بثينة تروس
يا صوتهن لما سري من قوز هندي محلية مروي من الشمالية، (لا للحرب يا برهان) (تعبنا اتشردنا سنة كاملة) (بيوت ما عندنا قاعدين في الشارع يا برهان) أصوات تطالب أعلي سلطة تدير الحرب في البلاد بويلاتها وفظائعها، تعالي هتافهن بين دموع الاسي، يعلن حرقة الحشي، وفقد الأمان.. أصوات تعالت تنعي الوطن وتفطر الاكباد وجعاً، وفي ذات الوقت صدحت مذكرة بزغاريد صافرة ثورة ديسمبر في مواجهة الة القمع العسكرية، حين كان طرفا القتال جيش وجنجويد/دعم سريع يقفان سويا ضد المواطن، ولا يزالا في حربهم العبثية.
خنوع تنابلة السلطان، تربية تمكين الحركة الإسلامية، الذين لم يقنطوا من احلام العودة للاستثمار في فساد السلطة، من الذين حاولوا التشويش علي اصواتهن، واخماد نار احتجاجهن، وهم يرفعون حناجرهم البائسة بالتكبير، الذي شهدناه لا يغادر الحناجر، ولا يقيم العدل، ولا يحفظ الاعراض، ولا يأبه بحقن الدماء.. هؤلاء الأرزقية مردوا على الخنوع، لا يحركون ساكن الحس السليم في النطق بكلمة الحق في وجه حكام جائرين، بل تفانوا في خدمة حكومة السوء، وباعوا ضمائرهم، ولم تفتر حناجرهم طوال ثلاثين عام من هتافات (سير سير يا البشير)، يعلمون يقيناً ان الذين يقاتلون في صفوف المقاومة الشعبية هم أبناء هؤلاء الأمهات المسكينات، وأبناء عوام الشعب.. أما (أبناء المصارين البيض) من الإسلاميين، فلا يعنيهم شأن الرعية، وهم في البلدان الاَمنة ينعمون بالأمان في احضان امهاتهم.. أما تكبير الارزقية فهو وسيلة مجربة في حماية النظام بقداسة دينية، ومنطلقات عشائرية قبلية ومناطقية، لذلك ما انسدت دروب البرهان الجنرال الذي اشتهر بنقض العهود المواثيق، الا ويمم وجهه شطر الشمالية، مستنجداً بإرث ثقافة فرق تسد، واوهام انه له شان عظيم في هذا البلد، ولعمري كأنه لم يسمع مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (اللهم لا تجعل هلاك امة محمد بيدي) هنا مع ملاحظة ان قتلى الجيش والدعم السريع مواطنين مسلمين ومن امة محمد عليه الصلاة والسلام.
وهؤلاء الكنداكات اللائي طالبن بوقف الحرب الدائرة رحاها الان، قبلاَ هن خارجات من مواجهة عناء تجربة حكم استبدادي شهدن فيها علي أيديهم ذلاً ومهانةً غير مسبوقة في تاريخ البلاد، من اجل قهرهن سنوا القوانيين المقيدة للحريات وعبرها تمت ملاحقتهن، وتجريمهن والتضييق عليهن في كافة الحقوق، والتمييز بينهن ونساء المؤتمر اللا وطني، وكانت أجسادهن ساحات المعارك باستخدام العنف الجنسي والاغتصابات كاَلة حرب، ولقد ظن الغافلون في السابق من التنابلة انها ظاهرة سوف تنحصر عواقبها الوخيمة في عقر دور نساء دارفور، والهامش، ولكن صنائعهم القتالية من المليشيات لديهم ذل الرجال يتم بذل نسائهم.
لقد تعالت أصوات نساء الشمالية لتفضح الأصوات التي تنادي باستطالة أمد الحرب ولو استمرت لمائة عام، وتؤكد على الحوجة الملحة للسلام وإحصائيات ان هنالك 7 ملايين امرأة تنتهك حقوقهن الإنسانية، ويواجهن اقسي أنواع العنف وما ينجم من ظواهره علي ايدي طرفي النزاع الدائر الان، وما يجابهن واسرهن في نزوحهن ولجوئهن، من كارثة وصفتها سامانثا باور، مديرة الوكالة الامريكية للتنمية الدولية، بأنها تعد اكبر محنة إنسانية علي وجه الأرض، حيث يواجه ملايين السودانيين انعدام الطعام والعلاج.. وفي ظل الفيضانات والكوارث الطبيعية، فالذي سوف تشهده البلاد اسوأ من الذي حدث بالصومال عام 2011 ووفاة 250 الف شخص من الجفاف.. وأعداد الذين تم اجبارهم علي اخلاء منازلهم هم اكثر من مجموع الذين اخرجوا من ديارهم في حرب أوكرانيا وغزة..
