سلماوي شاهدًا على محطة محفوظ الأخيرة!
تاريخ النشر: 31st, August 2024 GMT
(1)
كان الكاتب والمسرحي القدير محمد سلماوي أحد المقربين من نجيب محفوظ خلال الفترة منذ حصوله على نوبل 1988 وحتى وفاته في أغسطس 2006. أنابه محفوظ لحضور حفل تسلمه جائزة نوبل مع ابنتيه أم كلثوم وفاطمة.. وهو الذي ألقى كلمته نيابة عنه بالإنجليزية، وكان هو الذي يتولى تسلُّم المادة الأسبوعية من محفوظ للأهرام، ويشرف على نشرها حتى واقعة اغتياله في العام 1994.
وقد تغير كل شيء بعد هذا التاريخ، فلم يعد في مقدور محفوظ أن يكتب بشكل طبيعي مثلما كان يفعل طوال عمره، وهنا في هذه المرحلة برز دور محمد سلماوي، والمكانة الخاصة احتلها في الشطر الأخير من حياة نجيب محفوظ، فقد صار سلماوي هو "الوسيط المؤتمن" بين محفوظ وجمهوره الذي يطل عليهم أسبوعيا من نافذة (الأهرام)،
وكان لا بد من تعديل في استراتيجية الاطلالة الأسبوعية، ستتحول من مقالٍ يكتبه محفوظ إلى حوارٍ أسبوعي يسجله محمد سلماوي ويتولى منفردا تحريره وإعداده للنشر، وكانت هذه نقطة فارقة في حياة سلماوي، وفي ما حفظه لنا من حواراتٍ أضاءت مساحات كبيرة وفجوات صغيرة، وألقت بضوء كاشف على كثير من آراء محفوظ وتصوراته ووقائع حياته..
أصدر سلماوي ثلاثة كتب عن محفوظ منها كتابه الأهم «حوارات نجيب محفوظ» (صدر عن مركز الأهرام للنشر والتوزيع، 2015) وهو واحدٌ من أهم مصادر السيرة الذاتية لأديب نوبل الكبير، وكتاب «في حضرة نجيب محفوظ» الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية منذ قرابة العشرين عامًا، وأخيرًا كتابه التوثيقي المهم «المحطة الأخيرة» الذي صدر في طبعتين؛ الأولى عن دار الشروق عام 2006، عقب رحيل الأستاذ، والثانية، وهي الأحدث عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان فرعي (سردية توثيقية)، في 2023.
(2)
وهذا الكتاب على صغر حجمه (لم يزد على 148 صفحة من القطع الأصغر من المتوسط) يمثل محاولة لتقديم رؤية صادقة للرجل من خلال علاقة ممتدة جمعت مؤلفه به منذ أن قابله أول مرة في السبعينيات، وحتى حمل نعشه على كتفه بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود، يتساءل سلماوي في مفتتح كتابه: هل وفيت الشهادة حقها؟
ويجيب: لن أدعي أنني فعلت، فتلك شهادة لا يستطيع كتاب واحد أن يحققها، لكنني على الأقل وضعت لبنتها الأولى بين دفتي هذا الكتاب الذي هو أول محاولة لسرد تفاصيل المحطة الأخيرة في حياة أديبنا الأكبر نجيب محفوظ.
أو كما يقول هو عنها (أي سلماوي) إنها تجربة شاء القدر أن يكون هو شاهدها، ولم يكن في مقدوره أو استطاعته أن يكتم الشهادة، على أن هذا الكتاب ليس مجرد يوميات الفترة التي قضاها الأستاذ بالمستشفى قبل رحيله، بقدر ما هي محاولة -من خلال هذه اليوميات- لتقديم صورة رجل لم يكن مثل أحد، لا في أخلاقه السامية، ولا في شخصيته الفريدة، ولا في إنجازه الأدبي غير المسبوق.
من هنا تأتي قيمة هذا الكتاب صغير الحجم فريد القيمة، شديد الاقتراب من لحظات محفوظ الأخيرة وتوديعه إلى مثواه الأخير، بعد رحلة طويلة حافلة بإنجاز هائل وغير مسبوق في تاريخ الأدب العربي وتاريخ الثقافة العربية عبر عصورها منذ الجاهلية وحتى وقتنا هذا.
خمسة وأربعون يوما هي الأخيرة لمحفوظ على هذه الأرض، وبين آله وأصدقائه ومحبيه، وفي القلب منهم محمد سلماوي الذي اضطلع مبهمة توثيق وتسجيل وتدوين هذه اللحظات الأخيرة منذ وقوع نجيب محفوظ في منزله وتعرضه لأضرار جسيمة اقتضت نقله إلى المستشفى وحتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ويعلن خبر وفاة الكاتب الروائي الأشهر والأعظم في الأدب العربي الحديث (توفي نجيب محفوظ في 30 أغسطس 2006).
(3)
جاء هذا الكتاب بشكله الفريد وجمعه بين طريقة اليوميات التوثيقية "التدوينية"، بطابعها التسجيلي والإشاري والتوقف عند تفاصيل بعينها، ومواقف بذاتها وعلامات محددة، وبين طريقة السرد الحر المتدفق الذي تتماوج فيه حركة نغمية "ذاتية" تتفاوت صعودًا وهبوطًا، علوًا وخفوتا، تتفجر بالمشاعر الإنسانية الحية من قلق وترقب ولهفة وأمل، ورغبة في استعادة عزيزٍ إلى ما كان عليه، وصولًا إلى التسليم بقضاء الله وترقب وقوع القضاء، وحتمية المغادرة! مشاهد ولوحات مفعمة بالمشاعر والدموع والتأمل واستعادة تاريخ فاخر، جليل، عمر من العمل والأدب وعمق التأثير والتواضع.
