وتحدث الباحث والأكاديمي الروسي خلال المقابلة مع المجلة الدورية "روسيا العلمية"، أنه "من المستحيل الحفاظ على صحة الدماغ في الأمراض التي تتطور مع تقدم العمر. بطريقة أو بأخرى، سيبدأ داء السكري وارتفاع ضغط الدم الشرياني ومرض الانسداد الرئوي المزمن في التأثير على الوظيفة الإدراكية، ومن أجل الوقاية من الأمراض المرتبطة بالعمر، هي في المقام الأول النشاط البدني والفحوصات الصحية المنتظمة.

وحول مدى مشكلة الأمراض التنكسية العصبية في روسيا والعالم اليوم، أضاف الباحث: تشير الإحصائيات إلى أن مرض ألزهايمر يعد من المشاكل الأساسية ليس في الطب والعلوم الطبية فحسب، بل أيضا في تنمية المجتمع في أي بلد في العالم. إن وبائيات مرض ألزهايمر تصل إلى أبعاد مثيرة للقلق، وبدون مبالغة، أصبحت تشكل خطرا على البشرية جمعاء.

وفقًا للتقديرات الأكثر تحفظًا، يعاني اليوم حوالي 35-40 مليون مريض في العالم من أكثر مرضين تنكس عصبي شيوعًا: مرض باركنسون والزهايمر. وأكثر من ثلثيهم من مرضى ألزهايمر. وفقا للتوقعات، بحلول عام 2035، يمكن أن يتضاعف عدد هؤلاء الأشخاص، وبحلول عام 2050 - أربعة أضعاف: أي أننا نتوقع حوالي 120-150 مليون شخص يعانون من الخرف، وفقا للباحث.

ووفقا له فإنه "لا يوجد علاج فعال لمرض الزهايمر حتى الآن؛ هناك فقط طرق يمكنها تخفيف المرض قليلاً في مرحلة مبكرة. ولذلك، إذا لم نحل المشكلة في العقود المقبلة، فسوف نواجه الأرقام الكارثية التي ذكرتها. وسوف تحتاج إلى التفكير بعناية فيما إذا كان الشخص يريد أن يعيش إلى سن الشيخوخة، مع الأخذ في الاعتبار مثل هذا الاحتمال الكئيب مثل فقدان الذاكرة".

وهناك أسباب أخرى لشيخوخة الدماغ وتطور الأمراض التنكسية العصبية. هذه، على سبيل المثال، السموم العصبية من حولنا والتي نواجهها حتماً. يظهر عدد من الدراسات أن السموم الكيماوية الزراعية، والتي كانت تستخدم في السابق بقوة في الزراعة والإنتاج الزراعي، تسبب بشكل مباشر مرض باركنسون ومرض ألزهايمر، حسبما أفاد الأكاديمي.

وتابع: تشير الإحصاءات إلى أن سكان بعض المناطق الريفية لديهم نسبة أعلى بكثير من أمراض التنكس العصبي مقارنة بسكان المدن. كان أحد العوامل غير المتوقعة إلى حد ما في تطور أمراض التنكس العصبي هو تأثير العدوى. في السابق، تم نشر تقارير فردية عن وجود صلة محتملة بين مرض ألزهايمر وفيروس الهربس البسيط والتهابات أخرى، حيث وجد العلماء لويحات الأميلويد، التي تحدث في مرض الزهايمر، في الخلايا المصابة بفيروس الهربس البسيط، لكن هذا لم يتجاوز المناقشات الفردية.

ومن الضروري ممارسة الهوايات المختلفة، هذا هو الوقاية ليس فقط من الصحة المعرفية، ولكن أيضًا من الاكتئاب المحتمل. لذلك، يجب أن يكون هناك عمل ما يحبه الإنسان وتكوين الصداقات، وهو أمر مهم جدًا لكبار السن.

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: مرض ألزهایمر

إقرأ أيضاً:

هل قال ابن خلدون كل شيء عن قوانين نهوض الدول وسقوطها؟

الكتاب: ما لم يقله ابن خلدون: قانون الفراغ في تفسير قيام الدول والجماعات وانهيارها
الكاتب: كمال القصير.
الناشر مدارات للأبحاث والنشر-القاهرة – مصر..  الطبعة الأولى 2024
عدد الصفحات:320


استأثر تراث ابن خلدون بدراسات كثيرة، ونال كتابه "المقدمة" الذي جعله توطئة لكتابه التاريخي الضخم:" العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" الحيز الأوفر من هذه الدراسات، بحكم أنها تضمنت الجينات الأولى لعلم الاجتماع، ذلك العلم الذي لم يؤسس بهذا الاصطلاح إلا مع الفيلسوف الوضعي أوكست كونت.

