أمريكا وإسرائيل.. حدود العقل الاستراتيجي.. قراءة في مآلات طوفان الأقصى
تاريخ النشر: 31st, August 2024 GMT
ثمة نقاش كثيف يجري اليوم عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية بخصوص أزمة العقل الاستراتيجي الإسرائيلي والأمريكي، وإن بتفاوت في التقييم، فبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية بدأت تحذر من فقدان إسرائيل لعقلها الاستراتيجي، بينما لا تتجاوز الانتقادات الموجهة للعقل الاستراتيجي الأمريكي وصفه بالارتباك أو ضعف الرؤية.
في الواقع لا نريد لهذه القراءة التقييمية أن تجعل من الخارطة الجغرافية الممتدة مسرحا لاختبار حدود العقل الاستراتيجي الإسرائيلي والأمريكي، وإنما نسعى أن نحصر هذه الجغرافية في منطقة استراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة للعقلين معا، ونخص بالذكر الشرق الأوسط، والحرب الإسرائيلية على غزة على وجه التحديد.
بدءا نؤكد أن العقل الاستراتيجي ينشغل دائما بالأفق والمدى الذي يمكن أن تؤول إليه السياسات، ولا ينشغل كثيرا بالأوضاع الراهنة وتطورها في المديات القصيرة فقط، ولذلك، سيتم التركيز على سؤال: ماذا بعد؟ أو سؤال: أي إجابة يرتبها العقل الإسرائيلي لما بعد الحرب؟ أو لاستمرار الحرب؟ ذلك لأن الحرب كما السياسة، هي أدوات لتدبير الصراع الدولي، ولتحقيق الأهداف التي يحددها كل طرف في الصراع، وأنه مهما كانت حدتها وكثافتها وضراوتها فإنها ستنتهي في الأخير إلى الجواب عن سؤال: كيف يمكن تحويل العائدات العسكرية إلى كسب سياسي، فالمقولة التي أطلقهما كلاوزوفيتش من أن السياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى، والتي تحكم مسار النزاعات المسلحة في كثير من المناطق، بما في ذلك في قطاع غزة الذي يتعرض لعدوان إسرائيلي منذ إحدى عشر شهرا، ستفرض على العقل الأمريكي والإسرائيلي أن يقدم سيناريوها قابلا للتحقيق في قطاع غزة، يضمن المصالح الإسرائيلية للحليفين، ويحقق الأهداف التي رفعتها المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية من شن الحرب على غزة على خلفية طوفان الأقصى.
فالعقل الاستراتيجي للحليفين سيكون مضطرا في نهاية المطاف إلى مواجهة عملية الانتقال من الحرب إلى السياسة، بما يعني أن قوته أو حدوده أو نهايته ترتبط بتدبير شروط التفاوض لإطلاق النار وتدبير مشكلة الأسرى والرهائن، ووجود عملية سياسية ما تحدد مستقبل المنطقة ما بعد الحرب، أو على الأقل ترسم الصورة التي يكون عليها الصراع بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في المرحلة القادمة.
العملية العسكرية بكل عنفوانها، لا تستطيع أن ترسم سوى محددات كل طرف في عملية التفاوض السياسي، وشروط الانتقال من الحرب إلى اللاحرب، بينما ترسم السياسة ما بعد الحرب واقع المنطقة وحيثيات مهمة في مستقبلها، ولذلك، لا يمكن تقييم وجود عقل استراتيجي أو محدوديته أو قصوره أو شيخوخته إلا في ضوء تقييم نتائج العملية العسكرية، ومدى قدرتها أن تجعل من السياسة (التفاوض من أجل صفقة لوقف الحرب بجميع مشمولاتها) عاملا مهما في استثمار عائد الحرب لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المرسومة.
ومن ثمة، ترتهن عملية تقييم فعالية العقل الاستراتيجي الإسرائيلي والأمريكي بالسيناريو الذي ستؤول إليه السياسة بعد الحرب، وهل نجحت في تحقيق أهداف الحرب أم أخفقت، وهل تفضي نتائج الحرب إلى استعادة الوضع السابق (ستاتيكو) أو استعادة وضع أسوأ من السابق، أو ستنجح الحرب في أن تؤسس لواقع جديد تنهار فيه المقاومة وتقلص فيه قدراتها إلى المستوى الذي تصير فيه عاجزة عن تشكيل تهديد أمني وعسكري للدولة العبرية؟
العملية العسكرية بكل عنفوانها، لا تستطيع أن ترسم سوى محددات كل طرف في عملية التفاوض السياسي، وشروط الانتقال من الحرب إلى اللاحرب، بينما ترسم السياسة ما بعد الحرب واقع المنطقة وحيثيات مهمة في مستقبلها، ولذلك، لا يمكن تقييم وجود عقل استراتيجي أو محدوديته أو قصوره أو شيخوخته إلا في ضوء تقييم نتائج العملية العسكرية، ومدى قدرتها أن تجعل من السياسة (التفاوض من أجل صفقة لوقف الحرب بجميع مشمولاتها) عاملا مهما في استثمار عائد الحرب لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المرسومة.الحرب على غزة.. هل بالإمكان الحديث عن عقل استراتيجي إسرائيلي؟
تنطلق عملية تقييم فعالية العقل الاستراتيجي الإسرائيلي في إدارة الحرب من ثلاثة محددات أساسية:
الأول ـ مدى النجاح أو الإخفاق في تحقيق أهداف العملية العسكرية.
الثاني ـ مدى النجاح أو الإخفاق في ممارسة الضغوط لتقوية الموقع التفاوضي بمراعاة متغيرات السياق الدولي والإقليمي.
الثالث ـ مدى امتلاك رؤية للمستقبل (أو ما يسمى بالوضع التالي) وقدرته على تحقيقيها.
