قبل أن تتمكن وسائل التواصل من قيمنا!
تاريخ النشر: 31st, August 2024 GMT
د. محمد بن خلفان العاصمي
دخلت وسائل التواصل الاجتماعي حياتنا بشكل مخيف حتى أصبحنا عالقين فيها نكاد لا نستطيع التخلص من متابعتها، وباتت نافذة لكل فرد منَّا نحو العالم وما يدور فيه، وأضحى هذا العالم الافتراضي مكاناً نعيش فيه، متنقلون داخله من مكان إلى آخر، نطلع على أخبار العالم ونعيش في قلب الحدث مهما كان بعيدًا، ونتفاعل مع أناس لا نعرفهم ولم نلتقِ بهم في حياتنا الواقعية، ونبني علاقات افتراضية وكأننا في أحد أفلام الخيال العلمي.
هذه حقيقة واقعية لم نكن لنصدقها لو قيلت لنا قبل 25 عامًا، وعندما أعود بالذاكرة إلى فترة تسعينيات القرن الماضي عندما بدأت تتحرك الثورة التكنولوجية الرقمية وبداية ظهور الهواتف المحمولة، كان أغلبنا يتوجس مما هو قادم، لقد أصبح بالإمكان العثور علينا ومزاحمة حياتنا واقتحام خصوصياتنا دون الحاجة لعناء البحث عنَّا ولم يعد بإمكاننا الحصول على مساحة خاصة نمارس فيها حياتنا التي اعتدنا عليها، وننعم بوقت للقراءة والرياضة والتفكير والابتعاد عن ضجيج الحياة والعيش في عالمنا الخاص.
لقد فقدنا كثيراً من الأشياء المميزة التي كانت تبهج حياتنا البسيطة، حتى لذة مصادفة شخص لم نلتقِ به لفترة طويلة فقدناها فقد أصبح لدينا القدرة على الوصول لأي فرد في أي مكان وفي أي وقت رغمًا عنه، ولم يطل بنا الوضع طويلًا حتى ظهرت المجتمعات الافتراضية بظهور تطبيقات الهواتف الذكية ومعها فقدنا آخر معاقل الخصوصية وسقطت قلاع الحياة الخاصة ومعها سقطت كل ممارساتنا اليومية التي كنَّا نستمتع بها وأصبح رتم الحياة سريعًا خاليا من الذكريات والممارسات الاجتماعية التي صنعت سلوكنا وأسست قيمنا.
لقد تركنا جلسة الأسرة واجتماعاتها حتى وإن كنَّا حاضرين أجسادًا إلا أننا نعيش في عالمنا الافتراضي الخاص الذي نتفاعل فيه مع أشخاص آخرين، لقد ابتعدنا عن المساجد وحلقات الدروس وعن السبلة وما يدور فيها من رص رصين للعادات والتقاليد وترسيخ لسلوكيات الآباء والأجداد وتدريب على فن الحديث وغرس للسمت والأصول، لقد هجرنا الزيارات العائلية وعيادة المرضى ومواساة القريب والوقوف مع الناس واكتفينا بالنذر اليسير من أداء الواجبات وعن طريق وسائل التواصل الاجتماعي فأصبحت رسالة التعزية كافية والاتصال قمة التعبير عن صادق المشاعر.
لقد تغلغلت هذه التقنيات في أدق تفاصيل حياتنا وأصبحنا نعرف كافة تفاصيل حياة الآخرين بل أصبحنا متطلعين لمعرفة ماذا سوف يفطر فلان وماذا سوف يتغدى علان وأين سيقضي إجازته وتعدى الأمر حتى وصل لمرحلة لا تليق بكتابتها في هذا المكان، وما هذا إلا انعكاس لما وصلت إليه حياتنا من سطحية، وفقدان للمعنى والهدف من الحياة، وانجرار وراء ما حملته هذه التقنيات من سلبيات، وانغماس متناهٍ فيها واستسلام تام لما فرضته علينا من واقع جديد، دون أدنى مقاومة منَّا للتخلص من هذه السموم التي أفسدت حياتنا.
