ما يحدث في غزة ملحمة تدعو للفخر بأهلنا المقاومين الأبطال وفي الوقت ذاته يمثل إهانة شخصية لكل إنسان عربي لم يفقد الإحساس بهويته بعد -

الشاشات العربية المؤثرة لم تعد تسمح بذكر الحق الفلسطيني في الأعمال الدرامية التي تعرضها -

مزاج المنتجين يستبعد كل من لا يركبون موجة الإثارة المجانية التي تسوق هموم الناس دون أن تسهم في وضع مفاتيح الوعي بين أيديهم!

حسن.

م. يوسف واحد من أبرز كتاب السيناريو في سوريا، قدم للشاشة كثيرا من الأعمال المهمة في التلفزيون والمسرح والسينما، ولديه عدد من المجموعات القصصية وكان أستاذا محاضرا في المعهد العالي للفنون المسرحية، ومن العاملين حتى اليوم في حقل الإعلام. استضفناه وطرحنا عليه كثيرا من المحاور فأجاب عنها بكل شفافية، تعالوا نتابع:

في هذا الوقت العصيب الذي تمر به المنطقة، ما دور المثقف العربي في أن يحمل قضاياها؟ وهل تؤمن بدور الكلمة في مواجهة هذه التحديات؟ وماذا يمكن أن تفعل في مواجهة القوة؟

دعني أصارحك أن صيغة هذا السؤال هي جزء أساسي من الإشكالية التي يطلق عليها (دور المثقف العربي)! فنحن في منطقتنا نحب استخدام (الـ) التعريف في كلامنا، كما لو أن الواحد منا يعرف كل شيء! ليس هناك في الواقع أي شخص يمكن وصفه بأنه (المثقف العربي)! نعم هناك مثقفون عرب لكن كل واحد منهم له مواقفه وشخصيته المختلفة وطريقته الفريدة في التعبير عن نفسه، خلال المرحلة السابقة وصلت مسألة الخلط إلى حدودها القصوى، إذ كثر الحديث عن الكلمة - الرصاصة وغيرها من التعابير التي يخلط قائلوها بين المبالغة والبلاغة، وقد أساءت هذه الممارسة للكلمة كما أساءت للرصاصة!

نعم هناك مثقفون يحملون قضايا المنطقة في حياتهم اليومية والكتابية، كما تقول، لكن هناك مثقفون انتهازيون مستعدون لأن يبيعوا أنفسهم للشيطان مقابل حفنة دولارات!

نعم، أنا شخصيًّا أؤمن بدور الكلمة في مواجهة التحديات التي تواجهها الأمة كما أؤمن أن الكلمة الصادقة المبدعة، يمكن أن تغير الناس، كي يقوموا هم بتغيير واقعهم. وقد سبق لي أن أشرت في كتابي «عبثًا تؤجل قلبك» إلى قوة الكلمة إذ قلت:

«عندما تدفع الروح الشجاعة الجدار، يختفي! حتى الباستيل؛ أسمك جدار في التاريخ. تبخَّر بلمسة بسيطة من الروح!».

ما يحدث في فلسطين وفي غزة تحديدا يفوق الوصف، هل من أعمال يمكن أن تحمل الهم الفلسطيني كما فعل وليد سيف وحاتم علي في التغريبة الفلسطينية أم أنه لا أحد يجرؤ على ذلك؟

ما يحدث الآن في غزة وفي فلسطين عمومًا، هو ملحمة تدعو للفخر بأهلنا المقاومين الأبطال في الأرض المحتلة، لكنه في الوقت نفسه يمثل إهانة شخصية لكل إنسان عربي لم يفقد الإحساس بهويته بعد. المسألة في الدراما أكبر بكثير مما تصورها كلماتك! المسألة ليست من يجرؤ ومن لا يجرؤ! المسألة اقتصادية أولاً وثانيًا وثالثا، وهي مسألة سياسية قبل كل شيء! ما لا يعرفه الكثير من الإخوة القراء والمشاهدين هو أن مسلسل «التغريبة الفلسطينية» الذي يتغنى به النقاد ويعتبرونه نموذجا للدراما الوطنية التي يجب الاقتداء بها، هو مسلسل خاسر تجاريًّا، وكذلك مسلسل «حارس القدس» ومسلسل «الاجتياح» الذي فاز بجائزة إيمي كأفضل مسلسل أجنبي. لأن المحطات الكبيرة التي تدفع جيّدًا لم تعرض هذه المسلسلات! رغم كل ما فازت بها من جوائز وإشادات نقدية!