على المستوى الأول: أي ما يتعلق بالمعطى العسكري العملياتي، وهو العنصر الأساسي التي تبني عليه النظريات التقليدية التي تفسر الانتقال من الحرب إلى السياسة، فقد وضع الاحتلال العسكري ثلاثة أهداف رئيسة، هي القضاء على البنية العسكرية لحماس، وتعطيل قدرتها على استهداف إسرائيل بالصواريخ، وافتكاك الأسرى والمحتجزين أو الضغط العسكري لإجبار حماس على ذلك دون تقديم أي ثمن سياسي باهظ.
التقييم العملياتي، يؤكد حالة من الاضطراب على مستوى تحقيب مراحل المعركة العسكرية، والهدف من كل مرحلة على حدة، وعلى أي أساس يتم الانتقال من مرحلة إلى أخرى، وما الأهداف التي تحققت في المرحلة الأولى حتى يتبرر الانتقال للثانية ثم الثالثة فالرابعة؟
المعطيات الميدانية تكشف أن جيش الاحتلال انسحب أكثر من مرة من شمال غزة وجنوبها ثم عاد إليها، بعد أن كان قد أعلن أنه حقق كل أهدافه فيها، والجيش الإسرائيلي نفسه، يؤكد بأن حماس أعادت بناء قوتها العسكرية، بعد الضربات التي وجهت إليها، وأداء المقاومة نفسه، في كل المناطق التي دخل إليها الاحتلال، يؤكد استمرار جاهزيتها وتنوع تكتيكاتها القتالية، وتحقيقها لنتائج موجعة للاحتلال، فضلا عن استمرار قدراتها الصاروخية وقدرتها على التدبير السياسي الذكي لتصريف هذه القدرات.
في التقييم العام، وبشهادة الجيش الإسرائيلي، ومسؤولين عسكريين سابقين، ثمة خلاصة أصبحت جزءا من الواقع، أن هدف القضاء على حماس وقدراتها القتالية، بعيد المنال، وأن هناك جانبا مهما في الاستراتيجية القتالية لحماس (الأنفاق) لم يستطع الجيش الإسرائيلي تفكيكه رغم دخوله إلى كل تراب أرض غزة.
على المستوى الثاني، أي قدرة الاحتلال على ممارسة الضغوط على حماس لإجبارها بقبول شروط الاحتلال للانتقال من الحرب إلى السياسة، تبدو إلى اليوم الديناميات مستمرة، ولم تؤت بعد ثمارها وفقا للاستراتيجية الإسرائيلية، إذ كان الاحتلال الإسرائيلي يلجأ إلى ابتكار أساليب أخرى في الضغط، كلما فشلت الأساليب السابقة، فقد كان الرهان ابتداء على التدمير واستهداف المدنيين وإبادة سكان غزة عن آخرهم لإجبار المقاومة على الانصياع، ثم اضطر بعد ذلك إلى الضغط بورقة التهجير، وانتهاج سياسة عسكرية تدفع إلى ذلك، ففشل في ذلك ميدانيا وسياسيا، وتعرضت سياسته بسبب ذلك إلى خلق مزاج دولي معاد لإسرائيل، انتهى بها إلى الإدانة الدولية والحقوقية، ثم اتجهت بعد ذلك إلى ورقة رفح، وأخذت وقتا طويلا للتهديد بها، ثم لما تدخلت عسكريا فيها، ووجهت بشراسة من المقاومة، ففشلت في تحقيق أغراضها، ثم أخرجت ورقة معبر رفح ومحور فيلاديلفيا، وسيطرت عليهما، ومع ذلك، لم تتوقف المقاومة، بل زادت عنفوانا، ثم غيرت التكتيك بشكل كبير في اتجاه الاغتيالات السياسية، فاغتالت رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، والقائد العسكري في حزب الله الحاج فؤاد شكر، في محاولة لوضع الولايات المتحدة الأمريكية أمام تحدي إسناد إسرائيل اختيارا أو إلجائها إلى إسنادها كرها من خلال افتعال مسببات حرب إقليمية لا تريدها أمريكا، ثم تحولت في الأيام القليلة الماضية إلى الضغط على الضفة الغربية، من خلال تجريف المخيمات، واستهداف اهاليها، والعودة مرة أخرى لورقة التهجير إلى الأردن، فوجهت بمقاومة عنيفة من قبل فصائل المقاومة في مخيمات جنين وعين شمس وطولكرم وغيرها.
تقييم مسار المفاوضات في مختلف جولاتها، يكشف عن تحول كبير، ففي الوقت الذي كانت الأرضية التفاوضية تصاغ إسرائيليا، ثم تقترح أمريكيا ويطلب بعد ذلك رد حماس، تغيرت المعادلة كليا، فصارت الأرضية تقترح في المطبخين الأمريكي والإسرائيلي، ثم تعرض على حماس، بل صارت حماس غير معنية بالحضور إلى جلسة المفاوضات مع الوسطاء، ما دامت إسرائيل تراجعت عن قبول الأرضية المرجعية التي تم الاتفاق عليها في الثاني من يوليوز قبل أن تعلن إسرائيل رفضها.
الكثيرون يرون أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يقوم بكل شيء من أجل إفشال صفقة التفاوض، لكنهم ينسون شيئا مهما، وهو أن نجاح أي تفاوض لا يمكن أن يتم إلا وفق ثلاثة شروط أساسية، أولها وقف الحرب، ثم الانسحاب من قطاع غزة، ثم ترك أمر مستقبل غزة للشعب الفلسطيني. ولذلك، وحيث إن كل أوراق رئيس الوزراء الإسرائيلي في الضغط قد فشلت، فإنه يسعى كل مرة أن يخرج ورقة أخرى، تفيده في ممارسة مزيد من الضغوط على حماس حتى تتنازل ولو جزئيا عن أحد الشروط الثلاثة.
