مسرحية خيال صحرا.. الرقص فوق خط التماس
تاريخ النشر: 31st, August 2024 GMT
يكتب المؤلفون الفاجعة، ولا يمكن الحدس أو التأكد إن كانوا يكتبونها وهم يتفادون الألم أم يمعنون في استنزاف جرح الكتابة الغائر.
عادة نحن متورطون -كمتلقين- في الألم، فالكاتب يحكي قضايا عصره، ومتورطون في تفادي الألم، فهذا ما يفعله غالبيّة الناس، ومتورطون بل ربما نحن متواطئون في أداء دور الضحيّة في لعبة الازدواجية التي تحكم مسار الحياة على هذه الأرض.
العروض الناجحة مستمرة لـ #خيال_صحرا لـ #جورج_خباز و #عادل_كرم وهكذا عبر الخباز عن فرحته:"كل الفخر بجمهور عم بيمللي الصالة كل يوم، فرح وضحك وتفاعل وتأثّر، شكراً عالثقة المتجددة، رغم كل شي المسرح موجود بفضلكن، هوي حاجة تعبيرية بكل الأزمان "خيال صحرا" مكفاية لواحد أيلول بنجاح كبير" pic.twitter.com/Me3ksSeQPS
— Bila Rakaba (@BilaRakaba) August 15, 2024
وربما لا يبحث الكاتب المسكون بفكرة ما ونراها تتبدى وتتكرر في معظم أعماله الفنيّة، عن خلاص نهائي في أعماله، لكنه يجرب نوعا من التطهير، والبحث عن إعادة تشكيل صورة الفاجعة أو محفز الكتابة، وربما صورته الذاتية، وصورة مجتمعه، والنزوع نحو جعل القضية التي يحكي عنها، محكية بلغة يفهمها الآخرون، لغة العاديين ولغة الجميع، وساعتها يسهم الفكر الذي تخاطبه الكتابة في إيجاد حلول لها.
تنتظر اللبنانيين والآتين إلى #لبنان، في آب، مسرحية #خيال_صحرا من تأليف #جورج_خباز وإخراجه وبطولته، مع #عادل_كرم.
اجتمع صحافيون في صرح #كازينو_لبنان العريق للاستماع إلى الفنانَيْن يتحدّثان عن عمل يُنتظر أن يُبهر كما يعد صنّاعه، وقلّما يخذل جورج خباز مُتابعاً يقصده ليضحك فتباغته… pic.twitter.com/lqulOMoiDP
— Fatima Abdallah (@abdallah_fatima) July 23, 2024
من يتتبع أعمال الفنان جورج خباز يتمكن من التقاط القضايا التي تسكنه، فهل من جديد قدمه آخر أعماله المسرحية "خيال صحرا"؟
تثير العناوين التي تتخذ من المبتدأ خطابا مبتورا من خبر يصفه، تساؤلات عند المتلقي، لكنها تجعل من العمل الفنيّ كله خبرا. وخباز هنا لا يجرب، هو يعرف أن "خيال صحرا" بما في هذه العتبة من غموض، شيفرة للقلق، وصورة زائغة، يمكن أن تلوّح بضبابيّة الواقع، وقساوته وانفلاته، وفي الوقت نفسه من ترجيع صداه في طريقين: الأول نحو الأنا/الذات، هذه الصحراء هي روحي العطشى وواقعي القاسي وضياعي وبحثي، والثاني نحو الآخر، العربي هنا تحديدا، فالصحراء رمز لبلاد العرب.
ربما تتوحد الصورتان، الأنا الآخر، في صورة الأرض/الصحراء/ الوطن، وهو خيال: فهل يغدو أجمل؟ أم أبعد؟ وهل ينتهي البحث؟ هل تجد الأنا صورتها واضحة؟ كيف؟
مسكونا بالموسيقى يلملم خباز قصة الحرب التي شطرت لبنان إلى قسمين، وعند خط تماس اللبنانيْن، يقف عدوّان، كل بسلاحه وتعصبه وخلفيته الثقافيّة ودينه، وكل بقصته وطموحه ودوافعه. ولأنّ الزمن يموت في الحرب، وخلال هدنة عرفتها بيروت في سبعينيات القرن الماضي، توقف فيها إطلاق النار على الآخر، يفتح القدر بوابة زمنيّة، فاصلا قصيرا فيحكي كل منهما قصته وأحلامه للآخر
مسكونا بالموسيقى يلملم خباز قصة الحرب التي شطرت لبنان إلى قسمين، وعند خط تماس اللبنانيْن، يقف عدوّان، كل بسلاحه وتعصبه وخلفيته الثقافيّة ودينه، وكل بقصته وطموحه ودوافعه. ولأنّ الزمن يموت في الحرب، وخلال هدنة عرفتها بيروت في سبعينيات القرن الماضي، توقف فيها إطلاق النار على الآخر، يفتح القدر بوابة زمنيّة، فاصلا قصيرا فيحكي كل منهما قصته وأحلامه للآخر.