شكراً نساء قوز هندي فهتافكن (لا للحرب يا برهان) به تاكيد انه لا يحل مشكلة السودان الا السودانيين انفسهم، فجميع الحروب التي شهدتها البلاد انتهت عند عتبات التفاوض والاتفاقيات، فالنصر المؤزر الذي يحلم به الفلول فهو من اساطير ساحات الفداء وكتائب الدفاع الشعبي، التي قادت البلاد لانفصال الجنوب، وفي ظل هذه الحرب ومسرح التدخلات العالمية، وتنافس دول الجوار والإقليم (مصر والامارات) في اظهار زعاماتهم وتأثيرهم علي الاوضاع لا يمكن التكهن بانتصار حاسم لاحد طرفي القتال، والخاسر الحقيقي هو المواطن والمفقود هو الوطن.
tina.terwis@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
مرور 66 عاما علي تقويض تجربة الديمقراطية الأولى
تاج السر عثمان
1
تمر في ظروف الحرب اللعينة الذكرى السادسة والستون لأول انقلاب عسكري في السودان الذي وقع في 17 نوفمبر 1958م، وقوض أول تجربة للديمقراطية في السودان ، كان الانقلاب بداية الحلقة الجهنمية التي دخلت فيها البلاد لأكثر من 68 عاما هي عمر الاستقلال، اخذ ت النظم العسكرية منها حوالى 58 عاما ، عانى فيها شعبنا من الفقر والخراب والدمار والديون التي تجاوزت 60 مليار دولار، وفقدان السيادة الوطنية، ونهب ثروات البلاد، والحروب وانفصال الجنوب، وانتهت بكارثة الحرب اللعينة الجارية الآن أمام أبصارنا، التي شردت الملايين وأدت لمقتل وفقدان عشرات الآلاف، وتدمير البنيات التحتية والابادة الجماعية، وتدهور الأوضاع المعيشية والصحية، والانخفاض المستمر لقيمة الجنية السوداني، والاتجاه لتغيير العملة لتمويل الحرب، واطالة أمد الحرب برفض التفاوض من الإسلامويين، مما يعني المزيد من مآسي الحرب، كما في الابادة الجماعية التي التي يمارسها الدعم السريع في الجزيرة ودارفور وبقية المناطق وقصف الجيش للمدنيين بالطيران، مما فتح الباب للتدخل الخارجي كما في تسليح طرفي الحرب من المحاور الاقليمية والدولية، بهدف نهب ثروات البلاد، فضلا عن خطر تحويل الحرب لعرقية تهدد وحدة البلاد، وغير ذلك من الماساة الانسانية التي نعيشها اليوم.
كان الانقلاب انتكاسة للتجربة الديمقراطية التي لم يمض عليها أكثر من ثلاث سنوات، وقطع التطور الطبيعي للتجربة الديمقراطية الوليدة في البلاد التي لا يمكن أن تزدهر الا بالمزيد من الديمقراطية، بعد ذلك توالت الانقلابات العسكرية: انقلاب 25 مايو 1969م، انقلاب 30 يونيو 1989م، انقلاب 11 أبريل 2019م، وانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي جاءت الحرب اللعينة امتدادا له.
ودخلت البلاد في الحلقة الجهنمية من الانقلابات العسكرية والحروب التي يجب الخروج منها واستخلاص دروس التجربة السابقة ، وتحقيق اوسع جبهة جماهيرية لوقف الحرب ومواصلة الثورة، وترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، واستدامة الديمقراطية والتنمية المتوازنة والسلام، ودولة المواطنة التي تسع الجميع .
