وسط "صمت رسمي مصري سوداني"، أعلنت إثيوبيا، الثلاثاء الماضي، انتهاء أعمال البناء الخرساني لسد النهضة، والانتقال لمرحلة التشغيل.

ويطرح ذلك تساؤلات حول الإعلان الإثيوبي، وصمت القاهرة والخرطوم، وعلاقة تلك التطورات بالتحركات العسكرية المصرية في الصومال مؤخرا.

ماذا يعني الإعلان الإثيوبي؟
بدأ العمل بسد النهضة في عام 2011 بتكلفة 4 مليارات دولار، وهو يعد أكبر سد للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، إذ يبلغ عرضه 1.

8 كيلومتر وارتفاعه 145 مترا.

وتتوقع إثيوبيا أن ينتج عندما يعمل بكامل طاقته 5000 ميغاواط، وهو ضعف الإنتاج الحالي للبلاد، مع سعة تخزين إجمالية تبلغ 74 مليار متر مكعب.

ويوضح أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، عباس شراقي، أن الإعلان الإثيوبي يعني "انتهاء أعمال البناء السد الخرسانية بنسبة 99.5 بالمئة، بينما البحيرة الخاصة بالسد مكتملة من ناحية تخزين المياه".

وسوف تكمل إثيوبيا التخزين "النهائي" للمياه حتى الأسبوع الثاني من سبتمبر، وبالتالي يكون "السد اكتمل نهائيا" بسعة تفوق الـ 64 مليار متر مكعب، وفق حديثه لموقع "الحرة".

ومن جانبه، يوضح الكاتب والمحلل السياسي الإثيوبي، عبد الشكور عبد الصمد حسن، أن حديث إثيوبيا عن انتهاء أعمال بناء سد النهضة والانتقال لمرحلة التشغيل أمر "واقع وحقيقي".

والسد في التعبئة الثالثة تمكن من حجز أكثر من 60 مليار متر مكعب قبل الوقت المفترض بسبب طول موسم الأمطار الذي بدأ مبكرا وبكمية فوق المتوسط، ما سمح باحتجاز هذه الكمية، وفق حديثه لموقع "الحرة".

وفي سياق متصل، يشير النائب بالبرلمان الإثيوبي، محمد العروسي، إلى أن "إثيوبيا حققت نجاحا منقطع النظير بعد الانتهاء من أعمال بناء سد النهضة".

ويعني ذلك الإعلان الإثيوبي بطلان "الادعاءات الكاذبة" التي صاحبت المشروع وتوقعت فشله، وفق حديثه لموقع "الحرة".

ويشدد على أن السد هدفه التنمية وتحقيق النهضة للدولة الإثيوبية وإخراجها من الفقر، وتوليد الطاقة لشريحة واسعة من الشعب الإثيوبي تعيش بلا كهرباء في ظل وفرة المياه والأمطار "التي تكفي الجميع".

ماذا بعد "انتهاء أعمال البناء"؟
أعلنت إثيوبيا، أنها قامت بتشغيل توربينين جديدين على سد النهضة الكبير ما يتيح لها مضاعفة إنتاجها من الكهرباء بفضل هذا السد الضخم الذي بنته على نهر النيل وشكل مصدرا للتوتر مع جيرانها، وخصوصا مصر.

وأوضحت الهيئة المسؤولة عن تشغيل السد أن "التوربينين اللذين يولدان 400 ميغاواط لكل منهما بدأ تشغيلهما الآن، بالإضافة إلى توربينين يولدان 375 ميغاواط لكل منهما، ليرتفع إجمالي الإنتاج إلى 1550 ميغاواط".

وقالت الهيئة إن "مفيضات السد تصرف 2800 متر مكعب في الثانية من المياه الإضافية باتجاه دول المصب".

وتم تشغيل أول توربينين، من إجمالي 13 توربينا من المخطط أن توضع على السد، في فبراير وأغسطس 2022.

ومن جانبه، يشير شراقي إلى أنه في حال عمل 4 توربينات وتشغيلها سيتم "تمرير كمية من المياه" سيصل جزء منها إلى مصر على مدار شهور.

ولكن إذا كان تشغيل التوربينات "ضعيف" فعلى إثيوبيا "تفريغ المياه مرة أخرى"، قبل موسم المطر القادم في مايو 2025، وإلا سوف "ينهار سد النهضة"، حسبما يوضح أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية.