كمثقف، ماذا يمكن أن تفعل بدورك حيال فلسطين وغزة ككاتب، تملك الورقة والقلم وتكتب؟ هل في نيتك أن تكتب عملا ينصف فلسطين والغزاويين، ويفضح المستعمر؟

لا أخفيك أنني أشعر بالعجز التام، فما أستطيع أن أفعله محدود من حيث الحجم والفاعلية، صحيح أنني لم أتوقف يوما عن رصد بطولات شعبنا في فلسطين، سواء من خلال مقالاتي التي أنشرها في صحيفة (الوطن) الدمشقية، أو من خلال أحاديثي التي تذاع على هواء إذاعة دمشق أو من خلال صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا كله لا ينفي شعوري بالعجز التام والتقصير المؤلم.

أنا كاتب سيناريو، وكاتب السيناريو هو أضعف حلقة في الإنتاج الدرامي، صحيح أنني حاولت سابقا أن أخدم القضية من خلال مسلسل (حارس القدس وفيلم رؤية صلاح الدين) إلا أن الأوضاع الراهنة لا تبشر بالخير، ويؤسفني القول: إن الشاشات العربية المؤثرة لم تعد تسمح بذكر الحق الفلسطيني في الأعمال الدرامية التي تعرضها، فما بالك بعمل ينصف فلسطين ويفضح مستعمريها!

ماهو سبب ابتعادك عن الجو الدرامي السوري؟

هذا السؤال يجب أن يطرح على منتجي القطاع الخاص، وعلى القائمين على الجهات الرسمية المعنية بالإنتاج الدرامي في القطاع العام، أما وقد طرحت السؤال عليَّ، فيؤسفني أن أبلغك أنني خلال السنوات العشر الماضية تلقيت دعوة واحدة جدية من القطاع الخاص لكتابة عمل درامي عن المظلمة الكبرى التي تعرض لها الشعب الأرمني على أيدى الأتراك، لكن الجهة المنتجة غيرت رأيها في منتصف العمل، فشكوتها للقضاء، ومع أنني ربحت الدعوى في كل مراحلها إلا أنني حتى الآن أدفع رسوم وتكاليف القضية دون أن يصلني قرش واحد! وحتى لو صدر قرار بتنفيذ الحكم الآن فإن التضخم قد مسخ المبلغ، بحيث أستطيع القول بكل تأكيد إنه لن ينوبني من الجمل إلا أقل من أذنه بعد احتساب، حصة التضخم، وتكاليف القضية، وأتعاب المحامي!

أما القطاع العام فقد كانت تجربتي معه في مسلسل «حارس القدس» وفيلم «المطران» أليمة ومؤسفة، ماديا ومعنويا، والحق أنني لا أرغب في تكرارها، إلا إذا كان الموضوع بمستوى سيرة المطران هيلاريون كبوجي أو الشيخ عزالدين القسام.

«حارس القدس» عن المطران كبوجي كان آخر ما كتبته من أعمال درامية، لماذا توقفت عن الكتابة، أم أن لديك أعمالا مكتوبة وتنتظر من يأتي لينتجها، أم أنك تيقنت أن الكتابة لم تعد تطعم خبزا...؟

أنا لم ولن أتوقف عن الكتابة! التوقف عن الكتابة بالنسبة لي يعادل التوقف عن التنفس، والتوقف عن التنفس يعني الموت! ما حصل ويحصل هو أنني لم أعد أكلف بكتابة أعمال درامية، وأنا لا أكتب الدراما إلا بناء على تكليف، لأن كل معروض محتقر، وأنا لا أريد أن أمضي قرابة سنة في كتابة مسلسل ثم أحوله إلى مخلل لا يؤكل! يسهل على بعض المتكئين أن يقولوا لي اكتب ولا شك أن ما ستكتبه سيفرض نفسه على المنتجين، وهذا كلام نظري لا رصيد له، بل إن الواقع ينفيه تماما، فسميي العزيز المبدع الكبير حسن سامي يوسف، الذي خسره الإبداع مؤخرا، كتب في آخر أعوام حياته مسلسلين مهمين، ورغم أنه كان طوال حياته مشهورا بمسلسلاته الدرامية الناجحة، لكن قيم السوق التجارية التي تطلب الإثارة المجانية، حالت دون إنتاج آخر مسلسلين كتبهما! رغم تبني مخرجين بارزين لهما، وأظن أن شعور أخي وسميي حسن بالمرارة والإحباط قد عجل برحيله!