في هذا الفاصل يحلل خباز أسباب الحرب، يعرف المقاتلين، يكشف الأسباب النفسية والاجتماعية والعقدية التي جعلت كل واحد منهما ينخرط في الحرب، وبالرغم من التناقضات في الظاهر، يشبهان بعضهما، كلاهما له أسباب جعلته متورطا في حرب يريدها أن تنتهي كي يعيش. كلاهما يدعي القوة وهو ضعيف، كلاهما يحب أمه ويعشق امرأة، وكلاهما يحلم.
في لحظة الحلم يبدأ الرقص. يغيب البطلان في رقصة مشتركة، تصعد فيها الأنا فوق كلّ شيء، تلغي الحدود وتنتصر على خذلان الواقع وتجد لها مكانا في أرض خفيفة تنقذها من لا جدواها ولا فعاليتها.
يحلل خباز أسباب الحرب، يعرف المقاتلين، يكشف الأسباب النفسية والاجتماعية والعقدية التي جعلت كل واحد منهما ينخرط في الحرب، وبالرغم من التناقضات في الظاهر، يشبهان بعضهما، كلاهما له أسباب جعلته متورطا في حرب يريدها أن تنتهي كي يعيش. كلاهما يدعي القوة وهو ضعيف، كلاهما يحب أمه ويعشق امرأة، وكلاهما يحلم. في لحظة الحلم يبدأ الرقص. يغيب البطلان في رقصة مشتركة، تصعد فيها الأنا فوق كلّ شيء، تلغي الحدود وتنتصر على خذلان الواقع وتجد لها مكانا في أرض خفيفة تنقذها من لا جدواها ولا فعاليتها
ولأن الحلم خفيف ينتفي الزمن، يقف خباز وكرم وقد انتهى الرقص (الحلم) الجامع وانتهت الحرب.. خيالان عن ماضٍ، يحكي كلّ منهما عن خذلان الأحزاب، الذين تسلقوا فوق الجثث وكيف تحولوا إلى رأسماليين لا وقت لديهم لرفاق الأمس، وهنا تصبح لحظة الآن في لبنان هي اللغة المشتركة، الديون والغلاء والمرض وغياب الدولة والعمر وقصص الأبناء وتجاربهم المختلفة، والخوف من المجهول أمام أبواب المصارف التي يحرسها قتلة الماضي.
"خيال صحرا" لجورج خباز توضح المشهد التاريخي والثقافي والوجودي في لبنان، وحجم الخسائر المعنوية التي يتكبدها اللبناني، وحاجته إلى التجذر وبحثه عن مكان يركن إليه ويشع منه، وهو يحيا قضايا الخسران، ويخشى الحرب التي تتمظهر في تفاصيل يومه العادي، ويكتب كارثيّة التحولات التي ظل اللبناني يهرب منها، في دولة تنبذه وتلغيه.
لا أشعر أن توقيت عرض العمل صدفة، اليوم هو الرابع من أغسطس/آب وقد بدأت العروض على مسرح كازينو لبنان في الثاني من أيام الشهر، يلمح خباز إلى كارثة المرفأ، يشير إلى استمرار الفاجعة، إلى الانقسام على كلّ شيء، إلى فوضى الحلول وانعدامها، إلى تراشق الاتهامات، إلى حدة الخطاب، إلى الآخر بما هو عدو، إلى سرابية المواقف وضياع الحقيقة، إلى التوتر والقهر وميراث ثقيل من الخيبات، في وقت مصيري تشهده المنطقة والعالم، تنعقد فيه المصالحات، ويموت الأطفال بدون سبب.
هذه الازدواجية توقّف الزمن فتبحث الذات المتفجعة عن خيال، ولا نعرف أيهما أقسى الموت أم الحياة.. ساعتها يستاويان أمام غياب الوطن (الأنا).
