«حياة الماعز» وضجيج «الرغاء»
تاريخ النشر: 29th, August 2024 GMT
في جو مليء بالدراما الهندية التي اعتدنا عليها في السبعينيات، والتي يغلب عليها طابع المبالغة والتشويق وانتصار البطل في كل الحالات، تدور أحداث الفيلم الهندي الذي أثار الجدل «حياة الماعز»، والذي كان للممثل العماني طالب محمد دور فيه، من خلال تجسيده لدور البدويّ الجلف، غليظ الطباع، الذي يستعبد «ضحيته» دون رحمة، وهو ما أثار كل تلك الضجة حول الفيلم، وأشار منتقدوه إلى أن العمل يسيء للشخصية الخليجية بصفة خاصة، والعربية المسلمة بصفة عامة، وهو ما فتح أبواب الجحيم على الممثل طالب محمد.
لم يكن الفيلم -في رأيي- سوى تجسيد لمعاناة إنسانية «عرَضية»، تعرّض لها عامل وافد، أتى للعمل في دولة خليجية، ويقع -لسوء حظه عن طريق الخطأ- في يد رجل يعيش في عمق الربع الخالي، ولك أن تتخيّل «أعرابيّ» يقيم في صحراء بعيدا عن المدينة والمدنية، ولا يعرف سوى أغنامه، وجِماله، ويعتمد على ذراعه، وبندقيته في انتزاع ما يعتقد أنها حقوقه، حتى ولو كان ذلك على حساب آدميته، وتعاليم دينه، إذن فمثل هذه الشخصية واقعية وموجودة في أي مكان وزمان، وهي في كل أحوالها شخصية مكروهة من بقية فئات المجتمع، وصوت نشاز، لا يعبّر إلا عن نفسه، ولولا هذه الشخصية الشريرة المحورية في الأحداث، لمر الفيلم بسلام، ولم ينتبه له أحد.
لقد خلط المتابعون و«الغاوون» بين فيلم دراميّ يجسّد شخصية يكرهها الجميع، وبين الواقع الإنساني والحقوقي الذي تعيشه حاليا العمالة الوافدة في دول الخليج العربي، ورأوا أنها تسيء للشخصية الخليجية بشكل أساسي، ولم يستطع خيالهم تحجيم هذه الشخصية والنظر إليها في إطار الدور، ونسيجها الدراميّ المعقد، ولذلك خرجت الأصوات «الشعبوية» التي تحاول الإساءة للعلاقة الأخوية بين شعوب دول الخليج ككل، وهي على كل حال أصوات غيورة وحريصة على تجميل صورتها الجمعية، وعدم المساس بما يشوّهها، ولكنها أصوات عمياء عن النظر إلى المشهد من كل زواياه، وخرج البعض من منتقدي الفيلم برؤية تتساءل عن عدم تسليط الفيلم الضوء على التشريعات والقوانين التي «اُستحدثت» لصالح العمالة الوافدة، ونسيت هذه الأصوات أن الفيلم ليس عملا دعائيا وهو غير معنيّ بتلميع صورة بلد ما، ولكنه يتحدث عن حالة إنسانية معينة، وفي وضع استثنائي، ومن خلال شخصية «سيكيوباتية» معقدة يدينها الجميع حتى منتقديها، والغريب في الأمر أن الكثير من المنتقدين يعترفون أن أحداث العمل حقيقية، ومعروفة، وهزّت المجتمع حينها، ولكنهم يرون أنها «محرّفة دراميا»، ولم تقدم الصورة للواقع اليوم!!، وهم بذلك ينسون أن هذه ليست مهمة الفن، فالقصة واقعية بغض النظر عن الزمان والمكان، ومن حق المخرج وكاتب العمل معالجتها فنيا، ودراميا كما يشاء.
وبعيدا عن الدراما، وعن كل ما ذكرتُ، إلا أنني أعتقد أن الفيلم ليس «بريئا» لهذه الدرجة، ولا أعتقد أن شخصية العمالة الوافدة بشكل عام في الخليج هي بتلك الصورة المسالمة البريئة التي أظهرها العمل، فهناك أيضا حكايات سمعناها، وقرأنا عنها، وقعت في دول الخليج لجرائم تقشعر منها الأبدان أبطالها وافدون، وهم -كما شخصية البدويّ في الفيلم- شخصيات مكروهة من أبناء جلدتها، فالشر موجود وأزلي في البشر، تماما كما الخير، ولا أستبعد أن تأثير الفيلم سيكون له أبعاد نفسية واجتماعية في دول «منبع» العمالة الوافدة، تزيد من أحداث الكراهية التي يتعرض لها العرب والخليجيون في تلك الدول، وهو أمر كان على الممثل طالب محمد التفكير في آثاره ألف مرة قبل القبول بالدور.