ثمة خلاصة أصبحت جزءا من الواقع، أن هدف القضاء على حماس وقدراتها القتالية، بعيد المنال، وأن هناك جانبا مهما في الاستراتيجية القتالية لحماس (الأنفاق) لم يستطع الجيش الإسرائيلي تفكيكه رغم دخوله إلى كل تراب أرض غزة.يكشف المستوى الثالث جوانب الإبداع لدى أي عقل استراتيجي، فهو الذي يخص الجواب عن سؤال المستقبل، أي السيناريو الذي تعتزم إسرائيل صنعه في قطاع غزة بعد الحرب.
منذ مايو الماضي، خضعت الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو لضغط سياسي داخلي وخارجي وذلك على خلفية الكشف عما يسمى إسرائيليا "اليوم التالي"، فاتضح للفرقاء السياسيين، بما في ذلك المشاركين في الحكم، أن ما يحرك إسرائيل اليوم هي مجرد إيديولوجيا يمينية، لا تحمل أي أفكار استراتيجية، واتضح للولايات المتحدة الأمريكية أنه من الصعوبة بمكان الاستمرار في دعم الحرب الإسرائيلية على غزة هكذا بدون رؤية وبدون سقف، فبدأت تمارس كثيرا من الضغوط على رئيس الوزراء الإسرائيلي، من أجل الكشف عن خطته لمستقبل غزة، وما ينوي فعله، وهل تمتلك رؤيته شروط التحقق، وما الآثار التي يمكن أن تثيرها؟ لكن شيئا من ذلك لم يتم بالمطلق، مما أفضى في نهاية المطاف، إلى أن يتمحور الدور الأمريكي كله في اتجاه تطويق الحرب، ومنعها من التحول إلى حرب إقليمية، ثم الاشتغال لكسب مزيد من الوقت، وعدم تحويل العنف الإسرائيلي في غزة إلى عامل هدم للاستراتيجية الانتخابية للديمقراطيين.
المعطيات التي تكشفت خلال هذا الأسبوع، تبين حالة من الإفلاس في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، إذ قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبشكل أحادي، تعيين حاكم مدني لغزة، وخوض عملية عسكرية في الضفة الغربية.
قد يبدو من القرار الأول نهاية الغموض لدى العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، وأن الاحتلال يعتزم إعادة احتلال غزة، وأن مسار المفاوضات قد أغلق بشكل تام، لكن لا أحد في إسرائيل كلها، بما في ذلك مكونات في الحكومة، وقيادات في الجيش، يرى بإمكان إسرائيل صنع هذا السيناريو، فالجيش الذي أعلن أكثر من مرة أن مهمته في غزة انتهت، لا يمكن أن يتحمل قرارا سياسيا أحاديا، أنتجه رئيس الوزراء، يقضي بإعادة الجيش إلى مستنقع غزة، وهو الذي ظل فيها أحدى عشر شهرا، ولم يحقق شيئا من أهدافه العسكرية، فهل يضيف إلى العبئ العسكري، عبئا مدنيا، بإدارة شؤون غزة التي لم يشهد التاريخ معاناة إنسانية من قبيل ما تكابده بسبب العدوان الإسرائيلي عليها.
القرار الثاني، والذي جرى تأويله من قبل وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بأنه جاء "لإفشال مخطط طهران لإنشاء جبهة شرقية ضد إسرائيل في الضفة على غرار نموذج غزة ولبنان، من خلال تمويل وتسليح الشبان وتهريب الأسلحة المتطورة من الأردن" فعلى فرض صحته، فإن إسرائيل، تكون قد فتحت كل الجبهات وسقطت في الفخ الإيراني، وحكمت على منظمة التحرير الفلسطينية، التي تدير السلطة في الضفة، إما أن تموت بشكل نهائي، أو تلتحق بجبهة المقاومة.
في الواقع، لا يكشف القراران عن أي رؤية استراتيجية، بقدر ما يكشفان بأن إسرائيل لا تزال تدور في المحورين السابقين: أي مستوى التدخل العسكري، ومستوى رفع مستوى الضغوط لتحسين التموقع، أما المحور الثالث الرؤيوي المتعلق، باقتراح سيناريو قابل للتحقيق في منطقة غزة، فقد توقف العقل الإسرائيلي الاستراتيجي، ولم ينتج أي فكرة بهذا الخصوص، بل ولم يسمح للآخرين، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية بالقيام بذلك، فمن الواضح أن سياسة نتنياهو معنية بشيء واحد هو تنويع مستويات الضغط، أملا في أن تتنازل حماس أو تخفض شروطها، وهو الواقع الذي لم يحصل إلى الآن، ولا يبدو أنه ممكن الحصول في المدى القصير أو البعيد.
حدود العقل الاستراتيجي الأمريكي:
من الصعب أن نتابع كل تفاصيل الموقف الأمريكي منذ طوفان الأقصى وانطلاق الحرب الإسرائيلية على غزة، لكن في المجمل، يمكن أن نتوقف عند ثلاث محطات أساسية:
1 ـ محطة الدعم والإسناد لإسرائيل في حربها ضد حماس: وهي المرحلة العاطفية، التي بررتها حالة الصدمة من حدث "طوفان الأقصى"، وعجز الاستخبارات الأمريكية عن توقعه، ففي هذه المرحلة، لم يكن العقل الاستراتيجي الأمريكي يحمل بين مروحته أية أفكار، سوى ما كان من مسايرة حالة الحنق الإسرائيلي من فصائل المقاومة في غزة، إذ كان الجواب الوحيد الذي قدمته هذه المرحلة العاطفية، هو التصريح بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". وقد أخذ هذا الدعم أشكالا مختلفة، دبلوماسية وسياسية وعسكرية، ولا يزال هذا العنوان مستمرا، وإن كان قد تكيف مع حيثيات المحطات اللاحقة.