2
اشرنا في دراسة سابقة ان انقلاب ١٧ نوفمبر جاء نتاجا للصراع السياسي والطبقي الذي بدأ مع إعلان الإستقلال والجمهورية بين القوي الثورية التقدمية التي تهدف إلى استكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي والثقافي، وتحويل جهاز الدولة إلى جهاز ديمقراطي، وسياسة خارجية متوازنة تدافع عن السلم والسيادة الوطنية وتتضامن مع الشعوب المستعمرة وحركات التحرر الوطني، وضد الأحلاف العسكرية وإعادة الاستعمار الحديث باسم المعونة الأمريكية والقروض المجحفة التي تفقد البلاد استقلالها، وقيام صناعة وطنية والقضاء على سيطرة البنوك الأجنبية على الاقتصاد السوداني، وإجراء إصلاح زراعي جذري، ووضع حد أدنى للأجور وتحسين الأوضاع المعيشية وتحقيق الأجر المتساوي للعمل المتساوي، وتوفير وتوسيع خدمات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي في حالات العجز والشيخوخة، ووحدة الصف الوطني لتحقيق هذه المهام، والسير قدما في إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية
من الجانب الآخر القوى اليمينية التي تهدف إلى خدمة مصالحها الطبقية بافراغ الاستقلال من مضمونه التحرري الشامل، والسير في طريق التطور الرأسمالي الذي يكرس المزيد من الاستغلال والتبعية، وإعادة الاستعمار بشكله الحديث الذي تقوده أمريكا بعد أن أفل نجم الاستعمار القديم بقيادة بريطانيا، وإلى إبعاد الجماهير عن توجيه شؤون البلاد بإنتزاع حقوقها الديمقراطية وتمزيق وحدتها، وتقييد حقوق العاملين والمزارعين في تكوين اتحاداتهم والقمع غير الإنساني للمزارعين كما حدث في مجزرة عنبر جودة بعد الاستقلال مباشرة. وحاولوا خلق إنقسامات في النقابات واتحادات المزارعين واستخدموا ضدهم أجهزة الإعلام والرشوة وغير ذلك من الأساليب. “للمزيد من التفاصيل: راجع كتاب ثورة شعب: اصدار الحزب الشيوعي 1965م“.
3
من الأسباب التي قادت لانقلاب 17 نوفمبر القنابل الموقوتة التي تركها الاستعمار بعد خروجه مثل: حرب الجنوب والانقسام الطائفي والقبلي والطبقات والفئات الرأسمالية وشبه الإقطاعية التي ارتبطت مصالحها به، وجهاز دولة غير ديمقراطي، وقوانين مقيدة للحريات، إضافة للانقسام الذي حدث في الصف الوطني وخروج الختمية من الحزب الوطني الإتحادي، تدهور الأوضاع المعيشية، ومحاولة القوى اليمينية تفتيت وحدة العمال عن طريق خلق مركزين أو أكثر للحركة النقابية، وإقحام الصراع الحزبي وسط اتحاد المزارعين الذي ينبغي أن يضم المزارعين على إختلاف اتجاهاتهم السياسية. “راجع كتاب ثورة شعب“.
من جانب آخر حدث تضامن واسع مع حركات التحرر الوطني، ورفض العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م وحدث العدوان على الحقوق الديمقراطية لشعبنا والذي بدأ يزداد منذ تكوين الحكومة الإئتلافية الأولى بقيادة السيد إسماعيل الأزهري، واجتماع السيدين الذي أدى للاطاحة بحكومة الأزهري، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية وغيرها، هذه القضايا كلها تفاقمت من خلال انشغال الجماهير الوطنية كما في (حريق العملة) ومعارك السباب والمهاترات.
4
من جانب آخر كما هو معروف تصاعدت الحركة الجماهيرية التي رفعت راية الوحدة ومقاومة التدخل الاستعماري باسم المعونة الأمريكية، وإلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات، وتشكلت جبهة واسعة داخل وخارج البرلمان، ووصلت المقاومة ذروتها في الإضراب العام التاريخي الذي دعا إليه اتحاد العمال وتمّ تنفيذه يوم 21 أكتوبر 1958م، وصحب ذلك الإضراب مظاهرات لا مثيل لضخامتها وتماسكها إشترك فيها العمال والمزارعون والطلاب وصغار التجار، وبدأت الجماهير العاملة تبرز كقوة داعية للديمقراطية والوحدة والتقدم. كما ارتفعت شعارات الوحدة وسط الجماهير المعادية للاستعمار ولحكم القوي اليمينية التي عانت من انقسامات في صفوفها، وأقتربت عناصر من نواب حزب الامة نحو القوى الوطنية، وظهر جليا أن جبهة تضم أغلبية من نواب البرلمان قد تكونت وأنها ستطيح بحكومة عبدالله خليل وتقيم مكانها حكومة أقرب تمثيلا لمصالح الشعب.”للمزيد من التفاصيل: راجع ثورة شعب“.
