الشيخ ياسر مدين يكتب: التشكيك في السيرة النبوية (5)
تاريخ النشر: 31st, August 2024 GMT
بيَّنَّا فى إيجاز أن كتابة السيرة النبوية الكريمة قد بدأت منذ عهد الصحابة الكرام، وأنه نشأ بعدهم جيل من أبنائهم وتابعيهم كانت لهم كتب فى السيرة النبوية، كعروة بن الزبير (ت 93هـ)، وأبان بن عثمان بن عفان (ت 105هـ)، والشعبى (ت 103هـ)، وشرحبيل بن سعد (ت 123هـ).
ثم جاء بعد هذين الجيلين جيل ثالث صنف فى السيرة أيضاً، كعاصم بن عمر بن قتادة (ت 120هـ)، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهرى (ت 124هـ)، وعبدالله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى (ت 135هـ).
وقد أدرك هذا الجيل بعضَ الصحابة الكرام، وتلقى العلم عن الجيل السابق فى تدوين السيرة، واطلع على كتبهم، فكان هذا سبباً فى تطور التصنيف فى السيرة فى هذا الجيل، ويظهر هذا مثلاً فى أن عبدالله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قد أعد قائمة بغزوات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرتبة زمنياً بالسنوات، وليس هذا معناه أن مَن قبله لم يدرك هذا الترتيب، وإنما معناه أنه استوثق علمياً من هذا الترتيب وحسم الخلاف فيه إن وُجد، وذلك من خلال دراسته للسيرة النبوية واطلاعه على ما وُضع فيها قبله، فأخذ عنه هذه القائمة العلمية الموثقة المصنفون فى السيرة والتاريخ الإسلامى من بعده.
وتتلمذ على يد محمد بن شهاب الزهرى ثلاثةٌ ممن ألفوا فى السيرة النبوية، هم: موسى بن عُقبة (ت 141هـ)، ومعمر بن راشد (ت 153هـ)، ومحمد بن إسحاق بن يسار (ت 151هـ) صاحب السيرة المشهورة. أما موسى بن عقبة فكان هو وأخواه إبراهيم ومحمد فقهاء ومحدّثين، لهم حلقة علمية فى مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عُرف موسى بعلمه فى السيرة النبوية، وكتابُه فيها له شأن بين العلماء، حتى قالوا فيه: عليكم بمغازى موسى بن عقبة فإنه ثقة. وقد بقيت بعض الأصول المخطوطة لهذه المغازى وحُققت حديثاً.
وأما معمر بن راشد فهو فقيه مُحدِّث ثقة، وهو مِن أثبت مَن روَى عن الزهرى، وكان له كتاب فى المغازى لم يصل إلينا، لكن نقل عنه أصحاب المغازى والسير الذين وصلت إلينا كُتُبهم كمحمد بن عمر الوَاقدىّ (ت 207هـ).
وثالث هذه الطبقة محمد بن إسحاق بن يَسَار الذى سنقف عنده قليلاً لنعرف شيئاً عن سيرته المشهورة، وما سنذكره هنا سبق إلى درسه بعناية كبيرة المستشرق الألمانى الأستاذ يوسف هوروفتس فى كتابه القيم «المغازى الأولى ومؤلفوها»، الذى ترجمه أستاذنا الدكتور حسين نصار رحمه الله تعالى، وجُلُّ ما فى هذا المقال مأخوذ من هذا البحث القيم.
كان والد محمد بن إسحاق مشغوفاً بجمع الأحاديث، وهذا الجو العلمى الذى وُلد فيه محمد وجَّهه إلى رواية الأحاديث عن والده، وعن غيره من العلماء كالزهرى وعاصم بن عمر وعبدالله بن أبى بكر، وقد روى فى كتابه فى السيرة عن والده وعن هؤلاء جميعاً وعن غيرهم. والمتابع لما سبق رصده فى المقالات السابقة يعلم أن المقصود بالرواية هنا أخذ العلم عن الشيوخ الذين أخذوه عن شيوخهم، حتى يتسلسل السند [سلسلة العلماء] إلى الصحابة الكرام ثم إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى هذا مجرد النقل الشفاهى، فقد كان للعلماء منذ زمن الصحابة مصنفات علمية معروفة مشهورة موثقة قصدهم طُلّاب العلم لأخذها عنهم.
