أحد عشر يوما هو الفاصل الزمني بين رحيل رجلين من نفيس معادن الرجال في لبنان وضميرين متفردين في تاريخه المعاصر: جورج قرم؛ ضميره الفكري والثقافي، وسليم الحص؛ ضميره السياسي والوطني. كأن في تزامن الغيابين ما يقول سر العلاقة التي ائتلفت بين السيرتين، ويرمز إلى صلة انتسجت بين قامتين فأنجبت ما أنجبت من جزيل الغلال السياسية والإنسانية والأخلاقية في بلد ظلت منظومة القيم فيه عرضة للتبديد المتمادي، والتفسيخ والتهشيش، تحت وطأة الحرب الداخلية ومنازعات ذوي المصالح.
مشتركات عدة جمعت بين الرجلين ونسجت خيوط الصلة بين تجربتيهما في الحياة العامة وفي اليومي الحياتي الخاص، وهي مشتركات تميط النقاب عن سر تلك الوشيجة التي انغزلت بمغازل الجذب بين الرجلين فأخذتهما إلى تجربة في العمل مشتركة، وإلى التنزل في البلد منزلة النموذج المرجعي للوطنية الصافية من الأخلاط، وللكفاءة والاقتدار في أداء المسؤوليات العامة، ثم للنزاهة ونظافة الكف وسواهما من رفيع الأخلاق.
ليس تفصيلا أن يكون مأتى كل منهما من بيئة وطنية جامعة لا أثر للعصبية الأهلية وسافل غرائزها فيها. يكاد سليم الحص - منذ دخل معترك الحياة السياسية منتصف السبعينيات- أن يشذ عن قاعدة معممة ومتوارثة تقضي بأن يولد السياسيون اللبنانيون من أصلاب سياسيين لبنانيين سابقين، على نحو باتت معه العائلات السياسية أحزابا أو بيئات تنجب أحزابا ملحقة! صعوده وبزوغ نجمه في سماء السياسة اللبنانية كسرا هذه القاعدة كسرا؛ حيث جاء إلى الحياة العامة محمولا على صهوة الكفاءة لا على محامل العائلة. قليلون هم أولئك الذين يشبهونه في هذه الخصلة من كبار رجال السياسة في البلاد، منهم ميشيل عون وحسن نصر الله مثلا.
لعل هذا ما منح السياسة عنده معنى واحدا التزمه ولم يحد عنه هو المعنى الوطني، فظلت تقترن السياسة، في وعيه وسلوكه، بالوطنية وبهذا المعنى مارسها طوال الفترة المديدة التي تقلد فيها مسؤوليات حكومية، أو بعد أن تفرغ لأداء أدوار وطنية جامعة في مواجهة الاستقطاب الداخلي حين ابتداء أمره في العام 2005. هذه عينها خلفية تكوين جورج قرم: في بيئة وطنية نبتت شخصيته وشبت وتفتق أمامها أفق غير ملوث بهواء عصبوي خانق. هكذا أيضا تجسدت قيم الوطنية في فكره ونصوصه في أجلى صورها: في دفاعه عن الكيانية الوطنية اللبنانية المتمسكة بعروبتها وبانشدادها إلى فضائها العربي الرحب؛ في تمسكه الثابت باستقلال لبنان وقراره الذي لا يكون إلا من طريق كسر علاقات التبعية التي تشده إلى مراكز الرأسمال والعولمة، ومن طريق بناء اقتصاد وطني منتج ومستقل؛ في نقده الجذري للنظام الطائفي في البلاد وما ينتجه من انقسامات وأزمات وحروب داخلية؛ في دفاعه المستميت عن الحداثة وحياد الدولة أمام الدين وبناء الدولة الوطنية الحديثة القائمة على مبدأ المواطنة وسلطة القانون...إلخ. عند هذا الجامع الوطني العريض التقيا وكان من لقائهما كبير العوائد والفوائد على لبنان الوطن ولبنان الثقافة والفكر.
