أحمد الياس حسين

ahmed.elyas@gmail.com

تناول الموضوع السادس من كتاب "مراجعات في تاريخ السودان" الفترة الأولى من العلاقات بين السودان ومصر بين القرنين 32 – 11 ق م. وقد رأت أن أضيف لها "الفترة الثانية بين القنين 11 ق م والقرن 20" متناولاً فترة حكم الولاة في مصر بين في الثلاث قرون الهجرية الأولى (7-9م) بإيجاز ما عدا العلاقات في عصر الخلافة الراشدة.

فقد شهدت فترة الخلافة الراشدة الصلح بين المسلمين والنوبة والتي سأتناولها بشيء من التفصيل للإشكاليات التي تواجهها رواية المقريزي المتداولة عن البقط. ثم اتناول الخطوط العريضة للعلاقات في عصر حكم الأسر المستقلة التي حكمت مصر بين القرنين 9 – 20 م لأن علاقات هذه الفترة قد تم التعرض لها في الفصل الأول من الجزء الثالث من كتابي السودان الوعي بالذات وتأصيل الهوية.

عصر حُكم الولاة 7 – 9 م
خضعت مصر في عصر الولاة 1-3ه/7– 9 م فترة للإدارة المركزية للدولة الإسلامية حيث كانت الحكومة المركزية قوية وتفرض سلطتها المباشرة على كل أقاليم الدولة من المدينة في عصر الخلافة الراشدة ومن دمشق في عصر الخلافة الأموية ومن بغداد في عصر الخلافة العباسية حتى بداية القرن 4 ه/ 10 م. وقد دام عصر الولاة بين عامي 20 – 347ه/ 640 – 938 م ما عدا الفترة الواقعة بين عامي 254 – 292ه/ 868 – 904 م التي خضعت فيها مصر لحكم الأسرة الطولونية. وبعد نهاية حكم الطولونيين عادت مصر للسلطة المركزية. (جدول رقم 4) وكان ولاة مصر ينتمون إلى العنصر العربي ما عدا السنوات الأخيرة من عصر الولاة حيث بدأ تعيين العنصر التركي.

 

وفيما يلي سأتناول العلاقات في عصر الولاة بتقسيمه إلى قسمين، يتناول القسم الأول العلاقات في عصر الخلفاء الراشدون والقسم الثاني يتناول العلاقات بعد عصر الخلفاء الراشدين إلى نهاية عصر الولاة في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي.

العلاقات في عصر الخلفاء الراشدين 640-658 م
عندما فتح المسلمون مصر في القرن السابع الميلادي كان السودان تحت حكم أربعة ممالك هي: مملكة نوباديا المعروفة في المصادر العربية باسم مملكة مريس ومملكة مقرة جنوب مملكة نوباديا ومملكة علوة جنوب مملكة مقرة، وقد عرفت هذه الممالك الثلاث في المصادر العربية باسم ممالك النوبة، ومملكة البجة على حدود مصر الجنوبية في شرق السودان. وقد عرفت مملكة البجة بهذا الاسم عند الواقدي في القرن 2ه/8 م وعرفت بمملكة نقيس ومملكة الحداربة عند اليعقوبي في القرن 3ه/9 م، (اليعقوبي ص 19) وهو الاسم الذي عرفت به في المصادر العربية فيما بعد.

بدأت العلاقات بين البجة والمسلمين قبل اكتمال فتح المسلين مصر. فقد انفرد الواقدي برواية ذكر فيها أن البيزنطيين استنجدوا بالبجة والنوبة عند دخول جيش المسلمين مصر. وذكر الواقدي (ص60) أن النوبة والبجة اعتذروا للسلطات البيزنطية بسبب الحرب التي كانت دائرة بينهما. وهذه هي الرواية التي ذكرها مصطفى محمد مسعد في كتاب "المكتبة السودانية" فيما نقله عن الواقدي. غير أن الواقدي عاد وذكر أن ملك البجة مكسوج أتى بعدد كبير من الجنود والأفيال لمساعدة البيزنطيين في حصار المسلمين لمدينة البهنسا. (الواقدي ص 227-228 و243) المزيد من التفاصيل في الفصل السادس من كتاب الوعي بالذات وتأصيل الهوية.

وقد حاول المسلمون بعد فتح مصر التوسع جنوباً، فخاض المسلمون في عصر الخلفاء الراشدين عدداً من المعارك مع مملكة نوباديا بين عامي 21 – 31 هـ / 641 – 651 م وقعوا في آخرها الصلح المشهور باسم "البقط" تفاصيل تلك الحروب في أحمد الياس (ج 3 ص 15-45)

.
واتفاق البقط بين عبد الله بن سعد والنوبة عام 31ه/651 م برواية المقريزي المتداولة المعروفة في مراجعنا في كل مراجع مراحل التعليم باسم "معاهدة البقط" (الرواية رقم 30 أدناه) يختلف اختلافاً كلِّيّاً عن روايات الاتفاق الذي ورد في المصادر العربية المبكرة. فقد وردت في تلك المصادر 35 رواية عن الاتفاق بين عبد الله بن سعد والنوبة (الجدول رقم 5) لا يوجد منها في مناهجنا الدراسية إلاّ رواية واحدة من روايات المقريزي.
وفيما يلي بعض تلك الروايات.