وقد شكلت المقدمة، قبلة للدارسين من مختلف الأطياف، حت أضحت مستندا للتأصيل، سواء بالنسبة إلى الماركسي (كتب العروي دراسة عن خلدون بعنوان "ابن خلدون وماكيافللي"، وكتب الجابري أكثر من كتاب حوله أشهرها "فكر بن خلدون العصبية والدولة") أو القومي (ساطع الحصري) أو الإسلامي (عماد الدين خليل في كتابه ابن خلدون إسلاميا)، وقد حقق المفكر المغربي بن سالم حميش في كتابه :" التراكم السلبي والعلم النافع: عن قراء ابن خلدون"-وهو من الدارسين المميزين لابن خلدون- في عدد الذين كتبوا عن ابن خلدون، بين الدارسين العرب والغرب،  وبين الباحثين في كتبه والمترجمين والمنتقدين لها،  فتحدث عن اكثر من أربعين شخصية.

ويفيد هذا الغنى والثراء في تخريج كتاب مقدمة ابن خلدون وتحقيقها وطبعها وترجمتها وشرحها ونقدها مدى الإضافة النوعية التي قدمها ابن خلدون فيه، والريادة التأسيسية له في علم الاجتماع، ومدة الحاجة المتجددة لدراسة ما تضمنته "المقدمة" من أفكار واستقراءات واستنتاجات تهم قيام الدول وانفراط عقدها، وقواعد تأسيس العمران وانهياره.

بيد أن هذا الجهد الكبير في تناول هذا التراث السوسيولوجي الذي خلفه ابن خلدون، تأرجح الاهتمام به، بين اتجاهين اثنين، معتن بالمتن في كل أبعاده، تخريجا وتحقيقا وشرحا وترجمة ونشرا، ودارس ومنتقد له من خلفيات مختلفة، تحكمها أحيانا الغيرة الحضارية، وذلك حتى يحفظ للغرب فرادته واستثناؤه في تأسيس علم الاجتماع. وتحكمها أحيانا أخرى النظرة الإيديولوجية، التي تحاول أن تختطف ابن خلدون، وتحوله إلى ناطق باسم المذهب، يؤصل قواعده حتى وكتابه "المقدمة"، كتب قرونا قبل نشأة هذا المذهب، قوميا كان، أو ماركسيا، أو ليبراليا.

في الكتاب الذي نقدمه بين أيدينا، أي  "ما لم يقله ابن خلدون" خيار ثالث، أو مقاربة مختلفة، تنطلق من خلفية البناء على التراكم الذي حققه ابن خلدون، ومحاولة استكمال البياضات الموجودة في نموذجه التفسيري، وملأ الفراغ الذي تركه في تفسير قيام الدول والجماعات وانهيارها، وصاحبه-كمال القصير-الكاتب والباحث  الأكاديمي أخذ وقته الطويل في بناء أطروحته، وتسويغ بنائها، وإسناد إضافاته النوعية بالوقائع التاريخية الممتدة من عهد نبي الله سليمان إلى العهد العثماني وما بعده، مرورا بصدر  الإسلام، والدولة الأموية والدولة العباسية، ودول المماليك، وغيرها، دون أن ينسى أن يعرج على تاريخ المغرب، ويستدل على عاملية قانون الفراغ في تفسير سقوط الدول، سواء بالنسبة للدولة المرابطية أو الموحدية أو المرينية، انتهاء بعصر السيبة، الذي خلق الفراغ الذي شكل المغرب الحديث.

سؤال الأطروحة ومفهوم قانون الفراغ

لا يتردد الباحث في تحديد موضوعه وإشكاليته البحثية بكل دقة، فهو معني بدرجة أولى بمناقشة أسباب قيام الدول والجماعات وانهيارها، وسؤاله البحثي منصب على جهد ابن خلدون في تفسير هذا الإشكال، ومساهمته النظرية في هذا الحقل، وهل استطاعت نظريته أن تغطي هذا الإشكال بالجواب المكتمل، أم أنها تركت بياضات كثيرة تحتاج إلى استئناف نظر، حتى تسوي النظرية على أصولها، وتكتمل قواعدها، وتمتلك بذلك قدرتها التفسيرية التفصيلية.