شأن الكفاءة والاقتدار شأن الوطنية في المكانة والمقام: أعني في ميزان القيم. ومع أن الوطنية لا تكفي لكي تولد الكفاءة إلا أنها شرط لازب لها، على الأقل من زاوية كونها تمنع النفس من إتيان فعل تعلية المصلحة الخاصة على مرتبة المصلحة العامة؛ وفي ذلك مطعن وأي مطعن في أخلاقيات الكفاءة. والحق أن الكفاءة ثمرة اجتماع فعل عاملين اثنين معا في صاحبها: الوطنية بما تعنيه من تجرد من أي ميل إلى الانتفاع الشخصي على حساب حقوق الشعب والدولة، والزهد في طلب الحقوق الخاصة حين تشتد الضائقة على الحقوق العامة، من جهة، والمعرفة التي لا غنى عن استثمار رأسمالها في الشؤون العامة من جهة أخرى. ولقد كان للرجلين حظ رفيع من التكوين العلمي والأكاديمي تلقياه في لبنان ومصر وفرنسا (جورج قرم) وفي لبنان والولايات المتحدة الأمريكية (سليم الحص). هكذا رتب رأسمال المعرفة نتائجه على مسار الرجلين ترتيبا موضوعيا ما كان حيز الاختيار فيه كبيرا. لم يختر الأستاذ الجامعي في الجامعة الأمريكية في بيروت، الذي كانه سليم الحص قبل منتصف السبعينيات من القرن الماضي، أن يتحول إلى رجل سياسي ورجل دولة وإنما أتت به كفاءته العلمية إلى ذلك حين اختاره الرئيس الشهابي إلياس سركيس رئيسا للحكومة: في اللحظة الحرجة التي كان فيها لبنان يفقد أعصابه وصوابه فيواجه بعضه بعضا في موجات متلاحقة من الجنون الجماعي. مع ذلك، لم يتوقف الرئيس الحص عن التأليف وإصدار الكتب بالعربية والإنجليزية ونشر المقالات في صحف «النهار» و«السفير» و«الخليج» وسواها؛ ذلك أن السياسي فيه لم يبتلع المفكر أو يبطل فعله ويخمد جذوته. وما سعى جورج قرم، من جهته أيضا، إلى السياسة ولا خطب ودها (ما خلا تنزيله إياها موضوعة رئيسة في كثير من مؤلفاته)، وإنما هي التي سعت إليه وتحرشت به واستدعته إلى رحابها العملية أيان أدركت الدولة مسيس حاجتها إلى رجاحة علمه. لم يسلس لها قرم القياد طائعا حين طرقت بابه، بل استجاب لها لأنها خاطبته بلسان أنظف رجالاتها (الرئيس الحص). هكذا وجد جورج نفسه وزيرا للمال في حكومة الحص، مؤتمنا على مالية أرهقتها حقبة إعادة الإعمار وبرنامج الاستدانات الثقيلة الأكلاف... وسياسات التبذير المنحدرة من مطالع الثمانينيات. حين أدى واجبه الوطني خير الأداء، عاد إلى عرينه قلما رفيعا نادر الأشباه والنظائر في الفكر العربي المعاصر: على ما تشهد على ذلك عشرات من مؤلفاته المنشورة بالفرنسية والعربية، من غير أن يقطع آصرة بالسياسة و الشأن العام؛ حيث ظل مهجوسا بذلك لا على صعيد الكتابة والتأليف فحسب، بل حتى في ميدان العمل العام.
لم يتوسل أي من الرجلين عصبية أو حزبا أو مليشيا أو سفارة أجنبية لينهض بدوره؛ فلقد كانا مؤمنين بأن المواطنين الواعين مواطنيتهم وحقوقهم والمنخرطين في تقرير مصيرهم الوطني الجامع هم «عصبيتهم» وحزبهم وجيشهم الذي به يخوضون معركة بناء الدولة الوطنية المستقلة الإرادة والسيدة على قرارها وأرضها ومياهها، والمندمجة في محيطها العربي. لذلك وقفا - وقفة المطمئن إلى عدالة موقفه وإلى دعم حاضنته الوطنية- يقارعان الطائفية والطائفيين بلا هوادة، ويحاربان الفساد ويشهران به، ويدافعان عن المقاومة وسلاحها، وعن العروبة وفلسطين... لا ينزلون عن هذا المعدل مقدار قيراط.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی لبنان جورج قرم
إقرأ أيضاً:
بحضور قيادات الصناعة.. عاشور يناقش آليات تطبيق السياسة الوطنية للابتكار المستدام
شهد الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي، على هامش إطلاق السياسة الوطنية للابتكار المستدام، وتفعيلًا للمبادرة الرئاسية “تحالف وتنمية”، جلسة حوارية لمناقشة آليات تطبيق السياسة الوطنية للابتكار المستدام، بحضور لفيف من رؤساء الجامعات وقيادات الصناعة ورواد الأعمال.
شارك في الجلسة الدكتور حسام عثمان، نائب الوزير لشؤون الابتكار والبحث العلمي، (ممثلًا عن الحكومة)، والدكتور محمد سامي عبدالصادق، رئيس جامعة القاهرة، (ممثلًا عن الجامعات)، والدكتور هشام هدارة، (ممثلًا عن مجتمع الصناعة)، والدكتورة داليا إبراهيم المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة نهضة مصر لريادة الأعمال، (ممثلًا عن المستثمرين)، والمهندس أحمد وادي المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة Money Fellows، (رائد أعمال)، وأدارها الإعلامي أسامة كمال.