الكتابة الدرامية لا تطعم خبزا وحسب، بل تطعم جاتوها أيضا، لكن مزاج المنتجين الحالي لا يستبعدني وحدي، بل يستبعد كل من لا يركبون موجة الإثارة المجانية التي تسوق هموم الناس دون أن تسهم في وضع مفاتيح الوعي بين أيديهم!

على كل حال أنا غير متوقف عن الكتابة فأنا أكتب للصحافة كما أكتب للإذاعة بانتظار أن تستيقظ الدراما من هذه الغيبوبة العابرة.

كتبت مسلسلا عن محمود درويش وحدث حول العمل ما حدث، غالبا الكتابة عن الشخصيات التاريخية والأدبية والسياسية، لا يكون حولها توافق بالرأي، جماهيريا ونقادا ومثقفين، وكأنك تخوض حقل ألغام، لماذا؟

سبق لي أن تحدثت غير مرة عن هذا الأمر وأنا لا أريد أن أكرر نفسي، فأنا أعتقد أن التكرار هو ضرب من الموت. على العموم أعتقد أن العمل الإبداعي هو الذي يفترض به أن يدافع عن نفسه وعن مبدعه! وقد سبق لي أن قلت: إن العمل الإبداعي الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه غير جدير بأن يقوم كاتبه بالدفاع عنه!

المهم هو أن ما جرى لمسلسل «في حضرة الغياب» يرجع لأسباب لها علاقة ببنيتنا العقلية والنفسية التي تقفز من نقيض إلى آخر، فما لا نقدسه نقوم بتبخيسه، وقد سبق للشاعر محمود درويش أن أشار إلى دائرة القسوة هذه عندما غادر فلسطين المحتلة إذ صرخ بأعلى صوته: «أريحونا من هذا الحب القاسي».

أحسب أنه لا وجود في هذا العالم لأية شخصية حولها توافق تام، ومثل هذه الشخصية، فيما لو وجدت، غالبا ما تكون غير جذابة دراميا، فالصراع هو روح الدراما، وهو لا يتجلى في الشخصية الدرامية وحسب بل، يتجلى في كل أبعاد ومكونات العمل الدرامي.

هل يمكن أن تعاود الكتابة عن شخصيات أخرى -رغم الجدل- لو طلب منك ذلك؟

لا يسعني تقديم إجابة نهائية وحاسمة على هذا السؤال، الأمر يتوقف على طبيعة الشخصية التاريخية وأبعادها الدرامية، ومدى قدرتها على التأثير في واقعنا الراهن، هناك شخصيات من تاريخنا القديم والمعاصر تفتح شهيتي للكتابة لدرجة أنني قد أكبس الملح على الجرح وأباشر العمل لخدمتها دون تردد، مثل شخصية يوسف العظمة وشخصية أنطون سعادة وشخصية المتمرد الشعبي بوعلي شاهين، وشخصية أليسار مؤسسة قرطاج!

الدراما السورية تشكو من أزمة نص، ويقال: إن النص هو الخاصرة الرخوة للدراما السورية، إلى أي حد توافقني القول؟