العصبية التي كان يربط ابن خلدون قيام الدول بها، والتي تقوم على الروابط بين الجماعات (رابطة الدم، والمعايشة المستمرة، والنسب، والولاءات والأحلاف) لم تعد تستوعب التحولات التي عرفتها الدول الحديثة، ولم تعد قادرة على تفسيرهاهذا الموضوع المحدد، والسؤال البحثي الدقيق المرتبط به، قاد الباحث إلى اكتشاف ما أسماه "قانون الفراغ"، فحاول في هذا الكتاب أن يبسط النظر على كل متعلقات هذا القانون، من الجانب النظري، ثم التاريخي، أي ذكر الوقائع التي تدعم وجود هذا القانون وعامليته في التفسير، فصرح في مقدمة كتابه أنه بهذا الجهد، إنما يريد أن يكمل ما أنجزه ابن خلدون في موضوع العصبية ودورها في قيام الدول والجماعات وسقوطها، وأنه يعتزم تطوير هذا المفهوم وما ارتبط به من مفهوم الدعوة الدينية، أو الرابطة الدينية،  وأن ما يبرر  الحاجة لهذا التطوير والاستئناف، هو تحول القواعد التي تقوم عليها الدول، وظهور أشكال جديدة لقواعد نشأة الدول وشرعيتها، غير العصبية وغير الدعوة الدينية، مما لم يكن يتخيله ابن خلدون ولا جيل المؤرخين ممن عاصره أو لحقه.

فالعصبية التي كان يربط ابن خلدون قيام الدول بها، والتي تقوم على الروابط بين الجماعات (رابطة الدم، والمعايشة المستمرة، والنسب، والولاءات والأحلاف) لم تعد تستوعب التحولات التي عرفتها الدول الحديثة، ولم تعد قادرة على تفسيرها، وحتى التراتبية التي حدد مراحلها ابن خلدون، حين زعم أن الدولة تتأسس على العصبية، وأن الملك حين ترسى قواعده، ينتهي فيه الحاكم إلى الانفراد بالحكم في مرحلة ثانية، لتأتي مرحلة السقوط بالتفرغ للدعة والترف وتشييد المباني العظيمة، وينتهي بتفكك العصبية. هذه التراتبية التي أصل لها ابن خلدون في نظريته التفسيرية لقيام الدول وانهيارها، تحتاج إلى نظر استئنافي، يجدد قدرتها على التفسير، ويملأ البياضات التي تكتنفها، لاسيما ما يرتبط بالشروط التي تسبق حالة السقوط، في حالة الفراغ التي تعيشها الدولة أو الجماعة، قبل أن تنهار بشكل كلي، فيرى الباحث أن ابن خلدون، اهتم بالأسباب المادية المشاهدة لقيام الدول وانهيارها، ولم يقف على كثير من العوامل الخفية من العلل غير المادية التي تؤدي لسقوط دول وقيام أخرى على أنقاضها، وأن هذا هو الذي سوغ له البحث في  قانون الفراغ، حيث نصبه الباحث في مرتبة العلة الخفية المفسرة لكثير من التحولات التي تعرفها الدول والجماعات قبل سقوطها.

وهكذا، ينتهي الباحث إلى أن فراغ المضمون الداخلي للدولة وتآكله، هو ما يدفع نحو سقوطها، وأن هذه الحالة، هي التي ينبغي التوقف عند مؤشراتها ومظاهرها بدل الاهتمام فقط بالأسباب المادية الصلبة.

يستند الباحث إلى قصة موت نبي الله سليمان، وكيف لم يدرك الذين تحت قهره وسلطته أنه مات، حتى خر ساقطا بعد أن أكلت حشرات الأرض عصاه التي كان يتوكأ عليها، وأن تأخر إدراك هؤلاء لموته ناتج عن الصيرورة الزمنية التي أخدها التآكل البطيء للعصا من الداخل،   ليخلص من ذلك إلى أن حالة الفراغ تأخذ وقتها في الزمن، وأن الدول تفقد في الجوهر مقومات استمرارها في الحياة بشكل مبكر، لكن هياكلها الداخلية تبقى  مستمرة، فيخيل في الظاهر أنها ترمز لعافية الدولة، ولا تظهر حقيقتها حتى تقتلعها القوى الجديدة، وتنشئ شرعيتها الجديدة على أنقاض زوالها.

