لجريدة عمان:
2025-11-17@20:33:19 GMT

من سيعمل على خلق ثقافة حوار أوروبية جديدة

تاريخ النشر: 1st, September 2024 GMT

رغم أن أوروبا في حاجة ماسة إلى نظرة استراتيجية جديدة، فإنها تظل مهووسة بسياسة الإجماع، وبالتالي فهي عالقة في مذهب متشدد مُـحـبِـط تروج له الدوائر الرسمية والرأي النخبوي في برلين وباريس.. وهذا يعني أن مستقبلها قد يعتمد على قيام بريطانيا وإيطاليا وبولندا بإنشاء مركز ثقل سياسي جديد.

من الواضح أن حال أوروبا باتت معطوبة على نحو أو آخر.

كان أبرز ما جاء في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في السوربون في أبريل الماضي تحذيره من أن أوروبا فانية ــ «إنها من الممكن أن تموت». ويشعر كثيرون بحاجة مُـلِـحّة إلى فِـكر جديد، وقيادة جديدة، وأفكار جديدة، ولكن من الصعب أن نقول أين قد يوجَـد كل هذا. إن توليد أفكار جديدة وصياغة مبادئ جديدة يتطلب حوارا مفتوحا. لكن أوروبا تظل مهووسة بسياسة الإجماع، وبالتالي فهي عالقة في مذهب متشدد مُـحـبِـط تروج له الدوائر الرسمية والرأي النخبوي في برلين وباريس.

كانت العلاقة بين فرنسا وألمانيا المحور المركزي للتاريخ الأوروبي لمدة مائتي عام. وبعد الانقطاع الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية ــ والذي ترك النخب القديمة في البلدين في حالة من الإذلال التام ــ أصبح الثنائي الفرنسي الألماني الأساس الذي قام عليه المشروع الأوروبي. ولكن الآن أصبح كل من البلدين مشلولا، وصارت الديمقراطية ــ التي شكلت ضرورة أساسية لإعادة صياغة أوروبا بعد الحرب ــ متخبطة. لقد اختار الناخبون الفرنسيون للتو برلمانا معلقا يضم اليمين المتطرف واليسار الثوري ووسطا معزولا عديم التأثير، في حين تظل حكومة الائتلاف غير الشعبية في ألمانيا عالقة في نزاعات مالية لا تنتهي. الأسوأ من كل هذا أن الانتخابات الإقليمية المقرر انعقادها هناك الشهر المقبل من المرجح أن تسفر عن نتيجة على الطريقة الفرنسية. وكما يبدو، لم يَـعُـد الأوروبيون يعلقون آمالا كبرى على محركات التكامل الأوروبي القديمة. ما يزيد الطين بلة أن قادتهم الحاليين يشبهون رسوما كاريكاتورية لتقاليدهم المختلفة. فنجد أن ماكرون (الذي شَـبّـه نفسه ذات يوم بكوكب المشتري) نابليوني النزعة في حبه للمقامرات الضخمة.

لنتذكر هنا دبلوماسيته بعد غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022، والتي سرعان ما انهارت في محاولة عبثية لاسترضاء فلاديمير بوتين. ثم جاء اقتراحه بأن قوات حلف شمال الأطلسي ربما يجب أن تُـنـشَـر في أوكرانيا، ثم أعقب ذلك قراره غير الحكيم بالدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة هذا الصيف. من ناحية أخرى، كان المستشار الألماني أولاف شولتز على اتصال روحي بإيمانويل كانط الباطني داخله، ويصر على إمكانية تحقيق السلام الدائم. كان شعار حملته الانتخابية الأوروبية السيئة التقدير هو «تأمين السلام». عندما ألقى خطابا بمناسبة الذكرى السنوية الثلاثمائة لميلاد كانط، توقع جمهوره بفارغ الصبر أن يذكر صواريخ توروس التي كانت أوكرانيا تتوسل للحصول عليها. وحسبما كان متوقعا، لم يفعل. وعلى هذا فإن الهوسين الألمانيين ــ السلام والميزانيات المنضبطة ــ أنتجا مزيجا خطيرا يهدد بقطع الدعم الألماني لأوكرانيا في لحظة حرجة، على نحو يُـعَـرِّض السلام والاستقرار المالي في مختلف أنحاء أوروبا للخطر.

