من غزة إلى لبنان والضفة الغربية ... مخاوف من حرب أقليمية وتساؤلات بشأن مصير الدولة الفلسطينية
تاريخ النشر: 1st, September 2024 GMT
ضربات إسرائيلية استباقية ضد مواقع "حزب الله"، قتلت زخم هجومه الانتقامي منها على تصفية رئيس أركانه، فؤاد شكر، فيما تستمر المساعي الأميركية والعربية لوقف حرب غزة، يبدأ الجيش الإسرائيلي بالتغلغل في الضفة الغربية في عملية عسكرية ملفتة بتوقيتها وحجمها.
فهل يأخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينامين نتنياهو، والمرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، المنطقة إلى حربٍ واسعة، أم ينتصر مسعى الرئيس الأميركي، جو بايدن، بمنع الحرب بالدبلوماسية المدعومة بقوة الأساطيل الأميركية؟
الخبيران الأميركيان، نورمان روول وجاريد زوبا، ناقشا هذا الموضوع في برنامج "عاصمة القرار" من الحرة.
روول، مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وزوبا، كاتب ومراسل موقع "المونيتور" في البنتاغون.
كما شارك في جزء من الحوار على التوالي، من بيروت، الكاتب اللبناني داوود رمال، ومن رام الله، عبد الفتاح دولة، المتحدث باسم حركة فتح، ومن الجليل، مفيد مرعي، عضو سابق في الكنيست الإسرائيلي.
لغاية الآن، يبقى تقدير وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" هو أن الصراع بين إسرائيل وحماس لا يزال محصورا في غزة. وتعتبر الضربات بين إسرائيل وحزب الله الأوسع نطاقاً مما شهدته المنطقة من قبل، لكنه في نظر البنتاغون "ليس صراعاً إقليمياً في هذه المرحلة". فيما يظل تركيز واشنطن منصباً على خفض التوتر في المنطقة والحيلولة دون أن يصبح هذا الصراع حرباً إقليمية أوسع.
بعد ختام زيارته لإسرائيل، قال الجنرال تشارلز براون، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية: "على المدى القريب، انحسرت إلى حدٍّ ما مخاطر اتساع رقعة الحرب في الشرق الأوسط. لكن إيران لا تزال تشكل خطراً كبيراً لأنها تهدد بشن هجوم على إسرائيل. والآن يعتمد الأمر على كيفية مضي هذا الهجوم. وطبيعة رد إيران ستكون من محددات الرد الإسرائيلي، وهو ما سيفرض بدوره ما إذا كان هناك اتساع لرقعة الصراع أم لا".
ويتابع المسؤول العسكري الأميركي الأرفع قوله :"يشكل وكلاء إيران المسلحون في العراق وسوريا خطراً ، لأنهم يهاجمون القوات الأميركية. فيما يستهدف الحوثيون في اليمن حركة الشحن في البحر الأحمر، كما أطلقوا طائرات مسيرة على إسرائيل. فهل يتصرف هؤلاء بالفعل بشكل فردي أم بالوكالة عن غيرهم".
ويذكر الجنرال براون أن "الجيش الأميركي في وضع أفضل للمساعدة في الدفاع عن إسرائيل، لا سيما بعد قرار الإبقاء على مجموعتين قتاليتين من حاملات الطائرات في الشرق الأوسط، فضلاً عن إرسال سرب إضافي من الطائرات 'إف-22' المُقاتلة".
ويختم رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية بالقول: "يريد القادة السياسيون في إيران أن يفعلوا شيئاً يرسل رسالة، لكنني أعتقد أنهم لا يريدون أن يفعلوا شيئاً من شأنه توسيع رقعة الصراع".
يقول نورمان روول إنه "لا إسرائيل ولا إيران تسعيان لإشعال صراع تقليدي، ولكن لإيران وأذرعها حوافز عديدة للاستمرار في زيادة وتيرة وحدّة الهجمات على إسرائيل، وهذا ما قد يشعل حرباً ، إلا إذا وفّر الغرب، وخاصة أميركا، قدرات دفاعية تردع إيران أو تمنع نجاح أي هجوم إيراني كارثي على إسرائيل".