2 ـ محطة امتصاص الضغط الدولي على إسرائيل ومنع تحوله إلى عامل إدانة شاملة: وضمن هذه المرحلة يمكن أن نتحدث عن ثلاثة أفكار أساسية، أولها، العمل لمنع المؤسسات الدولية من اتخاذ قرار حاسم ضد إسرائيل، سواء على مستوى مجلس الأمن، أو محكمة العدل الدولية، هذا فضلا عن تحركات دبلوماسية واسعة، لمنع تحويل التضامن الدولي مع المعاناة الفلسطينية إلى عامل إدانة سياسية لإسرائيل. وأما الفكرة الثانية، وهو الاشتغال على الواجهة الإنسانية، من خلال الضغط على إسرائيل لإدخال مساعدات عبر معبر رفح، أو إنشاء الممر البحري لإدخال المساعدات، أو استعمال الطائرات لإلقاء المساعدات من الجو، أو طرح فكرة الهدن الإنسانية المتقطعة، التي كانت أمريكا تقصد منها في الجوهر التركيب بين رغبتها في امتصاص الضغط الدولي، وتغطية العملية العسكرية الإسرائيلية على حماس.
تبقى أهم علامة على حدود كل من العقل الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي، أنهما يخوضان معركة مع الوقت، وهما يدركان، أن غياب أفكار لمستقبل غزة بعد الحرب، لن ينفع معه مزيد من اللعب على الوقت، فقد أدى هذا الرهان إلى خلق واقع أسوأ (مؤشرات حرب إقليمية)، ومن المؤكد أنه لن ينفع في تمديد الوضعية الراهنة لمدى أكبر ما لم يتم الاتجاه إلى إنهاء الحرب بصفقة شاملة، يكون فيها الاحتلال مضطرا إلى النزول عند شروط المقاومة وإعادة التفكير في التعايش مع واقع ما قبل السابع من أكتوبر.وأما الفكرة الثالثة، فهي تحريك المفاوضات على أساس الهدن الإنسانية، والتي لم تنجح منها إلا تجربة واحدة، فقد كانت الولايات المتحدة تروم بشراكة مع الوسطاء الانطلاق منها لبناء وقف دائم للحرب، غير أنها لم تتكرر مرة أخرى بسبب تعارض شروط كل من إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية.
3 ـ التفكير في الصفقة لتجنب المجهول: يمكن أن نلاحظ من مسار المفاوضات التي انطلقت من الأرضية التي اقترحها جو بادين في مايو الماضي، أن العقل الاستراتيجي الأمريكي فشل بالكلية في اقتراح أفكار للمستقبل قابلة للتحقيق، إذ فشلت جولات وزير الخارجية الأمريكي أنتونيو بلينكن للمنطقة في إقناع الدول العربية بلعب دور في قطاع غزة، وفشل في إنتاج فكرة "حكم محلي" في غزة يوجد على مسافة من فصائل المقاومة، وفشل في جر كل من مصر والأردن لمربع الحل الأمريكي والإسرائيلي، فتمت إزاحة هذه الأفكار غير القابلة للتطبيق من الطاولة، وبدأ الاشتغال على فكرة براغماتية، تقوم على أساس العودة لواقع ما قبل السابع من أكتوبر، وتجنب السيناريو الأسوأ، أي تفجر الوضع الإقليمي، ونشوب حرب شاملة في المنطقة.
من الواضح أن صيغة صفقة 2 يوليوز انطلقت من قاعدة إنتاج سيناريو ما قبل السابع من أكتوبر، أي إنهاء الحرب، وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وترك الشأن الفلسطيني للغزة لأصحابه، فالعقل الاستراتيجي الأمريكي، يفضل دائما فكرة "الستاتيكو" كلما أيقن بأن شروط تغيير الواقع إلى ما هو أفضل ممتنعة، أو أيقن أن البديل عنه هو إنتاج سيناريو أسوأ، ولذلك، اتجهت مباشرة بعد اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية وفؤاد شكر إلى خيارين اثنين: جولة جديدة من المفاوضات حتى بدون مشاركة حماس، وذلك بهدف منع حدوث حرب إقليمية، وتحشيد عسكري كبير في المنطقة، القصد منه في الأول والأخير ردعي، بغرض منع سيناريو حرب إقليمية لا تتحملها إسرائيل.