ابن عبد الحكم (ص2): ت 257ه/871 م
1. وبعث عمرو بن العاص نافع بن عبد القيس الفهري، وكان نافع أخا العاص بن وائل لأمه، فدخلت جيوشهم أرض النوبة صوائف كصوائف الروم، فلم يزل الأمر على ذلك حتى عزل عمرو بن العاص عن مصر وأمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح فصالحهم.
2. "قال ابن حبيب في حديثه: إن عبد الله بن سعد صالحهم على هدنة بينهم، على أنهم لا يغزونهم ولا يغزو النوبة المسلمين، وأن النوبة يؤدون كل سنة إلى المسلمين كذا وكذا رأساً من السبي، وأن المسلمين يؤدون إليهم من القمح كذا وكذا، ومن العدس كذا وكذا في كل سنة
3. قال يزيد بن أبي حبيب: " ليس بيننا وبينهم عهد، وإنما هي هدنة أمان، نعطيهم سيئا من قمح وعدس، ويعطونا رقيقاً، ولا بأس بما يشترى من رقيقهم."
4. قال وزعم بعض المشائخ أنه لا سنة للنوبة على المسلمين وأنهم أول عام بعثوا بالبقط أهدوا لعمرو بن العاص أربعين رأساً فكره أن يقبل منهم، فرد ذلك على عظيم من عظماء القبط يقال له نستقوس، وهو القيم لهم فيها، فباع ذلك واشترى لهم جهازاً. فاحتجوا بذلك أن عمرو بعث إليهم القمح والخيل، وذلك أنهم زُجروا عن القمح والخيل فكشفوا ذلك في الزمان الأول فأصيبوا. هذه قصتهم"
5. قال ابن لهيعة: وحدثني الحارث بن يزيد قال: اقتتلوا قتالاً شديداً وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج وأبي شَمِر أبرهة وحَيويل بن ناشرة فيومئذ سموا رماة الحدق، فهادنهم عبد الله بين سعد إذ لم يطقهم. قال الشاعر:
لم تر عيني مثل يوم دمقلة والخيل تعدو والدروع مثقلة

البلاذري (ص 238): 279ه/892 م
6. عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير قال: لما فتح المسلمون مصر بعث عمرو بن العاص إلى القرى التي حولها الخيل ليطأهم. فبعث عقبة بن نافع الفهرى، وكان نافع أخا العاص لامه. فدخلت خيولهم أرض (ص 236) النوبة كما تدخل صوائف الروم، فلقى المسلمون بالنوبة قتالاً شديداً. لقد لاقوهم فرشقوهم بالنبل حتى جرح عامتهم. فانصرفوا بجراحات كثيرة وحدق مفقوءة، فسموا رماة الحدق. فلم يزالوا على ذلك حتى ولى مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح. فسألوه الصلح والموادعة، فأجابهم إلى ذلك على غير جزية، لكن على هدنة ثلاث مئة رأس، في كل سنة، وعلى أن يهدى المسلمون إليهم طعاما بقدر ذلك"
7. "حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب قال ليس بيننا وبين الاساود عهد ولا ميثاق، إنما هي هدنة بيننا وبينهم على أن نعطيهم شيئا من قمح وعدس ويعطونا رقيقاً، فلا بأس بشراء رقيقهم منهم أو من غيرهم"
8. رواية: عن شيخ من حمير قال: شهدت النوبة مرتين في ولاية عمر بن الخطاب ... رمونا حتى ذهبت الاعين فعدت مئة وخمسون عينا مفقوءة ... فلم يصالحهم عمرو، ولم يزل يكالبهم حتى نزع وولى عبد الله بن سعد بن أبى سرح فصالحهم
ابن خرداذبة (ص 34) ت 300 هـ / 900 م
9. والنوبة، فإن بينهم موادعة على شروط عثمان بن عفان، حين وجه عقبة بن نافع إلى النوبة، فدخلت خيول المسلمين معه إلى بلاهم، فلقوا رماة الحدق ففقئت عيون كثيرة، فسموا بذلك رماة الحدق، فلما وليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح صالحهم على ثلاثمائة رأس هذية ليست بجزية ولا خراج. ولهم على المسلمين العوض على الموادعة، وهم أصحاب الزرافة التي تهدى إلى الخلفاء.

الطبري (ص 35): 310ه/932 م
10. "حدّثني علىّ بن سهل، قال: حدّثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أنّ المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمي، فسمّوا رماة الحدق، فلمّا ولّى عبد الله بن سعد بن أبى سرح مصر، ولاّه إياها عثمان بن عفان رضي الله عنه، صالحهم على هديّة عدّة رؤوس منهم، يؤدّونهم إلى المسلمين في كلّ سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كلّ سنة طعاماً مسمّى وكسوة من نحو ذلك"
11. قال علىّ: قال الوليد: قال ابن لهيعة: وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء، وأقرّه عمر بن عبد العزيز نظراً منه للمسلمين، وإبقاء عليهم.

المسعودي (ج 2 ص 21): 346ه/956 م
12. "قال المسعودي: وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما افتتح عمرو بن العاص مصر كتب إليه بمحاربة النوبة، فغزاهم المسلمون، فوجدوهم يرمون الحدق وأبي عمرو بن العاص أن يصالحهم، حتى صرف عن مصر، ووليها عبد اللّه بن سعد، فصالحهم على رؤوس من السبي معلومة، مما يسبي هذا الملك المجاور للمسلمين المدعو بملك مريس من أرض النوبة ومن غيرهم من ممالك النوبة
13. "ويدعى هذا السبي في العربية بأرض مصر والنوبة بالبقط، وعدد ذلك ثلاثمائة رأس وخمس وستون رأساً، وأراه رسم على عدد أيام السنة، هذا لبيت مال المسلمين بشرط الهدنة بينهمِ وبين النوبة، وللأمير بمصر غير ما ذكرنا من عدد السبي أربعون رأسا، ولخليفته المقيم ببلاد أسوان المجاورة لأرض النوبة، وهو المتولي لقبض هذا البقط، وهو السبي، عشرون رأساً غير الأربعين، وللحاكم المقيم بأسوان الذي يحضر مع أمير أسوان قَبْضُ البقط خمسة رؤوس غير العشرين التي يقبضها الأمير، ولاثني عشر شاهداً عدولاً من أهل أسوان يحضرون مع الحاكم حين قبض البقط اثنا عشر رأساً من السبي حسب ما جرىَ به الرسم في صدر الإسلام في بدء إيقاع الهدنة بين المسلمين والنوبة"

14. الكندي ت 350ه/961 م
14. وغزا عبد الله بن سعد الأساود حتى بلغ دمقلة وذلك سنة إحدى وثلاثين، فقاتلهم قتالاً شديداً وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج وأبي شَمِر أبرهة بن الصباح وحَيْوِيل بن ناشرة، فهادنهم عبد الله بين سعد. فقال شاعرهم:
لم تر عيني مثل يوم دمقلة والخيل تعدو والدروع مثقلة
15. عن يزيد بن أبي حبيب: " ليست بيننا وبين الأساود عهد، وإنما كانت هدنة أمان بعضنا من بعض، نعطيهم سيئا من قمح وعدس، ويعطونا رقيقاً"

ابن الأثير (ص 168): 630ه/1232 م
16. "ولما فتحت مصر غزوا النوبة فرجع المسلمون بالجراحات وذهاب الحدق لجودة رميهم، فسموهم رماة الحدق. فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر أيام عثمان صالحهم على هدية عدة رؤوس في كل سنة يؤدونهم إلى المسلمين، ويهدي إليهم المسلمون كل سنة طعاماً مسمى وكسوة، وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من ولاة الأمور.