إنَّ مشكلة هذه الوسائل الكبرى تكمن في صعوبة السيطرة عليها ووصولها إلى مرحلة الإدمان بشكل سريع وهو ما أطلق عليه "الإدمان الإلكتروني"، وصنف كأحد أخطر الاضطرابات النفسية وأشدها صعوبة في الشفاء، وهذا الأدمان له عواقب نفسية وصحية على الفرد والمجتمع بحد سواء وربما سوف أتحدث عنها في مقال مستقل لاحقًا، ولعل أهم آثار هذا الإدمان أنه أصبح الموجه لسلوكنا والغارس لقيمنا وتربيتنا وتنشئتنا.
نعم.. لقد انتشرت قيم وسائل التواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع وأفسدت ما تقوم به الأسرة والمدرسة والمجتمع من عمل في هذا الجانب، وأصبح المجتمع يعاني من الأفكار الدخيلة والسلوكيات المستوردة والثقافة الغريبة التي لم تكن تصل إلينا سابقًا، وظهرت سلوكيات خاطئة كثيرة بين النشء واستسلمت الأسر لهذا الواقع الجديد عندما رأت أنَّ الحال متشابه مع الجميع، والخوف الأكبر أن يفقد المجتمع هويته وعندها لن يكون بمقدورنا عمل أي شيء اتجاه هذا الوضع الذي فرضته التكنولوجيا علينا.
وقبل أن تتمكن وسائل التواصل الاجتماعي ومجتمعاتها الافتراضية من قيمنا يجب علينا أن نعيد مفهوم التربية وأن نصيغ فلسفتنا الخاصة بالتعليم وفق المعطيات الحالية وأن نعيد تعريف أدوار الأسرة ومؤسسات المجتمع المدني وفق السياق المعاصر الذي نعيشه، وعلينا أن نتفاعل مع ما يحدث حولنا حتى نستطيع المحافظة على أدوارنا الحقيقية في التربية وغرس القيم سواء كمربين أو كمؤسسات معنية بذلك، ويجب أن نستفيد من التكنولوجيا فيما هو مفيد وهذا مجال واسع جدًا لو تمَّ استغلاله بالصورة المناسبة.
نعم.. لقد ساهمت التكنولوجيا في تسهيل حياتنا وهذا أمر لا ينكره عاقل، ولكن وكما هو الحال في كل تقنية لها جانبان فالسيارة التي اختصرت علينا المسافات والزمن هي نفسها صندوق الموت المتحرك إذا ما استخدمت بشكل خاطئ، وقس على ذلك كل التقنيات، وهنا محور ومفصل الحديث كله.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
السديس: وسائل التواصل أفسدت العلاقات بسبب الطعن في دين الناس وأعراضهم
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام، الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبدالعزيز السديس، المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه وتجنب مساخطه ومناهيه.
بعد ظهور أهل البدع.. السديس: أمتنا الإسلامية تعيش واقعا مريرا الشيخ عبد الرحمن السديس: الإسلام نهى عن التوسل بالأموات والتمسح بالقبوروقال الدكتور عبد الرحمن بن عبدالعزيز السديس، خلال خطبة الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة، إن الإسلام أرسى أسس وقواعد الأخوة والمحبة، والتواصل والمودة، وفي غِمار الحياة ونوائبها، ومَشاقِّ الدُّنيا ومَبَاهِضها، وفي عالم مُصْطَخبٍ بالمشكلات والخُصُومات، والمُتَغيرات والنزاعات، وفي عصر غلبت فيه الماديات وفَشَت فيه المصالح والأنانيات، حيثُ إن الإنسان مَدَنِيٌّ بِطَبْعِه، واجتماعِيٌ بفطرته، تَبْرُزُ قَضِيَّةٌ سَنِيَّةٌ، مِنْ لوازم وضرُورَاتِ الحياة الإنسانية، تلكم العلاقات الاجتماعية ومَا تقتضِيه مِن الركائز والروابط البشرية، والتفاعل البنَّاء لِتَرْقِية الخُلُق والسلوك، وتزكية النفس والروح؛ كي تسْمو بها إلى لُبَاب المشاعر الرَّقيقة، وصفوة التفاهم الهَتَّان، وقُنَّة الاحترام الفَيْنان، الذي يُحَقِّقُ أسمى معاني العلاقات الإيجابية، المُتكافلة المتراحِمة، وأنبل وشائجها المُتعَاطِفة المُتَلاحِمة، التي تَتَرَاءى في الكُرَب بِلَحْظ الفؤاد، وتَتَنَاجَى في النُّوَبِ بِلَفْظِ السُلُوِّ والوِدَاد ".