من جهته يقول جاريد زوبا إن "الضربة الإسرائيلية الاستباقية، ثم رد حزب الله عليها، جعلتا الجميع في واشنطن يتنفس الصعداء. لأن الفريقين قررا السيطرة على نفسيهما في الرد والرد المعاكس. أعتقد أن الفريقين يفضلان العودة إلى الوضع الحالي. لكن هذه الجبهة خطيرة للغاية، وبالتالي عدم التصعيد مؤشر إيجابي. وإن وجود مجموعتين أميركيتين مقاتلتين مع حاملات طائرات، يُعتبر رسالة قوية من إدارة بايدن لإيران، بأنه لو أراد الرئيس الإيراني الجديد أن يركز على النمو الاقتصادي في بلده، فإن التصعيد ليس خياراً".
أيُّ تأثير لنتانياهو على سياسة بايدن تجاه إيران؟يعتقد عامي أيالون، وغلعاد شير وأورني بيتروشكا، أن نتانياهو يجر الولايات المتحدة إلى مسار خطير فيما يتعلق بإيران. وفي مقالهم المشترك على موقع "ذا هيل"، يحذر الكتّاب إدارة بايدن من تأثير نتانياهو على السياسة الخارجية الأميركية بشأن إيران، ما يهدد بتورط واشنطن في صراع قد يتحول إلى حرب إقليمية لها تبعات دولية.
ويضيفون أنه بينما "يظل الحل الوحيد لتحقيق الاستقرار في المنطقة تحالفا أمنيا إقليميا بين إسرائيل والدول المعتدلة على رأسها السعودية، يرفض نتانياهو ذلك، لأنه سيقود إلى قيام دولة فلسطينية، ما يهدد بدوره بقاء نتانياهو في السلطة من خلال فقدانه لدعم الجناح المتشدد في حكومته".
ويخلص المقال إلى أن سعي نتانياهو لإرضاء هذا الجناح يتعارض مع المصالح الأميركية، وحتى توصيات الأوساط العسكرية والأمنية في إسرائيل، داعيا صناع القرار الأميركي، كي لا يجعلوا مصالح نتانياهو الشخصية الأولوية على حساب مصالح واشنطن.
ويشدد السيناتور الأميركي المستقل، بيرني ساندرز، على أننا أمام وضع غير مستقر في الشرق الأوسط، وهذا الأمر مستمر منذ مدة. لكن "الخبر الجيد هو أن إسرائيل وحزب الله كلاهما يريدان التهدئة، أتمنى أن يحدث ذلك".
ويطالب النائب الجمهوري، جيم بانكس، إدارة بايدن "الاستمرار في دعم إسرائيل للانتصار في معركتها ضد إرهابيي حماس وحزب الله".
ولتجنب حرب إقليمية، تطالب السيناتورة الديمقراطية البارزة، إليزابيت وارِن، إدارة بايدن بـ" الضغط على الطرفين (إسرائيل وحماس) للبقاء على طاولة المفاوضات. فقد حان الوقت لتحقيق حل الدولتين لكي يتسنى للفلسطينيين تقرير مصيرهم ولإسرائيل الحصول على ضمانات أمنية، ويتسنى تحقيق سلام دائم".
"حزب الله"... طوق نجاة نتانياهو؟يعتقد الصحفي الأميركي، علي وينستون، أن نتانياهو "يقامر ويجازف بحرب إقليمية لإنقاذ نفسه عبر بدء صراع مفتوح مع حزب الله".
