قضية الأرشيف في العلاقات الجزائرية الفرنسية
تاريخ النشر: 1st, September 2024 GMT
نجح الجزائريون بعد عقود من استعادة اللغة العربية والهوية الدينية، وراحوا يشيدون المساجد ويعملون على إدارة بعض المؤسسات، لكن بقيت قضية الأرشيف واحدة من القضايا المعلقة، فقد حمل الفرنسيون معهم كل المستندات والخرائط وقوانين الإدارة المحلية والآلاف من الكتب القديمة المخطوطة.
عرفت الدول الحديثة أهمية الوثائق التاريخية منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، وكانت الولايات الإيطالية في مقدمة الدول التي عُنيت بأرشيفاتها، منذ عصر النهضة الإيطالية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ورغم ما أعقب ذلك من حروب أوروبية، دينية وسياسية إلا أن الوثائق كانت أحد المصادر التي اعتمدت عليها الدويلات الإيطالية، سواء في الحفاظ على ذاكرة كل ولاية، من حيث المستندات المتعلقة بنظم الإدارة والمالية وطقوس الكنائس أو حتى فيما يتعلق بالخرائط والمستندات التي تحول دون تغول أية دويلة على الأخرى، بعدها راحت الدول الأوروبية تحرص على الحفاظ على وثائقها وحمايتها من التلف والضياع، وخصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات السياسية المتوترة بين معظم الدول الأوروبية، وفي هذا السياق كتب المؤرخون والمفكرون والفلاسفة أعظم ما خلفه التراث الإنساني، وقد راحت المطابع تواصل نشره منذ منتصف القرن السادس عشر بكل اللغات الأوروبية، وهو ما حفظ لأوروبا تراثها الإنساني في شتى مناحي الحياة.
لم تعن أقطارنا العربية بتراثها الأرشيفي، الفكري والفني والإداري حتى نهايات القرن التاسع عشر، وربما في أقطار عربية كثيرة حتى النصف الثاني من القرن العشرين، لأسباب تتعلق بحال الأمة العربية التي كانت تتصارع عليها قوى خارجية عديدة، وكان حظ دولة الجزائر بائسا، حينما وقعت فريسة للاحتلال الفرنسي منذ بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حينما اجتاحت الجيوش الفرنسية دولة الجزائر، ومارس الفرنسيون كل صنوف العنف والعدوان، ليس في سبيل استعمار الجزائر استعمارا مؤقتا، وإنما بهدف ضم هذا البلد العربي الكبير ضمّا كاملا لكي يكون جزءا من الدولة الفرنسية، وقد راح الجزائريون منذ هذه الفترة المبكرة من التاريخ الحديث يدافعون عن أرضهم بكل بسالة بينما كانت الجيوش الفرنسية بإمكاناتها الكبيرة تجتاح المدن والقرى بقسوة مفرطة، وقد غضّ الأوروبيون الطرف عن هذه الإجراءات التي لم يكن لها مثيل في التاريخ وقتئذ، لذا كان الاستعمار الفرنسي للجزائر بمثابة مأساة طالت لما يقرب من مائة واثنين وثلاثين عاما استهدف الفرنسيون القضاء على هذا الشعب العربي المسلم، وخصوصاً في هويته الدينية واللغوية والاجتماعية، إلا أن نضال الجزائريين لم يتوقف عن مقاومة عدوهم، رغم القسوة المفرطة التي أودت بحياة مجتمع كان ينعم بالاستقرار والهدوء.
لم يتوقف نضال الجزائريين منذ أن وطئت أقدام المحتل أرضهم، فقد دفعوا أثمانا باهظة من دماء أبنائهم وتدمير حياتهم وثقافتهم، بينما راح الفرنسيون يواصلون عدوانهم كل يوم، بهدف ضم الجزائر إلى بلادهم باعتبارها أرضا مباحة لهم، إلا أن نضال الجزائريين لم يتوقف حتى بداية ستينيات القرن الماضي، وراح كل جيل يُسلم الراية إلى الجيل الآخر، في نضال متواصل، وكان الجزائريون طوال هذه السنوات يستمدون مصدر قوتهم من إيمانهم وعقيدتهم، ومن الأرض التي يقاتلون من أجلها، لكي ينتهي الأمر بإجبار الفرنسيين على الانسحاب من الجزائر ١٩٦٢م، مخلفين وراءهم قضايا معقدة كانت قضية الهوية أحد القضايا التي اعتصم بها الجزائريون، ولم يكن الاحتلال الفرنسي يشبه أي احتلال آخر في العالم، بعد أن سيطر الفرنسيون على كل وسائل الحياة، في الإدارة والتعليم والحياة الاجتماعية وحتى الشؤون الدينية، ولم يبق للجزائريين إلا أن يعيشوا كرعايا فرنسيين من الدرجة الثالثة، عند الاستقلال تسلم الجزائريون بلدهم مجرد أرض محروقة، ولم يكن ذلك بالمعنى المادي، وإنما كان بافتقاد الهوية ونمط الحياة، ولم يكن رحيل الفرنسيين أمراً يسيرا، فقد حملوا معهم كل ملامح الذاكرة الجزائرية من الأوراق والمستندات وقوائم تعداد السكان واللوائح والتشريعات التي تنظم عمل الإدارة خلال الاحتلال الفرنسي، بل حملوا معهم في مشهد غير مألوف في تاريخ الاستعمار، حينما أخذوا جماجم الموتى من الشهداء، وكل الخرائط الدالة على مقابر النفايات الملوثة للتجارب النووية.
