في كتابه «لماذا لا نتعلم من التاريخ؟» يقول بي إتش ليدل هارت: «لا يمكن تفسير التاريخ دون مساعدة الخيال والحدس. إنّ كمَّ الأدلة هائل حتى أن الانتقاء لا مفرَّ منه، وحيث يوجد انتقاء سيكون هناك فن. يميل أولئك الذين يقرؤون التاريخ إلى البحث عمَّا يثبت صحة آرائهم الشخصية ويؤكدها. إنهم يدافعون عن الولاءات، وهم يقرؤون بغرض التأكيد أو الهجوم، ويقاومون الحقيقة المزعجة؛ لأن الجميع يريد أن يكون في جانب الملائكة.
يغدو التاريخ البشري مشتركًا أكثر فأكثر كل يوم؛ فقبل قرنين من الزمن لم نكن لنتأثر بما يحدث في اليابان أو ألمانيا أو حتى موريتانيا؛ لكن العالم بترابطه ومنظومته المشتركة اليوم عالمٌ يراهن على بقاء الأمور تحت السيطرة فيما يشبه المنظومة الشاملة، ولا يُلقي بالا إلى أن هذه المنظومة يحكمها اللامنطق والفوضى. قد نعتقد أن شيئا ما حدث لسبب وجيه، لسبب قد يضفي البعض قداسةً عليه لأن الحاكم أو الإمبراطور الفلاني أو حتى العسكري الذي قاد انقلابًا وغدا حاكمًا -كحال نابليون بونابرت- فعله وأمر به؛ لكن الحقيقة قد تكون أن ذلك الحاكم أحب توجهًا ما، فنيًا أو ثقافيًا أو عسكريًا، فاتّجهت الأمة تجاه ما أراده الحاكم في تلك الفترة ورغب به.
إن للتاريخ قداسة عند شعوب العالم أجمع، فيكفي أن تقول حكمةً ما وتنسبها إلى حكيم عاش في الماضي لتغدو تلك الحكمة المنتحلة وساما يتقلده المؤمنون بتلك الشخصية التاريخية وإرثها، يتداولونها ويتوارثونها ويطبقونها في حياتهم كحقيقة مثبتة، ويكفي أن تقول إن البناء الفلاني شُيّد في الحقبة الفلانية لترى الناس تتهافت على مشاهدته والتجول في أروقته، لكن ماذا لو كان التاريخ فكرة؟ هنا يتحول التاريخ من سِجلّ للأحداث والوقائع إلى أداة مهمة بيد السلطة تتحكم به وتسيّره وتغيّر فيه ما تشاء وكما تشاء وحسب ما تقتضيه الظروف.
إنَّ للتاريخ أهميته، نعم؛ ولذلك تنفق عليه الدول أموالًا طائلةً، إما لتثبيت وضع قائم، أو لإنشاء واحد جديد؛ فالتاريخ والسردية التاريخية يخلقان في نفسية المتلقي صفات تتحول إلى أفعال فيما بعد، فتسمية الأشياء بمسمياتها مهمة في طريقة تعاملنا معها، فاستعمال كلمة «مُخرِّب» -على سبيل المثال- جرى تداولها في المستعمرات كثيرا، وهي تشير إلى المقاومين عادةً، ويستعملها المُستعمِر عادةً لتطبيع الكلمة في أذهان شعبه وأمام من يمنحه استمرارية وشرعية البقاء. إن السردية التاريخية قادرة على صنع المعجزات؛ فالنازية بدأت بتجييش الناس بعد المذلة التي تعرضت لها الأمة النازية في الحرب العالمية الأولى، ولكن ليست كل المعجزات خيِّرة بطبيعة الحال. فالظروف التي عاشها الألمان بعد الحرب العالمية الأولى لا يمكن بحال أن يتنبأ أحد بأنها ستصنع ذلك الوحش الرهيب الذي تسبب في حرب عالمية ثانية، وذلك القيام الذي قامت به الأمة الألمانية كان معجزةً؛ لكنها استُعملت في الشر.
