميع، وسوف تنافس النُخبة المُتربعة في قُنة ذروتها بعضها بعضًا ليرقى أكثرهم صمودًا ومثُابرة معتلًا منبورًا يلامس به بابًا من أبواب سماء النجاح والمجد، وبذلك بدأ برنامج الناس والخريف عامهُ هذا في منتصف شهر يوليو من بوابةٍ سماوية اللون تُراثية الطابع، وهي إشارة للهوية الثقافية الأصيلة التي يتمسك بها تلفزيون سلطنة عمان منذ بداياتهِ الأولى وإلى اليوم كدلالةٍ رمزية تمس صميم اعتزاز المُواطن العُماني بماضيه العريق، مع عدم إغفال الحاضِر ومواءمة المسارين بما يتناسب ومقتضيات الحداثة وتطلعات المستقبل دون طغيان أحدهما على الآخر، وهو أمر ليس بالسهل كما قد يتبادر للذهن إذ يتطلب ذكاء متقدا وفِكرا منتقدا ولا يجمع الأمرين إلا العازم على النجاح والتميز في طرحِ قالبٍ موزون ومقبول عند كل الثقافات بتنوع رغباتها والمجتمعات بتعدد شرائحها.
لم يعُد مُذيع اليوم على شاشة التلفزيون في عصر التقدم التِقني والتطور الفني مُكتفيًا بالجلوس التقليدي المُتزمِّت وسرد الكلام كمن يروي الحكايات ليُسمع بها الطرف المقابل وحسب، بل إنه انتقل إلى مرحلةٍ تفاعليةٍ أخرى لمواكبة الحدث، حيث بات المُذيع عنصرًا مُتكيفًا مع المشهد ويعكس انطباعًا تشاركيًا للموقف وتداخلًا حسيًا معه، ويصل إلى مرحلةٍ يوقن المتابع له بأنه جزء أساسي من الحدَث وليس مجرد إدارة حوارية وظيفية، وقد تجلى ذلك مع كوكبةٍ من 13 مذيعًا متمكنًا من أبناء الوطن بمعيةِ زملائهم من دول الخليج، في لوحةٍ يوميةٍ مُتناغمة كما تتناغم من حولهم الصور الوصفية لفلسفات الخريف، من خلال كلماتهم الدلالية المُعبِّرة والمعزَّزة بثقة الحضور وزخمٍ مُشبع بثقافةٍ عامةٍ مكنتهُم من الاسترسال في الحديث دون أخطاءٍ أو حتى هفواتٍ بسيطة، وعلى الهواء مُباشرةً مما يُصعب العملية إلا على المُذيع المُتمكن والمُسيطر على أدواته بإتقان، وكُل ذلك في جوٍ عامٍ مشحون بالإيجابية ومليء بالألوان المُفرحة والأزياء البهيجة.
يعقِد القادم إلى محافظة ظفار في موسم الخريف، العزمَ على زيارة مُعظم المواقع السياحية والفعاليات المُصاحبة ولن يتسنى له ذلك لكنه يحاول استثمار وقته لمشاهدة أكبر قدرٍ ممكنٍ منها، مع أنَّ عدة أيام لا تكفي لاستيفائها؛ نظرًا لسعةِ المساحة المُكتسية بثوب الجمال ورداء الرواء المُتقلد بوِشاح الحُسن ووسام البهاء، وسوف يجد أن الأستوديوهات المتنقلة لتلفزيون سلطنة عمان قد سبقته إلى أهم المواقع وسجلت حضورها في رحلات تنقُلٍ ملحميةٍ من رخيوت إلى مرباط وما بينهما، وربما لا يُدرك المشاهد أمام الشاشة مدى صعوبة ظهور أستوديو للنقل المباشر بين ليلةٍ وضحاها ليختفي بعد عدة أيام ويعاود الظهور مجددًا في موقعٍ آخر، وما أدركته شخصيًا هو إصرار الحفاظ على مُكتسبات البقاء في القمَّة.