ويؤكد شراقي أن "الهدف الرئيس من سد النهضة هو توليد الكهرباء عبر 13 توربينا، بينما تم تركيب 4 توربينات فقط بالسد حتى الآن".

وتركيب باقي التوربينات قد يستغرق سنوات، ولكن إذا استطاعت إثيوبيا توليد الكهرباء خلال الشهور القادمة، فسيكون ذلك فائدة لهم وستصل مياه لمصر، ولكن إذا لم يحدث ذلك فعليها "فتح البوابات" قبل موسم الأمطار القادم، لتفريغ المياه بالبحيرة، وفق أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية.

ما وراء "الصمت الرسمي المصري"؟
تعتبر مصر سد النهضة تهديدا وجوديا وتؤكد على حقها التاريخي في مياه النيل إذ تعتمد عليه في 97 في المئة من احتياجاتها المائية، وخلال الأعوام الأربعة الماضية كانت القاهرة تصدر بيانات تطالب أديس أبابا بالعودة للتفاوض والتوصل إلى حل توافقي.

لكن القاهرة التزمت رسميا "الصمت" بعد الإعلان الإثيوبي عن اكتمال أعمال بناء سد النهضة والانتقال لمرحلة التشغيل، وقبل ذلك على الملء الخامس للسد.

وحاول موقع "الحرة" التواصل مع وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، والمتحدث باسم الوزارة، أحمد أبوزيد، ووزير الري المصري، هاني سويلم، دون الحصول على رد.

ومن جانبه، يرجع مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عماد جاد، "الصمت الرسمي المصري" إلى أن مصر أخطأت من البداية بتوقيعها "إعلان المبادئ".

ووقعت مصر "إعلان المبادئ" الذي مكن إثيوبيا من الحصول على تمويلات كافية لبناء السد، لكن القاهرة لم تحصل على "ضمانات كافية" حول التفاوض والوساطة والتحكيم الدولي في حالة الخلاف، وفق حديثه لموقع "الحرة".

وتقوم إثيوبيا ومصر والسودان بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق اتفاق إعلان المبادئ، بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقا لمبدأ حسن النوايا.

وإذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة، وفق المادة العاشرة من "إعلان المبادئ بخصوص سد النهضة" الموقع في 23 مارس 2015.

ويشير جاد إلى أن "مصر احتجت واعترضت ورفضت أكثر من مرة عند كل ملء لسد النهضة، حتى باتت أمام (أمر واقع) باكتمال بناء السد".

ومن جانبه، يرى الباحث بشؤون الشرق الأوسط، فادي عيد، أن مصر "التزمت الصمت الرسمي"، لكنها ردت بشكل فعلي على أرض الواقع بإرسال "معدات عسكرية وأسلحة مصرية إلى الصومال".

وإرسال الأسلحة والمعدات العسكرية المصرية بمثابة رسالة مباشرة لإثيوبيا، بأن "مصر موجودة على الحدود الإثيوبية، وفي حال الإضرار بمصالحها، فهي جاهزة للرد"، وفق حديثه لموقع "الحرة".

وأرسلت مصر "طائرتين عسكريتين إلى الصومال، محملتين بأسلحة وذخيرة"، بعدما وقعت في وقت سابق من هذا الشهر، بروتوكول "تعاون عسكري" مع مقديشو، لكن القاهرة "لم تدل بتعليق علني"، بهذا الشأن.

وتعززت العلاقات بين مصر والصومال هذا العام بعد أن وقعت إثيوبيا اتفاقا مبدئيا مع منطقة أرض الصومال الانفصالية لاستئجار منفذ ساحلي مقابل اعتراف محتمل باستقلالها عن الصومال.

ووصفت حكومة مقديشو الاتفاق بأنه تعد على سيادتها وقالت إنها ستعرقله بكل الطرق الممكنة، بينما القاهرة على خلاف مع أديس أبابا منذ سنوات بسبب بناء إثيوبيا لسد النهضة.

ما موقف السودان؟
في السنوات الأخيرة "تقلبت" موقف السودان تجاه سد النهضة، فقد احتج على المشروع سابقا وقال إنه يهدد إمداداته من مياه النيل.

وفي يناير 2023، قال قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إنه وافق "على جميع النقاط" مع رئيس الوزراء الإثيوبي، أبيي أحمد، بشأن السد.

ولكن السودان شهد بعدها حربا أهلية ما زالت مستعرة، ولم يعلق رسميا على الإعلان الإثيوبي.