لا أتفق معك البتة في هذه الجزئية! فالنص هو مركز قوة وتميز الدراما السورية. لكن درجت العادة أن يتم تكرار هذا الكلام «على الطالعة والنازلة»، لتبرئة الأطراف المسؤولة حقا وفعلا عن أزمات الإنتاج. الأزمة الأساسية التي تعاني منها الدراما السورية هي أزمة إنتاج وأزمة أفق، فالمنتجون يريدون من الكتّاب أن يجتروا نفس الموضوعات والأشكال التي جنت لهم أرباحا ونجاحات جماهيرية، جاهلين أن هذا مطلب عقيم من شأنه أن يحكم على الدراما السورية بالموت! والدليل على صحة هذا الكلام هو أن هؤلاء المنتجين الذين يزعمون وجود أزمة نص قد خذلوا سميي العزيز حسن سامي يوسف، الذي كان اسمه يشكل ضمانة لنجاح أي مسلسل، رغم ذلك فقد سمحوا لأنفسهم أن يرفضوا إنتاج آخر مسلسلين كتبهما! مما عجل بموته قهرا، وحجتهم في ذلك عدم وجود (أكشن) في العملين! وهم يقصدون بالأكشن دراما الدستوبيا والإثارة الرائجة هذه الأيام! لكن سميي حسن رفض أن ينحني لهذه المعايير وفضَّل أن يموت قهرا دون أن يكتب شيئا لا يشبهنا!

قلت: إن من يسيطر على الجو الإنتاجي الدرامي مجرد تجار، هل هؤلاء هم وراء تقديم أعمال هابطة مثلا أو تدهور الدراما السورية الذي يرى الغالبية أنها استعادت بريقها، وهذا البريق وراءه منتجون تجار. ما رأيك...؟

القول: إن الدراما السورية استعادت بريقها فيه الكثير من المغالاة الخادعة، فالدراما السورية ليست مسلسلات البيئة الشامية، ومسلسلات الدستوبيا التي تعبر عن حضيض الواقع المرير المنفلت من الأخلاق والمبادئ. الدراما السورية هي (حمام القيشاني)، و(رحلة القلوب إلى القلوب)، و(الزير سالم)، و(العبابيد)، و(أخوة التراب)...الخ وهذه المقاربات لم يعد أحد من المنتجين يقترب منها.

ركزت الدراما السورية خلال سنوات الأزمة ولا تزال على كل ما هو سلبي في الحياة السورية لتظهرها عارية أمام المجتمع العربي وكأن المجتمع السوري كله هكذا، هل الجهات الإنتاجية وراء ذلك، أم الكتاب الذين ركبوا موجة الحرب، ولم يتعرضوا للإيجابيات الموجودة في المجتمع؟

الجهات الإنتاجية هي المسؤولة بالدرجة الأولى عما آلت إليه الأوضاع في الدراما السورية، ولا شك أن الكتاب يتحملون جزءا من مسؤولية ما جرى ويجري، لكن الكاتب كما سبق وقلت هو أضعف حلقة في السلسلة ولا يلام الضعيف حينما يخذله ضعفه.

البعض ممن يعملون في حقل الدراما التلفزيونية يقولون: لماذا تحمّلون الدراما أكثر مما تحتمل؟ هي للفرجة والتسلية، إلى أي حد هذه المقولة صحيحة؟ وهل يمكن أن نُحمّل الدراما مسؤولية التوعية والإصلاح وأدوار مهمة في المجتمع مثلا؟

يمضي معظم المواطنين أوقاتِهم في منازِلِهم يشاهدون التلفزيون الذي هو التسلية الوحيدة المجانية المتاحة لهم، مما يجعل الدراما المصدرَ الرئيسي للثقافة التاريخية. هذا الوضعُ الشاذ يضاعف مسؤوليةَ الدراما كمصدر أساسي للمعلومات التاريخية التي تصنع الوعيَ الشعبي، مما يفرِض على كتّاب الدراما مسؤوليةً كبرى، إذ يفترض بهم أن يحولوا تاريخَنا، القديمَ منه والجديد، إلى حكاياتٍ جذابة ذات مصداقية عالية، وإذا كان شعبُنا لا يقرأ قِصصَنا ورواياتِنا على الورق لأسباب مختلفة، فمن واجبِنا ككتاب دراما أن نحولَ تلك القصص والروايات إلى سيناريوهات، كي تقوم الجهاتُ المعنية بإنتاجِها كأفلام ومسلسلات تعزز هويةَ المشاهدين وتصقُلُ ذائقتَهم. لكن معظم الجهات الإنتاجية الفاعلة لم تعد معنية بالقضايا الوطنية العادلة، بل هي معنية بالربح أولا وأخيرا.