تكتسب الأشياء أهميتها بتقادم الزمان، ويُعزى إلى كثير من الأشياء ما لا تطيقه بحال، ومع مرور الأيام تظهر في الطريق إشارات محايدة، يستعملها المناوئون والمحبون على السواء، فالمناوئون يشعرون أنها علامة تعمّق اليأس، والمحبون يرون فيها فجرًا قادمًا، فحين جاء المستوطنون اليهود إلى أرض فلسطين، جاؤوا حاملين معهم رؤاهم التلمودية وأحلام أسلافهم بالعودة إلى أرض الميعاد، لكن من يتحكم بخيوط هؤلاء المساكين الذين تم تلقينهم كذبات جعلت استيطان أرض الفلسطينيين مشروعًا بالنسبة إليهم؛ كان يدرك غور المسألة التي لم يكن للدين علاقة بها لا من قريب ولا من بعيد، بل هي مسألة سياسية بحتة كان لزامًا أن تُبنى حولها أساطير وخرافات كي تنجح وتتحقق واقعًا.
تتجلى التخيلات الجذّابة في الأمور التي نعتقد أنها صحيحة، لا لأنها صحيحة حقًا؛ بل لأننا نريدها ونتمنى أن تكون صحيحةً كما نعتقد. متى يحدث التخيّل الجذّاب إذن؟ «عندما تكون ذكيًا، وتريد إيجاد حلول، لكنك تواجه مزيجًا من التحكم المحدود والمخاطر الكبيرة. إن التخيلات الجذابة قوية للغاية، وباستطاعتها أن تدفعك إلى تصديق أي شيء». استوقفني هذا الكلام في كتاب «سيكولوجية المال» لمورجان هاوسل، وقارنته بما نعيشه في حياتنا كلها؛ رغم أنه ورد في سياق اقتصادي بحت؛ فالإنسان كائن معقد التركيب، ففي حين يبتهج بفعلٍ شنيع كالقتل والتدمير في لحظة انتشاء موجّهة روحيًا وجسديًا -كحال جنود الاحتلال- فإنه ينكص على عقبيه حين تختفي تلك النشوة ويبدأ العقل بنقد الأفعال؛ لذلك تكثر حالات الانتحار والأمراض النفسية والعقلية عند الجنود الذين يدركون ما ارتكبوا من مصائب ومجازر وفظائع، حين يهدأ كل شيء ويعودون إلى بيوتهم، كما حدث للأمريكان الذين شاركوا في حروب فيتنام أو أفغانستان أو العراق.
إننا أسرى للتخيلات الجذابة في مناحٍ كثيرة من حياتنا، في استثمارنا، ومستقبلنا، وصحتنا، وممتلكاتنا؛ لكن العقل الذي يفكك الأشياء ويعيدها إلى حالتها البدئية، العقل الذي يحاكم الأشياء برويّة وتؤدة، لا يُضمن له النجاة الكلية من تلك التخيلات، ولكن سيكون تأثيرها محدودًا على الأقل؛ فمهما بلغ الإنسان من قدرة عقلية وذهنية فإنه يظل إنسانًا تجري عليه الظروف والتقلبات، كما تجري على بني جنسه، وكي نضع الأمور في نصابها فإن حالة الاستنفار في الجامعات الغربية ليست نتيجة لصور الشهداء فحسب، وليست تلك الصور دافعها الأول؛ إنما لشعور الطلبة والمجتمع العميق بتعرضهم للخداع والتعتيم طوال عقود، والخداع الناتج عن سردية تاريخية مؤدلجة طوال حياتهم، وانكشف زيفها أخيرًا. ومتى سمحنا للآخرين بكتابة تاريخنا، فلا نلومنّ أنفسنا حين يُعتدى على ذلك التاريخ، ومن ثم على الناس الذين صنعوه وجاؤوا منه، وهذا أمر يجب أن تتبناه الجهات المسؤولة تمويلا للمفكرين والمؤرخين وتبنيا لهم مع مساحة حرية حقيقية، لا أن تكون مشروعات ارتجالية فردية.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كيف يمكننا إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بعيدا عن التقديس والتدنيس؟
ويعرّف إبراهيم محمد زين -وهو أستاذ تاريخ الأديان في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة- إعادة قراءة التاريخ بأنها عملية غير علمية ومحاولة أيديولوجية لتغيير طريقة نظرة المسلمين للشخصيات الفاعلة والمؤثرة في التاريخ، وتقديم صورة جديدة للتاريخ بناء على رؤية أو أيديولوجية جديدة.