ومن جانبه، يشير الخبير الاستراتيجي السوداني، اللواء أمين مجذوب، إلى أن إثيوبيا "تستغل الظرف الذي تمر به السودان"، لاستكمال بناء سد النهضة دون وجود "أي اتفاق رسمي ملزم".

و"الخلاف" بين السودان ومصر وإثيوبيا حول سد النهضة قد خرج من "العباءة الفنية إلى السياسية"، وموقف الخرطوم "قريب من الموقف المصري"، ويطالب بـ"اتفاق ملزم وتبادل المعلومات بشأن تشغيل السد"، وفق حديثه لموقع "الحرة".

ما التأثير المتوقع على مصر والسودان؟
يشدد شراقي على أن "نهر النيل بمثابة شريان حياة للمصريين، ولا يجوز لإثيوبيا التصرف بشأنه وكأنه نهر إثيوبي".

وحصة مصر من مياه النيل "تأثرت وتضررت" بالفعل بتخزين إثيوبيا 23 مليار متر مكعب بسد النهضة هذا العام، ما يمثل "نصف الحصة المصرية"، وفق أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية.

ولولا وجود السد العالي لكانت "الأضرار على مصر أكبر بكثير، ولم يجد المصريون وقتها مياه للشرب أو الزراعة"، حسبما يضيف شراقي.

وتسبب سد النهضة بالفعل في "خسائر اقتصادية لمصر"، بعدما اضطرت لمعالجة مياه الصرف الزراعي وتدشين مئات المحطات من أجل ذلك، بينما معالجة المليار متر مكعب منها يكلف الدولة 15 مليار جنيه، وفق أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية.

وفي سياق متصل، يشير مجذوب إلى أن "تصريف المياه لتوليد الكهرباء مشكلة كبيرة جدا، ويؤثر على الأمن المائي لمصر والسودان".

وسيكون لسد النهضة "تأثير موسمي" على السودان، وعندما ينتهي موسم الفيضان سيكون هناك "استقرار في تدفقات المياه" بكميات قليلة، وفق الخبير الاستراتيجي السوداني.

ويتحدث عن أهمية وجود "تأمين وإجراءات احترازية تجنبا لحدوث أي انهيارات للسد في المستقبل".

وسوف يؤثر السد على "حصص مصر من المياه"، ما يعني تضرر الزراعة وربما المشاريع التي قامت بها مصر خلال السنوات الماضية، حسبما يوضح مجذوب.

لكن على جانب آخر، يؤكد العروسي أن "التنمية" هي هدف إثيوبيا الحقيقي من بناء سد النهضة وليس "الإضرار بمصر والسودان بحبس المياه وقطعها عنهم وتعريضهم للغرق والعطش".

وسد النهضة لن يؤثر على مصر والسودان لكنه "ينظم عملية تدفق المياه، ويخفف من وطأة الفيضانات المدمرة على السودان، ويطيل عمر السد العالي بتخفيف الضغط المائي عليه"، حسبما يؤكد النائب البرلماني الإثيوبي.

وفي سياق متصل، يؤكد حسن أن تشغل سد النهضة لن يكون له "تأثير يذكر" على السودان ومصر،

ويتحدث عن "صحة الموقف الإثيوبي، وعدم صحة الادعاءات التي تحدث عنها الأشقاء في مصر"، على حد تعبيره.

تصعيد بمنطقة "القرن الأفريقي"؟
أثار النزاع بين مقديشو وأديس أبابا مخاوف كبرى بشأن استقرار منطقة القرن الأفريقي وقد دعت دول ومنظمات دولية عدة إلى احترام سيادة الصومال.

وتعززت تلك المخاوف بعد إرسال القاهرة مساعدات عسكرية إلى البلد الغارق في الفوضى بسبب هجمات حركة الشباب "المصنفة إرهابية لدى الولايات المتحدة ودول أخرى"، وسط تحذير إثيوبي من "تفاقم التوترات في القرن الأفريقي".

ووصف سفير الصومال في مصر، علي عبدي، شحنة المعدات العسكرية التي أرسلتها القاهرة إلى بلاده بأنها "كبيرة"، دون مزيد من التفاصيل.

وبحسب بيان نشرته وسائل إعلام محلية، فإن مصر ستكون أول دولة تنشر قوات في الصومال بعد انسحاب البعثة الإفريقية الحالية "أتميس".

ومن جانبه، لا يتوقع العروسي "أي تصعيد من مصر أو السودان تجاه إثيوبيا".

ويقول:" لا توجد أي حاجة أو داعي لذلك، وفي كل الأحوال إثيوبيا مشغولة بالتنمية".