ياقوت الحموي (ص 162) ت 662 هـ / 1229 م
17. زاها عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 31 هـ في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج، وقاتلهم قتالاً شديداً، ثم سألوه الهدنة فهادنهم الهدنة الباقية إلى الآن. وقال شاعر المسلمين:
لم تر عيني مثل يوم دنقلة ... والخيل تعدو بالدروع مثقلة
18. قال يزيد بن أبي حبيب: ليس بين أهل مصر والأساود عهد، وإنما هو هدنة أمان بعضنا من بعض، نعطيهم شيئاً من قمح وعدس ويعطونا رقيقاً.

النويري (ص 222): ت 732 هـ / 1332 م
19. أول ما غربت النوبة في سنة إحدى وثلاثين للهجرة النبوية، غزاها عبد الله بن سعد في خمسة آلاف فارس، وأصيب في ذلك اليوم معاوية بن حديج في عينه، وأصيب أبرهة الصباح في عينه، وكانوا يسمون النوبة: رماة الحدق. وهادنهم عبد الله بن سعد بعد أن وصل دنقلة.
وفي ذلك يقول الشاعر:
لم تر عيني مثل يوم دنقلة ... والخيل تعدو بالدروع مثقلة
ترى الحماة حولها مجندلة ... كأن أرواح الجميع مهملة
20. قال يزيد بن أبي حبيب: " ليست الموادعة بين أهل مصر والنوبة موادعة هدنة، وإنما هي هدنة أمان، نعطيهم سيئا من قمح وعدس، ويعطونا رقيقاً، ولا بأس بما يشترى من رقيقهم."
21. كان البقط المرتب على النوبة وهو الرسم على ما قرر: لكل ثلاث سنين بقط سنة ويطلق لرسله، إذا وصلوا بالبقط تاما، ألف وثلاثمائة أردب قمح، لرسله منها ثلاثمائة"

ابن الفرات ت 807 هـ/ 1405 م
22. أول ما غزيت النوبة في سنة إحدى وثلاثين للهجرة النبوية، غزاها عبد الله بن سعد في خمسة آلاف فارس، وأصيب في ذلك اليوم معاوية بن حديج في عينه، واصيب أبرهة الصباح في عينه، وكانوا يسمون النوبة: رماة الحدق. وهادنهم عبد الله بن سعد بعد أن وصل دنقلة.
وفي ذلك يقول الشاعر:
لم تر عيني مثل يوم دنقلة ... والخيل تعدو بالدروع مثقلة
ترى الحماة حولها مجدلة ... كأن أرواح الجميع مهملة
23. قال يزيد بن أبي حبيب: " ليست الموادعة بين أهل مصر والنوبة موادعة هدنة، وإنما هي هدنة أمان، نعطيهم سيئا من قمح وعدس، ويعطونا رقيقا، ولا بأس بما يشترى من رقيقهم.

بعض نصوص لمقريزي (ص 300) ت 845 هـ/ 1445 م
24. وأوّل ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين في عشرين ألفاً، فمكث بها زماناً، فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمرو رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد، وكثرت سراياهم إلى الصعيد، فأخربوا، وأفسدوا، فغزاهم مرّة ثانية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي الله عنه، سنة إحدى وثلاثين، وحصرهم بمدينة دنقلة حصاراً شديداً، ورماهم بالمنجنيق. ولم تكن النوبة تعرفه وخسف بهم كنيستهم بحجر، فبهرهم ذلك، وطلب ملكهم واسمه: قليدوروث الصلح.
25. "وكانت النوبة دفعت إلى عمرو بن العاص ما صولحوا عليه من البقط قبل نكثهم، وأهدوا إلى عمرو أربعين رأساً من الرقيق، فلم يقبلها، وردّ الهدية إلى كبير البقط ويقال له: سمقوس، فاشترى له بذلك جهازاً وخمراً، ووجهه إليه، وبعث إليهم عبد الله بن سعد، ما وعدهم به من الحبوب، قمحاً وشعيراً وعدساً وثياباً وخيلاً، ثم تطاول الرسم على ذلك، فصار رسماً يأخذونه عند دفع البقط في كل سنة، وصارت الأربعون رأساً التي أهديت إلى عمرو يأخذها والي مصر"
26. وعن أبي خليفة حميد بن هشام البحتريّ، أن الذي صولح عليه النوبة، ثلثمائة وستون رأساً لفيء المسلمين، ولصاحب مصر أربعون رأساً ويدفع إليهم ألف أردب قمحاً، ولرسله ثلثمائة أردب، ومن الشعير كذلك، ومن الخمر ألف اقتيز للمتملك، ولرسله ثلثمائة اقتيز، وفرسين من نتاج خيل الإمارة، ومن أصناف الثياب مائة ثوب، ومن القباطيّ أربعة أثواب للمتملك ولرسله ثلاثة، ومن البقطرية، ثمانية أثواب، ومن المعلمة خمسة أثواب وجبة مجملة للملك، ومن قمص أبي بقطر عشرة أثواب، ومن أحاص عشرة أثواب، وهي ثياب غلاظ. ولم يوجد لهذه الدعوى ثبت في دواوين الحضرة، ووجد في الديوان بمصر
27. قال أبو زكريا: سمعت والدي عمرو بن صالح يقول هذا الخبر، فحفظت منه، ما وقفت عليه، وقال: حضرت مجلس الأمير، عبد الله بن طاهر، وهو على مصر، فقال: أنت عثمان بن صالح، الذي وجهنا إليك في كتاب بقط النوبة، قلت: نعم، فأقبل علي محفوظ بن سليمان، فقال: ما أعجب أمر هذه البلدة وجهنا إليهم نطلب عِلْماً من علومهم، وإلى هذا الشيخ، فما شقانا أحد منهم، فقلت: أصلح الله الأمير، إنّ الذي طلبت من خبر النوبة عندي، قد حفظه شيوخ عن الشيوخ الذين حضروا هناك، والهدنة والصلح الذي جرى بين عبد الله بن سعد، وبين النوبة، ثم حدّثته عن أخبارهم، كما سمعت فأنكر عطية الخمر، فقلت: قد أنكرها عبد العزيز بن مروان، وكان هذا المجلس بفسطاط مصر سنة إحدى عشرة ومائتين، بعد أن تم الصلح بينه وبين عبد الله بن السريّ بن الحكم التميميّ الأمير كان قبله، قال عثمان بن صالح، فوجه الأمير إلى الديوان بظهر المسجد الجامع بمصر، فاستخرج منه خبر النوبة، فوجده كما ذكرت، فسرّه ذلك"
28. وقال أبو الحسن المسعوديّ: والبقط هو ما يقبض من السبي في كل سنة، ويحمل إلى مصر ضريبة عليهم، وهو ثلثمائة رأس وخمسة وستون رأساً لبيت المال بشرط الهدنة بين النوبة والمسلمين. نقل بعض رواية المسعودي رقم 13.
29. قال البلاذري في كتاب الفتوحات: إنّ المقرّر على النوبة أربعمائة رأس يأخذون بها طعاماً، أي غلة وألزمهم أمير المؤمنين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور، ثلثمائة وستين رأساً وزراقة.