كان الحكواتي وصاحب مسرح العرائس يتنقلُ قديمًا من مكانٍ لآخر لتقديم عروضه، وما يُخالطه من مصاعب ومَشاق الفك والنقل والتركيب إلا أنها تقع على مستوى فردٍ واحد فقط، وقد وجدنا هذه الفكرة تتحقق في 8 مواقع مع الناس والخريف ولكن على مستوى فريق ضخم من الفنيين والإداريين والإعلاميين مما يضاعف المسؤولية ألف مرة أو يزيد؛ إذ حوَّلوا فكرة المصغرات التي طرأت على عالم التقنية إلى سياقٍ عملي جديد، وبات بالإمكان فتح الأستوديو الكبير في موقعٍ ما لعدة أيام، ثم إغلاقه وفتحه مجددًا في موقعٍ يبعُد مئات الكيلومترات عن سابقه في ظرف زمني يصل إلى 12 ساعة دون الإضرار بمستوى الجودة، وهذه خطوة متقدمة جدًا في عالم التلفزيون قياسًا بالصعاب الفنية واللوجستية، والمشاق العضلية والبدنية والضغوط النفسية والمعنوية، فضلًا عن التنسيق الدقيق والمتابعة مع الجهات الحكومية والخاصة ذات العلاقة المباشرة والفرعية، ويبدو أن تلفزيون سلطنة عمان هذا العام قد قرر سلفًا تحدي نفسه مع نسخة موسم النَّاس والخريف للعام الماضي عندما تألق بنيل جائزة الشراع الذهبي في أهم مهرجان خليجي للأعمال التلفزيونية، وبما أنَّ بلوغ القمَّة ليس بالأمر اليسير فإنَّ تحدي الذات للبقاء عليها هو أصعب من بلوغها.
إن المُتابع لبرنامج الناس والخريف لن يخفى عليه مدى التطور الهائل الذي واكب مسيرته، وكما يظهر مؤخرًا بأنه بلغ نضوجًا يجعل القائمين عليه من طواقم وطنية بامتياز على أُهبةِ الاستعداد لتحمل المسؤولية في الظهور للمشاهدين كل عامٍ بحلة تزداد جودةً وتطويرًا عن سابقه، وذلك من خلال الأفكار الخلاقة من غير اعتسافٍ مُخل أو إسفافٍ مُمل، وهو أمر ملحوظ على مدار 48 حلقة متصلة يوميًا بدون توقف لموسم 2024، كما لاحظنا أنَّ الوزن الإيقاعي لكل الحلقات استمر على نفس الوتيرة من الإثارة والتشويق ولا تخلو أحيانًا من الطرافة الرزينة والتي لا تحيد عن سياق الثقافة العامة المقبولة. وبما أنه عمل يومي ومباشر على الهواء، فإنَّ ذلك يُلقي على عاتق المُخرج وفريق التصوير مزيدًا من العبء في رصد كل موقفٍ وحركة لمراقبة الأقوال والأفعال وردودها وفي زمن تفاعلٍ قد يُحسب التجاوب معه في اتخاذ القرار بأجزاء من الثانية.
ظهر "الناس والخريف" هذا العام كأبرز برنامج داعمٍ للسياحة وحاملًا رسالة سلام تمثل السلطنة خير تمثيل وصعد بهذا المفهوم إلى مستوى يبدو من الصعب على الآخرين اللحاق به، حيث تجلَّت للمشاهدين الصور البَصرية الأخَّاذة عالية الجودة، في مناظِر مُنتقاة بعناية وزوايا مُلتقطة باحترافية، ولعب التصوير الجوي دورًا بارزًا في إضفاء اللمسة السينمائية التي تأسر المشاهد وتجذبه إلى مُعايشة اللحظة كأنه جُزء منها، كما لم يُهمل الاستفادة من إعادة تدوير الأعمال لما وراء الصورة وتطويعها بدمجها في منظومة البرنامج فيما يشبه أدب الرحلات الموثق بالمؤثرات الصوتية والضوئية والموسيقى الشعبية والتراثية والمطورة حتى تمكن من جذب المشاهد لانتظار حلقة الغد بفارغ الصبر.