بهذا العنوان يفتح خباز باب التساؤل، وقد ورطنا في تأويل دلالته، بل ورطنا في الرقص معه فوق ألغام حروبنا الصغيرة، وربما تلك الكبرى، وبالقدر نفسه من الخفة كي لا يستمر الوهم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات جورج خباز فی الحرب
إقرأ أيضاً:
العدالة الغربية المزعومة: مذكرة اعتقال أم مسرحية هزلية؟
#العدالة_الغربية_المزعومة: #مذكرة_اعتقال أم #مسرحية_هزلية؟
بقلم : ا د #محمد_تركي_بني_سلامة
في خطوة تبدو أشبه بمشهد من مسرحية عبثية، أصدرت #المحكمة_الجنائية_الدولية مذكرة اعتقال بحق رئيس وزراء إسرائيل بنيامين #نتنياهو ووزير الدفاع السابق #غالانت. للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر كإنجاز قانوني كبير، لكنه في الحقيقة لا يتجاوز كونه جزءًا من لعبة دولية مزدوجة المعايير. نتساءل بمرارة: أين كانت هذه العدالة المزعومة عندما كانت غزة تُقصف بشراسة؟ عندما كان الأطفال يُقتلون تحت الأنقاض، والمنازل تُسوى بالأرض؟ أهي عدالة دولية حقيقية أم أنها تُفتح أعينها فقط على الجرائم عندما لا يكون الدم فلسطينيًا؟
هذا القرار، وإن بدا صادمًا للبعض، إلا أنه يثير الشكوك حول نوايا الغرب ومؤسساته التي تتغنى بحقوق الإنسان والعدالة. الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل على مدى عقود طويلة بحق الفلسطينيين، والتي تُعتبر في كل القوانين الدولية إبادة جماعية وجرائم حرب، تم تجاهلها بشكل صارخ من قبل هذه المؤسسات. فما الذي تغيّر الآن؟ هل هي صحوة ضمير متأخرة أم لعبة سياسية جديدة لتحقيق أهداف لا علاقة لها بالعدالة؟
لقد أصبح نفاق الغرب وازدواجية معاييره أمرًا لا يخفى على أحد. الغرب الذي يتحدث عن حقوق الإنسان ويدّعي حماية الحريات، يغض الطرف عن الإبادة اليومية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. كم من أطفال فقدوا حياتهم بسبب القصف الإسرائيلي؟ كم من أسر شُردت بسبب الحصار والاحتلال؟ ومع ذلك، لا نجد سوى صمت دولي وتواطؤ واضح.
مقالات ذات صلة ارتفاع أسعار النفط والذهب بعد تحذيرات بوتين 2024/11/22تصدر المحكمة الجنائية الدولية اليوم مذكرة اعتقال، ولكن أين كانت عندما كان نتنياهو يفاخر علنًا بسياسة القتل والتهجير؟ أين كانت العدالة الدولية عندما كانت غزة تُحاصر لسنوات طويلة، وتُمنع عنها أبسط مقومات الحياة؟ يبدو أن هذه المؤسسات لا تتحرك إلا إذا كان المجرم من الدول الضعيفة أو غير المحسوبة على الحلف الغربي. أما عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن العدالة تُصبح فجأة عمياء وصماء.
في ظل هذا النفاق الدولي، نجد أن الموقف العربي والإسلامي لا يقل خذلانًا. فبدلًا من أن يكون هناك صوت موحد يواجه الجرائم الإسرائيلية ويدافع عن الحق الفلسطيني، نجد صمتًا مطبقًا، وأحيانًا تخاذلًا يصل إلى حد التعاون مع المحتل. كيف يمكن للعالم العربي والإسلامي أن يقف موقف المتفرج بينما يُسحق الشعب الفلسطيني؟ أين ذهبت مواقف التضامن والكرامة؟
هذا الصمت لا يخدم سوى إسرائيل ومن يدعمها. فمن خلال ضعف المواقف العربية والإسلامية، يتم تمكين الاحتلال من التوسع والتمادي في جرائمه دون أي خوف من المحاسبة. الشعب الفلسطيني يُترك وحيدًا في مواجهة واحدة من أقوى الآلات العسكرية في العالم، بينما يكتفي العالم الإسلامي بالشجب والاستنكار اللفظي، دون خطوات فعلية على الأرض.
لنكن واضحين: العدالة الحقيقية لا تُنتزع من قاعات المحكمة الجنائية الدولية أو من مؤسسات غربية تحمل أجندات خفية. العدالة الحقيقية تأتي من إرادة الشعوب، من كرامتها وصمودها. الشعب الفلسطيني كان وما زال مثالًا للصمود رغم كل الجرائم والانتهاكات. لكن هذا الصمود يحتاج إلى دعم حقيقي من الأمة العربية والإسلامية، ومن كل من يؤمن بالحق والعدل في هذا العالم.
مذكرة الاعتقال هذه، رغم ما قد تحمله من رمزية، لا تعني شيئًا إذا لم تُترجم إلى خطوات فعلية على الأرض. أين التنفيذ؟ وأين المحاسبة الفعلية؟ يبدو أن هذه الخطوة ليست أكثر من محاولة لإظهار “الحياد” الدولي، في وقت تستمر فيه الجرائم بحق الفلسطينيين دون أي رادع حقيقي.
حتى إشعار آخر، ستبقى هذه المذكرة جزءًا من مسرحية “عدالة الغرب”، وسنظل نشهد ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية. لكن الأمل يبقى في إرادة الشعوب وصمودها. الفلسطينيون لم ولن ينسوا حقوقهم، مهما طال الزمن. أما العالم العربي والإسلامي، فلا يزال هناك وقت لاستعادة الكرامة واتخاذ موقف حقيقي ينحاز إلى الحق والعدل.
العدالة ليست شعارات ترفعها القوى الكبرى لتبرير أفعالها. العدالة هي صوت الشعب، وهي إرادة الصمود، وهي الحقيقة التي لا تموت مهما حاول الغرب تزييفها.