ويقول إن الكثير من القراءات التي قام بها المستشرقون للتاريخ الإسلامي كانت بغرض السيطرة على المسلمين، وإن بعض أبناء الأمة الإسلامية الذين درسوا على يد هؤلاء المستشرقين نقلوا أسلوبهم واستعملوه في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي.
وفي هذا السياق، يعطي أستاذ التاريخ مثالا بالحركة الصهيونية التي قال إن لديها طريقة معوجة في النظر إلى تاريخ المنطقة العربية تهدف إلى إحكام السيطرة وبناء سردية تاريخية ترمي إلى تبرير الوجود الصهيوني في المنطقة، مشيرا إلى أن المدرسة الصهيونية لم تفلح حتى في إقناع الصهاينة أنفسهم بجدوى دعواهم إلى إعادة قراءة وفهم تاريخ المنطقة.
من جهة أخرى، تتأسف أستاذة الفلسفة العربية والإسلامية في الجامعة اللبنانية نايلة أبي نادر من كون العرب والمسلمين يعانون من "النزعة التقديسية" التي تعظم وتمجد، ليس فقط السلف، بل أي شخصية تراها مميزة رغم أن هؤلاء هم بشر ومحدودون معرفيا واجتماعيا وإيمانيا، كما تقول.
إعلانوترى نايلة -في مداخلة لها ضمن برنامج "موازين"- أن تقديم خدمة راقية ومقدسة للتاريخ في العصر الحالي يكون عبر إعادة قراءة هذا التاريخ وإبراز السقف الأيديولوجي الذي كان مسيطرا على من كتب التاريخ في حينه.
ويعترض أستاذ تاريخ الأديان في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة على كلام نايلة من جهة أن فيه الكثير من التعميم، ويوضح أن أول من كتب سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ابن إسحاق، ولم يكن في هذه السيرة أي تقديس للنبي الكريم ولم يرفعه إلى مصاف أكثر من مصاف البشر، ولم يقم المسلمون بتقديس السلف الصالح ولم يعتبروهم غير بشر.
ويواصل الأستاذ أن الطريقة التي دوّن بها التاريخ الإسلامي ليس فيها تقديس، بل إن هذا التقديس ربما يوجد في الطريقة التي كُتب بها التاريخ اليوناني والروماني والهندوسي، إذ يختلط ما هو مقدس إلهي بما هو بشري.
في المقابل، يقر المتحدث نفسه بوجود تسييس في كتابة التاريخ الإسلامي، خاصة الذي كتب من منطق عقائدي عند بعض المؤرخين.
القضايا الشائكةوعن كيفية إعادة قراءة القضايا الحساسة في التاريخ الإسلامي، يوضح المفكر والداعية الإسلامي محمد العبدة أنه لا توجد خطوط حمراء عندما تكون القراءة موضوعية وتبحث عن الأدلة الصحيحة والمنصفة، فمقتل الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان من أكبر الفتن ومن أكبر المصائب التي أصابت المسلمين، ولكن لا ضير من تناول الموضوع إذا كانت الأدلة قاطعة وثبتت صحتها، والشرط هو الابتعاد عن الهوى والجهل والأكاذيب.
ويشير إلى أن هناك مجالا للتحقيق الدقيق والموضوعي في القضايا الشائكة في التاريخ الإسلامي عبر الاستعانة بكتب الحديث وكتب الطبقات، وليس فقط كتب التاريخ.
ويبرز المفكر والداعية الإسلامي -في حديثه لبرنامج "موازين"- أن الأمة الإسلامية هي أكثر الأمم اهتماما بالتاريخ، فهناك 5 آلاف مؤرخ و10 آلاف كتاب في التاريخ، وقد وضع المؤرخ والفيلسوف عبد الرحمن بن خلدون ضوابط وقواعد لمعرفة الروايات الصحيحة من المغلوطة.
إعلان 25/12/2024