ومع الوصول إلى البوابة السَماوية التُراثية التي بدأنا بها وهي تؤذن في آخر يوم من شهر أغسطس بنهاية هذا الموسم، فإنَّ كلمة شكرٍ لا تفي القائمين على برنامج "الناس والخريف" حقهم نظير ما قدموه من جهد وتفانٍ وعمل دؤوب مُتواصل طيلة فترة البث وما سبقه من إعداد وتجهيز، ولكنها كلمة لا بُد لي من قولها ولا أجد في نفسي كمُشاهد، غَضاضةً في نسب الفضل لأهله ولا مناصَ من تقديم الشكر والعرفان لتلك الجهود الكبيرة والمُقدَّرة للذين عملوا بروح وعقلية الفريق حتى أخرجوا لنا عملًا فنيًا نفخر به، ولعل أكثر ما يُثلج الصدر ويُبهج النفس في تِتر نهاية الحلقات لهذا العمل، هو زَهْوِ العناوين والمعرفّات بأسماء طاقم شبابي عُماني بالكامل من مختلف الأعمار والتخصصات، وحق لنا المُفاخرةِ بهم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟
يشهد العالم المعاصر تحوّلًا غير مسبوق في تاريخ الوجود البشري، تقوده التكنولوجيا بصفتها القوة الأكثر تأثيرًا في تشكيل ملامح الحياة الحديثة.
لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات أو منصات مساعدة، بل أصبحت بحد ذاتها بيئةً كلية نعيش فيها، وعاملًا حيويًا يُعيد صياغة مفاهيم الإنسان عن ذاته، وعن العالم، وعن الآخرين من حوله. وفي قلب هذا التحول تقف الأجيال الجديدة لا كمتلقٍّ سلبي، بل كنتاجٍ حيّ لهذا العصر الرقمي بكل تعقيداته وتناقضاته.
نتحدث هنا تحديدًا عن جيل Z (المولود بين 1997 و2012)، وجيل ألفا (المولود بعد 2013)، وهما جيلان نشآ في ظل تحوّل تكنولوجي عميق بدأ مع الثورة الرقمية في نهاية القرن العشرين، وتفاقم مع دخول الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز والميتافيرس والبيانات الضخمة إلى صلب الحياة اليومية.
جيل Z يمثل الجسر بين عالمين: عالم ما قبل الثورة الرقمية، وعالم أصبحت فيه الخوارزميات هي "العقل الجمعي" الجديد.
لقد عاش هذا الجيل مراحل الانتقال الكبرى: من الكتب الورقية إلى الشاشات، من الاتصالات الهاتفية إلى الرسائل الفورية، من الصفوف المدرسية إلى التعليم عن بُعد. أما جيل ألفا، فهو الجيل الذي لم يعرف سوى الرقمية منذ لحظة الميلاد، إذ تفتحت حواسه الأولى على شاشة، وتكوّنت مهاراته اللغوية من خلال مساعد صوتي، وتعلّم المفاهيم الأولى عن طريق تطبيقات ذكية وخوارزميات دقيقة تستجيب لسلوك المستخدم لحظيًا.
إعلانإننا لا نتحدث عن تغيّر في أنماط الحياة فقط، بل عن إعادة تشكيل حقيقية للذات الإنسانية. ففي السابق، كانت الهوية تُبنى عبر التفاعل مع الأسرة، والمدرسة، والثقافة المحلية، وكانت تنشأ ضمن سياق اجتماعي واضح المعالم.
أما اليوم، فالأجيال الرقمية تبني صورها الذاتية في فضاءات افتراضية عالمية، تتخطى الحواجز اللغوية والثقافية والجغرافية. إنها هوية "مُفلترة"، تُنتجها الصور والمنشورات والتفاعلات المرسومة وفق خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، وتُقاس بكمية "الإعجابات" والمشاهدات، لا بتجربة الذات العميقة.
هذا التحول لا يخلو من مفارقات. فعلى الرغم من الكمّ الهائل من التواصل الرقمي، تشير دراسات عديدة إلى تصاعد مشاعر الوحدة والعزلة، خصوصًا بين المراهقين والشباب.