30. رواية المقريزي المتداولة: كتب عمر بن العاص لملك النوبة نسخته بعد البسملة:
أ‌- عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي السرح لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته، عهد عقده على الكبير وعلى الصغير من النوبة من حد أرض أسوان إلى حد أرض علوة. أن عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد جعل لهم أماناً وهدنة جارية بينهم وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر وغيرهم من المسلمين وأهل الذمة. +
ب‌- أنكم معشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد (ﷺ) على أن لا نحاربكم ولا ننصب لكم حرباً ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم. على أن تدخلوا بلادنا مجتازين غير مقيمين فيها، وندخل بلادكم مجتازين غير مقيمين فيها، وعليكم حفظ من نزل بلادكم أو طرقه من مسلم أو معاهد حتى يخرج منكم.
ت‌- وأن عليكم رد كل آبق خرج إليكم من عبيد المسلمين حتى تردوه إلى أرض الإسلام، وعليكم رد من لجأ إليكم من مسلم محارب للمسلمين، وأن تخرجوه إلى أرض الإسلام ولا تستميلوا عليه ولا تمنعوا منه.
ث‌- وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه مصلياً، ولا تعرضوا لمسلم قصده وجاور فيه إلى أن ينصرف عنه، وعليكم كنسه واسراجه وتكرمته.
ج‌- وعليكم في كل سنة ثلاثمائة وستين رأساً تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان.
ح‌- وليس على مسلم دفع عدو عرض لكم ولا منعه عنكم من حد أرض علوة إلى أرض أسوان. فإن أنتم آويتم عبداً لمسلم أو قتلتم مسلماً أو معاهداً أو عرضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئاً من الستمائة رأس والستين رأساً فقد برأت منكم هذه الهدنة والأمان وعدنا نحن وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
خ‌- وعلينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله محمد (ﷺ) ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من ذمة المسيح وذمة الحواريين وذمة من تعظمونه من أهل دينكم وملتكم والله شاهد بيننا وبينكم على ذلك.
كتبه عمرو بن شرحبيل في رمضان عام 31هـ.
إشكاليات رواية المقريزي المتداولة للبقط
الاختلافات بين رواية المقريزي والروايات الأخرى
رواية المقريزي المتداولة عن اتفاق عبد الله بن سعد مع النوبة (رواية رقم 30) تختلف اختلافاً كلِّياً عن روايات المصادر الأخرى السابقة لعصر المقريزي.
أولاً: اتفاق عبد الله بن سعد مع النوبة ليس معاهدة أو عهداً
رواة أخبار النوبة المبكرين مثل يزيد بن أبى حبيب ت 128ه/745 وابن لهيعة ت 174ه/790م والذين نقلت عنهم المصادر العربية المبكرة كما في نصوص ابن عبد الحكم والبلاذري والطبري أعلاه لم يطلقوا على اتفاق عبد الله بن سعد مع النوبة اسم البقط بل أطلقوا عليه:
- صلح وهدنة في الرواية رقم 1
- صلح وموادعة وهدنة في الرواية رقم 3
- صلح في الرواية رقم 5
- صلح الرواية رقم 10
فرواة أخبار النوبة المبكرين في القرن الثاني الهجري (8 م) لم يطلقوا اسم "البقط" على اتفاق عبد الله بن سعد والنوبة مما يرجح أن اسم البقط أطلق بعد القرن الثاني الهجري عند المراجعات والتعديلات الكثيرة التي أجريت عليه. فقد روجع وعدل كثيراً بعد عصر الخلفاء الراشدين كما سنرى لاحقاً.

فالاتفاق كان هدنة وصلح وموادعة ولم يكن عهداً كما جاء في رواية المقريزي المتداولة رقم30 التي جاء فيها: "عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعظيم النوبة" بل أوضح يزيد بن أبي حبيب كما في الرواية رقم 3 والرواية رقم 15 أنه "ليس بيننا وبين النوبة عهد ولا ميثاق إنما هي هدنة" وفي رواية أخرى (رقم 2) "لا سنة للنوبة على المسلمين"