في المسلسلاتِ التاريخية التي كتبتُها حاولت أن أقدم الكثير من المعلومات الموثقة، بل أستطيع القول: إن كل المعطيات التي أوردتُها في مسلسل «أخوة التراب» ومسلسل «ملح الحياة» ومسلسل «حارس القدس»، هي معطيات تستند إلى وثائق لا يرقي إليها الشك. غير أن النزاهة تقتضي أن أعترف أيضا بأن ما قدمتُه في هذه المسلسلات، لا يعدو كونَه وجهةَ نظرٍ في التاريخ. صحيح أن كل تفصيل وكل معلومة أوردتُها في هذه الأعمال الثلاثة لها عندي سندُها التاريخي الموثق. لكنني لا أدعي أنني قدمت التاريخَ كما جرى، لأن التاريخ كما جرى لا يعرفه سوى من يرى ويعرف كل شيء، وأنا فيما كتبته اخترت من السنوات التي أردت التعبير عنها، لحظاتٍ ومواقفَ تعبر عن وجهةِ نظري وتخدِم مصلحةَ شعبي. كان هدفي من كتابة مسلسل «أخوة التراب» هو أن أحرض المشاهدين على التأمل في تلك المرحلة، ومواجهة أسئلتِها المؤجلة منذ عصر النهضة. ذلك لأن تلك الأسئلة لا تزال هي أسئلةُ الحاضر وقد تبقى أسئلةَ المستقبل لوقتٍ طويل!

من بين طموحات مسلسل «أخوة التراب» أيضا، التأكيدُ على قيمِ المفاداة والتضحية في هذا الزمن الاستهلاكي الأناني، الذي ينغلق فيه الفردُ على نفسِه. وقد فعلنا ذلك من خلال التذكير بجمرةِ الشهداء، تلك الجمرة التي بدا للكثيرين أنها قد انطفأت فينا، فإذ بها تستيقظ في قلوبنا، مع (أخوة التراب)، خالعةً عن نفسِها قُمصانَ الرماد!

عانيت وربما يعاني كتاب كثر من تدخل المخرجين أو الجهات الإنتاجية بالنص، هل تقبل بذلك؟

ثمة فرق جوهري بين النص الأدبي والمسرحي من جهة، وبين نص السيناريو من جهة أخرى، فالنص الأدبي والمسرحي يأخذ صيغته النهائية بمجرد خروجه من يد الكاتب، لأنه نص مقروء ومتخيل، بينما نص السيناريو لا يكتمل إلا عندما يصور، لأن السيناريو مرئي ومسموع ومتحرك، وهذا يعني أن السيناريو لا يكتمل إبداعيا إلا عندما يتحرك، والسيناريو لا يتحرك من تلقاء نفسه، بل يتم تحريكه من قبل المخرج والممثلين وغيرهم من الشركاء في العملية الإبداعية. الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية أعمال جماعية، لذا فمن الطبيعي أن يضيف كل واحد من الشركاء في العملية الإبداعية بصْمَته ومساهمته الإبداعية وعلى رأس هؤلاء المخرج!

في ورشات السيناريو التي كان يشرف عليها الكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز كان يوصي كتاب السيناريو بقوله: حينما نكتب يجب على الواحد منا أن يكون مقتنعا أنه أفضل من ثرفانتس، وإذا فعلنا عكس ذلك فإن الواحد منا سوف ينتهي لأن يكون أسوأ مما هو في الواقع. يجب التطلع عاليا ومحاولة الوصول بعيدا، ويجب امتلاك وجهة نظر وكذلك شجاعة بالطبع لشطب ما يتوجب شطبه ولسماع الآراء والتفكير فيها بجدية. هذا أثناء إنجاز السيناريو أما بعد الانتهاء من كتابة السيناريو فقد كان ماركيز يقول لطلابه: لا تتطلب كتابة السيناريو مستوى عاليا من دقة النظر وحسب، بل تتطلب أيضا قدرا كبيرا من التواضع، فأحدنا ككاتب سيناريو، يعرف أنه في وضع المرؤوس بالنسبة للمخرج. صحيح أن القصة هي لكاتب السيناريو، لكنها عندما تنتقل إلى الشاشة ستصبح للمخرج. لذا فمن حق المخرج أن يضع بصمته على النص لكن ليس من حقه أن يشطب ويدخل تعديلات أساسية على النص كما فعل مخرج الجزء الثاني من مسلسل «أخوة التراب».

نعرف وجود دراما اجتماعية ودراما البيئة والفانتازيا والتاريخية وغيرها، وأنت قلت مرة: أصبحت الدراما سياسية أيضا...ماذا كنت تقصد؟

كل شيء في هذه العالم له بعده السياسي، بدءا من رغيف الخبز، وانتهاء بالدراما التلفزيونية، من طبيعة السياسة أنها سريعة النفاذ في كل الأوساط، وهي تمتزج في كل تفاصل حياتنا بما في ذلك الهواء الذي نتنفسه.

عملت طويلا في الصحافة، وتملك الجرأة والصراحة، ومع ذلك تقول: «إنني لست حرا في الكتابة، الصحافة الحرة وهم»، هل ما زالت عند هذه القناعات؟

هناك قانون لا يخطئ في عالم الصحافة يتجسد في قول أحدهم: «اقرأ الافتتاحية كي تعرف من هو السيد»، وهذا القانون راسخ كالجبال وهو يرقى في صحته ورسوخه لمستوى قانون الجاذبية الأرضية! والحقيقة أن حرية الصحافة في كل أنحاء العالم أكثر ندرة من أسنان الدجاج! فوسيلة الإعلام التي لا تراقب النص تراقب الكاتب، بحيث لا يدخل إلى حماها إلا من يشبهون مموليها، وهذا النوع من الرقابة قد يكون هو الأسوأ، لأنه يكرس أكذوبة (حرية الصحافة) التي لا وجود لها في أي مكان من هذا العالم!

التحايل على الرقيب أسلوب عمل، كيف استعملته في الكتابة الدرامية للهروب من الرقيب؟ وهل عانيت من الرقابة؟

اهم واجبات الكاتب في مختلف أنواع الكتابة أن يقتدي بمنطق الماء فعندما يصادف الماء عقبة يلتف عليها. من المعروف أن القبلة هي أول الممنوعات في المسلسل التلفزيوني العربي، لكنني في مسلسل «نهاية رجل شجاع» مررت القبلة فقد جعلت مفيد ولبيبة يلتقيان في ركن معزول من الحديقة العامة، هي تحمل في يدها وردة وهو يحمل في يده خيزرانة، يتبادلان نظرة حب موحية، ثم لقطة على الوردة وهي تقع أرضا بينما تقف لبيبة على رؤوس أصابع قدميها بينما تقع الخيزرانة من يد مفيد!

أعتقد أن أهم واجبات المبدع هو أن يلتف على المعايير الرقابية، فجدنا ابن المقفع عندما لم يستطع أن يجعل البشر يتكلمون، جعل الحيوانات تتكلم!

أين أنت من الكتابة القصصية وهي ملعبك؟ لماذا أنت مقل في الكتابة فيها؟

سبق لي أن وصفت القصة القصيرة بأنها مليكتي المدللة، وهذا صحيح، لأنني لا أكتب القصة تحت ضغط الوقت، فعندما تخطر لي قصة لا أستسلم لإغراء كتابتها فورا بل أخضعها لاختبار الزمن فإن نسيتها، كانت غير جديرة بالكتابة، أما إذا ظلت تحفر في داخلي وتنمو ملتقطة تفاصيلها من حياتي وقراءاتي وحياة من هم حولي، عندها قد تغدو كالجنين في جسد الأم إن لم يولد يقتل أمه. أحيانا أرجئ كتابة القصة بضعة أعوام لكن عندما تحين لحظة ولادتها فغالبا ما أكتبها في يوم واحد.

أصدرت حتى الآن خمس مجموعات قصصية، وأنا لست نادما على القصص التي مزقتها، ولا على القصص التي لم أكتبها.

كمتابع للمشهد الفني والثقافي العربي كيف يمكن توصيفه بأسطر قليلة من حيث الجودة وتحمل المسؤولية؟

أحسب أن المشهد الفني والثقافي العربي لا يختلف كثيرا عن المشهد السياسي، ففيه الكثير من الانبطاح المخجل، لكنه ينطوي على عناصر قليلة تصنع من الضعف قوة، وقد سبق لأستاذي جورج برناردشو أن قال: «في العالم رجلان؛ رجل عاقل يريد أن يؤقلم نفسه مع العالم، ورجل غير عاقل يريد أن يؤقلم العالم مع نفسه»، ثم يستنتج قائلاً: «على غير العاقلين تتوقف مسألة التقدم».

هل تتابع الحياة الثقافية والإبداعية في سلطنة عمان؟ وماذا تقول عنها؟ ولمن تقرأ؟ ومن تتابع هناك؟

تقتضي النزاهة أن نعترف أن التبادل الثقافي بين الدول العربية هو في حدوده الدنيا، مع الأسف الشديد، رغم عراقة الروابط الثقافية التي تجمعنا، صحيح أن سلطنة عمان تعطي تراثها الثقافي حقه من الاحتفاء والإشهار على مختلف المستويات، إلا أن الحراك الثقافي الذي تعيشه السلطنة لا يصل إلينا منه سوى أقل القليل، فمعظم المثقفين السوريين لا يعرفون من المبدعين العمانيين سوى الشاعر الصديق سيف الرحبي رئيس تحرير مجلة (نزوى)، وأنا أنتهز هذه الفرصة كي أوجه تحية كبيرة لهذا المبدع الأصيل ولمجلة (نزوى) التي تلعب دور جسر حقيقي بين الثقافة العمانية والمثقفين العرب.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الدراما السوریة عن الکتابة حارس القدس الکثیر من من خلال واحد من صحیح أن یمکن أن کل شیء إلا أن ما جرى دون أن فی هذه لم تعد

إقرأ أيضاً:

الدراما التلفزيونية السورية المنتظرة وتجسيد ثقافة المواطنة

تُعد الدراما التلفزيونية من أكثر الفنون تأثيراً في نفوس المشاهدين. فهي لا تقتصر على التسلية فقط، بل تُسهم بشكل كبير في رفع وعيهم من خلال عرض التحديات الاجتماعية والأفكار المتوارثة التي تعيق تقدم المجتمع.

 كما توجه سلوكهم نحو تحسينه، ضمن سياق درامي يتسم بالجاذبية ويحتوي على المقومات الفكرية والفنية اللازمة لإثارة اهتمامهم.

نأي عن تمجيد الفرد

لكن، هل يختلف دور الدراما التلفزيونية السورية في ظل المستجدات الحالية، كما حدث بعد سقوط نظام آل الأسد؟
بالتأكيد، فإن المطلوب من الدراما الآن يتجاوز ما كانت تلتزم به سابقاً تحت تأثير الرقابة السياسية، إذ أصبح من الضروري أن تبتعد عن تقديم الأعمال التي تشكل تهديداً لوعي المشاهدين، خاصة تلك التي تعتمد على السير الشعبية التي لا تعزز أية قيمة سوى قيمة الفرد المخلص، مثل مسلسل "الزند".

والأمر نفسه ينطبق على المسلسلات التي تروج لخارجين عن القانون في مختلف المجالات، مثل السرقة أو التهريب أو تجارة المخدرات، والتي تتضمن غالباً مشاهد قتل دون أي اعتبار لوجود السلطات الأمنية، التي تكون مغيبة تماماً في تلك الأعمال، كما في مسلسلات "هوا أصفر"، "على صفيح ساخن"، "مع وقف التنفيذ"، و"ولاد بديعة" للكاتبين علي وجيه ويامن الحجلي، أو مثل مسلسل "الهيبة" بجزئه الثالث للكاتب هوزان عكو.

كما ينبغي الابتعاد عن المسلسلات "البيئة الشامية" التي كانت تقدم خطاباً رجعياً يحاول إحياء تقاليد وقيم بالية تحت ذريعة مقاومة المستعمرين الفرنسيين أو العثمانيين، على نحو ساذج وغير مكلف إنتاجياً، مما جعل شركات الإنتاج تستثمر الأزياء والديكورات في أكثر من جزء، مقدمة صورة مشوهة عن تاريخ دمشق تحت ذريعة "الدراما المتخيلة" وليست التاريخية، ما يتناقض مع مقومات المكان وأزيائه وعاداته.

تحت سقف القانون

أما ما نحتاجه من الدراما للمساهمة في بناء الحياة الجديدة، حتى إذا استعدنا بعض السير الشعبية، فهو أن تكون على غرار ما قدمه الكاتب الراحل ممدوح عدوان في مسلسله المميز "الزير سالم".
ففي هذا المسلسل، استعاد عدوان السيرة الشعبية ولكن بأسلوب يتسم بالمسؤولية، حيث تجسد شخصية "كُليب" ليس كرمز للاستبداد أو الثأرية، بل كمثال على ضرورة وجود "نظام سياسي" يحترم القانون، ويجب على الجميع الالتزام به، حتى وإن كانوا من أقرب الناس.

ولم تشفع قرابة "البسوس" له عندما خالفت القانون، ففرض عقوبتها عليها.
وهذا هو جوهر الخطاب الفكري في "الزير سالم"، أي فرض سيادة القانون على الجميع، وتجاوز العصبية القبلية وقرابة الدم.
إذا تأملنا المجتمعات المستقرة التي تحقق الإنجاز والتطور وتحترم حقوق الإنسان، سنجد أنها المجتمعات التي تضع القانون فوق الجميع من دون وساطات أو تحيزات.
لكن في الوقت نفسه، سلط ممدوح عدوان الضوء على استبداد "كليب" الذي أفضى إلى طيش "جساس" وثأرية "الزير سالم"، مما أدى إلى فوضى أو حرب أهلية.
من خلال هذا الضوء، حذر عدوان من خطورة التفرد بالسلطة وإصدار القوانين من دون مراعاة المصلحة العامة.

الثالوث الأقدس

لا يمكن إغفال ما قدمه هذا المسلسل الهام، إلى جانب أعمال أخرى، من خطاب درامي يركز على تعزيز قيم مؤسسات الدولة واحترامها.
هذا النهج تجسد في بعض المسلسلات التي قدمها الثنائي الراحل حسن سامي يوسف ونجيب نصير، ومسلسل "المفتاح" للراحل خالد خليفة، ومسلسل "رياح الخماسين" لأسامة إبراهيم. كلها أكدت، بأشكال مختلفة، ضرورة احترام المؤسسات والقوانين، رغم ما تعرضت له هذه المؤسسات من ترهل وفساد، كما ألمحت إلى ذلك بعض الأعمال الكوميدية مثل مسلسل "سعادة الوزير وحرمه" للكاتب محمود الجعفوري، وبعض لوحات "مرايا" و"بقعة ضوء"، التي طرحت ضرورة خضوع المجتمع بأفراده وشرائحه، بما في ذلك قياداته، للقانون.

المشاهدون السوريون اليوم بحاجة إلى خطاب درامي مشابه لما قدمته هذه المسلسلات، وأعمال أخرى تعزز ثقافة المواطنة بين أفراد المجتمع، وهي ثقافة تنبذ التمييز على أساس قومي أو ديني أو طائفي أو حزبي أو قبلي أو عائلي أو جنسي، وتعتبر الفرد مواطناً سيداً حراً، مساوياً لغيره أمام القانون. دراما تعزز مثل هذه الثقافة تسهم في تجاوز جراح الماضي وتحفز مشاعر التعاون لبناء مجتمع جديد. فالفنون هي اليد التي تقود الناس إلى إنسانيتهم نحو تمجيد "الثالوث الأقدس" الحق والخير والجمال.

مقالات مشابهة

  • فرغلي: جماعة الإخوان أداة في يد الكيان الصهيوني وتحاول تكرار السيناريو السوري بمصر
  • الخواجة
  • في عيد ميلاده.. قصة زواج عمرو يوسف وكندة علوش وعمله سايس
  • الدراما التلفزيونية السورية المنتظرة وتجسيد ثقافة المواطنة
  • قلق إسرائيلي: إيران تجند الجواسيس ومواطنونا مستعدون للخيانة مقابل المال
  • كندة علوش تحتفل بعيد ميلاد عمرو يوسف برسالة حب مؤثرة: "أنت الأمان ورحلة العمر"
  • عبد الخالق عبد الله: أمراء حرب في سوريا يبحثون عن مجد شخصي.. ومخاوف من تكرار السيناريو الليبي
  • مزايا لطرفَي الخدمة.. تشريعية الشيوخ: منتقدو المسؤولية الطبية لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءته
  • لونا بشارة.. أول فنانة أردنية تشارك بالمسلسلات التركية المعربة
  • تكلفة المائدة الميلادية لعام 2024 تخطف البهجة.. اليكم الأسعار