لم يتوقف الجزائريون منذ حصولهم على الاستقلال في سبيل استعادة ذاكرتهم التاريخية، وطوال هذه السنوات منذ بداية ستينيات القرن الماضي، لم تتوقف المفاوضات بهدف استعادة الذاكرة الوطنية، وقد نجح الجزائريون بعد عقود من استعادة اللغة العربية والهوية الدينية، وراحوا يشيدون المساجد ويعملون على إدارة بعض المؤسسات، لكن بقيت قضية الأرشيف (الذاكرة الوطنية) واحدة من القضايا المعلقة، فقد حمل الفرنسيون معهم كل المستندات والخرائط وقوانين الإدارة المحلية والآلاف من الكتب القديمة المخطوطة، التي كانت مودعة في المساجد والتكايا وبيوت العلماء، فضلاً عن قوائم من استشهدوا طوال هذه السنوات الطويلة، ولم تصرح الإدارة الفرنسية عن عددهم، لكنهم كانوا بالملايين، كما نقلت فرنسا إلى بلادها كل الخرائط ومكتبات الفقهاء وكتابات الرحالة، جميعها نقلت إلى الأرشيفات الفرنسية، وكأن هذا الشعب العظيم قد وجد من العدم، وأعتقد أن قصة استعمار الجزائر لا مثيل لها في التاريخ.
لم تتوقف الدبلوماسية الجزائرية منذ ستينيات القرن الماضي عن المطالبة باستعادة هذا التراث (الذاكرة)، بل ضنّ الفرنسيون على أن يكشفوا للجزائريين عن قبور شهدائهم ودفن النفايات النووية في الصحراء الجزائرية، وهي معلومات حرص الفرنسيون على عدم إتاحتها للمفاوض الجزائري، ربما لو تم الكشف عن هذه الجرائم فسوف تتضح الكثير من القضايا اللاإنسانية، وربما تقيم الدنيا ولا تقعدها. لم تتوقف المفاوضات الفرنسية الجزائرية حتى الآن، وقد استخدم الفرنسيون سياسة النفس الطويل، في سبيل أن ينسى الجزائريون هذا التاريخ الأليم، لكن من الواضح أن الجزائر قد شبَّت عن الطوق، بعد أن استعادت سيادتها واستقلالها، بعد أن نزح إلى فرنسا ما يفوق السبعة ملايين جزائري، اكتسبوا جنسيتها جميعهم مقيمون على الأرض الفرنسية، لكنهم جميعا يشعرون بالغبن والقهر بسبب ما ارتكبته فرنسا المستعمرة في بلادهم، في الوقت الذي راحت فرنسا تفقد قدرتها وهيمنتها على كثير من دول الساحل الأفريقي، وقد راحت كل الدول التي طالها هذا الاستعمار البغيض تواصل نضالاتها ليس في سبيل استكمال استقلالها فقط، وإنما في سبيل استعادة هويتها ووثائقها ومقابر موتاها وأرشيفاتها الإدارية والفنية.
أعتقد أن المفاوض الجزائري وهو يعمل على استعادة تراثه الأرشيفي لن يرضى بديلا عن استعادة هويته، واللافت للنظر هذا الموقف الصلب الذي تقفه الحكومة الجزائرية ومن ورائها شعب متمسك باستعادة هويته، سواء أكان مقيما على الأرض الفرنسية أو الجزائرية، ولن تستقيم العلاقات بين البلدين إلا إذا أعادت فرنسا هذا التراث الذي سرقته بليل، بل ومن الضروري أن تقدم الدولة الفرنسية اعتذارا ليس إلى الجزائريين فقط وإنما إلى العالم برمته بسبب ما ارتكبته من أهوال وجرائم يندى لها جبين الإنسانية.