وتعتبر افتتاحية نيويورك بوست أن "تبادل إطلاق النار الأخير بين حزب الله وإسرائيل يظهر أن إيران ووكلاءها ينحنون بمجرد أن يتم التصدي لهم، وأنهم يحبون إطلاق التهديدات دون القيام بما قد يتسبب في حرب. فتبادل النار بين إسرائيل وحزب الله يُظهر أن الوقت قد حان كي تكشف واشنطن زيف تهديدات إيران".
وتعتقد إريكا سولومون، في نيويورك تايمز، أن السرعة التي انتهت بها المناوشات بين إسرائيل وحزب الله "تظهر أن الميليشيا اللبنانية وراعيتها إيران، لم يجدا طريقة مُرضية للرد على الإحراج الذي تعرضت له إيران بعد الضربات الإسرائيلية، بحيث تردع أي هجوم إسرائيلي محتمل من دون أن تزيد من مخاطر اندلاع حرب إقليمية".
وتتوقع الكاتبة الأميركية أن اندلاع هذه الحرب ستكون له كلفة سياسية كبيرة على حزب الله في ظل الأزمة الاقتصادية والفراغ السياسي في لبنان. وأن "حسابات إيران هي القيام برد لا يتسبب في دخول الولايات المتحدة على الخط، وأن هناك احتمالا أيضاً لتأخر الرد الإيراني ما دامت المحادثات بشأن وقف إطلاق النار في غزة متواصلة".
يعتقد دوف واكسمان، أستاذ الدراسات الإسرائيلية في جامعة كاليفورنيا، أن "الضربة الإسرائيلية الاستباقية كانت مبررة وضرورية نظراً للتهديد الداهم لهجوم كبير من حزب الله. أعتقد أيضاً أنه لا يمكن لإسرائيل أن تعيش مع التهديد الذي يمثله حزب الله، خاصة للمدنيين في شمال إسرائيل، وأن حلاً دبلوماسيا هو أفضل وسيلة لإزالة هذا الخطر".
يقول نورمان روول إن "إسرائيل وحزب الله يتخذان خطوات يبدو أنها تهدف لتقليص فرص توسع النزاع. ولكن الهجمات على اسرائيل مستمرة. وهناك إسرائيليون لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم في شمال إسرئيل. والهجمات من قبل المتشددين المدعومين من إيران في المنطقة مستمرة, فنحن أمام موقف فيه إمكانية تصعيد، إلا إذا استطعنا أن نخفف من هذا التوتر، وإلا يمكن أن يكون هناك نزاعاً تقليدياً بين إسرائيل ولبنان".
ويقول جاريد زوبا إن "إمكانية الحرب الواسعة قائمة في المنطقة. والبنتاغون يأخذ الأمر بقلق وجدّية. لذلك نرى أقوى وجود عسكري أميركي في المنطقة منذ العام 1993، وقد تم نقل هاتين المجموعتين العسكريتين من المحيط الهادىء. وبالتالي، فرسالة البنتاغون لإيران بعدم التصعيد جدّية".
ويقول الكاتب اللبناني، داوود رمال، إن التمديد لقوات اليونيفيل دون تغيير طبيعة عملها أو مدته، كما طالبت إسرائيل، هو تأكيد على "استمرار المظلة الدولية الحامية للبنان. والتي جرى التعبير عنها من خلال الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والمجموعة العربية في مجلس الأمن الدولي".
ويدعو رمال الحكومة اللبنانية، إلى "العمل بسرعة للإبقاء على هذه الفعالية الدبلوماسية، والطلب من الجانب الأميركي، كما من الجانب العربي، الذهاب إلى تطبيق القرار الدولي 1701 وتحديداً في بنده المتعلق بالانتقال من مرحلة وقف الأعمال العدائية، إلى وقف مستدام لاطلاق النار، لأنه عندما نصل إلى هذه المرحله تصبح القيود على حزب الله، كما القيود على إسرائيل كبيرة وكبيرة جداً. وحينها ننتقل إلى تطبيق الشق السياسي من القرار 1701، الذي له علاقة بتثبيت الحدود البرية".