وأضاف السديس، أن الأيام لا تزال تتقلب ببني الإنسان حتى ساقته إلى عَصْرٍ سَحقته المَادّة، وأفنته الكَزَازة الهَادَّة، ونَدر في العالم التراحم والإشفاق، والتَّبَارُرَ والإرفاق، وفَقَدَ تَبَعًا لِذَلك أَمْنَه واسْتِقْرَاره، ومَعْنَى الحياة فيه، وفَحْوى الإحسان الذي يُنْجِيه، ولا يخفى على شريف علمكم أَنَّ مُخالَطة النَّاس تُعَرِّض المَرْء لا مَحَالة لخطأ سَوْرَتِهم، وخَطل جهالتهم، لذا كان ولا بد من وقفة جادَّة ؛ لتَعْزيز الروابط الاجتماعية، فالشعارات البرَّاقة، لا تكشف كُرَبًا، ولا تبدِّدُ صَعْبًا، ولا تُغيثُ أمَّة مَرْزُوءة ولا شعْبًا، ما لم تُتَوَّج بالمواقف والأفعال، يَتَسَنَّمُ ذِرْوَةَ سَنَام ذلك: الاحترام المتبادل؛ فهو أساس العلاقات الاجتماعية الناجحة، ويشمل ذلك؛ التقدير الشخصي، وتقدير واحترام المشاعر والآراء، والتفهم لمواقف الآخرين، فإن ذلك يؤصِّل ويسهم في تقوية الروابط، وتعزيز الأواصر.
وأبان إمام وخطيب المسجد الحرام أنه إذا ساغ عقل قبول القناعات، واستمراء الآراء والحريات، فغير سائغٍ على الإطلاق أن تتحول القناعات إلى صراعات، والحريات إلى فتنٍ وأزمات، لاسيما والأمة تعيش منعطفًا تاريخيًا خطيرًا، ومرحلة حرجة من أشد مراحل تاريخها، فمن أهم موجبات الوحدة، ومقتضيات التضامن والاعتصام، التغاضي والتغافل، والصبر والتسامح، وحُسْنُ الظن والتماس الأعذار، قال تعالى : ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾، وقال سبحانه: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾، ويتبع ذلك من جميل الوُدِّ والتعامل الحسن عدم الإكثار من اللَّوْمِ والعِتَاب، والتَّشَكِّي في الحديثِ والخِطَاب، فإنها تَقْطَع الأواصر بغير حِجَاب وليست تدوم مودة وعتاب ، فقلوب أهل الإيمان دمَّاحة، ونفوسهم لِلْوُدِّ لَمَّاحة.
وأكد الدكتور السديس، أنَّ النّسيج الاجتماعي المُتراص الفريد يحتاج إلى صَقْل العلاقات الاجتماعية، والتحلي بمحاسن الآداب المرعية، ومعالي القيم الخُلقية، والمُدارة الإنسانية، وجبر الخواطر، ومراعاة المشاعر، وعِفَّة اللسان، وسلامة الصدور، ولقد تميز الإسلام بنظـام اجتماعي وإنساني فريد ، وسبـق بذلك نُظُم البَشَر كلها؛ ذلك لأن العلاقات الاجتماعية في هذا الدين، مُنبثقـة من جوهر العقيدة الصافية، مبينًا أن مما تتميز به المجتمعات المسلمة أن للدين أهمية مركزية في توجيه السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية، وهو مصدر قِيَمِهَا الإنسانية والاجتماعية ومقياس مُثلها العُليا، والإسلام ليس قاصرًا على الشؤون الاعتقادية والتعبدية، بل هو نظام شامل للحياة، يمدها بمبادئه وأصوله التشريعية في مختلف المجالات.