وخلال الجلسة، أكد الدكتور حسام عثمان اهتمام الوزارة بدعم الابتكار وريادة الأعمال والبحث العلمي، مشيرًا إلى أن الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية تمتلك إمكانيات هائلة على مستوى البنية التحتية والمعلوماتية والموارد البشرية.
وأكد أن الدولة المصرية تستهدف دعم الشباب ليكونوا قادرين على تلبية احتياجات سوق العمل المحلي والإقليمي والدولي.
من جانبه، استعرض الدكتور محمد سامي عبدالصادق مبادرات الجامعة لتشجيع ريادة الأعمال بين الطلاب، وتشجيع فكر الشركات الناشئة، مشيرًا إلى أن الفترة القادمة ستشهد اهتمامًا متزايدًا بدعم الابتكار وتحويل مخرجات البحث العلمي إلى منتجات ذات قيمة اقتصادية تُسهم في خدمة الاقتصاد الوطني.
ولفت إلى أن الشركات الناشئة لخريجي الجامعة حققت عوائد كبيرة، وهو الأمر الذي يستلزم استمرار تقديم الدعم لهذه الشركات.
في السياق ذاته، ثمن المهندس أحمد وادي تفعيل المبادرة الرئاسية "تحالف وتنمية" التي ستسهم في دعم جهود توطين الصناعة والابتكار، وتشجيع الاستثمار، مشيرًا إلى أهمية تقديم الدعم للشركات الناشئة بما يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني، وإحداث تنمية اقتصادية بمختلف أنحاء الجمهورية.
وأشادت الدكتورة داليا إبراهيم بتشجيع الوزارة واحتضان الشركات في مجال التكنولوجيا، مشيرة إلى أهمية دعم الدولة للشركات الناشئة، لافتة إلى أهمية الربط والتكامل والتعاون بين الوزارة وقطاع الأعمال، لتشجيع رواد الأعمال والمبتكرين.
من جانبه، أشار الدكتور هشام هدارة إلى أن الابتكار هو الأساس لتحقيق التنمية المستدامة في مختلف المجالات، مؤكدا أهمية دور الجامعات المصرية والمراكز البحثية لدعم البحث العلمي والابتكار وتقديم مخرجات بحثية قابلة للتطبيق، وأن تكون الجامعة هي ركيزة أساسية لدعم الابتكار وريادة الأعمال.
وفي تعقيبه، ثمن الدكتور أيمن عاشور الأفكار والرؤى التي طُرحت خلال الجلسة، أكد أهمية ربط الأبحاث العلمية بالصناعة والخطط التنموية والاحتياجات المجتمعية في الأقاليم الجغرافية السبعة لجمهورية مصر العربية.
وأشار الوزير إلى أن دور الجامعات لم يَعُد يقتصر على الدور التعليمي فحسب، بل امتد إلى الدور البحثي والمجتمعي والابتكاري ودعم جهود ريادة الأعمال والابتكار وإحداث طفرة تنموية، مؤكدًا أن الجامعة أصبح لها دور لدعم الصناعة أيضًا من خلال تأهيل الطلاب ليكونوا مؤهلين للالتحاق بسوق العمل، وهو ما يُسهم في الارتقاء بالاقتصاد الوطني.
كما استعرض الدكتور مصطفى رفعت أمين المجلس الأعلى للجامعات جهود المجلس في هيكلة لجان القطاع، بما يسمح بتطوير المناهج الدراسية، وكذلك إطلاق الإطار المرجعي الإسترشادي الموحد للتعليم العالي في مصر.
وأشار إلى أن الأطر التي ستُنشأ عن هذا الإطار تدعم البحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال، مؤكدًا أن هذه الخطوات تدعم البحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال، وتعزز تنفيذ المبادرة الرئاسية "تحالف وتنمية" من خلال إنشاء تحالفات إقليمية تعظم الأثر الاقتصادي.
وصرح الدكتور عادل عبدالغفار المستشار الإعلامي والمتحدث الرسمي للوزارة، بأن الجلسة تناولت السياسات والخطط المستقبلية لدعم الابتكار وتوفير بيئة محفزة لمختلف القطاعات، إلى جانب مناقشة آليات تنفيذ السياسة الوطنية للابتكار المستدام ضمن الإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي والبحث العلمي، وأثرها على القطاعات الإنتاجية والخدمية، وسبل ضمان نجاحها وتطبيقها بفاعلية.