وفي خلال ذلك كله، وبرغم الآلام والأحزان تتجلى دعابات الأستاذ وخفة ظله وروحه المرحة وإنسانيته المعتادة فيلقي "بقفشاته" ونكاته ونوادره؛ يسجل محمد سلماوي منها هذه الدعابة اللطيفة:
"وما إن أفاق الأستاذ نجيب من العملية حتى وجدني أمامه، فسألني: "هو إيه اللي حصل؟"، فشرحت له أنه تعثّر مثلما نتعثّر جميعا، وأنه جاء إلى المستشفى لعمل "غرزتين"، وسيخرج خلال أيام. كانت تجلس معه في الغرفة زوجته السيدة "عطيّة الله"، وكانت تقف إلى جوار سريره الممرضة "هالة" التي تعرّف عليها الأستاذ على الفور، فقد كانت تتولى رعايته عندما دخل نفس المستشفى في شتاء 1994 إثر محاولة الاغتيال، فحيّاها وقال: "هل نحن في مستشفى الشرطة؟"، قلت: "نعم"، قال: "وبتقول غرزتين؟"، قلت: "نعم"، قال: "لم أكن أعرف أن الشرطة أصبحت تسمح الآن بالغُرز"، فضحكنا معه، لكن ضحكته المجلجلة كانت هي الأعلى"..
(4)
لقد عاش نجيب محفوظ سنواته الأخيرة مع الأحلام، ويقصد بها هنا الأستاذ سلماوي أحلام فترة النقاهة التي أملاها محفوظ عقب نجاته من محاولة اغتياله في أكتوبر 1994، «أحلام فترة النقاهة» كانت تنشر أسبوعيا في مجلة (نصف الدنيا) التي كانت ترأس تحريرها آنذاك الأستاذة القديرة سناء البيسي.
شغلت هذه الأحلام الناس وملأت الدنيا، وكأنها كانت تلويحة الأستاذ الأخيرة، تغريدة البجعة التي تصيح بها قبل الرحيل، كان كل حلم من هذه الأحلام المكثفة الموجزة بمثابة استحضار لمن سيلتقيهم محفوظ أخيرا لكن ليس في هذه الدنيا ولكن هناك حيث يقيمون!
يختتم سلماوي كتابه الشجي وشهادته على محطة الأستاذ الأخيرة بهذه الفقرة الدالة بذاتها:
"... هل يعود إلينا من خلالها فيلُوح من جديد وجهه المشرق دائمًا بابتسامة الحب والأمل؟ أيمكن أن يكون هذا الوجه قد اختفى بلا رجعة؟ أم أننا سنلقاه ثانيةً؟ أيمكن أن يكون هناك لقاء بعد الموت، رغم الموت.. أم أن هذا هو الفراق الأبدي؟!
في طريق العودة وضعت شريط الكاسيت الذي يحمل صوته وهو يقص عليّ بعض الأحلام، والذي كنت أحتفظ به في السيارة، جاءني صوته بأول حلم اضطر لحفظه كي يمليه على الحاج صبري بعد أن عجزت يده عن كتابته، تلك اليد التي ظلت تكتب إلى أن أعيتها الدنيا وصارت كتابتها تستعصي على القراءة، رأيت وجهه ثانية رغم الموت، وسمعت صوته:
«رأيتني في حي العباسية أتجول في رحاب الذكريات، وتذكرت بصفة خاصة المرحومة (ع)، فاتصلت "بتليفونها" ودعوتها إلى مقابلتي عند السبيل، وهناك رحبت بها بقلب مشوق، واقترحت عليها أن نقضي سهرتنا في الفيشاوي كالزمان الأول، وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المرحوم المعلم القديم، ورحب بنا، غير أنه عتب على المرحومة (ع) طول غيابها، فقالت إن الذي منعها عن الحضور الموت، فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحِبَّة».
أعدتُ الشريط قليلًا، فقال لي بصوته مرة أخرى: «الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحِبَّة»!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمد سلماوی نجیب محفوظ هذا الکتاب
إقرأ أيضاً:
جامعة الأزهر تنعى الحاجة شقيقة الإمام الأكبر
تتقدم جامعة الأزهر برئاسة الأستاذ الدكتور سلامة جمعة داود، رئيس الجامعة، ونواب رئيس الجامعة، وعمداء الكليات، وأمين عام الجامعة، وجميع منسوبي جامعة الأزهر بالقاهرة والأقاليم؛ بخالص العزاء وصادق المواساة لفضيلة مولانا الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، في وفاة المغفور لها -بإذن الله تعالى- شقيقته الحاجة سميحة محمد الطيب، التي انتقلت إلى رحمة الله تعالى اليوم، سائلين المولى -عز وجل- أن يتغمدها بواسع رحمته، وأن يسكنها فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ﴿إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون﴾.
وتوفيت الحاجة سميحة محمد أحمد الطيب، الشقيقة الكبرى لفضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، بعد صراع مع المرض عن عمر يناهز 90 عامًا.
وتعرضت الحاجة سميحة محمد أحمد الطيب، لوعكة صحية تلقت على إثرها العلاج في مستشفى الكرنك الدولي بمدينة الأقصر بصعيد مصر مسقط رأس شيخ الأزهر الشريف، واستمرت في المستشفى لمدة 10 أيام حيث تم حجزها في العناية المركزة ووضعها تحت الرعاية الشديدة.
ومن المقرّر أن تشيع الجنازة صباح اليوم الأربعاء في تمام التاسعة صباحًا وستدفن الفقيدة في مقابر عائلة الطيب بالقرنة في مدينة الأقصر.