ويقول ديفيد بيرنشتاين، الأستاذ في جامعة جورج مايسون الأميركية، إن "إسرائيل تستعد لمواجهة مع إيران من خلال إضعاف وكلائها في لبنان والضفة الغربية بشدة، بحيث لا يمكن استخدامهم كسيف أو درع فعال".
وأضاف "لقد أيقظ السابع من أكتوبر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، النائمة على حقيقة أنه لو كانت حماس قادرة على تنسيق هجومها مع حزب الله وقوات حماس في الضفة الغربية، لكان من الممكن أن يكون هناك عشرات الآلاف من الضحايا الإسرائيليين، واحتلال بلدات في الجليل من قبل حزب الله. وتشكيل حكومة حماس في الضفة الغربية".
الضفة الغربية.. هل تساعد حماس نتنياهو؟يقول عبد الفتاح دولة، المتحدث باسم فتح، إن نتانياهو "يضخم دور حماس في الضفة الغربية، لضرب الفلسطينيين، واحتمالات حل لدولتين وكل جهود السلام. فلا خلايا مسلحة قوية وكبيرة في الضفة الغربية بالقدر الذي يستحق أن يكون هناك هجوماً عدوانياً شاملاً يدمر المخيمات، والبنى التحتية في الضفة. فنتانياهو يضخم الأمور ليبرر عدوانه على الضفة الغربية، لحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني بالقوة، حتى لا تكون هناك دولة فلسطينية. وعلى حماس عدم التحدث بنفس لغة نتانياهو بتضخيم تواجدها العسكري في الضفة، وبالتالي تبرير ضرب نتانياهو للضفة".
إلى ذلك، يضيف الكاتب الأميركي، تشاس نيوكي بوردن، أن "المستوطنين الإسرائيليين يستغلون الحرب على غزة من أجل السيطرة على المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، بهدف ضم إسرائيل للضفة كلها في نهاية المطاف. علماً أن تقارير أممية وصحفية تشير إلى تزايد المستوطنات الإسرائيلية داخل الضفة الغربية، لتغيير الوضع على الأرض. إن التخوف من المستوطنين المتطرفين، والمتشددين في حكومة نتانياهو، الذين يريدون إطالة أمد الحرب في غزة لتحقيق هدفهم الذي يشمل منع إقامة دولة فلسطينية".
من ناحيتها، فرضت وزارة الخارجية الأميركية عقوبات على "هاشومير يوش"، وهي منظمة إسرائيلية غير حكومية تقدم الدعم المادي للبؤرة الاستيطانية ميتاريم التي تخضع للعقوبات. وقد منعت هذه المنظمة 250 فلسطينياً من سكان قرية خربة زانوتا من العودة لمنازلهم.
كما تفرض الخارجية الأميركية عقوبات على إسحق ليفي فيلانت، المسؤول عن تنسيق الأمن في مستوطنة يتسهار، والمنخرط في أنشطة خبيثة خارج نطاق سلطته لإجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم.
وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية في بيان إن "عنف المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية يسبب معاناة إنسانية شديدة، ويضر بأمن إسرائيل، ويقوض احتمالات السلام والاستقرار في المنطقة. ومن الأهمية بمكان أن تقوم حكومة إسرائيل بمحاسبة أي فرد أو كيان مسؤول عن العنف ضد المدنيين في الضفة الغربية.
ومن الجليل، يقول مفيد مرعي، العضو سابق في الكنيست الإسرائيلي، إن "الدولة اللبنانية وفتح، ليستا أطرافاً في الحرب الإسرائيلية الراهنة على المنظمتين الإرهابيتين حزب الله وحماس. لكن إن اندلعت الحرب الواسعة فإن اللبنانيين والفلسطينيين سيدفعون ثمن وجود منظمات إيرانية إرهابية مثل حماس وحزب الله في بلدانهم".