ثانياً: الاختلاف فيما ينم تبادله بين المسلمين والنوبة
رواية المقريزي المتداولة عن أتفاق عبد الله بن سعد مع النوبة (رواية رقم 30) تختلف اختلافاً كلِّياً عن روايات المصادر الأخرى فيما يتعلق بما اتفق عليه طرفي الحرب. فقد وردت الكثير من الروايات تحدد وتفصل ما التزم النوبة دفعه من الرقيق وما التزم المسلمون بدفعه للنوبة من طعام وكسوة وخمر وحيل وهو ما لم يرد في رواية المقريزي المتداولة التي اقتصرت فقط على ذكر ما يدفعه النوبة (رواية رقم 30-ج) ولم تذكر ما التزم المسلمون بتقديمه. ومن أمثلة ما التزم المسلمون بدفعه كما ورد في المصادر العربية الآتي:
الطعام:
أ‌. جاء في الرواية رقم 3 "وأن النوبة يؤدون كل سنة إلى المسلمين كذا وكذا رأساً من السبي، وأن المسلمين يؤدون إليهم من القمح كذا وكذا، ومن العدس كذا وكذا في كل سنة" وذكر ابن عبد الحكم (رواية رقم4) أن عطية القمح روجعت وثبت أنها موجودة في نص الاتفاق.
ب‌. جاء في الرواية رقم 6 " هدنة ثلاث مئة رأس، في كل سنة، وعلى أن يهدى المسلمون إليهم طعاما بقدر ذلك"
ت‌. جاء في الرواية رقم 7: "نعطيهم شيئا من قمح وعدس ويعطونا رقيقاً"
ث‌. جاء في الرواية رقم 10: " صالحهم على هديّة عدّة رؤوس منهم، يؤدّونهم إلى المسلمين في كلّ سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كلّ سنة طعاماً مسمّى وكسوة"
ج‌. جاء في الرواية رقم 25: من الحبوب، قمحاً وشعيراً وعدساً وفي الرواية 26: ثلثمائة أردب من الشعير
ح‌. جاء في الرواية رقم 26: "ويدفع إليهم ألف أردب قمحاً، ولرسله ثلثمائة أردب، ومن الشعير كذلك"
كل ذلك لم يرد في رواية المقريزي المتداولة عن البقط.
الكسوة:
- جاء في الروايتين رقمي 10 و16 يهدي المسلمون كسوة إلى النوبة وفي رقم 26 يدفع إليهم "من أصناف الثياب مائة ثوب، ومن القباطيّ أربعة أثواب للمتملك ولرسله ثلاثة، ومن البقطرية، ثمانية أثواب، ومن المعلمة خمسة أثواب وجبة مجملة للملك، ومن قمص أبي بقطر عشرة أثواب، ومن أحاص عشرة أثواب، وهي ثياب غلاظ."
الخيل:
- جاء في الرواية رقم 4 يدفع المسلمون للنوبة "خيل" وأوضحت الرواية رقم 26 أنهما " فرسين من نتاج خيل الإمارة" ذكر ابن عبد الحكم (رواية رقم4) أن عطية القمح روجعت وثبت أنها موجودة في نص الاتفاق.
الخمر:
خ‌. جاء ذكر الخمر في الرواية رقم 25. وفي الرواية رقم 25 ورد أن السلمين يدفعون للنوبة ألف اقتيز من الخمر ولرسله ثلثمائة اقتيز. وذكر المقريزي في الرواية رقم 27 أن عطية الخمر في صلح النوبة ذكرت عام 211ه/826 م في مجلس والي مصر عبد الله بن طاهر "فأنكر عطية الخمر" وورد في نفس الرواية أن والي مصر عبد العزيز بن مروان 65 – 86 ه/ 864 – 705 م كان أيضاً قد أنكر وجود الخمر فيما يقدمه المسلمون للنوبة. ومن الواضح أن مراجعة عبد العزيز بن مروان نحو نهاية العصر الأموي لم تؤد إلى إبعاد عطية الخمر من الاتفاق بل ظلت الخمر ضمن بنود الاتفاق حتى ولاية عبد الله بن طاهر في العصر العباسي. ومن الجدير بالملاحظة هنا أن اتفاق عبد الله بن أبي سرح قد روجع في عصر الخلافة الراشدة والخلافة الأموية كما ورد في الرواية رقم 11: "قال ابن لهيعة: وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء، وأقرّه عمر بن عبد العزيز نظراً منه للمسلمين، وإبقاء عليهم" مما يوضح أن الخمر كانت في اتفاق عبد الله بن سعد عام 31ه.
كل ما ذكر من الطعام والكسوة والخيل والخمر في روايات اتفاق عبد الله بن سعد مع النوبة لم يرد في رواية المقريزي المتداولة عن البقط.

كما ورد في المصادر بعض التفصيل لما يدفعه النوبة للمسلمين، مثال ذلك :
أ‌- الرواية رقم 2 عن ابن حبيب "أن النوبة يؤدون كل سنة إلى المسلمين كذا وكذا رأساً من السبي، وأن المسلمين يؤدون إليهم من القمح كذا وكذا، ومن العدس كذا وكذا في كل سنة"
ب‌- الرواية رقم 7: "هدنة ثلاث مئة رأس، في كل سنة
ت‌- الرواية رقم 4:"ويعطونا رقيقاً"
ث‌- رواية رقم 30-ج "وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأساً
ج‌- الرواية رقم 5: عن ابن حبيب "صالحهم على هديّة عدّة رؤوس منهم
ح‌- الروايتين رقمي 13 و 28"، وهو ثلثمائة رأس وخمسة وستون رأساً لبيت المال بشرط الهدنة بين النوبة والمسلمين، وللأمير بمصر غير ما ذكرنا من عدد السبي أربعون رأسا، ولخليفته المقيم ببلاد أسوان المجاورة لأرض النوبة، وهو المتولي لقبض هذا البقط، وهو السبي، عشرون رأساً غير الأربعين، وللحاكم المقيم بأسوان الذي يحضر مع أمير أسوان قَبْضُ البقط خمسة رؤوس غير العشرين التي يقبضها الأمير، ولاثني عشر شاهداً عدولاً من أهل أسوان يحضرون مع الحاكم حين قبض البقط اثنا عشر رأساً من السبي حسب ما جرىَ به الرسم في صدر الإسلام في بدء إيقاع الهدنة بين المسلمين والنوبة"
خ‌- في الرواية 30-ج جاء وصف الرقيق: " من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم"

ثالثاً: تعبير "رماة الحدق" لم يطلق على النوبة في معركة عبد الله بن سعد عام 31ه 651 م بل أطلق إبان المعارك التي دارت بين النوبة والمسلمين قبل عام 31ه والتي وصفها رواة أخبار النوبة المبكرين بأنها "صوائف كصوائف الروم" كما عند ابن عبد الحكم (رواية رقم 1) والبلاذري (رواية رقم 6 ورواية رقم 8) وابن خرداذبة (رواية رقم 9) والطبري (رواية رقم 10) المسعودي (رواية رقم 12) وابن الأثير (رواية رقم 16)