تذهب جرأة الباحث بعيدا في القول بأن  قانون الفراغ يفسر في عدة مواضع نماذج سياسية أكثر مما يفسره قانون العصبية، ، فيرى  أن قانون العصبية ليس لديه كثير مما يمكن قوله في تشكل تنظيم القاعدة، أو تنظيم الدولة داعش،  فهذان التنظيمان سيطرا على مناطق ممتدة في الجغرافيا، مع انتفاء شروط القبيلة والعرق المعروفة لدى ابن خلدون. وفي  المقابل، فإن قانون الفراغ، يقدم التفسير الفعال لنشأة هذه التنظيمات، فمناطق التوحش والفراغ، تغري هذه التنظيمات بمحاولة إقامة دولة بها، وهو ما يفسر خارطتها الجغرافية في المناطق الحدودية بين العراق وسوريا، وفي أجزاء كبيرة من أفغانستان، واليمن، وفي صحراء كل من ليبيا ومالي.

لا ينسب الباحث لنفسه سمة الريادة في طرح قانون الفراغ، ولا التأصيل لكل مفرداته، بل على العكس من ذلك، إنه يقر بتواضع بأن ابن خلدون أشار إلى هذا المفهوم، وذكر بعض لوازمه المفهومية، مثل مفهوم التوحش، ومفهوم الترف باعتباره  حالة من حالات الفراغ، ومفهوم خراب العمران، لكنه، مع ذلك، يجعل من مهمته البحثية الكشف عن هذا القانون، والتأصيل لأبعاده النظرية، ومختلف المفاهيم التي تؤسس النموذج التفسيري المنطلق من خلفيته، هذا فضلا عن الإبحار في الحقل التاريخي، والبحث عن الوقائع التاريخية الكثيفة التي  تختبر فيها عاملية قانون الفراغ في تفسير  قيام الدول وسقوطها.

قانون الفراغ.. الأبعاد النظرية والتطبيق العملي في التاريخ

قسم الكاتب كتابه إلى خمسة فصول، خصص الأول، للجانب النظري، أي بحث الأبعاد النظرية لقانون الفراغ وبنيته وارتباطاته، وأهم المفاهيم الدائرة في فلكه، سواء عند ابن خلدون أو بحسب الاستقراء العام الذي اعتمده الكاتب.  أما الفصول الأربعة المتبقية، وهي جوهر الكتاب وثمرته، فقد خصصها لبحث تفاصيل النموذج العملي لتطبيقات قانون الفراغ وعامليته في الخبرة التاريخية الإسلامية، وذلك منذ نشأة الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى نهاية الدولة العثمانية مع إفراد الخبرة التاريخية المغربية بقدر كثيف من البحث في الفصل الثالث، ويظهر من لائحة مصادر البحث ومراجعه مدى الجهد النظري والبحثي الذي قدمه الباحث في هذا العمل.

ولأن المقام لا يسمح باستعراض كل النقاط المتعلقة سواء بالبناء النظري أو النموذج التطبيقي، فسنحاول أن نقدم بعض الشذرات التي تحقق الغرض من مراجعة هذا الكتاب وتقديمه للقراء، في أفق أن تسنح الفرصة لاحقا لمناقشته بشكل تفصيلي، والتفاعل مع بعض أطره النظرية ونماذج من إعمال النموذج التفسيري على الوقائع التاريخية.

فعلى مستوى البناء النظري، يتوقف الباحث في شرحه لمفهوم قانون الفراغ على ما أسماه تآكل المضمون، ويعني به تآكل مضامين الهياكل السياسية والإيديولوجية للدولة، وانخفاض كثافة عصبيتها الاجتماعية، وانكفائها على الأشكال الخارجية المتبقية وتمكسها بها، إذ تحصل هذه العملية في اللحظة التي يتوقف فيها تجديد المضامين ومراجعتها، فيحل الجمود محل التجديد، ويسود التقليد بدل الاجتهاد، ويتم الانعطاف إلى التقديس والتنميط. ويمثل الباحث لهذه الصورة في الدولة الحديثة، التي تفقد مضمونها الداخلي، فتنكفئ على الأشكال الخارجية، ومنها القومية، التي لا تحمل أي مضمون يمكن الرهان عليه لتجديد المضمون الثقافي والإيديولوجي والسياسي والاجتماعي، وإنما هو مجرد وعاء خارجي يحتاج هو نفسه لمن يملأه بمضمون حضاري يدفع نحو الفاعلية والتجديد والحركة.