من "حرب اليوم الواحد" بين إسرائيل وحزب الله، إلى عملية إسرائيلية في الضفة الغربية تتوسع يومياً، قد تتطور حرب غزة إلى المنطقة بأكملها، إن لم تستطع إدارة بايدن وشركاؤها العرب وقف هذا النزيف.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: بین إسرائیل وحزب الله الخارجیة الأمیرکیة فی الضفة الغربیة حرب إقلیمیة إدارة بایدن على إسرائیل فی المنطقة حزب الله
إقرأ أيضاً:
أمّة المقاومة.. مقاومة الأمّة
ميزة الأمّة في المصطلح أنها عنوان جامع عابر للحدود الجغرافية والعرقية واللونية واللسانية، ولأنها أمّة فهي في ذاتها عصيّة على الزوال والاندثار والضعف؛ وما يبدو في بنيتها العامة من توزّع وانتشار واختلاف في المناطق والبلاد هو في الحقيقة عامل ديمومة وقوة وانتصار طالما أنه مشدود إلى الهدف نفسه والغاية نفسها، وأي هدف وغاية أوثق من المقاومة كخيار وثقافة ونهج وأسلوب ومسار!؟ هنا تكمن عناصر القضية.
بالأمس ودّعت أمّة المقاومة التي اجتمعت من جهات الأرض “قائداً تاريخياً استثنائياً.. وطنياً، عربياً، إسلامياً، وهو يُمثل قبلة الأحرار في العالم”؛ كما عبّر الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم خلال مراسم تشييع الأمينَينِ العامَّينِ لحزب الله سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله وخليفته الشهيد الهاشميِّ السيد هاشم صفي الدين. هذه الصفات الجوهرية التي لخّصها سماحة الشيخ قاسم في تعريف السيد الشهيد هي في الواقع تجسّد عناصر الأمّة التي قادها تحت عنوان المقاومة، والتي أرادها أن تتنكّب عبء المسؤولية في المبادرة والفعل لتصبح المقاومة في هذا المنحى عقيدة إيمانية أكثر منها خياراً تقتضيه ضرورة القيام لنيل الحرية والاستقلال.
أمّا مقتضى الرسوخ في ثقافة المقاومة، فهو يفترض إلى جانب العزم والإرادة والفعل وجود صلة تسمو فوق أصول المعرفة وقيود الاتصال والتواصل، وهو الحب، ولا تقف هذه القيمة الإنسانية السامية عند حدود الاقتناع بالفكرة والهدف أو الغاية والاتجاه بل تتجاوز أساسات القضية لتصل إلى التعلّق بالشخص – الرمز، وهي الميزة التي التصقت بسيّد شهداء الأمّة في تقويم أحاسيس ومشاعر الملايين الذين عشقوه دون أن يعرفوه أو يكون له أي صلة مادّية بهم، فتعلّقوا به وتبعوه وناصروه وأخلصوا له في حبّهم، فأتى من أتى في الحضور ومن لم يحضر شيّعه كأن القائد الشهيد حاضراً لديه، وهو بذلك “حبيب المجاهدين وحبيب الناس، حبيب الفقراء والمستضعفين، حبيب المعذبين على الأرض، حبيب الفلسطينيين”.
هي الأمّة التي أيقظها السيد الشهيد من سباتها واستنهضها من ركود خلال ثلاثة عقود من المقاومة، وسارت معه قوافل ممتدّة من الشهداء والجرحى والأسرى، وخلفه اصطفت المجتمعات الصغيرة من الأسر الصابرة، ترعاها أمّهات ربّت أجيالها على حب المقاومة، وحجزت لنفسها مكاناً فاعلاً ومتفاعلاً في مراتب الأمّة، حتى غدت هذه المجتمعات في سيرورة متنامية فتحوّلت إلى مجتمعات كبيرة كسرت قيد الجغرافيا واللغة والانتماء العرقي والطائفي، وتعملق قرار المقاومة الذي أطلقه ليصبح خياراً ترفع لواءه الجموع التائقة إلى الانعتاق من أسر الاحتلال، واستطاع بحكمته وذكائه وشجاعته أن يؤسس للصلة التي يلتقي فيها المقاومون على هدف واحد، وهو تحرير فلسطين والمسجد الأقصى من الاحتلال الصهيوني.