وقد ربطت تقارير صحية بين الإفراط في استخدام التكنولوجيا وبين ارتفاع معدلات القلق، واضطرابات النوم، وضعف التركيز، وتراجع المهارات الاجتماعية.
جيل Z، برغم إتقانه المذهل للتكنولوجيا، يواجه صعوبة متزايدة في بناء علاقات واقعية مستقرة. أما جيل ألفا، فيُظهر مبكرًا قدرة رقمية خارقة، لكنها تقترن أحيانًا بضعف في التطور اللغوي والعاطفي، وكأن المهارات الإنسانية الكلاسيكية باتت تُستبدل تدريجيًا بكفاءات رقمية جديدة.
هذا لا يعني أن الأجيال الرقمية "أقل إنسانية"، بل إنها مختلفة في تركيبها المعرفي والعاطفي والاجتماعي. إنها أجيال تعيش فيما يمكن تسميته "الواقع الموسّع"، حيث تتداخل فيه الذات البيولوجية بالذات الرقمية، ويذوب فيه الخط الفاصل بين ما هو واقعي وما هو افتراضي.
وهذه الحالة تطرح سؤالًا وجوديًا جوهريًا: من أنا في عالم يُعاد فيه تشكيل الذات بواسطة أدوات لا أتحكم بها بالكامل؟ من يوجّهني فعلًا: أنا، أم البرمجية التي تختار لي ما أقرأ وأشاهد وأرغب؟
في هذا السياق، تتزايد الحاجة إلى تفكيك العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا من جديد. فنحن لم نعد فقط نستخدم التكنولوجيا، بل يُعاد تشكيلنا من خلالها، وقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا خفيًا في اتخاذ القرارات، وتوجيه السلوك، وحتى في تكوين القيم وتصورات العالم. منصات مثل تيك توك ويوتيوب وإنستغرام لم تعد وسائط ترفيهية فحسب، بل منصات لإنتاج الثقافة والهوية والسلوك الاستهلاكي.
إعلانولعل المفارقة الكبرى تكمن في أن هذه التكنولوجيا التي وُعدنا بها كوسيلة لتحرير الإنسان، باتت تخلق أشكالًا جديدة من التبعية. فمن جهة، تسهّل الحياة وتختصر الوقت، لكنها من جهة أخرى تُعيد تشكي إدراكنا بطريقة غير مرئية. إنها "القوة الناعمة" الأشد تأثيرًا في تاريخ البشرية.
في ظل هذا الواقع، لا يكفي أن نُحمّل الأفراد مسؤولية التكيف. المطلوب هو تفكير جماعي لإعادة توجيه العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. المؤسسات التعليمية مطالبة بأن تراجع مناهجها، لا فقط لتُدخل التقنية، بل لتُعيد التوازن بين ما هو رقمي وما هو إنساني.
الأسرة، بدورها، لم تعد فقط مصدرًا للقيم، بل أصبحت "ساحة مقاومة" للحفاظ على الحميمية في وجه التمدد الرقمي. أما صانعو السياسات، فعليهم مسؤولية أخلاقية وتشريعية للحدّ من تغوّل التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، ووضع ضوابط تحمي الأجيال من فقدان الجوهر الإنساني.
ينبغي ألا يكون السؤال: كيف نُقلل من استخدام التكنولوجيا؟ بل: كيف نستخدمها بطريقة تحافظ على إنسانيتنا؟ كيف نُدرّب أبناءنا على التفكير النقدي، والقدرة على التأمل، والانفتاح العاطفي، لا فقط على البرمجة والتصميم؟
نحن نعيش لحظة مفصلية، لحظة يُعاد فيها تعريف الإنسان، لا بالمعنى البيولوجي، بل بالمعنى الوجودي. وإذا لم نُحسن إدارة هذا التحوّل، فإننا قد نخسر القدرة على أن نكون ذاتًا فاعلة حرة في عالم تتزايد فيه السيطرة غير المرئية للأنظمة الذكية.
المستقبل لا تصنعه الآلات، بل الإنسان الذي يعرف كيف يتعامل معها. ولهذا، فإن المعركة الأهم ليست بين الأجيال والتكنولوجيا، بل بين الإنسان وإنسانيته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline