السودان: حرب وجوع وسيول وامراض عيون وكوليرا
تاريخ النشر: 30th, August 2024 GMT
منتدي الاعلام السوداني : غرفة التحرير المشتركة
إعداد ونحرير : مركز الالق للخدمات الاعلامية
ام درمان : 30 أغسطس 2024 - في الوقت الذي يتطلع فيه السودانيين للسلام ووقف الحرب ومحاولات المجتمع الدولي لإيقاف صوت البنادق وعقد اتفاقات مع الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لتتمكن المنظمات التي تعمل في غوث اللاجئين من إيصال المساعدات الإنسانية لإنقاذ الأرواح حيث أن اكثر من 25 مليون سوداني يعانون من الجوع بينهم عشرة ملايين نزحوا من منازلهم بحثا عن ملاذات آمنة داخل وخارج السودان.
تزداد معاناة السودانيين وخوفهم من الموت نتيجة الجوع أو المرض الناجم أيضا عن الجوع وتدهور إصحاح البيئة نتيجة للقصف والتدوين وتناثر الجثث وانفجار محطات المياه.
انتشار واسع للإمراض بسبب تلوث البيئة وانعدام المياه النقية:
نتج عن كل ذلك انتشار واسع لإمراض كثيرة مثل الكوليرا والدسنتاريا وإمراض العيون مثل الرمد والملتحمة حالات متزايدة يعجز الوضع الصحي المنهار بفعل الحرب من الاستجابة لها، حيث فقدت 80 % من البنى التحتية للمؤسسات الصحية مقوماتها وأغلبية المرافق الصحية في بؤر النزاع الساخنة أصبحت لا تعمل.
أما المرافق في المناطق التي لم تتأثر بشكل مباشر بالنزاع، فهي تعاني من اكتظاظ المرضى وحالات الاعتداء التي يتعرض لها الأطباء والمسعفين من المتطوعين من أبناء تلك المناطق.
مع استمرار القصف والقتل فان اكثر ما يزعج أهالي امدرمان في كل من امبدة وكرري هو التزايد الكبير في انتشار كثير من الإمراض الوبائية من بينها الاسهالات المائية والكوليرا حيث بلغت الإصابات بالاسهالات المعوية الشهر الماضي في منطقة كررى والتي تمكن أصحابها من الوصول للمركز الصحي 165 حالة منها 102 إصابة لأطفال.
ومن الإمراض التي أصبحت شائعة مرض التهاب العيون مثل الملتحمة والرمد مع احمرار شديد في العيون حيث أن الحالات التي تصل المركز من إلى40 إلى 50 للعلاج يوميا وهنالك من يعزف عن الحضور مكتفين بالعلاج البلدي كل ذلك يقابله ضعف شديد في الخدمات الطبية وعدم توفر المحاليل الذى يغطى حاجة المرضى كما لا تغطى الحالات المتزايدة لمرضى العيون من قطرات ومراهم التترسايكلين، حيث لا تتعدى أصابع اليد وسعرها في الصيدليات يتزايد بشكل يومي فقد وصلت إلى 8 الف جنيه للقطرة والمراهم.
خبيرة في مجال الرعاية الصحية الأولية توضح قائلة "انه وفي ظل الانهيار الواسع في القطاع الصحي والنقص في عدد الكادر الطبي نجد انه قد توجد بعض المراكز الصحية في بعض المناطق سواء تلك التي تقع تحت سيطرة الدعم السريع أو التي تقع تحت سيطرة الجيش ولكنها مراكز تعمل بالأجر وصيدلياتها تبيع الأدوية فهي ليست مجانية وذلك معروف قبل الحرب ولكن الآن، وبسبب الحرب والقصف اليومي توقفت محطات المياه التي تسقى الناس مياه نظيفة مما تسبب في ندرة شديدة في الحصول على المياه النقية، وفي الوقت نفسه، تجد هنالك طفح في المجاري والخيران حيث أن اغلب البيوت في امدرمان دورات المياه فيها عبارة عن حفرة. لذلك فإن ظهور حالات الإمراض المعوية والاسهالات المائية ناتج عن تلوث شديد في البيئة بسبب ذلك، ويشكل غياب نظام الرعاية الصحية الأولية كارثة حقيقية لأن المياه الموثة تسبب أمراضا كثيرة.
تنتشر إمراض العيون والتهاب الملتحمة لأن الناس تغسل وجهها بالمياه الملوثة، والآن أخطر الإمراض هي الكوليرا التي سترتفع نسبة المرض بها بسبب التلوث. وهنالك أيضا مرض خطير يتسبب فيه تراكم المياه وهو حمى الضنك الذى تسببه توالد نوع من البعوض الناقل للمرض في المياه الراكدة.
رغم تصريحات وزير الصحة حول الحاجة للأدوية أستطيع أن أشير إلى أن المسالة ليست أدوية فقط بل عمل على الأرض ينبغي أن يحدث وهو عملية النظافة والرش بالمبيدات.
وظهرت في كررى إمراض جلدية حالة إصابة بمرض الجرب وحالة واحدة من مرض جدري القردة ولكن أي مرض تكون البداية بحالة ومن ثم تزيد وهو مرض منتشر في الكونغو وهى دولة متاخمة للجنوب ولدينا الرنك حيث يتنقل الناس بين البلدين بصورة عادية في ظل غياب تام لحملات التوعية حيث لا توجد ملصقات أو برامج تووعوية يبثها الإعلام الرسمي والتقليدي لتحذير الناس ورفع وعيهم، بل بالعكس كل ذلك لا يتم ذكره من قبل وزارة الصحة حيث تتم التغطية على ما يحدث ويتم اكتشاف المرض بعد انتشاره، الآن هنالك الكوليرا ظهرت في القضارف لأنه لم يبذل أي جهد لمكافحتها عندما ظهرت في كسلا بالإصحاح البيئي في ظل الوضع الراهن حيث لا يستطيع أن يقوم به عمال الصحة فقط بل ينبغي أن تكون هنالك حملات ضخمة يقوم بها الشباب المتطوعين بعد أن يتم تزويدهم بالأدوات والمبيدات الأزمة للعمل.
العمى الليلي والاسهالات الأكثر شيوعا:
أما في محلية امبدة حيث الكثافة السكانية العالية أغلبيتهم يمارسون الأعمال البسيطة كعمال يومية أو باعة في الأسواق أما النساء معظمهن يعملن في بيع الأطعمة والشاي لتغطية نفقات الأسرة.
أشار احد المتطوعين إلى أن معظم الأهالي امبدة من الحارات 43 و51 52 والحارات المتاخمة لها من ود البشير قد فضلوا عدم مغادرة بيوتهم رغم القصف بالطائرات والتدوين الذى يتعرضون له يوميا وحوادث القتل الذى تنقلها وسائل الإعلام الذى أؤدى بحياة اسر كاملة وهو امر ظل يحدث بصورة يومية لم يغادروا لأسباب متعددة ابرزها انهم اسر كبيرة ولا يملكون الأموال التي تمكنهم من السفر إلى ولايات آمنة إلى أن بعضهم يخشى من أن يتعرضوا للاعتقال من قبل احد الطرفين لذا فقد اختاروا البقاء في انتظار القدر.
تعتبر منطقة كررى الأسوأ حالا حيث تقع تحت سيطرة الدعم السريع ويتعرض المواطنون فيها لشتى أنواع الانتهاكات والنهب والاعتقال مركز الطواري الوحيد الذى يغطى منطقة امبدة الحارات ٤٣ و ٥١ وودالبشير كان عبارة عن مركز يستقبل الحالات الطارئة مثل الولادات ومداواة الجروح التي تنجم عن الطلقات الطائشة التي يتم تضميدها أما الحالات الحرجة التي تحتاج لعمليات يتم تحويلها لمستشفيي النو بمذكرة، وفي المركز توجد قابلة واحدة قامت بتوليد 500 امرأة، والكادر الطبي فيه يتكون من مساعدين طبيين وممرضين ومسعفين تم تدريبهم على الإسعافات الأولية يعمل معظم هؤلاء كمتطوعين فيمنحون بعض من زمنهم للعمل.
الآن اكثر ما يقلقهم على حد تعبير احد المتطوعين من المسعفين الذى يعملون في غرفة الطوارئ هو انتشار مرض الاسهالات المائية حيث ترد للمركز يوميا ما بين -15-20 حالة يقابلها نقص في الدربات والمحاليل بالإضافة إلى مرض الدسنتاريا الذى اصبح شائعا بمعدل 40 حالة يوميا، وقبل اقل من شهرين اصبح هنالك انتشار واسع لإمراض العيون خاصة الرمد الذى يصاحبه احمرار شديد حيث أشار إلى أن 80% من المواطنين خاصة الأطفال مصابين بالرمد، واكثر ما بات يزعجهم مؤخرا هو انتشار مرض العمى الليلي وضعف الأرجل وعدم القدرة على المشي وأشار الأطباء إلى ان ذلك ناجم عن النقص في الفيتامينات ويتم علاجه عبر جرعة دواء يأخذها المريض وهى عبارة عن ٣ حبات بعدها يتماثل للشفاء لكنها انعدمت الان كما انعدمت أيضا القطرات ومراهم التتراسايكلين في مركز الطواري الأمر الذى جعل المواطنين أو يلجؤون لاستخدام الأدوية البلدية، مشيرا إلى أن نشط تجار الأدوية (الحروب) باتت أسعارها عالية ليس في مقدور مواطن يطحنه الجوع والمسغبة وويلات الحرب توفير المال لشرائها وعليه فقد لجا الناس في امبدات تحديدا للاستعاضة بصفق شجر النبق لإيقاف الاسهالات والأعشاب الأخرى لعلاج إمراض العيون أما العمى الليلى والألم في الأرجل يحتاج للغذاء الذى يحتوى على فايتمين سى أو الثلاثة حبات التي أصبحت مراكز الطواري خالية من الدواء أو تصلها كميات محدودة لا تغطى الأعداد المتزايدة من المرضى وقال انه وبسبب الحالة الأمنية فان المركز يعمل لساعات محددة الأمر الذى لا يمكن الناس من الحصول على العلاج حتى القليل المتوفر مما يعرض حياة كثير من المواطنين بالمنطقة للخطر.
مناشدات دولية:
مما يجدر ذكره أن منظمة الصحة العالمية، قد أعلنت عن تفشي الكوليرا في ثلاث ولايات في جميع أنحاء السودان، وهي القضارف والخرطوم وجنوب كردفان، كما تم الإبلاغ عن حالات اشتباه في ولايتي الجزيرة وكسلا.
وحذر المسؤول فيها من أن الكوليرا آخذة في الانتشار بسرعة بسبب الظروف المواتية المتمثلة في المياه غير الآمنة وسوء أوضاع الصرف الصحي والنظافة والنزوح وضعف الخدمات الصحية.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 3.1 مليون شخص معرضون لخطر الإصابة بالكوليرا حتى نهاية كانون الأول/ديسمبر
وكانت منظمة الصحة العالمية قد حذرت كذلك من أن الكوليرا والملاريا وحمى الضنك آخذة في الارتفاع. وأعربت عن قلقها إزاء نقص العلاج للأشخاص الذين يعانون من إمراض مزمنة مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم وإمراض القلب والفشل الكلوي وان تداعيات الحرب على القطاع الصحي والرعاية الصحية الأولية امر مريع وانعدام المياه النظيفة وغياب المعالجة الصحية للمياه يجعل أرواح الناس في خطر
وأوضحت منظمة أطباء بلا حدود في تقريرها أن المدنيين في السودان يعانون من أنواع عنف مروعة نتيجة للهجمات المتكررة وانتهاكات بعد مرور اكثر من عام من الحرب بين الدعم السريع والجيش السوداني و أن الإصابات الجسدية والنفسية قد تزايدت بشكل كبير بسبب الانهيار الصحي وغياب الاستجابة الدولية للمساعدات الإنسانية ورغم أنها عالجت الألاف من الجرحى في المناطق المتضررة من القصف للمباني السكنية والبنى التحتية التي اصبح معها الحصول على الرعاية الطبية والأدوية المنقذة للحياة واصبح من الصعب الحصول عليها في ظل الحرب والهجمات التي يتعرض الهيا العامليين في القطاع الصحي من أطباء وممرضين ونهب الإمداد الطبي والاعتداء على الأطباء وعدم توفر الأمن في ظل عدم اكتراث الدعم السريع والجيش بالحياة البشرية والقانون الدولي الإنساني وروى المواطنون في مناطق الصراع ودور الإيواء حكايات مروعة وقاسية للعنف الذى يتعرضون له من حاملي السلاح إلى جانب الإخلاء القسري والنهب والسلب الذى اصبح ملازما لحياتهم اليومية
ينشر هذا التقرير بالتزامن في منصات المؤسسات والمنظمات الإعلامية والصحفية الأعضاء بمنتدى الإعلام السوداني
#ساندوا_السودان
#Standwithsudan
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع إمراض العیون إلى أن
إقرأ أيضاً:
كيف عطلت الحرب تقاعد والدي؟
عبد الله قريضة
في نهاية 2023، تقاعد والدي، أستاذ المرحلتين المتوسطة والابتدائية السابق، بعد عقود من التدريس وتشكيل عقول التلاميذ والطلاب في السودان، وعبر عمله في لجنة المناهج ومعهد تدريب المعلمين، كانت حياته، مثل العديد من زملائه، يكسوها التزامه غير المشروط بالتعليم والتنمية الفكرية للعقول الشابة، لكن رحلته إلى التقاعد، والتي كان من المتوقع أو المفترض أن تكون لحظة من الكرامة والمكافئة، تحولت بقدرة قادر إلى صراع مرير.
كانت الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 تعني أن العديد من المعلمين والأساتذة في جميع أنحاء السودان، تُركوا لحالهم في طي النسيان – متقاعدين غير قادرين على التمتع بحقوقهم والمزايا المالية والضمان الاجتماعي الذي استحقوه مقابل الخدمة طوال عمر الإنجاز، قصة والدي ليست سوى واحدة من بين عدد لا يحصى من القصص الأخرى، التي ترمز إلى الأزمة الأوسع التي يقاسيها المعلمون المتقاعدون خلال هذه الحرب.
عندما اندلعت الحرب في السودان في الخامس عشر من أبريل 2023، تدهورت البنية الأساسية للبلاد، والتي وسمتهت الهشاشة نتيجة لسنوات من عدم الاستقرار، وقادتها الحرب إلى مزيد من الفوضى والانهيار. تعطلت معظم المؤسسات الحكومية، بما في ذلك تلك التي تتعامل مع المعاشات التقاعدية ومسائل التقاعد وتأخرت المدفوعات، وانهارت الخدمات الاجتماعية، ووجد أولئك الذين كرسوا حياتهم للخدمة العامة أنفسهم مهجورين ومنسيين.
لقد كان التأثير بالنسبة للمعلمين والأساتذة المتقاعدين كارثيا، ففي السودان، يمنح القانون موظفي الخدمة المدنية حزمة تقاعد تشمل معاشًا تقاعديًا ومكافأة نهاية الخدمة ومزايا مالية أخرى في معظم الأحوال مع بعض الاختلافات التي تظهر في بعض المؤسسات مثل بنك السودان والقضاء وغيرها. في الغالب يهدف هذا النظام إلى تزويد الأفراد المتقاعدين بالحد الأدنى من الموارد الضرورية لعيش سنوات ما بعد الخدمة في راحة، أو على الأقل دون قلق مالي. ومع ذلك، فإن الصراع جعل هذه الحقوق نظرية إلى حد بعيد، كون المتقاعدين اليوم عالقين في فراغ بيروقراطي خلفه إغلاق المؤسسات الحكومية أو تدميرها، كما تركهم غير قادرين على الوصول إلى معاشاتهم التقاعدية أو المزايا والخدمات الأخرى، بينما تكافح الحكومة للحفاظ على الوظائف الإدارية الأساسية مكتفية بحكومة صغيرة قوامها كابينة غير مكتملة عقب انهيار حكومة الشراكة بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر.
أزمة قديمة متجددةإن جوهر هذه القضية يكمن في انهيار الجهاز الإداري الكبير في السودان، فالموظفون الحكوميون المسؤولون عن متابعة إجراءات التقاعد إما فروا من العنف، أو نزحوا، أو لم يعد بوسعهم أداء واجباتهم بسبب تدمير السجلات والمكاتب والشبكات. لقد تُرك المهنيون المتقاعدين مثل والدي ينتظرون بغير جدوى، وإلى أجل غير مسمى الأموال والمخصصات المستحقة التي قد لا تأتي أبداً.
وعلى وجه الخصوص، يواجه المعلمون المتقاعدون وأساتذة الجامعات صعوبات شديدة أخرى تتمثل في توقف رواتبهم واستحقاقاتهم الشهرية والسنوية، بالإضافة إلى خدمات الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي وغيرها من المزايا التي على قلتها كانت قد كفلت لهم بعضاً من الكرامة والحماية. ويضمن القانون السوداني للمعلمين، عند تقاعدهم، الحق في الحصول على مبلغ (مستقطع) ومعاش شهري ومكافآت أخرى، مثل مكافأة نهاية الخدمة، وبدل الترحيل والمتابعة وغيرها، لكن في الممارسة العملية، أجلت أو ألغت الحرب كل هذه الحقوق بضربة واحدة، ومع إغلاق البنوك أو تشغيلها جزئياً فقط في بعض المناطق، وعدم قدرة العديد من المكاتب الحكومية على مواصلة العمل، أصبح المتقاعدون في مهب رياح الفقر والحاجة.
وعلاوة على ذلك، أصبحت البيروقراطية المرتبطة بالتقاعد ومؤسسات مثل الصندوق القومي للمعاشات وصناديق الضمان الاجتماعي الخاصة الأخرى أكثر تعقيداً بسبب الحرب، وكذلك بسبب ارتباط هذه المنظومة بكيانات مصرفية واستثمارية إما توقفت تماماً، أو سيطر على نشاطها الاقتصادي أشخاص نافذون في حرب أبريل، فقد كانت كل المكاتب الحكومية الخاصة بمعالجة ملفات التقاعد تقع في الخرطوم، حيث تتم معالجة أغلب أوراق التقاعد، وهي اليوم في مرمى النيران ومهجورة، وفقدت صلاتها الإدارية بعدد من المكاتب الفرعية في الولايات التي شهدت أو تشهد أعمال قتالية. ووجد العديد من المتقاعدين، وخاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية، صعوبات بالغة في الوصول إلى الأوراق اللازمة لبدء أو متابعة طلبات التقاعد الخاصة بهم.
لقد عانى المعلمون السودانيون، وخاصة أولئك الذين يعملون في المدارس والجامعات العامة، من الإهمال المنهجي لفترة طويلة، حيث انخفاض الأجور وقلة الإنفاق على التعليم، وكثيراً ما تكون الرواتب والاستحقاقات المالية منخفضة، وكانت الإضرابات المتكررة خلال الفترة الانتقالية بمثابة استجابة متكررة لظروف العمل السيئة وغير المنصفة. وحتى قبل الحرب، كان المعلمون وأساتذة الجامعات يضطرون في كثير من الأحيان إلى استكمال دخلهم بوظائف أخرى لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
والآن، بعد تقاعدهم، يواجهون واقعًا أكثر قتامة. فالعديد من المعلمين المتقاعدين غير قادرين على تحمل تكاليف الضروريات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والرعاية الصحية، وخاصة في ظل ارتفاع التضخم وندرة السلع بسبب الحرب، ولا تتناسب حجم الاستقطاعات التراكمية مع القيمة الثابتة للمعاشات المقبوضة بواسطة المستفيدين في النهاية، حتى بعد التعديلات الأخيرة التي أصدرتها وزارة شؤون مجلس الوزراء والقاضية بتحسين معاشات الصندوق الوطني للمعاشات والتأمينات الاجتماعية/ القطاع الحكومي بنسبة بلغت ٣٠٠٪، أي من حوالي سبعة وثلاثين ألف جنيه سوداني للدرجة السابعة عشر، إلى ثمانين ألف جنيه سودان للدرجة الأولى الخاصة، فهي زيادة لن تكون قادرة على كف يد التضخم عن المعاشيين السودانيين الذين يرزحون في بؤس بالغ، حيث يواصل التضخم في السودان الارتفاع بوتيرة متصاعدة حيث ارتفع من ١٣٦.٦٧٪ في بداية العام الحالي إلى ١٩٣.٩٤ ٪ في أغسطس الماضي بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، هذا وتضاعفت أسعار السلع الغذائية وأسعار الدواء بشكل يجعلها بعيدة عن متناول المعلمين والمعاشيين على السواء، ويعاني عدد كبير من المعاشيين في السودان من الأمراض المزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري وغيرها. وفي غياب القدرة على الوصول إلى معاشاتهم التقاعدية، اضطر البعض إلى البحث عن عمل (لقد اختار مديري الأسبق العمل في الرعي لتوفير قوت يومه)، أو الاعتماد على أفراد الأسرة أو الجمعيات الخيرية والمطابخ العمومية للبقاء على قيد الحياة. أما الآخرون، غير القادرين على إيجاد الدعم، فقد أصبحوا بلا عائل تقريباً.
الحقوق القانونية والحربمن حيث المبدأ، يوفر القانون السوداني إطاراً نظريا لحماية المتقاعدين، ومن المفترض أن تضمن صناديق التأمين الاجتماعي والمعاشات التقاعدية، الذي أنشأته الدولة، حصول موظفي الخدمة المدنية على معاشاتهم التقاعدية وغيرها من المزايا دون تأخير. ولكن الحرب، كما أثبتت مراراً وتكراراً، لا تهتم كثيراً بالأطر القانونية.
لقد أدت الفوضى الناجمة عن الحرب إلى حالة لم يعد معها بالإمكان الحصول على الحقوق القانونية. وحتى في الحالات التي توجد فيها قوانين لحماية المتقاعدين، فإن عجز الدولة عن فرض هذه الحقوق في أثناء زمن الحرب جعل العديد من المعلمين السابقين يشعرون بالخيانة وبأنهم ربما لن يحصلوا على أي شيء قريباً. ويجد المعلمون والأساتذة الذين تقاعدوا في أثناء الحرب أنفسهم في منطقة ميتة إدارياً ومالي، أو على الضفة الأخرى من النهر، ولا تزيد الجهود الحكومية للتصدي لهذه المأساة الجماعية عن كونها تطمينات لا أفعال، في وقت سابق، من شهر مارس رد السيد وزير المالية على سؤال عن المعاشات عبر مقابلة مع الجزيرة مباشر بأن “وزارة المالية تقوم بتوريد استحقاقات المعاشيين في حساباتهم البنكية، وأن أي مشكلة بسبب نزوح المستفيد أو توقف الخدمات المصرفية في منطقته، فهذا أمر آخر” وهذا ادعاء يكذبه الواقع حيث وبحلول الشهر الماضي، فإن الخدمات المصرفية متوقفة في عشر ولايات بما فيها الخرطوم والجزيرة وجنوب دارفور، والتي تضم العدد الأكبر من المعاشيين، ولم يتلق المعلمون في هذه الولايات سودانية مرتباتهم منذ بداية هذا العام ناهيك عن المعاشيين.