فقد اعتاد المسلمون في ذلك الوقت غزو الروم (الإمبراطورية البيزنطية) مرتين في السنة مرة في الصيف ومرة في الشتاء. فكان المسلون في مصر يغزون النوبة مرة كل سنة في الصيف قبل غزوة عبد الله بن سعد عام 31ه. قال البلاذري نص رقم 6:
لما فتح المسلمون مصر بعث عمرو بن العاص إلى القرى التي حولها الخيل ليطأهم. فبعث عقبة بن نافع الفهرى، وكان نافع أخا العاص لامه. فدخلت خيولهم أرض النوبة كما تدخل صوائف الروم، فلقى المسلمون بالنوبة قتالاً شديداً. لقد لاقوهم فرشقوهم بالنبل حتى جرح عامتهم. فانصرفوا بجراحات كثيرة وحدق مفقوءة، فسموا رماة الحدق."
وقد كان عبد الله بن سعد قبل ولايته مصر والياً على الصعيد حتى وفاة الخليفة عمر بن الخطاب، وكان عمرو بن العاص والياً على الوجه البحري. (ابن عبد الحكم، 2001 ص 123 والبلاذري ص 224) فتعيين عبد الله بن سعد على صعيد مصر يكون قد تم بعد مغادرة عقبة بن نافع مصر عام 22ه مع عمرو بن العاص لفتح برقة بعد أن قاد الحملة الأولى على النوبة. ولذلك فغارات المسلمين الصيفية على النوبة كل عام بين عام 22 و25ه كانت بقيادة عبد الله بن سعد. فتعبير "رماة الحدق" أطلق في فترة حروب عبد الله بن سعد الأولى ولم يطلق في معركة عام 31ه.

وإلى جانب الروايات المذكورة أعلاه والتي ربطت تعبير "رماة الحدق" بحروب عبد الله المبكرة قبل عام 31ه، وردت روايات أخرى عن "رماة الحدق" ربطت هذه الروايات ذكر "رماة الحدق" باسم عبد الله بن سعد ومعركة عام 31ه وببيت شعر "يوم دنقلة" ، وهي الروايات أرقام 5 و14 و17 و19 و22، ويوم دنقلة في بيت الشعر:
لم تر عيني مثل يوم دنقلة ... والخيل تعدو بالدروع مثقلة
وقد رأينا أعلاه أن سبع من روايات "رماة الحدق" لم يرد فيها ذكر عبد الله بن سعد أو اسم دنقلة. مع ملاحظة أن خمسة وعشرون رواية من الثلاثين رواية المذكورة أعلاه لم يرد فيها ذكر دنقلة. هذا بالإضافة إلى أن ذكر "يوم دنقلة" لا يعني بالضرورة أن تكون الحملة وصلت دنقلة. فقد ورد مثال شبيه بهذا في حروب الاخشيديين لمملكة مقرة.

فقد ذكر المقريزي أن ملك مقرة أغار على أسوان عام 345ه/956 م فأرسل إلية الاخشيدي حملة بقيادة محمد الخازن فهزمت النوبة. وذكر أن الخازن "سار حتى فتح مدينة ابريم وسبى أهلها، وقدم إلى مصر في نصف جمادى الأولى سنة خمس وأربعين بمائة وخمسين أسيراً، وعدّة رؤوس."(المقريزي، موق الوراق ج 1 ص 250) ورغم أن الخازن لم يصل إلى مدينة دنقل إلّا أن شاعرهم قال (النويري ص 223):
ولما غـــزا كافـــور دنـقـلــة غًــدًا *** بجيشٍ كطول الأرض في مثله عرضُ
غزا الأسود السودانً في رونق الضحى *** فلما التقى الجمعان أظلمت الأرضُ
"فدنقلة" هنا بلا شك لم يقصد بها مدينة دنقلة بل قُصد بها "النوبة" الذين حاربهم الخازن بعيدا جداً عن مدينة دنقلة لأن جيشه لم يتعد مدينة إبريم التي تقع شمال مدينة حلفا.

وصول عبد الله بن سعد دنقلة
ويلاحظ أن ثلاث من الروايات التي تضمنت الإشارة إلى مدينة دنقلة في بيت الشعر وهي روايات أرقام 5 و16 و22 لم ترد فيها إشارة واضحة لوصول الحملة إلى دنقلة، فقد جاء فيها "فهادنهم عبد الله بن سعد، قال الشاعر ..." بخلاف روايتي النويري وابن الفرات التين ورد فيهما: "وهادنهم عبد الله بن سعد بعد أن وصل دنقلة. وفي ذلك يقول الشاعر"

