الموت يُغيب خليفة الطائي رائد التأليف والإخراج الإذاعي
تاريخ النشر: 1st, September 2024 GMT
الرؤية- مدرين المكتومية
منذ بداية سبعينيات القرن العشرين وخليفة بن صالح الطائيّ يقتفي أثر عائلته في التأليف، ولكنّه ولى وجهه شطر الدرّاما الإذاعية.. وما يزال أبناء الأربعينيات من شباب عُمان يتذكرون مسلسل "آباء وأبناء" (إنتاج عام 1984)، قصة وحوار خليفة الطائيّ، وبطولة صالح زعل وفخرية خميس وسعود الدرمكيّ؛ وهو أول مسلسل عُماني تمت استعارة موسيقاه التصويرية من النوتات الموسيقية العالمية.
ولأن الكتابة الدراميّة تحتاج إلى الغوص في بحر العادات والتقاليد، لاستخراج الدرر المكنونة من القيم والاشتغال عليها وتجسيدها وتضفيرها في جسد الحكاية ليتشربها الجمهور بعيدًا عن التوجيه المباشر الفج، فقد عاد المخرج والمؤلف خليفة الطائيّ إلى الجمهور بقصة وحوار لمسلسل تليفزيوني جديد بعنوان "وعاد الربيع" من إنتاج عام 1988. ومما يلفت النظر في هذا المسلسل أن معظم الطواقم الفنية كانت عُمانية خالصة في التصوير والهندسة الصوتية والمونتاج، وكان الإخراج لحسن بن راشد الراسبي.
ومع تدشين أول مهرجان للإبداع الإعلاميّ العمانيّ، اعتلى الفنان خليفة بن صالح الطائي منصة التتويج تقديرًا لفوز مسلسله "منصور وسعدون" بجائزة الإخراج للعام 2011.
وخلال الأيام الماضية وقبل وفاته بأيام، تذكره الإعلامي المخضرم خالد الزدجالي في تغريدة له على منصة "إكس" أثناء فترة مرضه، قائلًا: "للبداية رجال ومن مبني متواضع عبارة عن "صندقة"، كانت بداية أول بث إذاعي فى عام 1970 وكان أستاذنا القدير خليفة بن صالح الطائي من أوائل الذين ساهموا في إيصال صوت عُمان أثيريًا، وله كمؤلف درامي ومخرج خطّه المميز لم ينافسه عليه أحد".
وفي مقابلة صحفية تحدث المؤلف الإذاعيّ محمود الحسني عن الراحل، وقال إنّ: الإذاعة خسرت عندما تم إيقاف قسم الدراما والمنوعات فيها، وأتمنى عودته؛ فالجميع مازال يتذكر حجم ومستوى الإنتاج الدرامي الإذاعي سابقًا كيف كان، مثل «تمثيلية الأربعاء» و«تمثيلية الأسبوع» وغيرها.. لقد كان الإنتاج غزيرًا؛ تاريخيًا واجتماعيًا وكوميديًا، تمثيليات أسبوعية ورُباعيات، كُلها في دورة واحدة تقريبًا، هذا القسم أنجب في عهده الذهبي الكثير من الكتاب والمخرجين والممثلين الذين أثبتوا حضورهم على الساحة بعد ذلك، وحصدوا جوائز على مستوى الوطن العربي، مثل خليفة بن صالح الطائي".
أمّا الفنان والسيناريست أحمد بن سعيد الأزكوي فقد ذكر في كتابه "الهمهمات والهمهموت": "لا أزالُ أحتفظُ بأسماء أساتذتي العظام الذين تعلَّمتُ منهم سرَّ مهنة الدراما حتى وإنْ كانت الدراما لا تعترف بما يسمى سر المهنة، بقدر ما تكشف عن سرِّ الموهبةِ داخل كلٍ منا، ومن ثم تنميتها وصقلها بالتدريب والدراسة، فلا بُدَّ أنْ يكونَ هناك صائد للمواهب مكتشف لها، ومن بين هؤلاء الأساتذة الذين أخذوا بيدي في بداية الطريق نحو الدراما الأستاذ خليفة بن صالح الطائي، وغيره كثيرون عربًا وخليجيين وعُمانيين.