اجتمعت الأمّة على خيار المقاومة، فأصبحت المقاومة دليلاً على الهوية وإليها، واستحالت سلاحاً في رحم الأحرار ومنهم، وهم الذين رأوا فيها القوّة التي ترفعهم من حضيض الاستكانة إلى قمّة التحرّك، ورأوا في السيد الشهيد الترجمة الفعلية للقيادة المؤهلة التي ستأخذ بأيديهم إلى تحقيق هدفهم الأسمى، فأضحى السيد نصر الله قبلة الأحرار في كل العالم، و”قاد المقاومة إلى الأمة وقاد الأمّة إلى المقاومة، فأصبحنا لا نميز بين مقاومةٍ وأمة..”، فكلّما كانت الأمّة ملتصقة بخيارها المقاوم ومخلصة في اتجاهاتها تحولّت إلى مقاومة يخوضها الأحرار، حيثما كانوا وأينما وجدوا، فتصبح أمّةُ المقاومة مقاومةَ الأمّة لا انفكاك في ذاتية كينونتها وعوامل قوتها، وتصبح الأمّة نفسها هي المقاومة التي تدافع عن الأمّة وتحميها وتقاتل من أجلها، موضع الروح من الجسد، فإذا انفصلت عن مقاومتها تحوّلت إلى كيان هشّ ضعيف لا حول له ولا قوة، وهذا لا يكون إلا بالتضحية والفداء وبذل الأنفس والأموال والأرزاق صبراً على ضيق إلى حين أوان الانتصار.
إنها الأمّة التي تحدث عنها سماحة الشيخ قاسم، والتي حضرت في مليونيتها السامية في تشييع سيد شهداء الأمة، وقد استشهد وجرح من أجلها عشرات آلاف المقاومين من القادة والمجاهدين في لبنان وفلسطين والعراق وسورية واليمن وإيران خلال معركتي “طوفان الأقصى” و”أولي البأس” حتى فرضت المقاومة حالاً من المراوحة الميدانية، ما اضطر العدو الصهيوني إلى طلب وقف إطلاق النار على غرار ما حصل في قطاع غزة، فوافقت القيادة على ذلك حرصاً على مصلحة المقاومة ولبنان باستمرار القتال غير التناسبي وتحقيق الأضرار من دون أُفق سياسي ولا ميداني”، لتنتقل المقاومة إلى مرحلة جديدة تختلف بأدواتها وأساليبها وكيفية التعامل معها”، وجوهر المرحلة هو أن المقاومة أنجزت ما عليها من ردع للعدوان، ومنعته من إسقاط الكيان اللبناني وإلحاقه بحظيرة الكيانات التابعة له، ويبقى على الدولة اللبنانية أن تتحمل مسؤوليتها في الردع واستكمال التحرير.
حسم سماحة الشيخ قاسم في كلمته جملة من المحدّدات على المستويين السياسي والميداني، تشكّل بمجموعها برنامج عمل حزب الله في المرحلة المقبلة، وأعلن بداية حقبة جديدة في أداء الحزب والمقاومة على مستوى لبنان والمنطقة والعالم، كما أكد على جملة من الثوابت التي تلبّي طموحات الأمة وتطلعاتها، وأهمها:
– المقاومة حق وواجب ولا يمكن لأحد سلبنا إيّاه، وهي خيارنا الإيماني والسياسي ما دام الاحتلال وخطره موجوداً نُمارس حقنا في المقاومة بحسب تقديرنا للمصلحة والظروف، ولا يُثنيها من يُعارضها، وتقتلع المُحتل ولو بعد حين، والنصر النهائي حتميٌ ومطلق.