لا عجب أن الجميع يريدون تغييرا في القيادة. في الماضي، كانت أوروبا تتألف من أربع ركائز أساسية: فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، وكانت اقتصاداتها ذات يوم متماثلة في الحجم وأعداد سكانها متشابهة. ولكن بعد توحيد ألمانيا في عام 1990، تغيرت النسب، في حين فقدت إيطاليا مصداقيتها بسبب عدم الاستقرار السياسي الدائم، وبريطانيا بسبب الحرب الأهلية التي خاضها حزب المحافظين والتي أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ولكن من الغريب أن بريطانيا وإيطاليا تبدوان الآن في وضع أفضل من فريق برلين وباريس القديم. فإيطاليا لديها حكومة رصينة، ومسؤولة ماليا، وذكية جيوسياسيا، ومؤيدة لأوروبا تحت قيادة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني. ورغم أنها نشأت من الحركة الاجتماعية الإيطالية الفاشية الجديدة، إلا أنها تخلت عن معظم أيديولوجيتها. على نحو مماثل، تحظى بريطانيا الآن بحكومة عمالية رصينة، ومسؤولة ماليا، وذكية جيوسياسيا، بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر، الذي حل محل جيريمي كوربين ثم طرده هو والدافع المعادي لأوروبا والمعادي للسامية الذي يمثله. ويستفيد كلا البلدين من حقيقة مفادها أن الحكومات السابقة ارتكبت أخطاء فادحة.

هذه أيضا لحظة ملائمة للدول الأصغر حجما. الواقع أن الدنمرك والسويد وبولندا ــ ومن خارج الاتحاد الأوروبي النرويج وسويسرا ــ تُـظهِـر نفسها كدول ديناميكية اقتصاديا ومُـبـدِعة سياسيا واستراتيجيا. وتقدم بولندا، وهي الأكبر والأسرع نموا بين هذه الدول، نموذجا فريدا لأوروبا المستقبل. نظرا لموقعها الجغرافي، بذلت بولندا قصارى جهدها لزيادة الإنفاق الدفاعي؛ وعلى النقيض من القوى الأوروبية الأكبر، فإنها لا تمتلك صناعة دفاعية محلية راسخة تعمل جماعات الضغط التابعة لها باستمرار على عرقلة الجهود الرامية إلى إضفاء الطابع الأوروبي على قدرات القارة العسكرية. بوسع أوكرانيا وسويسرا والنرويج أن تعلم جيرانها الأوروبيين الكثير عن كيفية التكيف مع عالم اليوم المتغير. ويُـنـسَـب لماكرون من الفضل أنه حاول إنشاء اتحاد سياسي أوروبي أوسع، ونجح في جمع زعماء 43 دولة هذا الصيف في قمة في قصر بلينهايم (مسقط رأس ونستون تشرشل). بالنظر إلى المستقبل، يمكننا أن نتخيل إعادة توجيه الشؤون الأوروبية حول ثالوث جديد يضم بريطانيا وإيطاليا وبولندا. مثلها كمثل فرنسا وألمانيا، تشترك هذه البلدان أيضا في كثير من تاريخها. لكنها تشترك أيضا في تقدير الحقائق العالمية الحالية، فضلا عن ثقافة الحوار. فالنشيد الوطني البولندي هو أغنية مسيرة جنرال بولندي في الجيش النابليوني. وكانت لندن مقر الحكومة البولندية في المنفى بعد عام 1940، واضطلع الطيارون والجنود البولنديون بدور حاسم في المواجهات الرئيسية التي دارت في الحرب العالمية الثانية، وأبرزها معركة بريطانيا ومعركة مونتي كاسينو. كما تعيش بريطانيا وإيطاليا وبولندا بثبات في الحاضر: فهي لا تتجادل إلى الأبد حول نقل السلطات إلى المؤسسات الأوروبية أو التكامل النقدي. وهي تحترم تقاليد الحوار.