والتصعيد لن يخدم أي طرف، والحل الأمثل هو "التعاون والقبول بالأمر الواقع، والتنمية والنهضة لإثيوبيا ودول الجوار"، وفق النائب البرلماني الإثيوبي.

ويتفق معه حسن الذي يؤكد "عدم وجود سبيل لحل الأزمة سوي بالعودة لاستكمال المفاوضات من حيث توقفت وصولا لاتفاقية ترضى جميع الأطراف ويكون الكل كاسبا ومستفيدا".

ويرى المحلل السياسي الإثيوبي أن "السياسة المصرية قائمة على رده فعل فيما يتعلق بإثيوبيا".

وإرسال مصر لمعدات عسكرية للصومال هو ردة فعل لـ"موضوع سد النهضة، وتوقيع جنوب السودان اتفاقية عنتيبي، وتوقيع مذكرة التفاهم بين إثيوبيا و(أرض الصومال)"، وفق حسن.

وفي 8 يوليو صادقت دولة جنوب السودان على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، المعروفة إعلاميا باسم "اتفاقية عنتيبي".

وفي 14 مايو 2010 وقعت دول إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، ثم انضمت كينيا وبوروندي إلى الاتفاقية لاحقا.

وتعارض مصر والسودان اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، وتتمسكان باتفاقيات 1902 و1929 و1959 التي ترفض الإضرار بدول المصب، كما تقر نسبة 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل لمصر، ونسبة 18.5 مليار متر مكعب للسودان.

وفي الوقت ذاته يستعبد حسن حدوث "أي تصعيد بمنطقة القرن الأفريقي خلال الفترة القادمة".

ويشير المحلل السياسي الإثيوبي إلى أن "كل ما عدا (التفاوض) هو مضيعة للوقت والجهد والمال".

لكنه يقول أيضا:" إذا حدث أي أمر فإثيوبيا مستعدة لاتخاذ الخطوات المناسبة".

ومن جهته، يرى مجذوب أن "الردود القانونية والشكاوى للجهات الأممية هي الطريقة الوحيدة المتاحة لحل الأزمة، وكذلك العودة للتفاوض بين إثيوبيا ومصر والسودان".

وفيما يتعلق بـ"سيناريوهات الرد العنيف، فهي غير متوفر، لأن المنطقة مشتعلة بالفعل"، حسبما يشير الخبير الاستراتيجي السوداني.

وتوجد حرب دائرة حاليا السودان وفيها ما يكفيها، ومصر تدخل في مشروعات اقتصادية كبيرة وبالتالي "أي عمل عسكري" سيؤثر عليها بشكل كبير، حسبما يوضح مجذوب.

وعلى جانب آخر، لا يستعبد عيد حدوث "تصعيد" بمنطقة القرن الأفريقي، باعتبار سد النهضة "مسألة تهدد الأمن القومي المصري".

والتحرك المصري الأخير في الصومال، قد يقابله "رد فعل من إثيوبيا"، والأيام القادمة سوف تكشف مدى احتمالية وقوع "تصعيد" بين الجانبين، وفق الباحث بشؤون الشرق الأوسط.

وائل الغول

نقلا عن الحرة  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القرن الأفریقی بناء سد النهضة ملیار متر مکعب إعلان المبادئ مصر والسودان انتهاء أعمال لسد النهضة میاه النیل ومن جانبه إلى أن

إقرأ أيضاً:

التحول الديمقراطي – الأمل وعقبة إقصاء الإسلاميين في سياق المواطنة

التحول الديمقراطي في السودان وإقصاء الإسلاميين ربح مؤقت أم خسارة طويلة الأمد؟ قد يكون هذا التساؤل مطروح لدي مجموعة من المثقفين في هذه الأيام , و يشهد السودان منذ عقود طويلة صراعًا سياسيًا حادًا، لم تقتصر محاوره على تقلبات السلطة فحسب، بل تعدته إلى صراع أيديولوجي عميق، بين مختلف التيارات الفكرية والفاعلين السياسيين. من بين هؤلاء، كان الإسلاميون لاعبًا رئيسيًا في التجارب السياسية المتتالية، سواء خلال حقب الحكم العسكري أو في الحكومات المدنية الانتقالية. لكن بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير، جاءت مرحلة جديدة اتسمت برغبة عارمة في إقصاء الإسلاميين من المشاركة السياسية، ما أدى إلى وضع معقد، يثير تساؤلات حول ما إذا كان هذا الإقصاء قد أتى بثماره، أم أنه مهد لصراعات جديدة.
البناء الديمقراطي والإقصاء , ربح على المدى القصير أم تحديات طويلة الأمد؟
تجربة التحول الديمقراطي في السودان تمثلت في محاولة جادة لتأسيس نظام حكم ديمقراطي يقطع مع التجارب العسكرية والتسلطية التي استمرت لعقود. إحدى الخصائص البارزة في هذه التجربة كانت إقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي بعد الثورة. فرغم مشاركتهم الواسعة في الحكم لعدة سنوات، تم استبعادهم بشكل كامل من العملية السياسية في محاولة لإعادة بناء الدولة بشكل ديمقراطي شامل.
ولكن هل كان هذا الإقصاء خيارًا حكيمًا؟ على المدى القصير، قد يبدو أن إقصاء الإسلاميين خفف من تأثيرهم السياسي ومنعهم من العودة إلى السلطة، خصوصًا بعد عقود من التسلط الذي مارسه نظام البشير. هذا الإبعاد عن الساحة منح الحكومة الانتقالية، بدعم من قوى الحرية والتغيير، فرصة للتفاوض مع الحركات المسلحة والفاعلين الآخرين من أجل بناء نظام سياسي جديد.
الصراعات الهوائية والمستقبل المجهول
على الرغم من أن السودان سعى لتحقيق انتقال سياسي ديمقراطي، إلا أن إقصاء الإسلاميين تسبب في خلق فراغ سياسي واجتماعي قد يعود بالسلب على عملية التحول. فإقصاء فصيل سياسي بحجم وتأثير الإسلاميين قد يؤدي إلى تحفيز الصراع، وليس حله. الإسلاميون، بتياراتهم المختلفة، ما زالوا يمثلون جزءًا كبيرًا من التركيبة السياسية والمجتمعية في السودان، ولا يمكن تجاهل تأثيرهم العميق على الشارع السوداني.
يبدو أن البعض داخل السودان قد تصور أن الديمقراطية يمكن أن تُبنى فقط عن طريق استبعاد فصيل بعينه، متجاهلين أن الديمقراطية الحقيقية تقوم على الحوار والمشاركة بين جميع الأطراف، بما في ذلك من يختلفون فكريًا وأيديولوجيًا. ما يحدث في السودان الآن هو محاولة لخلق نظام جديد بدون إشراك الإسلاميين، وهذا ربما خلق حالة من التوتر والاحتقان، وهو ما يمكن تسميته بـ"الصراعات الهوائية" التي تنمو دون وجود حلول واقعية على الأرض.
الإسلاميون بين التهميش والانكفاء
الإسلاميون اليوم يعيشون حالة من التهميش السياسي، في مشهد يُنظر إليه على أنه عقاب لتاريخ طويل من الحكم القمعي والفشل في إدارة الدولة. لكن استبعادهم لم يقتصر على التمثيل السياسي فقط، بل تعدى ذلك إلى محاولات منعهم من التأثير الاجتماعي والثقافي، ما أدى إلى شعور بالإقصاء الجماعي.
الجدل حول هذا الإقصاء يتركز على مدى تأثيره على استقرار السودان ومستقبله. في ظل غياب الإسلاميين عن المشهد، أصبح هناك فراغ سياسي قد يملأه أطراف أخرى، ليس بالضرورة أكثر اعتدالًا أو توافقًا. فالاحتقان السياسي في السودان لا يزال قويًا، والأوضاع الاقتصادية المتدهورة قد تزيد من تعقيد الموقف وتعمق الفجوة بين الفصائل السياسية.