ويضرب لذلك مثلا بتركيا ما بعد العثمانيين، وكيف فقدت مضمونها الداخلي رغم تمسكها بالوعاء القومي، وكذلك بالدول العربية القطرية التي نشأت بعد الزمن العثماني، متجردة عن أي مضمون فكري وسياسي واجتماعي، مما اضطرها للاغتراب في إيديولوجيات الأجنبي في محاولة فاشلة لإضفاء مضمون داخلي على الوعاء القومي الذي تبنته.

اكتشاف الجزر الفارغة واستثمار الفراغ.. دروس من التاريخ

يعتبر الباحث في تفسيره لصعود دولة المدنية في التجربة الإسلامية النبوية، أن اتجاه النبي الكريم إلى المدينة المنورة كان القرار الأكثر ذكاء في العالم في تلك المرحلة، بالنسبة إلى انبعاث دين جديد وانتشاره، إذ تم توطين المشروع في جغرافية فارغة ملائمة للصعود والتمدد، ويفسر الباحث هذا الاستنتاج بالقول بأن المدينة المنورة كانت تشكل منطقة فراغ بامتياز، سواء من حيث غياب العصبية القبلية الجامعة لمكوناتها، أو من حيث غياب الإيديولوجيا الكثيفة، وذلك مقارنة بمكة التي كانت مركزا للكثافة الدينية ومركزا للعقيدة الوثنية، وكانت تركيبة السلطة فيها تخضع لقواعد صارمة، لا يملك أحد أن يحصل على جزء منها ما لم يكن ممثلا في دار الندوة، ولم يكن بإمكان أي قبيلة أن تتخذ قرارها بشكل مستقل عن باقي الشركاء سواء في قضايا الحرب أو السلم أو بخصوص إدارة شؤون الحرم.  في حين لم تكن في المدينة المنورة سلطة منظمة، وهو ما أسهم في بناء نموذج سياسي بعيدا عن الضغوطات ودون مخاصمة لنموذج سياسي قائم.

يقدم الباحث نموذج الفتوحات الإسلامية وخارطة التمدد الإسلامي في العالم كنموذج تطبيقي لتفسير سقوط امبراطورية فارس والروم، حيث اعتبر هذه الفتوحات شاهدا على أشكال من استثمار جغرافية الفراغ التي تشكلت بسبب سقوط عصبيات الدول الكبرى، إذ بدأ التمدد من استثمار الفراغ في أطراف الامبراطوريتين (منطقة الجزيرة العربية، مصر، طرابلس، وبرقةويقدم الباحث نموذج الفتوحات الإسلامية وخارطة التمدد الإسلامي في العالم كنموذج تطبيقي لتفسير سقوط امبراطورية فارس والروم، حيث اعتبر هذه الفتوحات شاهدا على أشكال من استثمار جغرافية الفراغ التي تشكلت بسبب سقوط عصبيات الدول الكبرى، إذ بدأ التمدد من استثمار الفراغ في أطراف الامبراطوريتين (منطقة الجزيرة العربية، مصر، طرابلس، وبرقة، المغرب).

ومن الأمثلة والوقائع التي أعمل عليها الباحث نموذجه التفسيري المستند إلى قانون الفراغ  سقوط الدولة الأموية، فألمح إلى الثورات التي واجهها الأمويون،  وكيف ضعفت إيديولوجيتهم  في مواجهة خصومهم في الحجاز والعراق ومصر،  وذكر سبيين رئيسين لتحلل دولة  الأمويين أولهما هو ظهور مشكلة الأطراف، والثورات في منطقة الفراغ وزحف هذه الثورات على السلطة، ثم ثانيا انتشار وباء الطاعون سنوات متواصلة، وركز على الجانب فراغ الدولة من مضمونها الإيديولوجي في مواجهة إيديولوجية عباسية صلبة وكثيفة، وكيف تم استثمار  الفراغ في منطقة خراسان، حتى أضحت الخاصرة التي ضرب منها الأمويون، إذ لم يستطيعوا ان يبنوا عصبية قبلية جامعة في خراسان،  فلم تتمكن القبائل المتناحرة في هذه المنطقة من مواجهة صعود العباسيين، وذلك بالرغم من جهود الأمويين في إدارة مسألة العصبية في تلك الأطراف، واستطاع الفرع العباسي الأكثر دينامية ونشاطا أن يستثمر أجواء الفراغ، وضعف العصبية، ليبرر صعوده وتمرده على الدولة  الأموية.