في إنجلترا في القرن التاسع عشر، سَـخَـر الكاتبان المسرحيان جيلبرت وسوليفان من تصور مفاده أن «كل صبي وكل فتاة/ يولد أو تولد في العالم على قيد الحياة/ إما أن يكون أو تكون ليبرالي أو ليبرالية قليلا/ أو محافظ أو محافِـظة قليلا!». وتغلبت إيطاليا على المعارك بين رجال الدين والمناهضين لرجال الدين. وتمكنت بولندا من النجاة من الانقسام الذي حدث بين الحربين العالميتين بين شخصيتين عسكريتين تحملان رؤى بديلة، المارشال جوزيف بيلسودسكي والجنرال فلاديسلاف سيكورسكي ــ وهي المنافسة التي دامت طويلا والتي ترددت أصداؤها في التوترات الحالية بين الزعيم اليميني المتطرف ياروسواف كاتشينسكي ورئيس الوزراء دونالد توسك.

تتلخص سمة الديمقراطية الناجحة الأساسية في المفهوم الأثيني القديم للصراحة وحرية التعبير: من حق وواجب كل المواطنين التعبير عن أنفسهم بحرية في التجمعات العامة. ويُـقَـدَّم ذات المفهوم في بعض الأحيان على أنه المسؤولية عن قول الحقيقة للسلطة. بعد مرور مئات السنين، أنتج هذا المفهوم ازدهار عصر النهضة، مع مُـعـتَـقَده بأن الأفكار والحجج يجب أن تكون قابلة للاختبار وكذلك قابلة للجدال. وباعتباره المبدأ الوحيد الذي يتعين على الأنظمة الاستبدادية قمعه قطعا، فإن مفهوم الصراحة وحرية التعبير هو المفتاح لإنقاذ الديمقراطية ــ والإنسانية معها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بریطانیا وإیطالیا

إقرأ أيضاً:

البعثة الأممية لا تدير حوارًا بل تدير زمنًا

بينما ينتظر الليبيون بصيص أمل يخرجهم من هذا النفق الذي طال كثيرًا، تفاجئهم البعثة الأممية مرة أخرى بجرعة جديدة من العبث السياسي المغلّف بكلمة “حوار”.

وما يُسمّى بالحوار المهيكل لم يعد سوى منتج جديد من منتجات البعثة، يتم تسويقه كل مرة بعبوات مختلفة ونكهات جديدة، لكن المحتوى واحد: فراغ سياسي وتمطيط للأزمة لا أكثر.

فمنذ أيام فقط أعلنت البعثة معايير واضحة للمشاركة في هذا الحوار، وما إن اعتقد الليبيون أن الأمر جاد حتى عادت لتغير الشروط كما لو كانت تعدّل مزاجها في لحظة. مرة تتحدث عن تمثيل شامل، ثم تتراجع لتحدثنا عن خبراء، ثم تعود لتطرح “تصنيفًا جديدًا” للمشاركين، وكأن ليبيا مجرد لعبة لوحية يعيدون ترتيب أحجارها كلما شعروا بالملل.

ما تقوم به البعثة لم يعد يُقرأ بوصفه ارتباكًا أو سوء إدارة، بل أصبح نهجًا مقصودًا لإبقاء الأزمة في حالة حركة دون أن تصل إلى أي نقطة نهاية. إنهم يبدلون المعايير كما تُبدَّل الأقنعة في مسرحية رديئة، ويظنون أن الليبيين لا ذاكرة لهم ولا قدرة على الربط بين البارحة واليوم.

المشكلة ليست في تغيير الشروط، بل في أن البعثة أصبحت تتصرف وكأن ليبيا مختبر تجارب، وكأن الشعب الليبي حقل تجارب لصياغة “حوار تجريبي” لا هدف له سوى تجميل الفشل المستمر منذ سنوات. فمنذ متى تُدار الحوارات الجادة بهذه الطريقة؟ ومنذ متى أصبح الحل يبدأ كل مرة من الصفر لأن البعثة “أعادت تقييم المعايير”؟ الحقيقة أن ليبيا ليست بحاجة إلى طاولات جديدة ولا لجان جديدة ولا مسميات جديدة، بقدر حاجتها إلى خروج البعثة من دور “مهندس الأزمة” والعودة إلى دورها الطبيعي: تسهيل الحل لا صناعة عراقيل جديدة.