خاتمة
الكثيرون يرون أن الإدارة الأمريكية في ورطة، بسبب الانتخابات القادمة في شهر تشرين ثياني / نوفمبر المقبل، وأن الرئيس الأمريكي لا يفعل أكثر من كسب الوقت حتى لا تكون الحرب على غزة صوتا عقابيا ثقيلا ينزل الديمقراطيين من مواقعهم داخل البيت الأبيض، لكن في المحصلة، تبقى المشكلة، مشكلة أفكار وخيارات وسيناريوهات، لم يستطع العقل الأمريكي أن ينتج منها ما يناسب واقع غزة بعد "طوفان الأقصى"، ولذلك، تبقى أهم علامة على حدود كل من العقل الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي، أنهما يخوضان معركة مع الوقت، وهما يدركان، أن غياب أفكار لمستقبل غزة بعد الحرب، لن ينفع معه مزيد من اللعب على الوقت، فقد أدى هذا الرهان إلى خلق واقع أسوأ (مؤشرات حرب إقليمية)، ومن المؤكد أنه لن ينفع في تمديد الوضعية الراهنة لمدى أكبر ما لم يتم الاتجاه إلى إنهاء الحرب بصفقة شاملة، يكون فيها الاحتلال مضطرا إلى النزول عند شروط المقاومة وإعادة التفكير في التعايش مع واقع ما قبل السابع من أكتوبر.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير غزة الفلسطينية الاحتلال العدوان احتلال فلسطين غزة مواقف عدوان سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة رئیس الوزراء الإسرائیلی الانتقال من الحرب إلى الأمریکی والإسرائیلی العملیة العسکریة الجیش الإسرائیلی الإسرائیلیة على طوفان الأقصى ما بعد الحرب حرب إقلیمیة فی قطاع غزة بما فی ذلک على حماس من خلال مزید من غزة بعد على غزة لا یمکن یمکن أن مهما فی فی غزة من أجل
إقرأ أيضاً:
قراءة فكرية في التغيرات الكبرى التي صنعها السيدُ حسين بدرالدين الحوثي
يمانيون ـ كامل المعمري
بمراجعة الأحداث الكبرى التي عصفت بالمنطقة العربية على الأقل خلال العقود الأخيرة، وتحديدًا منذ الخمسينيات نجد أن مشروعًا واحدًا، بتفرده وبنائه العميق، قد خرج من الركام كحالة استثنائية، لا تشبه في تكوينها ولا في مسارها أي مشروع آخر، إنه المشروع الذي انطلق من أعماق جبال مرّان، في محافظة صعدة شمالي اليمن، لكن حاملًا رؤية قرآنية عادت من جديد، متجاوزةً للإطار التقليدي الذي حدّدته أيديولوجيات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
لقد كان العام 2003 نقطة تحول فارقة في التاريخ الحديث للمنطقة؛ ففي الوقت الذي كانت فيه الهيمنة الأمريكية تخترق العالم العربي والإسلامي تحت مظلة “الحرب على الإرهاب”، خرج الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي برؤية قرآنية حادة الملامح وواضحة المقاصد، تقلب المعادلة.
رفع شعارًا أدهش الجميع بجرأته وبساطته في آن واحد: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، لم يكن هذا الشعار مُجَـرّد صياغة خطابية، بل كان إعلانًا عن مسار سياسي وثقافي جديد، يهدف إلى إعادة تشكيل وعي الإنسان اليمني وإحياء روحه النضالية المفقودة في ظل سنوات من التبعية والضياع السياسي.
مميزات المشروع القرآني:
ما يميِّزُ المشروعُ القرآني منذ انطلاقته، أنه لم يكن مُجَـرّد رد فعل محلي على أزمة سياسية أَو اجتماعية داخلية، بل كان جزءًا من رؤية أوسعَ تستهدف إعادة توجيه بُوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة: الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، كانت هذه الرؤية ضرورية في وقت اختلطت فيه الأوراق، وتداخلت فيه التحالفات بين أنظمة عربية خاضعة تمامًا للإملاءات الأمريكية وأُخرى غارقة في مستنقع التطبيع مع “إسرائيل”.
جاء المشروع القرآني ليعيد صياغة وعي الفرد والجماعة، متجاوزًا حدود الجغرافيا اليمنية، ليطرح نفسه كبديلٍ حضاري شامل للأُمَّـة العربية والإسلامية، هذه الرؤية لم تكن معزولةً عن الواقع، بل كانت استجابة واعية للمخاطر التي بدأت تلوح في الأفق مع احتلال العراق وتفكيك بنية الدولة الفلسطينية ومحاولة الهيمنة الكاملة على مقدرات المنطقة.
منذ البداية، أدرك أنصار هذا المشروعِ أن معركتهم ليست ظرفية، بل وجودية لذلك، كانت المواجهة مع النظام السابق تتجاوز البعد العسكري لتصل إلى حرب قيم ومعانٍ، فبينما كان النظامُ اليمني السابق يسعى بكل أدواته إلى إخضاع المشروع، مدفوعًا بإملاءات أمريكية وسعوديّة، كان هذا المشروع يزداد صلابة، مستمدًا قوته من رؤية إيمانية جعلت من التضحية عنوانًا للصمود.
لقد أرادت أمريكا أن تقضيَ على هذا المشروع في بداياته الأولى وذلك عبر دعم النظام الذي شن حربًا ظالمة عام 2004 انتهت تلك الحملات العسكرية الكبيرة باستشهاد القائد المؤسّس الشهيد حسين بدر الدين الحوثي، الذي أراد أن يقدم للأُمَّـة تجربة يمنية في إطار المشروع القرآني، وباستشهاده ظلت فكرة المشروع حية في قلوب ثلة من المؤمنين الذين واصلوا تحمُّل المسؤولية تحت قيادة السيد العلم القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي “حفظه الله”.
لقد خاض النظام السابقُ سِتَّ حروب متتالية ضد هذا المشروع حتى نهاية عام2009، حَيثُ استُخدمت كُـلُّ أدوات القمع والتدمير لإخماد هذه الحركة في مهدها، لكن وكما يحدث دائمًا مع الحركات ذات الطابع القرآني، كانت كُـلّ ضربة توجّـه إليها سببًا في اتساعها وانتشارها.
الثورة التحرّرية تزيدُ قوة وصلابة التحَرّك:
جاءت ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014 كتتويج لمسار طويل من الصمود والمقاومة، ومثلت الثورة لحظة فارقة في تاريخ اليمن الحديث، حَيثُ بدأت مرحلة الخروج من التبعية الكاملة للوصاية السعوديّة والأمريكية، حينها أدركت القوى الكبرى أن المشروع القرآني لم يعد مُجَـرّد تهديد سياسي أَو عسكري، بل تحول إلى نموذج يلهم الشعوب الأُخرى في المنطقة.