العجيب في الأمر، أن الرئيس الفرنسي إيميل ماكرون كان يحتفي هو وجنوده خلال الأسبوع الماضي بخروج آخر الجنود الألمان من الأراضي الفرنسية ونهاية الحرب العالمية الثانية، في مشهد استعراضي مثير للاستياء، ولعله لو كان لديه من الشجاعة في هذا الاحتفال المهيب أن يعلن إلى العالم اعتذاراً تاريخياً عما ارتكبته فرنسا من أهوال وجرائم، لكان أكرم لفرنسا وربما يعيد إليها بعضا مما لحق بسمعتها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لم یتوقف فی سبیل إلا أن لم یکن
إقرأ أيضاً:
استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة
هل يبدو مصطلح “الإنتاجية السامة” مألوفًا؟ إنه ببساطة ربط القيمة الذاتية بما نحققه من إنجازات ملموسة. في مجتمعاتنا المعاصرة، تمجد الإنجازات التي تقاس بالرواتب، الترقيات، والممتلكات المادية، ممّا يخلق ثقافة تمجد العمل الزائد، وتشجب الراحة والتوقف للتأمل.
النتيجة؟ إرهاق دائم، شعور بعدم الأمان، وفقدان المعنى الحقيقي للحياة.
إن هذا العالم الذي يدفع الإنسان للسعي المستمر نحو تحقيق المزيد، يجعلنا نطارد النجاح بوسائل تستنزفنا، ونملأ جداولنا اليومية بمهام لا نهاية لها، حتى ننسى أن نخصص وقتًا لأنفسنا. قد يبدو من الخارج أن هذه الحياة مليئة بالإنجازات، لكن الداخل غالبًا ما يكون مثقلاً بالإرهاق وعدم الرضا.
هذا هو جوهر كتاب قرأته مؤخرًا بعنوان “الإنتاجية السامة” للكاتبة إسراء ناصر. إنه كتاب يستعرض هذا المفهوم بعمق، ويبدو كأنه موجه لكل من يشعر بأنه عالق في دوامة العمل المستمر. كأن الكاتبة هنا تستشهد بمثال شائع بيننا: “معك ريال، تسوى ريال؛ معك مليون، تسوى مليون”. إن هذا المنظور يجعل الإنسان أسيرًا لإنجازاته، ويربط قيمته الذاتية بما يحققه.
الإنتاجية ليست أمرًا سيئًا في ذاتها، فهي وسيلة لتحقيق الأهداف وتنظيم الحياة. لكنها، كما هو الحال مع الطعام الصحي، يمكن أن تتحول إلى ضرر إذا زادت عن الحدّ المطلوب. حين تصبح الإنتاجية وسيلة لإثبات الذات بدلاً من تحقيق القيِّم الشخصية، تتحول إلى عبء نفسي وبدني.
تتناول الكاتبة علامات الإنتاجية السامة، وأبرزها مقارنة إنجازاتنا بإنجازات الآخرين. فالإنتاجية السامة غالبًا ما تغذيها دوافع عاطفية مثل الخجل، الكمالية، أو السعي المستمر للتقدير الخارجي. لذلك، فإن التعرف على هذه المحركات الداخلية يعد الخطوة الأولى نحو التحرر.
تدعو المؤلفة إلى إعادة تعريف النجاح وفقًا للقيِّم والأولويات الشخصية. فالنجاح لا يجب أن يُقاس بما يراه المجتمع، بل بما يتماشى مع أهدافنا ومعاييرنا الذاتية. عندما نركز على ما يهمنا حقًا ونتجاهل سباق الإنجازات الذي يخوضه الآخرون، يصبح النجاح أكثر معنى ورضا.
من أبرز الأخطاء التي تسلط الكاتبة الضوء عليها: الانشغال يعني الإنتاجية: التركيز على المهام ذات التأثير العالي أكثر فعالية من محاولة فعل كل شيء دفعة واحدة.
أيضا تعدد المهام هو الحل: العلم يثبت أن تعدد المهام يستهلك الطاقة ويقلل الكفاءة. التركيز على مهمة واحدة في كل مرة هو الخيار الأمثل.
وأخيراً إن ساعات العمل الطويلة تعني نتائج أفضل: أجسادنا تعمل وفق دورات طبيعية تحتاج إلى الراحة. العمل دون توقف يؤدي إلى تراجع في جودة الإنتاجية.
التخلص من فخ الإنتاجية السامة يبدأ بتغيير العقلية من التفكير بنقص الموارد إلى التفكير بالوفرة. عندما نعتبر الراحة جزءًا أساسيًا من الاستثمار في الذات، تصبح إنجازاتنا أكثر استدامة.
النجاح الحقيقي ليس في فعل المزيد، بل في فعل ما يهم حقًا. إنه في احترام احتياجاتنا للراحة والتجدد، وفي تحقيق التوازن بين الإنجاز والاستمتاع بالحياة. عندها فقط، يمكننا أن نزدهر بدلاً من أن نستمر في مجرد البقاء.
لنُعد تعريف النجاح ونضع معاييرنا الخاصة، لأن قيمتنا الذاتية لا تُقاس بما نحققه من إنتاج، بل بما نحياه من قيَّم ومعنى.
jebadr@