– أي هجوم تشنّه “إسرائيل” على لبنان لم يعد مجرد “خروقات” بل هو بمنزلة “احتلال وعدوان”، والمقاومة قوية عدداً وعدّة وشعباً ولا تزال مستمرة بِحضورها وجهوزيتها، وستمارس العمل المقاوم بالأساليب والطرق والتوقيت انسجاماً مع المرحلة وتقدير القيادة.
– لن نقبل باستمرار قتلنا واحتلالنا ونحن نتفرج، ولا يُمكن لِأحد أن يطلب منا بأن ننكشف وأن نُقدم ما لدينا من قوة لِيتحكّم بِنا العدو.
– الرفض المطلق للمساعي الأمريكية للتحكم بلبنان، “لن يأخذوا بالسياسة الذي لم يأخذوه بالحرب”.
– المسؤولون في لبنان يعرفون توازن القوى، وسنتابع تحرك الدولة لِطرد الاحتلال ديبلوماسياً، ونَبني بعد ذلك على النتائج. ونُناقش لاحقاً استفادة لبنان من قوته عند مناقشة الاستراتيجية الدفاعية.
– المشاركة في بناء الدولة القوية والعادلة، والإسهام في نهضتها على قاعدة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتحت سقف اتفاق الطائف..” لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه ونحن من أبنائه”.
– التأكيد على ثلاث ركائز أساسية في سياق بناء الدولة، وهي إخراج المحتل وإعادة الأسرى، وإعادة الإعمار والترميم والبنى التحتية كالتزام أساسي، وإقرار خطة الإنقاذ والنهضة الاقتصادية والمالية والإدارية والقضائية والاجتماعية.
– الحرص على مشاركة الجميع في بناء الدولة، وعلى الوحدة الوطنية والسلم الأهلي.
– فلسطين حق وهي بوصلتنا، ندعم تحريرها.. ونستمر على العهد.
ولعلّ البند الأهمّ في المحدّدات والثوابت التي أعلنها الأمين العام لحزب الله هي في تأكيد التحالف بين حزب الله وحركة أمل، والذي لا يقف عند وحدة المذهب الشيعي بقدر ما يتجسّد في تحالف شامل وتنسيق متكامل في المواقف ولا سيّما في الملفات الداخلية أولاً وثانياً في الاستحقاقات المقبلة التي تبدأ عند الانتخابات البلدية والاختيارية ولا تنتهي عند الانتخابات النيابية العام المقبل، فهذا “التحالف تعمّد بالدم والتضحية والعطاءات والمقاومة والمواجهة، وإننا واحدٌ في الموقف وواحدٌ في الخيارات وواحدٌ في السياسة”.
إن قراءة ملخّصات المواقف التي وردت في الكلمة المفصلية لسماحة الشيخ قاسم تفيد بأنها حملت رسالة واضحة وأكيدة لكل الأفرقاء في الداخل والخارج، وخصوصاً أولئك الذين راهنوا قبل العدوان الصهيوني وخلاله وبعده على سراب الوهم الأمريكي بهزيمة حزب الله، أن المقاومة باقية ومستمرة بقوتها وعزيمتها الراسخة في مواجهة المحتلّ وإحباط المخططات الأمريكية الرامية للهيمنة على لبنان وقراره وسيادته، وأن لا أحد قادراً على أن يضعف أو يلغي حضور حزب الله السياسي في تشكيل القرار الوطني، وأقوى دليل على ذلك إسهام الحزب في انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية وتسهيل تكليف نواف سلام لتشكيل الحكومة، وفرض الخيارات المناسبة في تسمية الوزراء الشيعة في هذه الحكومة. أما المظهر الأقوى يبقى للأحرار الذين تقاطروا من لبنان وخارجه وأثبتوا صدق وفائهم للمقاومة بحضورهم المليوني المبارك في مراسم تشييع السيدين الشهيدين، وأكّدوا أنهم أمّة المقاومة.