أستذكر هنا أعمالا درامية «عربية» بل وخليجية ظهرت في السينما والتلفاز أساءت للرجل الخليجي، وأطّرته في شخصية الثريّ الباحث عن ملذاته الجسدية فقط، وأذكر هنا مشهدا من مسلسل «واي فاي» حين يجسّد شخصية العماني بطريقة مستفزة تماما، وكم من فيلم «هوليودي» جسّد تلك الشخصية الخليجية النمطية بشكل بشع للغاية، ولم يحتج أحد، ومرت كلها مرور الكرام، إلا أن فيلم «حياة الماعز» أثار الكثير من
«الرغاء» الذي يصم الأذن، ويعمي العين، بدلا من النظر إلى العمل في إطار إنساني دراميّ مجرَّد بعيدا عن الشخصنة، و«الشوفينية»، والإساءة لدولة أو شعبٍ هو نفسه يتبرأ من هكذا شخصية «شاذة» اجتماعيا، وإنسانيا، ودينيا، وأعتقد أن تلك الضجة المفتعلة التي أثيرت حول الفيلم قدّمت أكبر دعاية إعلامية له، ورفعت من نسب مشاهدته على محطات التلفزة، ومنصات التواصل الاجتماعي.
وأخيرا.. فالمجتمعات الخليجية بشكل عام مجتمعات «منغلقة»، لا تنقد نفسها، ولا تسمح لأحد بنقدها، وتعتقد أنها مجتمعات مثالية محصّنة غير قابلة للخدش، ولا للكسر، وتعتقد أن كل صيحة عليها، ورغم كل ذلك فعلى العقلاء الذين يشاهدون الفيلم أن ينظروا إليه من زاوية إنسانية درامية بحتة، ودون الوقوع تحت تأثير «مكان الحدث»، أو التأثر بالرغاء الصاخب المثار حوله، والذي لا يولّد إلا الصمم، وتشويش الرؤية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العمالة الوافدة فی دول
إقرأ أيضاً:
شعبة المصدرين: تأهيل العمالة المصرية أخلاقيا أولوية لمواجهة تحديات سوق العمل
أكد أحمد زكي، الأمين العام لشعبة المصدرين، ورئيس لجنة الشؤون الأفريقية بالاتحاد العام للغرف التجارية، ورئيس لجنة التصدير بمجلس الوحدة الاقتصادية بجامعة الدول العربية، أن سوق العمل المصري يواجه تحديات ضخمة تستلزم إعادة النظر في تأهيل العمالة ليس فقط من الناحية المهنية، ولكن أيضًا من الناحية الأخلاقية والتربوية لمواكبة متغيرات العصر.
وأوضح أن العمالة المصرية تمثل ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني، ليس فقط داخل السوق المحلي، بل في الأسواق العربية والعالمية، مما يحتم إعداد أجيال جديدة قادرة على الحفاظ على الهوية الوطنية والتقاليد الأصيلة، بالتوازي مع امتلاك الضمير المهني والأخلاقي الذي يدعم استمرار عجلة الإنتاج ويحمي استقرار المجتمع.
وحذر من الظواهر السلبية التي تفشت مؤخرًا، وعلى رأسها انتشار تعاطي المواد المخدرة والمنبهات المحرمة بين بعض فئات الشباب، مؤكدًا أن هذه الآفة تؤدي إلى انهيار أخلاقي ومجتمعي يصعب السيطرة عليه مستقبلاً إذا لم يتم مواجهتها بوعي وحسم.
وشدد على ضرورة إدراج التوعية الدينية والتربوية بشكل مكثف في المناهج التعليمية منذ الصغر، مع التركيز على خطورة التدخين والمخدرات باعتبارها بوابة البطالة والانحراف، وما تمثله من عبء اقتصادي واجتماعي كبير على الدولة.
وأشار إلى أهمية وضع ضوابط صارمة لظاهرة التدخين، من خلال تقنين الأماكن المسموح بها، ومنع التدخين في الأماكن العامة والمغلقة، وحماية الأطفال والعائلات من هذه السلوكيات.
ودعا إلى منع بيع منتجات التدخين لمن هم دون الثامنة عشرة عامًا، وعدم السماح لهم بالتردد على المقاهي والكافيهات بدون مرافقة ذويهم.
وأضاف أحمد زكي أن تطبيق القانون يجب أن يكون حازمًا دون تمييز، لاسيما في التصدي للممارسات التي تخدش الحياء العام مثل تدخين الفتيات علنًا في المقاهي وأماكن السهر، مؤكدًا أن حماية الأخلاق العامة مسئولية جماعية لا تقبل المجاملة أو التهاون.
وتابع: "ما نراه حاليًا في بعض شوارعنا ومراكزنا التجارية لا يحدث في دول الخليج ولا في أوروبا أو أمريكا، حيث يتم تنظيم التدخين بقوانين صارمة، وتُفرض غرامات مالية كبيرة على المخالفين، مما يسهم في الحفاظ على الذوق العام وصحة المجتمع".
وأكد زكي أن الحفاظ على هوية المجتمع المصري يتطلب تضافر جهود الإعلام والتعليم والبرامج الدينية لرفع الوعي بالقيم الأخلاقية والضوابط المجتمعية، داعيًا إلى العودة لجذور التربية الدينية والأخلاقية كأساس لتحصين الأجيال القادمة.
واختتم زكي تصريحاته بالتأكيد على أن الحفاظ على صحة الشباب وأخلاقياتهم هو استثمار حقيقي لمستقبل الاقتصاد المصري، موصيًا بزيادة الضرائب على منتجات التدخين وتوجيه حصيلتها لدعم قطاعات الصحة والتعليم، بما يسهم في بناء مجتمع صحي وقوي قادر على دفع عجلة التنمية إلى الأمام.