فضلاً عن ذلك، فإن نظام التقاعد في السودان عانى بالفعل من ضغوط شديدة قبل الحرب. فقد أدت العقوبات الاقتصادية، والتضخم المتسارع، وسنوات طويلة من سوء الإدارة والتخطيط إلى نقص التمويل لنظام الضمان الاجتماعي، بالرغم من الاستقطاعات الضخمة، وتسهيلات الاستثمار الواسعة التي تم ضمانها للقطاع، حيث يعد الجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي أكبر المؤسسات الحكومية التي تملك قاعدة عريضة من الشركات والكيانات الاستثمارية في السودان، ومع اندلاع الحرب، دُمرت تقريباً أي سانحة متبقية لدعم قطاع المتقاعدين.
بالنسبة للمعلمين، من المفترض أن يكون التقاعد وقتًا للتأمل والراحة وحصاد ثمار الإنجاز والتضحية، وربما الانخراط في العمل الفكري والمجتمعي بطرق جديدة، ولكن في السودان، حطمت الحرب هذه الرؤية. فالمعلمون المتقاعدون، وأغلبهم من كبار السن الذين يحتاجون إلى رعاية طبية دائمة، يعيشون اليوم في حالة من عدم اليقين والقلق. والواقع أن الخسائر النفسية الناجمة عن انعدام الأمل هائلة ومفزعة.
ففي ظل غياب الاستقرار المالي الذي توفره معاشات التقاعد ومزايا التقاعد، يواجه المعلمون المتقاعدون ضغوطاً يومية للبقاء على قيد الحياة في بلد مزقته الحرب بالفعل، وبالنسبة لأولئك الذين كرسوا حياتهم لتعليم الآخرين، فإن هذا التجاهل الكريه من جانب الدولة يبدو وكأنه خيانة شخصية ومهنية عميقة.
وعلى الرغم من عجز الحكومة عن توفير هذه الاحتياجات، فقد بذلت منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية جهوداً للتدخل وتسليط الضوء على هذه الفئة، فقد حاولت جماعات المجتمع المحلي في السودان تقديم الدعم للمعلمين المتقاعدين، كما ركزت بعض المنظمات غير الحكومية الدولية على توفير الضروريات الأساسية للفئات السكانية الضعيفة، بما في ذلك كبار السن. ومع ذلك، فإن هذه الجهود مجزأة وضعيفة، ولا يمكن أن تحل محل الدعم المنهجي الذي يجب على نظام التقاعد الوظيفي أن يوفره، ومع استمرار إعاقة وصول المساعدات الإنسانية إلى السودانيين يجد المعلمين والأساتذة المتقاعدين بشكل خاص أنفسهم عالقين في مأزق جيوسياسي استثنائي، حيث تكافح حتى المساعدات حسنة النية للوصول إليهم.
نداء للاهتماممع استمرار الحرب في السودان، تظل محنة المعلمين المتقاعدين وأساتذة الجامعات جانباً مهملاً إلى حد كبير، لقد أمضى هؤلاء المعلمون حيواتهم في تشكيل عقول الشباب السوداني، ليجدوا أنفسهم مهجورين من قبل النظام الذي خدموه وقدموا له أعمارهم. وفي غياب الاهتمام العاجل بحالتهم، سيستمر جيل من المعلمين في المعاناة في صمت، وستنسى مساهماتهم الجليلة في خدمة الناس وسط الفوضى.
يتعين على الحكومة السودانية والمنظمات الدولية والمجتمع المدني أن يضعوا الأمن المالي ورفاهية المهنيين المتقاعدين على رأس أولوياتهم. لقد كان المعلمون والأساتذة ركائز أساسية للتنمية الفكرية والاجتماعية في السودان، وسوف تعكس معاملتهم في التقاعد القيم التي ظلوا يجسدونها طوال فترات عملهم حينها ربما يتسنى لوالدي أن يجلس تحت (الخيمة) يستقبل تحيات تلاميذه العابرين، دون أن ينصرف تفكيره إلى كيفية تدبير فاتورة الفحص الطبي الأسبوعي.
الوسومعبد الله قريضة