شن التحالف بقيادة السعوديّة، والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا، وبمشاركة 17 دولة حربًا عدوانية على اليمن في مارس 2015، استهدفت كُـلّ مقومات الحياة تجاوزت الحرب 350 ألف غارة جوية، وخلّفت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ناهيك عن الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي لم يشهد له اليمن مثيلًا في تاريخه الحديث وحصاراً خانقاً، لكن وعلى الرغم من وحشية العدوان، الذي استمر لقرابة عشر سنوات، خرج الشعب اليمني من هذه الحرب أكثر صلابة وإصراراً على التمسك بمشروعه.
كان سر هذا الصمود يكمن في قدرة المشروع القرآني على توظيف كُـلّ التحديات كأدَاة لبناء وعي جديد، يجعل من المعاناة وقودًا للصمود ومن التضحيات أَسَاسًا للنصر.
وما يجعل هذا المشروع حالة استثنائية هو شموليته، فهو ليس مشروعاً سياسيًّا محدودًا بظرف أَو مرحلة، بل هو رؤية حضارية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان الواعي بمسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه وأمته.
كما أن الثقافة القرآنية التي يقوم عليها المشروع ليست مُجَـرّد شعارات أَو نصوص نظرية، بل هي أدَاة لإعادة تشكيل القيم والسلوكيات، بما يتناسب مع التحديات الراهنة.
إن هذه الرؤية هي التي مكنت الشعب اليمني من تحويل الحرب إلى فرصة للنهوض، فبينما كان العالم يتوقع انهيار اليمن تحت وطأة الحصار والعدوان، ظهر الجيش اليمني كقوة تمتلك رؤية واستراتيجية، قادرةً على تغيير المعادلات، وكانت الرؤية القرآنية بمثابة خارطة طريق لإعادة توجيه بوصلة العداء نحو الأعداء الحقيقيين للأُمَّـة، بعيدًا عن التبعية والانهزامية التي سيطرت على الكثير من الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية.
التجربة اليمنية في إطار المشروع القرآني:
وفي لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، حَيثُ الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على أوجها، وحيثُ الأنظمة العربية تتهاوى واحدة تلو الأُخرى في مستنقعات التطبيع أَو التبعية، كان المشروع القرآني كحالة استثنائية غير مؤطرة، هذا المشروع الذي تعرض حاملوه لأبشع أنواع الحروب في العصر الحديث حاضراً وبقوة في الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة على غزة التي استمرت قرابة خمسة عشر شهرًا؛ ليخوض مواجهة مباشرة مع أعداء الأُمَّــة بدءًا من فرض الحظر البحري على الكيان الإسرائيلي؛ الأمر الذي أَدَّى إلى دخول اليمن في معركة بحرية استمرت قرابة العام في مواجهة البحرية الأمريكية والبريطانية التي حاولت حماية سفن العدوّ الإسرائيلي، حَيثُ تم شن عدوان جوي على اليمن إلَّا أن الجيش اليمني سجل موقفًا قويًّا وشجاعاً ليتفاجأ الأمريكي كيف يمكن لقوة صاعدة أن تعطل قدرات الأسطول البحري الأمريكي وتنتصر في معركة على قدرات دول كبرى عسكريًّا.
إلى جانب ذلك استطاعت اليمن إطلاق الصواريخ الفرط صوتية والمسيّرات على المدن الفلسطينية المحتلّة وهو ما أذهل الأعداء والعالم، ويكاد المرء لا يصدق أن شعباً يرزح تحت وطأة الحصار والحرب منذ ما يزيد عن عقد، يستطيع أن يقوم بكل ذلك بل والسؤال الأهم كيف يمكن لشعب فقير ومحاصر أن يصنع صواريخ فرط صوتية وبالستية تضرب أهدافاً متحَرّكة ومسيّرات متطورة، متناسين أن المشروع القرآني لا يقف عند حدود بل يتجاوز ذلك إلى التصنيع العسكري وبناء القدرات العسكرية وفي كُـلّ المجالات، وأنه مشروع إرادَة وإيمَـان.
لقد سجل الشعب اليمني حالة فريدة واستثنائية على مستوى العالم والمنطقة رغم إمْكَانياته البسيطة في إسناده لغزة بالموقف العسكري الذي كان غير مسبوق، سواءً في المعركة البحرية ضد العدوان الثلاثي أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني، والهجمات البرية بالصواريخ والمسيّرات التي لم تتوقف طوال عام ونيف باتّجاه المدن الفلسطينية المحتلّة.
على الجانب الآخر نفير عسكري غير مسبوق، مسيرات راجله عسكرية، ودورات تأهيل وتدريب لمقاتلين جدد تجاوز عددهم قرابة 600 ألف مقاتل، ومئات المناورات العسكرية، وفي المسار الشعبي حشود مليونية أسبوعيه في كُـلّ المحافظات المحكومة من المجلس السياسي الأعلى وحكومة التغيير والبناء، ناهيك عن الوقفات والنكف القبلي الذي كان بشكل يومي، والتبرعات لغزة والفعاليات والندوات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وفي الجبهة الإعلامية حراك غير مسبوق، رافق انتصارات كبيرة في البحر والبر والجو، إضافة إنجازات تمثلت في إزاحة الستار عن أسلحة نوعية صاروخية ومسيّرات وغير ذلك.
هكذا هو المشروع القرآني يفرض على كُـلّ منتمٍ إليه التحَرّك الجاد والعمل والثقة بالله وعدم الاستكانة، وبهذا الوعي والنفير استطاع اليمن أن يبرز كقوة إقليمية مؤثرة وفاعلة لا يمكن تجاوزها، تفرض معادلات كبرى أمام أقوى جيوش العالم.