الإسلاميون، رغم الإقصاء، لا يزالون يحتفظون بقاعدة شعبية كبيرة، خاصة في المناطق الريفية والمهمشة. ولذلك، من المرجح أن يؤدي تهميشهم السياسي إلى ظهور حركات احتجاجية أو مقاومة من شأنها أن تعرقل عملية التحول الديمقراطي. هذه المقاومة قد تتخذ أشكالاً متعددة، منها العودة إلى العمل السياسي السري، أو التحول إلى العنف في أسوأ السيناريوهات.
وهل يمكن تحقيق الديمقراطية دون الإسلاميين؟ , ان هذه النقطة الجوهرية التي يجب أن تُطرح هي: هل يمكن للسودان أن يبني نظامًا ديمقراطيًا مستدامًا في ظل غياب الإسلاميين؟ السؤال هنا ليس مجرد تساؤل نظري، بل هو سؤال عملي يتصل بمستقبل البلاد واستقرارها. الديمقراطية هي نظام يقوم على المشاركة والتمثيل الشامل لمختلف القوى والتيارات. ولذلك، فإن إقصاء أي فصيل كبير من هذه العملية، سواء كان إسلاميًا أو غيره، يحمل في طياته مخاطر كبرى.
منع الإسلاميين من المشاركة في بناء الديمقراطية قد يُعتبر خطوة ضرورية لبعض الوقت من أجل تحقيق الاستقرار، ولكن على المدى الطويل، قد يؤدي هذا إلى إضعاف شرعية النظام الجديد وتعميق الانقسامات السياسية. تجربة السودان الطويلة مع الأنظمة العسكرية والمدنية تُظهر أن الصراع السياسي والإقصاء المستمر يولدان المزيد من الفوضى والانقسام.
مستقبل السودان في ظل الصراعات الحالية
في ظل استمرار الحرب في مناطق النزاع، وتدهور الوضع الاقتصادي، وعدم وجود رؤية واضحة لتحقيق انتخابات ديمقراطية، يبدو أن السودان في طريقه إلى مواجهة المزيد من التحديات. الشعب السوداني الذي طمح في بناء نظام ديمقراطي شامل يشعر الآن بالإحباط، حيث تتلاشى آماله في رؤية تحول ديمقراطي حقيقي في المستقبل القريب.
الانتخابات، التي كانت تعتبر الخطوة الأولى نحو الديمقراطية، قد لا تحدث قريبًا، بل وربما يتم تأجيلها بشكل متكرر نتيجة الصراعات السياسية والتوترات بين القوى المختلفة. وإذا استمرت الأوضاع على هذا النحو، فإن السودان قد يجد نفسه في حالة من الانقسام الدائم، حيث تتلاشى فرص بناء دولة مستقرة على أسس ديمقراطية.
والامر المهم الان هو أن السودان بين الإقصاء والشمولية , السؤال الذي يطرحه الجميع اليوم: هل ربح السودان من إقصاء الإسلاميين من التحول الديمقراطي؟ الإجابة تعتمد على النظرة بعيدة المدى. على المدى القصير، قد يُعتبر هذا الإقصاء ربحًا سياسيًا في سبيل تجنب العودة إلى الماضي، ولكن على المدى الطويل، قد يتسبب في نشوء صراعات جديدة تعيق بناء الديمقراطية.
الحل الأمثل للسودان، كما يبدو، يكمن في تحقيق شمولية سياسية تتيح للجميع المشاركة في بناء الوطن، بعيدًا عن الإقصاء والتهميش. الديمقراطية ليست مجرد صندوق اقتراع، بل هي نظام يقوم على التفاوض والقبول بالآخر، حتى وإن كان الاختلاف الأيديولوجي والسياسي جوهريًا. فقط من خلال هذا المسار يمكن للسودان أن يخرج من دوامة الصراع ويبدأ في بناء مستقبل أكثر استقرارًا وعدلاً.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • جنوب السودان.. تأجيل الانتخابات الرئاسية لمدة عامين لـعدم اكتمال الاستعدادات
  • تحصينُ الانتقالِ المدنيِّ والتحوُّلِ الديمقراطيِّ القادمِ في السودان عبر “بَصِيرَة”، “عِزْوَة” و”تَاوِق”
  • التحول الديمقراطي – الأمل وعقبة إقصاء الإسلاميين في سياق المواطنة
  • “النساء والفتيات جردن من ضرورياتهن الأساسية”، مسؤولة أممية تصف “الوضع المأساوي” في السودان
  • عاجل| وزير الخارجية الصومالي يكشف حقيقة المزاعم بشأن نقل صراع سد النهضة الإثيوبي إلى بلاده
  • “خليفة العالمية للتعليم المبكر”: دور حيوي للأسرة والمدرسة في بناء المحتوى المعرفي للطفل
  • وزير الخارجية السوري عن أزمة السد الإثيوبي: "تعطيش المصريين جريمة لا يمكن السكوت عنها" (فيديو)
  • نهضتنا .. بكرة الجرح يبري … “في سيرة نادي النهضة بالفاشر”
  • أميرة الفاضل: صنعنا “حميدتي” .. وتمدده مسؤولية حكومة الثورة
  • إغلاق “المكتبة الثقافية المصرية” في هرجيسا و”أرض الصومال” تستعد لتوقيع اتفاقية رسمية مع إثيوبيا