وفي الأخير.. نقول وداعًا مشمولةٌ بالدعوات، ومستمطرة للرحمات على كل إنسان ما زال فنُّه وأثره يجري بين الناس إبداعًا وأخلاقًا وعطاءً لا ينقطع.. فقيدنا خليفة بن صالح الطائي أنتَ في معية رحمة الله أوثق، تنزّلت عليك رحماته، وأسكنك الفردوس الأعلى.. آمين.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هبوط مؤقت وديمومة خلود الأسرى الذين قضوا في زنازين الاحتلال
أحبال متدلية من سقف المسرح، تنتهي بجاكيتات وشال وبسطار ونظارات، مثلت مواد يتم استخدامها، حين تتغير الشخصية التي حوارها أو مونولوجها على خشبة المسرح. لكن واحدة ما إن تظهر حتى يواريها ياسر، إنها بدلة عسكرية للمحقق الاحتلالي، ليرمي بشخص المحقق وما يمثله من احتلال الى مزبلة التاريخ، في حين يخلد ذكر الأسير الذي قضى شهيدا في سجون الاحتلال البغيض.
يمكن أن تمثل مونودراما "هبوط مؤقت"، المسرحية لفرقة "كاريزما" القادمة من نادي ثقافي طولكرم، توثيقا عن كثير من الأسرى الفلسطيني، والتي تم تقديمها ضمن هذا المقترح الجمالي لفرقة شابة شغوفة بالمسرح والدور الوطني معا.
عرض الفنان ثائر ظاهر حالة الأسير ياسر، منذ طفولته، ومدرسته، وعمله بالأرض الزراعية مع والدته، واضطراره لترك المدرسة ثم زواجه وإنجابه، وتطوعه في مخيم جنين للاجئين، ومن ثم التحاقه بالمقاومة في الانتفاضة الثانية والتي على إثرها تم قصف مخيم جنين واجتياحه، حيث تكون النتيجة إصابته ثم تعرضه للأسر بعد تحقيق صاحبه عذاب تفنن الاحتلال به.
خلال سرد قصة ياسر، قام الفنان ثائر طاهر بتمثيل الشخصية الرئيسية الأسير ياسر، وعدة شخصيات: الأب، والأم، ومعلم التاريخ، والمناضل. وفي كل حالة كان يلجأ الفنان الى إحدى "العلاقات" ليرتدي شيئا منها جاكيت ونظارة وبسطار، إضافة للبندقية التي ظهرت من خلال تمثيلها لا حملها. كذلك كان الحال مع اختيار محاكاة المولودين من خلال الإيماء.
واستطاع الفنان الشاب الى حد جيد من التعبير عن تلك الشخصيات، لكن المميز في التمثيل كان تأدية دور المعتقل ياسر في زنازين التحقيق، حيث أدخل المشاهد في أجواء التعذيب لانتزاع الاعترافات.
أدى الفنان عدة أساليب للتعذيب كالشبح، مختارا صندوقا يحاكي الزنزانة، كذلك أسلوب غطس الرأس في الماء من خلال الإيماء. ميزنا للفنان عدة حركات جسدية تنبئ عن ميلاد فنان فلسطيني يجتهد في التعبير.
مشاهد مؤثرة تعرضنا لها، من خلال معاناة الأسرى، المرضى منهم، وما يصاحب التعذيب من حرمان من الاغتسال، وما يتعرض له المعتقل من أمراض جلدية. كان لتمثيل "حك الجلد مؤلما، لكنه ذهب به منحى كوميديا كان من الممكن التعمق فيه وزيادة الجرعات الكوميدية للتخفيف على المشاهدين الذين تعرضوا لمشاهد قاسية خلال معاناة الأسير من مرض القلب واستشهاده.
كان لتمثيل مشاهد التعذيب من جهة ومشاهد المعاناة من المرض من جهة أخرى، والاستغراق فيه، ما شدنا تجاه هذا الممثل الشاب، الذي أرانا ليس مشهدا مسرحيا، بل مشهدا سينمائيا مؤثرا.
اختار المخرج مقطوعات موسيقية وأغاني من التراث الغنائي الوطني، والتي تحيل المشاهد الى مضامين تلك الأغاني، فقد كان من الأولى اختيار موسيقى خاصة معبرة، حتى يظل المشاهد في جور الدراما المسرحية.