في تلك اللحظات نقل الاستعمار الجديد والقوى اليمينية المرتبطة به معركة الصراع الطبقي من الأشكال البرلمانية إلى الأشكال الديكتاتورية المكشوفة، نقلوا الصراع من حيزه السلمي إلى حيز اشهار السلاح في وجه الحركة الديمقراطية للشعب بتدبير انقلاب 17 نوفمبر 1958م.
5
كان الانقلاب عبارة عن تسليم رئيس الوزراء عبدالله خليل بالتعاون مع الاستعماريين الأمريكان والانجليز السلطة للقيادة الرجعية في الجيش بهدف المحافظة على كل المصالح الاستعمارية ووقف التطور الديمقراطي في البلاد..
بدأ انقلاب 17 نوفمبر بالهجوم على الحقوق والحريات الديمقراطية كما في: حل الأحزاب ومنع التجمعات والمواكب والمظاهرات، ووقف الصحف حتى يصدر أمرا من وزير الداخلية، وتم إعلان حالة الطوارئ، ووقف العمل بالدستور وحل البرلمان، بعد ذلك صدر قانون دفاع السودان لعام 1958م الذي صادر أبسط الحريات وحقوق الانسان وقرر عقوبة السجن الطويل أو الإعدام لكل من يعمل على تكوين أحزاب أو يدعو لإضراب أو اسقاط الحكومة أو يبث الكراهية، وتمّ تعطيل النقابات والاتحادات وأُعتقل القادة النقابيين “الشفيع أحمد الشيخ ورفاقه” وتقديمهم لمحكمة عسكرية إيجازية سرية كانت انتهاكا فظا لحقوق الانسان.
هكذا تمت مصادرة كل المكاسب والحقوق والحريات الأساسية والدستورية التي حققها شعبنا عبر نضاله الطويل الملئ بالتضحيات ضد الاستعمار: الدستور، البرلمان، الأحزاب السياسية، النقابات، الصحافة، وكان ذلك بداية هجوم شامل هدفه تجريد الشعب من أدواته الرئيسية في الصراع لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية.
6
صدر أول بيان للحزب الشيوعي بتاريخ: 18 نوفمبر 1958م يدعو لمقاومة الانقلاب العسكري واسقاطه واستعادة الديمقراطية، بعنوان “17 نوفمبر انقلاب رجعي“
بعد ذلك استمرت مقاومة الشعب السوداني للانقلاب التي وثقها كتاب “ثورة شعب” (إصدار الحزب الشيوعي 1965م) توثيقا جيّدا عن طريق: البيانات والعرائض والمذكرات والإضرابات والمواكب والاعتصامات، والصمود الباسل للمعتقلين في السجون والمنافي وأمام المحاكم وفي غرف التعذيب، والإعدام رميا بالرصاص. تابع الكتاب نضالات العمال والمزارعين والطلاب والمثقفين والمرأة السودانية ومقاومة الشعب النوبي ضد إغراق حلفا وتدمير ثقافة القومية النوبية وإرثها التاريخي العظيم، وتنصل الحكومة من الوطن البديل بجنوب الخرطوم. ونضال جبهة أحزاب المعارضة، وحرب الجنوب التي تفاقمت، ودفاعات المناضلين أمام المحاكم، كما وضح موقف الحزب الشيوعي من المجلس المركزي وانتخابات المجالس المحلية، واستمر النضال حتى إعلان الحزب الشيوعي لشعار الإضراب السياسي العام في أغسطس 1961م، وتواصلت المقاومة حتى انفجار ثورة أكتوبر 1964م، وإعلان الإضراب السياسي العام والعصيان المدني حتى تمت الإطاحة بديكتاتورية عبود استعادة الديمقراطية التي تمّ اجهاضها، كما اوضحنا في دراسة سابقة، بمصادرة الأحزاب التقليدية للنشاط القانوني للحزب الشيوعي وحله مما قاد لأزمة دستورية في البلاد كان من نتائجها انقلاب 25 مايو 1969م.