ولذا فإن روايتين فقط من جملة 30 رواية ذكرتا أن عبد الله بن سعد وصل دنقلة مما يجعل احتمال وصول عبد الله بن سعد دنقلة ضعيف جدّاً، لأن خمسة وعشرون رواية عن معركة عبد الله بن سعد لم تذكر وصوله دنفة. والرواية التي حددت مكان معركة عبد الله بن سعد عام 31 ه هي رواية ابن حوقل 367ه/988 م الذي بين بوضوح أن معارك عبد الله بن سعد عام 31ه كانت في منطقة أسوان. قال ابن حوقل (ص 55):
"أسوان افتتحها عبد الله ابن أبي سرح سنة إحدى وثلاثين، وافتتح هيف وهي المدينة التي تجاه أسوان من غربي النيل، وقد تدعى قرية الشقاق، وافتتح ابلاق وهي مدينة في وسط النيل على حجر ثابتة وسط الماء منيعة الجزيرة و بينها وبين أسوان ستة أميال، وبحذائها على النيل من جهة الشرق مسجد الرّوينيّ وقصر آليه، وتحت المسجد بيعة النوبة، وهو آخر حد الإسلام وأول حد النوبة."
يبين هذا النص بصورة واضحة الأماكن التي خاض فيها عبد الله بن سعد حروبه عام 31 هـ. فقد أخضع أسوان ثم فتح مدينة هيف وتوسع بعد ذلك جنوبي أسوان ففتح مدينة أبلاق وهي وجزيرة تقع على بعد ستة أميال جنوب أسوان. فعبد الله بن سعد لم يتعد منطقة أسوان جنوباً إذ لو حدث ذلك لذكرة ابن حوقل. وتؤكد رواية المسعودي (346ه/956 م) رقم 12 أن حرب عبد الله بن سعد عام 31ه كانت مع ملك مريس وليس ملك دنقلة. قال المسعودي:
"وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما افتتح عمرو بن العاص مصر كتب إليه بمحاربة النوبة، فغزاهم المسلمون، فوجدوهم يرمون الحدق وأبي عمرو بن العاص أن يصالحهم، حتى صرف عن مصر، ووليها عبد اللّه بن سعد، فصالحهم على رؤوس من السبي معلومة، مما يسبي هذا الملك المجاور للمسلمين المدعو بملك مريس من أرض النوبة ومن غيرهم من ممالك النوبة"
فمن هو ملك مريس؟
كانت المملكة التي تجاور حدود مصر الجنوبية عندما دخل المسلمون مصر هي مملكة نوباديا التي تمتد حدودها من أسوان شمالاً وحتى الشلال الثالث جنوباً. فقد ذكر الجاحظ (ص 405) أن "النوبة هم المريس المجاورون لأرض الاسلام". وقال ابن سليم (في مسعد ص 98): "اعلم أنّ النوبة والمقرة جنسان بلسانين، كلاهما على النيل، فالنوبة هم: المريس المجاورون لأرض الإسلام" فالمريس هم النوباديين.

وذكر المسعودي (ج 2 ص 18) أثناء تناوله لمملكة مقرة: "البلد المتصل بمملكته [ملك مُقُرة] بأرض أسوان يعرف بمريس، وإليه تضاف الريح المريسية، وعمل هذا الملك متصل بأعمال مصر من ارض الصعيد ومدينة أسوان." فحدود مملكة مريس الشمالية تمتد حتى أسوان كما بين المسعودي. فمعركة عبد الله بن سعد عام 31ه كانت مع ملك مريس في منطقة أسوان ولم تكن مع ملك مقرة في دنقلة.

وهكذا تتضح إشكاليات رواية المقريزي المتداولة عن البقط. فهي لم تتضمن ما اتفقت على ذكره خمسة وعشرين رواية من أن المسلمين يقدمون الطعام والكساء والخيل والخمر للمسلمين مقابل الرقيق، كما ان رواية المقريزي المتداولة ذكرت "وصول الحملة دنقلة" مما تتعارض مع روايتي المسعودي وابن حوقل التان وضحتا أن الحرب كانت في منطقة أسوان. أما باقي بنود رواية المقريزي التي تتعارض مع الروايات الأخرى فقد تمت مراجعتها في الفصل الخامس من الجزء الثالث من كتاب السودان الوعي بالذات الذي تناول " المراجعات والتعديلات التي أجريت على الاتفاقيات بين المسلمين والنوبة"

والرأي السائد في كل مراجعنا الدراسية في التعليم العام والعالي أن مملكة نوباديا اتحدت مع مملكة مقرة قبل معركة عبد الله بن سعد عام 31 ه ولعل المرجع الرئيس في ذلك هو ما ذكره المقريزي في روايته المتداولة من أن عبد الله بين سعد حارب ملك دنقلة مما يعني أن مملكة نوباديا لم تعد موجودة رغم أن رواية المسعودي تشير إلى وجودها. كما أشارت المصادر القبطية أيضاً إلى وجود المملكة بعد دخول المسلمين مصر. وقد تناولت "أتحاد مملكتي نوباديا ومقرة في الموضوع رقم 15 في الطبعة الأولى لكتاب "مراجعات في تاريخ السودان" كما ستتم مراجعته أيضاً في هذه الطبعة.
ونواصل: عصر الولاة

 

المراجع
1. ا بن الأثير، الكامل في التاريخ، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية
2. أحمد الياس حسين، السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية، ط 3، دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر 2021.
3. ابن حوقل، كتاب صورة الأرض. بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة 1979
4. ابن سليم الأسواني، كتاب أخبار النوبة والمقرة وعلوة والبجه والنيل، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية.
5. البلاذري، فتوح البلدان، بيروت: دار الكتب العلمية 1983.
6. الجاحظ، رسائل الجاحظ، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية
7. ابن خرداذبة، كتاب المسالك والممالك، في مسعد، المكتبة السودانية
8. سليم حسن، تاريخ السودان المقارن إلى عهد بيعنخي، القاهرة: شركة نهضة مصر للطباعة والنشر. وطبعة مؤسسة الأسراء للنشر والتوزيع في القاهرة عام 2004
9. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، في مصطفى محمد مسعد
10. ابن عبد الحكم، فتوح مصر في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية، الخرطوم: جامعة القاهرة فرع الخرطوم 1972
11. ابن الفرات، تاريخ الدول والملوك، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية
12. الكندي، ولاة مصر، بيروت: دار صادر ب. ت.
13. محمد العزب موسى، وحدة تاريخ مصر. ط 2 القاهرة: المركز العربي للصحافة 1980
14. المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط 3، تحقيق محمد محي الدين، القاهرة: المكتبة التجارية 1958.
15. المقريزي 1972، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. في مسعد، المكتبة السودانية
16. المقريزي، المواعظ والاعتبار موقع الوراق
17. الواقدي، فتوح الشام، بيروت: دار الجيل ب. ت.
18. ياقوت الحموي، معجم البلدان، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية
19. نهاية الأرب في فنون الادب، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية
20. اليعقوبي، كتاب البلدان، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: عصر الخلفاء الراشدین فی المصادر العربیة عمرو بن العاص عمر بن الخطاب المسلمون مصر إلى المسلمین عقبة بن نافع رضی الله عنه المسلمون فی أن المسلمین منطقة أسوان أرض النوبة الهدنة بین عبد العزیز بیننا وبین بین النوبة على النوبة النوبة فی أن النوبة فی کل سنة لم یرد فی ما التزم فیها ذکر عثمان بن فی القرن الله بین الخمر فی رضی الل بن صالح هی هدنة على ذلک لیس بین فی عینه من کتاب لما فتح قال ابن رؤوس من بین عام فی ذلک ة رؤوس مصر فی من أهل بعد أن ورد فی على أن ما ذکر