لعبت الإضاءة دورا مهما في إبراز الشخصيات، وموجودات المسرح، التي تم توظيفها للسرد عن الشخصيات التي أداها بحيوية الممثل الشاب ثائر ظاهر. كذلك لم نشعر بفراغات خلال المشاهد، ما أبعد العرض عن التراخي.
أخرج العرض وكتبه قدري كبسة، معلم تاريخ، ومحب للمسرح، حيث يعد الفنان كبسة أحد التربويين المهتمين بالمسرح المدرسي، حيث كان لذلك الاهتمام وتطوير الذات من خلال تدريبات في عالم الدراما دور في امتلاكه مهارات فنية ساعدته في إخراج مونودراما "هبوط مؤقت".
وكما يبدو التزم الكاتب بسيرة أحد الأسرى الشهداء، ياسر الحمدوني، وبالرغم أن العرض لم يذكره بالاسم، إلا أنه عبر عنه.
في الوقت نفسه، فإن العرض لم يكن متعلقا فقط بشخصية محددة، بل يمكن اعتباره معبرا عن عشرات آلاف المعتقلين الفلسطينيين، الذين تعد الأرض والارتباط بها والتعليم والنضال نواظم مشتركة في الحياة.
وهنا، نجح العرض في تصوير حياة الفلسطينيين، كيف تتحول مصائرهم، فهم كأي شعب لديهم طموحات فردية ذاتية أسرية، في تطوير النفس، والارتقاء علميا واقتصاديا، كذلك التضامن معا من أجل إنجاز أفضل للفرد والأسرة التي تعاني اقتصاديا في بلد يتعرض للاحتلال، وتقل فيه فرص الحياة. تتحول مسارات هؤلاء المواطنون من أفراد يهتمون بالخلاص الفردي والأسري من خلال العمل الجماعي في الأرض الزراعية التي تحتاج سواعدهم، الى الخلاص العام والوطني، حين يتطور الوعي بأن الخلاص الفردي الشخصي لن يكتمل إلا بجعله ضمن الخلاص العام، كون الأرض-الوطن هنا، هي الملاذ الذي لا ملاذ آخر غيره للعيش.
ولعل "هبوط مؤقت"، وهي تلقي الضوء على آلام الأسرى الفلسطينيين، تفتح النقاش حول اختيارات النضال الوطني لشريحة كبيرة من الأسرى، اختارت العمل الوطني للخلاص العام، وهي تعرف ضريبة ذلك إن كان استشهادا أو أسرا.
كذلك كان لتقنيات خالد الغول دور في تسهيل تعامل مسرحية الممثل الواحد مع الفضاء المسرحي، حيث منحت الممثل قدرة التعبير والحركة وحيوية الأداء، ما جعله يرتقي بالعرض المعتمد على كتابة تحتاج الى المزيد من التعمق في رسم الشخصيات واختيار لغة مسرحية لا إنشائية، فقد عانى النص من هذا الجانب.
استخدم السلمين المتقابلين، في العرض لأكثر من غرض؛ فهو شجرة وهو مرتفع للجلوس عليه والحوار، وهو طاولة في غرفة الصف، ما يعني أنه من المهم توظيف الموجود على الخشبة لاستخدامات متنوعة.
العرض يبشر بعروض قادمة، يدلل على ذلك شغف ظاهر لدى الطاقم الصغير، وهو من جهة أخرى يبشر بتطور الحركة المسرحية في مدن أخرى خارج رام الله والقدس؛ فوجد حركة مسرحية في مدينة طولكرم تعني أن هناك فرصة للتعبير عن الحياة المحلية من خلال فنانين وكتاب من البيئة نفسها.
"هبوط مؤقت"!
ثمة رمزية هنا، فقد يكون الهبوط من أعلى هبوطا للخلاص بالوصول الى الأرض، كما هو الوصول من الماء الى البرّ، وقد يكون هبوطا اضطراريا خشية من عدم القدرة على مواصلة التحليق. إنه "هبوط مؤقت" للمناضل، الذي من خلال استشهاده على الأرض، إنما يهبط كي يعلو ويخلد ذكره.