نجح اليمن انطلاقًا من المشروع القرآني في إيصال رسالة قوية مفادها أن الشعوب العربية قادرة على المواجهة رغم كُـلّ التحديات، وأن القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية للأُمَّـة العربية والإسلامية، بل وأعاد تعريف دور الشعوب في الصراعات الكبرى.
وبكل هذه المعطيات، فَــإنَّ ما حدث في البحر الأحمر يعكس بوضوح كيف تحول المشروع القرآني إلى لاعب رئيسي في معادلات القوة الإقليمية، من هنا، من هذا الشريط المائي الاستراتيجي، تتحدى اليمن الهيمنة الأمريكية بشكل مباشر، وتعيد صياغة مفاهيم السيادة التي حاولت القوى الكبرى طمسها، إنهم يدركون في تل أبيب وواشنطن، أنهم لا يواجهون جيشًا بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يواجهون حركة متكاملة، عمقها وعي شعبي يستمد جذوره من مشروع رسخ في أذهان الناس، وأن كرامتهم ليست قابلة للمساومة.
لقد فشلت محاولات احتواء هذا المشروع، ليس لأَنَّ القوة العسكرية عاجزة عن ذلك، بل لأَنَّهم يقفون أمام سد منيع من الوعي الذي لا يتزعزع، والصمود الذي لا ينكسر.
المشروعُ القرآني في اليمن حالة استثناء:
وما يثير الاهتمام أكثر هو هذه القدرة الفريدة للمشروع على الاستمرار والنمو وسط التحديات، فكل حرب شُنت عليه كانت بمثابة وقود جديد يدفعه إلى الأمام، وكلّ محاولة لإخماده لم تكن إلا خطوة جديدة في مسار ترسيخ حضوره، نحن أمام حالة استثنائية، حَيثُ يتحول القمع إلى سبب للاستمرار، والحصار إلى مصدر للقوة.
إن القوة التي تُهمل بناء الوعي، مهما عظمت أدواتها العسكرية والسياسية، تسقط أمام أول اختبار حقيقي، هذه العبارة التي تعكس جوهر الصراع بين المشاريع العربية التي تعثرت، والمشروع القرآني في اليمن الذي ظل شامخاً رغم كُـلّ الحروب والتحالفات الدولية.
إن التجارب العربية في مواجهة الهيمنة الغربية، بدءًا من القومية الناصرية مُرورًا بالاشتراكية البعثية وُصُـولًا إلى حركات الإسلام السياسي، تكشف عن نمط متكرّر من الإخفاقات، حَيثُ ظلت الشعارات تضج على السطح بينما كان الأَسَاس هشًّا لا يصمد أمام التحديات.
المشروع الناصري بقيادة جمال عبدالناصر كان رمزًا للتحرّر في الخمسينيات، لكنه اصطدم بواقعه في نكسة 1967، واعتمد على تحالفات خارجية مع الاتّحاد السوفيتي وأهمل بناءَ وعي شعبي مسلح بالحرية والمسؤولية.
النظام البعثي في العراق كذلك، رغم هيمنته على المشهد لعقود، انهار سريعًا في مواجهة الغزو الأمريكي عام 2003، إذ كان يعتمد على حزب أوحد منفصل عن تطلعات الجماهير.
حتى المشاريع الثورية التي ظهرت مع موجة التغييرات الحاصلة منذ مطلع العام 2011، مثل تجربة الإخوان المسلمين في مصر، تعاملت مع السلطة كغنيمة سياسية بدلًا من كونها أدَاة لتحرير الإرادَة الوطنية.
على النقيض، المشروع القرآني في اليمن يمثل استثناءً جذريًّا لهذه الحلقة من الإخفاقات، لقد أسس هذا المشروع دعائمه على منظومة إيمانية عميقة تستند إلى نصوص القرآن الكريم كمصدر للتشريع والحركة؛ مما جعله قويًّا لا يتأثر بأية مؤامرات، بينما كانت المشاريع العربية تستورد الأيديولوجيات من الخارج وتبني عليها سياساتها.
ولقد أعاد المشروع القرآني تعريف المقاومة كواجب ديني ووطني، واستحضر قوة الهوية في معادلة الصراع، فكان أحد أبرز عوامل نجاح المشروع القرآني هو رفضه التبعية لأية قوة خارجية.
لقد اعتمد المشروع القرآني على مبدأ الاستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي، فتبنى اقتصاد المقاومة من خلال التصنيع العسكري المحلي والاكتفاء الذاتي الزراعي، وهو ما حرّره من هيمنة البنك الدولي وشروط القوى الكبرى، هذا الاستقلال منح المشروع القرآني مرونة عالية في التعامل مع التحديات، حَيثُ لم يعد رهينة لقرارات اللاعبين الدوليين.
المشروع القرآني أَيْـضًا قلب معادلة الجيش والدولة، بينما انهارت جيوش عربية نظامية؛ لأَنَّها قاتلت كجيوش موظفين، نجح المشروع القرآني في تحويل الشعب اليمني إلى جيش شعبي مقاتل يدافع عن قضيته من منطلق عقائدي، والمسيرات المليونية في اليمن لم تكن مُجَـرّد استعراض للقوة، بل كانت مدرسة جماهيرية لصناعة وعي مقاوم يتحدى أدوات الاستعمار والعدوان.
الأهم من ذلك، كُـلّ المؤامرات التي استهدفت المشروع القرآني تحولت إلى وقود يزيد من قوته، اغتيال السيد حسين بدر الدين الحوثي في 2004 لم يكن نهاية المشروع، بل كان بدايةً لمرحلة أوسع، على عكس المشاريع العربية التي كانت تنهار بمقتل قادتها أَو بتغير الظروف الدولية، حَيثُ نجح المشروع القرآني في تحويل رموزه إلى أيقونات نضال تتجاوز الزمان والمكان.