وقد تناول الباحث فراغ الأندلس بنفس الأدوات التحليلية، إذ كانت الأندلس تعيش بعد سقوط الدولة الأموية وضعا مشابها، من جهة مواجهة كثرة الاضطرابات والصراعات بين اليمينة والقيسية والانقسامات العرقية، وغياب عصبية جامعة، إذ لم يساعد تدهور الدولة الأموية على تدخلها لحل النزاعات في الأندلس،  فساعدت سنوات القحط وسوء أحوال  الاقتصاد  في بروز فراغ سياسي وتفكك عصبي، فجاء أموي آخر هارب من المشرق (عبد الرحمان بن معاوية)، واستثمر أجواء الفراغ،  فأقام دولة عصبية أموية جديدة  بعيدا عن السلطة المركزية للعباسيين، فجدد  الدولة الأموية في الأندلس على حد ما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته.

وقد تناول الباحث أيضا الصعود الفاطمي كجواب عن الفراغ الذي تركته الدولة العباسية لاسيما في الأطراف، وفسر ذلك بفشل الشيعة في مواجهة العباسيين في المركز واضطرارهم إلى  الانتقال بدعوتهم نحو الأطراف أي مصر، وتناول في المقابل، ظهور دولة الأدارسة على أطراف نفوذ الدولة العباسية (المغرب)، إذ بنى الأدارسة نموذجا للتسنن الممزوج بحب آل البيت في المغرب الأقصى، فأسسوا دولتهم في الفراغ، الذي كان في الواقع ينتمي لمنطقة جغرافية مستقلة نسبيا عن النفوذ العباسي بعد أن أقطع هارون الرشيد إبراهيم بن الأغلب شمال إفريقية، والأمر نفسه يصدق على دولة العبيديين في الأطراف من شمال إفريقيا  التي تأسست في منطقة تعرف فراغا إيديولوجيا وفكريا وتعاني من المظالم الضريبية.

خاتمة

لقد قدم الباحث نماذج تاريخية تطبيقية كثيفة لاختبار نموذج التفسيري القائم على قانون الفراغ يصعب هنا استقصاؤها كلها لضيق المجال، ونجح إلى أبعد الحدود في ذلك، وشكل البعد التطبيقي في منهجه الحيز الأكبر من كتابه (أربعة فصول، وأكثر من 250 صفحة)، وهي علامة دالة على استقرار البناء النظري، وسعة تجريبه في الوقائع التاريخية، بما يضمن في الغالب، إكساب المفاهيم والأبعاد النظرية لقانون الفراغ بعدها العلمي.

ولعله من نافذة القول التنويه بهذا الجهد النظري، وسعة الاشتغال التطبيقي، والتأكيد على أنه يمثل إضافة نوعية في التراكم المعرفي الخاص بتفسير قيام الدول والجماعات وانهياريها، وأن جهد التعريف بهذا الكتاب، يقصد بالأساس تحريض الباحثين على مدارسته والتفاعل مع معطياته ومناقشة حيثياته، والتأمل العميق في خلاصاته ونتائجه.

مقالات مشابهة

  • للمرة الثانية خلال أسبوع.. الجيش الأوكراني يهاجم مستودع نفط روسي
  • كيفية تفعيل مكالمات الواي فاي على هاتفك بخطوات سهلة وبسيطة
  • هل قال ابن خلدون كل شيء عن قوانين نهوض الدول وسقوطها؟
  • أمر يزيد طمأنينة النفس .. عالم بالأوقاف يكشف عنه
  • خاشقجي يكشف عن أسهل طريقة لدخول عالم الاستثمار.. فيديو
  • ترامب يكشف عن المواضيع الرئيسة التي سيتناولها خلال حفل تنصيبه
  • 7 طرق فعالة للتخلص من الكوليسترول
  • علي الدين هلال يكشف التحديات التي تواجه الحكومة.. وعلاقاتها مع إدارة ترامب -(حوار)
  • فعالة ونهائية.. 10 طرق تخلصك من جلد الوزة
  • هل اقترب موعد ابتكار علاج لمرض «ألزهايمر»؟