وأشار إلى أن ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي العجب العُجَاب، مِمَّا يُفسد العلاقات، ويقطع حِبَال الوُدِّ في المجتمعات، من الطَّعْنِ في دين الناس وأعراضهم وعقولهم وأموالهم، فيتلقفها الدَّهْمَاءُ، وتَلُوكُهَا الرُّوَيْبِضَةُ، في نَشْر للشائعات وترويجٍ للأراجيف والافتراءات، مما يجب معه الحذر في التعامل مع هذه المنصات المنتحلة، والمواقع المزيفة، التي تكثر فيها الغثائية، ومحتوى الغوغائية.
وأوضح أن الإسلام جاء رائدًا للتَّراحم والتعاطف بل هو الذي أنْمى ذيَّاك الخُلُق في الخافِقَين وأصَّله، وحضّ عليه وفَصَّلَه، قال تعالى:﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وتلكم الخلال الرَّحيمة، والشِّيَم النبيلة الكريمة، التي عَنَّت العالم إدْراكَها، لَهِيَ الأمل الذي تَرْمُقه الأمم الجهيدة والشُّعوب، وتَهْفُوا لها أبَرُّ القلوب، لذا يجب تَعْزيز قِيَمنَا الرَّبانية الومَّاضة؛ كالرحمة والعَدْل والصِّدق والوفاء، والبِر والرِّفق والصَّفاء، والأمَانة والإحسان والإخاء، وسِوَاها مِن كرائم الشِّيم الغرَّاء والشمائل الفيحاء، التي تُعد مصابيح للإنسان تضيء دربه، وهي صِمَام أمن وأمان لصاحبها من الانحلال الأخلاقي، وحياة الفوضى والعبث والسقوط في مهاوي الضلال وجلب التعاسة والشقاء لنفسه وأهله، خاصة بين الرُّعاة والرعية، والعلماء والعامة، وفي حلائب العلم وساحات المعرفة في مراعاة لأدبِ الخِلافِ والبُّعد عن التراشق بالكلمات والتلاسن بالعبارات، وتضخيم الهِنَات، فضلًا عن اتهام النِّيَّات وكَيْلِ الاتهامات، والتصنيفات. ومع الوالدين والأقارب والجيران، وكذا الزملاء في بيئة العمل.
وفي مجال العلاقات الزوجية، أعلى الإسلام قيم الاحترام والاهتمام، ومتى علم الزوجان الحقوق والواجبات زانت العلاقات، ونعما سويًا بالسعادة الزوجية، والهناءة القلبية، لذا أوصى الله جل وعلا الأزواج بقوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾،. حيث أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الزوجات بقوله:" فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ" ، فكيف تُقَام حياة أو يؤسس بيت وسط الخلافات الحادة، والمناقشات والمُحَادَّة؟، وأنَّى يهنأ أبناء الأسرة بالمحبة وينعمون بالوُدِّ في جو يغلب عليه التنازع والشِّقَاق والتناحر وعدم الوِفَاق. وهل تستقيم حياة بغير المَوَدَّة والرَّحمة ؟، وكلها معارك الخاسر فيها الإنسان، والرابح فيها الشيطان ، ألا ما أحوج الأمة الإسلامية إلى تفعيل فن التعاملات الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية، ليتحقق لها الخير في الدنيا والآخرة. والله عز وجل يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾.
وذكر الشيخ السديس أن وقوع الاختلاف بين الناس أمر لا بد منه؛ لتفاوت إراداتهم وأفهامهم، وقُوى إدراكهم، ولكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعض، فالاختلاف أمر فطري، أما الخِلاف والشِّقاق، والتخاصم والفِراق، فهو المنهي عنه بنصوص الشريعة الغرَّاء. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.