إقرأ أيضاً:

دعوةٌ للإبتهال والدعاء والتصدُّق والصيام بنيةِ وقفِ الحرب في السودان

د. بشير إدريس محمدزين

• الأزمات التي تجتاح الناس في هذه الدنيا، يفرِّجُها الله عنهم بأدواتٍ وتداخلاتٍ مختلفة. فالحرب مثلاً هي صراعاتٌ مسلحة بالقوة المادية وبالغلبة الغالبة، وهذه الأدوات هي المفروض أن (تحسمها) بنظرِ الناس، ولكن عندما تتدخل الإرادةُ الربانية تنهار هذه القوة المادية وتنهارُ حساباتُها بشكلٍ مدهش وعجيب، وتقف عاجزةً ومعطلة كما حدث في العراق سابقاً وفي سوريا قبل أسبوع، وهنا تتبدَّى عجائبُ أدواتِ الله المدهشة..

• أزمةُ الحرب التي نحن فيها الآن تصارعت فيها الخصوم بالقوةِ المادية، وما تزال تتصارع، وكلا الفريقين يعتقدان أنهما سيحسمانها بقوتيهما الماديتين، ولقد تضرر من صراعهما هذا المدنيون الأبرياء أشدّ الضرر، ولم يستطع أيٌّ من الفريقين حتى الآن سحق الآخر وإزاحته من وجه الأرض كما يظن ويدّعي، وكلما إستمر القتال وزادت ضراوته، كلما أستمر موتُ وتقتيل الأبرياء، حتى أصبح عددُ الموتى الأبرياء الآن يفوق أعداد المتقاتلين من الطرفين بأضعاف عديدة! وحتى الآن، فلقد عجزت كل وساطةٍ عن إيقاف أصوات البنادق !

• مولانا نصر الدين مفرّح، وزير الشؤون الدينية والأوقاف لأول حكومةٍ إنتقالية بعد الثورة يطلق الآن مبادرةً من نوع آخر لوقف الحرب، المفروض أنها مبادرةُ المؤمنين الصادقين الأولى ودأبهم السالك كلما حزَبهم أمرٌ أو كرب كالحرب الجارية في بلادِنا.

• أطلق مولانا نصر الدين مبادرته لنا جميعاً، لكل المؤمنين في السودان، وفي خارجه، وللأصدقاء ممن يحبون السودان، وتربطهم علاقةُ المحبة والصداقة والسلام والخير بأهل السودان. وهذه الدعوة هي كذلك لجميع الديانات، ولكل المِلل، ممن لهم إيمان بالسماء، أن يتضرعوا إلى الله تعالى بنيةِ إسبال السلام على شعب السودان المحروم فيتصدقون في يومٍ واحد، ويبتهلون ويصومون نهار الخميس القادم 19 ديسمبر، بنيةِ التفريج والسلام لوطننا السودان، وهذا اليوم هو الذي يصادف عشيةَ إعلان إستقلال السودان من داخل البرلمان في العام 1956م، وهو كذلك اليوم الذي يصادف انطلاق أولى شرارات الثورةِ السودانية ضد طاغية الإنقاذ في 2018م..

• وبالفعل فإننا لم يتبق أمامنا الكثير من الأدوات غير سلاح الدعاء والتبتل والتوبة إلى الله، وهو من أقوى الأسلحة وأمضاها وأسرعها، واللهُ يحب عباده المتبتلين المُخبتين الخاضعين المقرِّين بضعفهم، ونفاد حيلتِهم وإخباتِهم إليه..

• إننا ندعو مع مولانا نصر الدين مفرّح أن نتجمّع كلُّنا صائمين تلك العشية في مساجدنا ودورِنا ومنتدياتنا، بل حتى في بيوتنا مع أُسرِنا وجيراننا، ونفطِر جماعةً، بعد أن نصوم النهارَ كله، ونتصدق ما شاء الله لنا أن نتصدق، وبخاصةٍ لأهلنا الذين اعتصرتهم المسغبة، وأودى بهم الجوع والبرد والهوان على الناس في الملاجئ البعيدة..

• إن الصدقات والصوم والإبتهال إلى الله هي بالضبط مثل الدعواتِ الصالحات الصادقات، يكفِّر اللهُ بهن الذنوب، ويتوب على عباده، ويستجيب لدعواتهم، ويكشفُ الضُّرّ عنهم..

إنها دعوةٌ صادقة، وسهلة التنفيذ، ويمكن للواحد منا أن يصوم في ذلك اليوم بهذه النية، ويبتهل، ويدعو، ويتصدق حتى ولو على أهلِ بيته، فإنَّ في الصدقةِ على أهل البيت من الأجر أكثر مما فيها على غيرهم من الصدقات..
وعسى الله أن يفرّج كربنا وينفّس ضائقتنا وتتوقف هذه الحرب ببركة الدعاء والتبتل والصوم والإبتهال..
•••

bashiridris@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • دعوةٌ للابتهال والدعاء والتصدُّق والصيام بنيةِ وقفِ الحرب في السودان..
  • موريتانيا تستضيف اجتماعا لتوحيد جميع المبادرات المطروحة لحل الأزمة السودانية
  • “مناوي” يتوجه إلى موسكو لبحث ملفات مهمة
  • الأردن ومصر يجددان رفضهما تهجير الفلسطينيين في الضفة وغزة
  • دعوةٌ للإبتهال والدعاء والتصدُّق والصيام بنيةِ وقفِ الحرب في السودان
  • الإمارات والبحرين.. علاقات أخوية راسخة
  • مساندة القوات المسلحة .. إعادة تدشين اللجنة المركزية للحركة الشعبية لجبال النوبة ببورتسودان
  • العلاقات السودانية الإماراتية.. هل تنجح وساطة أردوغان في إصلاحها؟
  • تأثير سقوط الأسد على إيران ومستقبل العلاقات الإيرانية السورية
  • اختلاف رواية سقوط بشار الأسد بين بايدن ونتنياهو.. محلل يوضح لـCNN