إن ما يجري الآن ليس سوى حلقة جديدة من حلقات العبث الذي لا ينتهي، حيث تتبدل الشروط وتتغير الأسماء وتبقى النتيجة واحدة: أزمة أطول، معاناة أكبر، وضياع وقت لا يقدَّر بثمن.

في كل مرة يقترب فيها الليبيون من خطوة نحو الأمام، تظهر مبادرة جديدة تعيد الجميع إلى الخلف خطوة أخرى. ولأن البعثة تُدرك أن هذه اللعبة لم يعد يسهل تمريرها، فإنها تلجأ للتبرير الممل المعتاد: “بناءً على طلب الأطراف الليبية”، وكأن الليبيين يؤمنون فعلًا بأن هذه الأطراف تُستشار، أو أن صوتهم يُسمع أصلًا. في الواقع، الحوار الذي تتحدث عنه البعثة لا يختلف في مضمونه عن برنامج من برامج الترفيه السياسي، حيث يجتمع أشخاص مختارون بعناية لتصوير “مشهد ديمقراطي” جميل يُقدَّم للمجتمع الدولي على أنه إنجاز، بينما يعرف الليبيون جيدًا أنه مجرد تمثيل لا يغيّر شيئًا على الأرض.

والسؤال الذي يخشاه الجميع لكنه يجب أن يُطرح هو: لمن يفيد هذا العبث؟ ولماذا لا تريد البعثة نهاية للأزمة؟ فمن الواضح أن كل تغيير في المعايير وكل مبادرة جديدة وكل إعلان معدّل لا يهدف سوى لإطالة عمر الفوضى، وكأن الأزمة أصبحت رأسمالًا يجب الحفاظ عليه. وإذا كانت هناك نية حقيقية للحل لما تغيّر شيء من الشروط إلى هذا الحد، ولما كانت كل خطوة جديدة تُعيد الليبيين إلى نفس النقطة التي بدأوا منها قبل عشر سنوات.

إن البعثة اليوم لا تدير حوارًا بل تدير زمنًا، وتتحكم في إيقاع الأزمة، وتضمن استمرارها بطريقة محسوبة: لا انفجار كامل ولا حل كامل، فقط استمرار يضمن بقاء الجميع في أماكنهم.

ولأن الشعب الليبي ليس غافلًا، فقد بات واضحًا له أن ما يحدث مجرد عبث سياسي مقصود أو غير مقصود، لكنه في النهاية يؤدي إلى نتيجة واحدة: استمرار معاناة الليبيين وتأجيل أي حل حقيقي.

ليبيا لا تحتاج لحوار مهيكل ولا غير مهيكل؛ ليبيا تحتاج إلى إرادة دولية عادلة، وإلى موقف صريح يقول إن الحل يبدأ من احترام إرادة الليبيين لا من تغيير قوائم المشاركين كل أسبوع.

وما دام المشهد يُدار بهذه الطريقة المتقلبة، فإن ليبيا ستظل عالقة في منتصف الطريق، لا تسقط ولا تتعافى، فقط تدور في حلقة لا تنتهي… حلقة يديرها من لا يريدون لها أن تنتهي.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

مقالات مشابهة

  • بنزيما يكشف عن توصله بـعروض أوروبية.. هل يغادر السعودية؟
  • البعثة الأممية لا تدير حوارًا بل تدير زمنًا
  • إعادة التموضع وترتيب النفوذ.. خبيرة أوروبية تحذر من استراحة الحوثيين في البحر الأحمر
  • ترامب يلمّح لإمكانية فتح حوار مع مادورو
  • حلقة عمل تناقش استضافة نحو 70 شركة سياحية أوروبية لسلطنة عمان
  • جدل في بريطانيا بشأن حجم الآثار الإقتصادية لخروج البلاد من الاتحاد الأوروبي
  • مطار مرسى علم يستقبل 154رحلة أوروبية سياحية هذا الأسبوع
  • ساسة أوروبيون: فلسطين تعيد تشكيل المشهد الأوروبي
  • 5 دول أوروبية تتعهد بمواجهة "التهديدات الهجينة" وتعزيز دعمها لأوكرانيا
  • 5 دول أوروبية في الناتو تتعهد بالتصدي لـتهديدات هجينة