ولم تقتصر رواية محمد بن إسحاق على أولئك الشيوخ السابق ذكرهم فقط، بل قد روى عن غيرهم، حتى إنه روى عن كثير غيرهم من الشيوخ، فروى عن قرابة مائة راوٍ من المدينة المنورة وحدها.
وفى العقد الثانى من القرن الثانى سافر محمد بن إسحاق إلى الإسكندرية، حيث سمع من فقيه مصر وشيخها ومفتيها يزيد بن أبى حبيب (ت 128هـ)، وكان عالماً ثقة كثيرَ الحديث، وهو أحد ثلاثة جعل إليهم عمر بن عبدالعزيز الفُتْيا بمصر، قال عنه الليث بن سعد: هو سيدُنا وعالمنا.
وقد حدَّثَه يزيد بن أبى حبيب بوثيقة عن السفارات التى أرسلها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمراء المختلفين، ورغم أن يزيد عالم ثقة مشهود له بالعلم والتقوى، فإن محمد بن إسحاق قد أرسل هذه الصحيفة إلى شيخه الزُّهْرى ليتحقق من صحتها. وجدير بالذكر أن يزيد بن حبيب نفسه يروى عن الزهرى بطريق المكاتبة
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الصحابة الكرام الجيل السابق
إقرأ أيضاً:
محمد كركوتي يكتب: معضلة الطاقة الأوروبية
لا يزال الأوروبيون يواجهون مصاعب جمة على صعيد الاستغناء عن واردات الطاقة الروسية.
القرار الجماعي بوقف هذه الواردات اتُخذ منذ اليوم الأول للحرب الروسية- الأوكرانية، ولا سيما في أعقاب بدء فرض عقوبات هائلة من قبل الاتحاد الأوروبي على موسكو.
وحاولت بلدان عديدة تعتمد على واردات الطاقة الآتية من روسيا، البحث عن بدائل سريعة، لكنها واجهت مصاعب من ناحية الموقع الجغرافي، إلى جانب ارتفاع قيمة هذه الواردات.
وفي حراك رمزي بداية أرسلت الولايات المتحدة مجموعة من الناقلات الحاملة للطاقة إلى البر الأوروبي، إلا أنها ظلت ضمن نطاق غير فاعل.
فالطاقة الروسية تبقى الأرخص والأسرع، والأسهل من ناحية النقل، خصوصاً بوجود أنابيب مباشرة هائلة الحجم تربط الطرفين.
وضع الاتحاد الأوروبي خططه منذ البداية لوقف الواردات الروسية، ولكنه سرعان ما قرر خفض هذه الواردات لصعوبة التخلي عنها، لكن حتى عملية الخفض هذه منيت بالفشل، باعتراف المفوض الأوروبي للطاقة دان يورجنسن، الذي يعتقد بضرورة اتباع نهج مختلف لحل هذه المشكلة. فالمشتريات الأوروبية من الطاقة الروسية زادت بدلاً من تراجعها. وهذا العام استورد الاتحاد أكثر بحوالي 10% من الغاز الطبيعي الروسي مقارنة بالسنة الماضية. وحتى في العام 2022 الذي اندلعت فيه حرب أوكرانيا، زادت مشتريات الأوروبيين من غاز روسيا 40% ما يعزز الاعتقاد بأن هذه المعضلة الأوروبية، لن تُحل في وقت قريب. ويبدو أن البرنامج الذي أطلقه الأوروبيون باسم «ريباور إي يو»، ويستهدف إنهاء الاعتماد على الغاز الروسي بحلول عام 2027، لن يحقق غاياته في التاريخ المحدد.
ليس أمام الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة، سوى اللجوء إلى الحلول الأخرى، للتخلص من التبعية للطاقة الروسية، وعلى رأسها رفع وتيرة الاعتماد على الطاقة النووية. فدول الاتحاد تتمتع بقدرات كبيرة في هذا المجال، كما أنها حققت قفزات كبيرة منذ أكثر من عقدين من الزمن، في مجال الطاقة المتجددة، لكن يبقى النفط والغاز على رأس مصادر الطاقة حتى اليوم، وعلى المفوضية الأوروبية العمل من دون توقف، للوصول إلى حالة مقبولة في ميدان الطاقة كلها. مسألة الطاقة في القارة الأوروبية عموماً، تبقى معقدة جداً، حتى في أزمنة الاستقرار.