اليوم، تعجز القوى الكبرى عن كسر المشروع القرآني؛ لأَنَّه لا يقبل التفاوض على ثوابته؛ لأَنَّ ما يميزه عن غيره هو فهمه العميق لمعركة الوعي، حَيثُ أدرك أن الصراع مع الهيمنة الغربية ليس على الأرض فقط، بل على شرعية الرواية الحضارية، فالغرب قدم نفسه كحضارة نهائية، والمشروع القرآني رد بإحياء نموذج ديني يثبت قدرة الأُمَّــة على إدارة دولتها بعيدًا عن التبعية، بينما حوَّلت الأنظمة العربية الدين إلى شعارات أَو طقوس فردية، أعاد المشروع القرآني القرآن إلى مركز الحياة كمنهج ودستور حركة.
مشروع لم يؤطر:
قبل عَقدَينِ من الزمن، لم يكن أحد يتوقع أن يقفَ مشروعٌ ناشئ في وجه منظومة دولية تملك أقوى أدوات القمع والسيطرة، ولكن المشروع القرآني، كما أثبتت التجربة، لا يقوم على حسابات القوة التقليدية بل يرتكز على بناء الإنسان الواعي، القادر على مواجهة التحديات بفكر ثاقب وإيمان صلب، لذلك فَــإنَّ أية محاولة لفهم هذا المشروع من خلال عدسات السياسة التقليدية ستخفق في إدراك عمقه وتأثيره.
المثير في تجربة المشروع القرآني هو أنه لم يأتِ من رحم الأنظمة، ولم يُؤطَّر ضمن الأيديولوجيات التقليدية التي أسقطتها الأحداث، إنه مشروع خرج من الناس وإليهم، يتغذى على احتياجاتهم، ويستمد قوته من إيمانهم، لذلك فشلت الولايات المتحدة وبريطانيا و”إسرائيل” في كسره؛ لأَنَّهم لا يواجهون جيشًا تقليديًّا أَو حركة سياسية عابرة، بل يواجهون حالةَ وعي جماعي راسخة وسدًّا منيعًا من الصمود والإرادَة.
إن هذا المشروع يقدم للأُمَّـة نموذجًا مختلفًا، ليس لأَنَّه تحدى القوى الكبرى فحسب، بل لأَنَّه أثبت أن النصر لا يتطلب أدوات القوة التقليدية، ويمكن لشعب محاصر أن يصنع معادلة جديدة، يمكن لوعي مستمد من القيم القرآنية أن يتحدى أعتى الإمبراطوريات.
اليوم، عندما ننظر إلى المشهد العربي، لا نجد مشروعاً آخر استطاع أن يصمد أمام الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية بهذا الشكل، فالأنظمة التقليدية إما انهارت أَو استسلمت، والمشاريع الأُخرى تلاشت في زحام المصالح الدولية، وحده المشروع القرآني الذي يحمله اليمنيون استطاع أن يقدّم نموذجًا متكاملًا، يجمع بين المقاومة الشعبيّة، والصمود العسكري، والوعي الثقافي.
إن هذا المشروع لم يظهر من فراغ؛ بل جاء لحكمة ربانية على يد شهيد وقائد ينتمي لمدرسة آل البيت كاستجابة تاريخية لواقع متراكم من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الأُمَّــة الإسلامية.
والثقافة القرآنية كانت العمود الفقري الذي أسّس عليه هذا المشروع، حَيثُ عمل على بناء وعي جمعي قادر على مواجهة أعقد المعادلات الإقليمية والدولية وبالتالي تحول هذا الوعي من مُجَـرّد أدَاة دفاعية إلى حالة هجومية تسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الشعوب وقوى الاستكبار العالمي.
في النهاية، يمكن القول بثقة إن المشروع القرآني الذي يمثل تجربة فريدة لليمن، أثبت أنه أكثر من مُجَـرّد حركة مقاومة، إنه نموذج متكامل لإعادة بناء الأُمَّــة على أسس الوعي والإيمان، رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة لتضعَ أُسُساً جديدةً لبناء أُمَّـة إسلامية قوية، تمتلكُ استقلالية القرار، وتحملُ رسالةً إنسانية متجاوزة للهُويات الضيقة والانتماءات العابرة.
هذه الرسالة، المستمدة من القرآن الكريم، تعيد للإنسان مكانته المركزية كفاعل ومسؤول عن تغيير واقعه، وتحمل في طياتها قيم العدل والسلام التي غُيبت طويلًا في ظل الهيمنة الاستعمارية والتبعية.
إنه مشروع يتحدى الهيمنة ليس بالسلاح فقط، بل بفكرة، بفهم عميق لمعنى الحرية والكرامة، وهذا هو الدرس الأهم الذي يمكن للأُمَّـة أن تتعلمه من التجربة اليمنية، فالقوة الحقيقية ليست في السلاح، بل في الوعي والإرادَة والانطلاق من القرآن وما يجب أن يفهمه الجميع أنه ليس مشروعًا يمنيًّا بل قرآنيًّا جامعاً، خارطة طريق للأُمَّـة لمواجهة أعداء الإسلام والإنسانية.
ولا سبيل للأمتين العربية والإسلامية للخروج من حالة الانحطاط والذل والخضوع للهيمنة الأمريكية والصهيونية إلا بهذا المشروع القرآني الذي يواصل حمله السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، في محاضراته وخطاباته للأُمَّـة، انطلاقاً من مسؤوليته الدينية، وسيأتي اليوم الذي تصدح فيه كُـلّ الأُمَّــة بالصرخة وتتبناها كشعار للمواجهة، فهذه الصرخة التي صدح بها القائد المؤسّس الشهيد حسين الحوثي، وأرادها لتكون مشروع كُـلّ الأُمَّــة وستكون كذلك.
المصدر: المسيرة