الوحدة نيوز:
2024-11-23@10:56:58 GMT

سِفْرُ غزّة

تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT

سِفْرُ غزّة

فراس موسى*

مطرٌ ثقيلٌ حامضٌ.. مطرُ الرصاص يجيئنا من كلّ صوبٍ.. نفتحُ الشبّاك.. تغلقهُ المدافع بالصدى.. لا كهرباءَ ولا مياه.. وليس من صوتٍ سوى لَسْع المدافع.. ليلُنا ليلٌ طويلٌ.. ليلُنا ليلٌ تبنّتْهُ القذائفُ.. والمنايا.. الطائراتُ ترشّها كالرزّ فوق رؤوسنا..

 

٭ ٭ ٭

 

جاري يقول لجاريَ الثاني: ستنفدُ ربّما كلُّ الرؤوس هنا.

. لكنْ ذلك القنّاصُ ابنُ الكلبِ لم يتعبْ..

 

٭ ٭ ٭

 

رصاصٌ طائشٌ.. مطرُ الرصاص يسحُّ من كلّ الجهات.. الشرقُ غربٌ.. والشمالُ هو الجنوبُ.. هنا ستنعجنُ الجهاتُ ببعضها عمّا قليلٍ.. صلبةٌ هذي الصبيحةُ كالحديد.. هنا العصافيرُ الصغيرةُ لا تغنّي مثلما كانتْ تغنّي.. طائراتُ الموت مثل النحل ذاهبة وآيبة تشجُّ طفولةَ الأشياء.. تبقرُ بطنَها… والراجماتُ تصبُّ – تسخو- إذ تصبُّ سعيرَها

 

٭ ٭ ٭

 

ردمٌ على ردمٍ.. هنا لا تستريحُ الطائراتُ ولا تريحُ.. ونحن نرقصُ تحت جاز القصفِ أيّاما، وأيّاما.. هنا مدن تزاحمها الشظايا.. كلُّ شيءٍ حولهُ حبلُ التفجّع والشَجَا.. إنّ المشافي غيّرتْ أثوابَها.. دورُ العبادة ترتدي زيَّ المشافي.. والبناياتُ.. الدكاكينُ.. المدارسُ.. والمطاعمُ.. والبيوتُ.. وكلُّ بسطات الفواكه والخضار.. جميعُها صارتْ مقابرَ..

 

٭ ٭ ٭

 

مشهديّاتُ السّواد كثيفةٌ ومقيمةٌ..

طفلٌ يفتّشُ بين أنقاض المنازلِ عن بقايا أهله..

جثثٌ على طرقٍ تمدُّ ثيابَها..

طرقٌ على جثثٍ تمدُّ ترابَها..

 

٭ ٭ ٭

 

أفقٌ دخانيٌّ يخرِّمهُ دويُّ الانفجاراتِ التي لا تنتهي.. تتخلّعُ الأبوابُ.. ترتجُّ البنايةُ.. يُطحنُ الباطونُ.. ينصدعُ الجدارُ.. ونحن قتلى.. لم نزلْ قتلى.. لكنْ سوف نصحو.. سوف نولدُ من جديدٍ كي نموتَ… نموتُ حسب مشيئة العبريّ.. حيث يتابعُ القصفَ الذي لا ينتهي كمسلسلٍ ويتابعُ الموتَ الذي لا يرتوي ويديرُ أغنية ليسترخي قليلا.. نحنُ تسليةٌ لهُ.. هذا زمانٌ صار فيه القتلُ تسلية.. فيا موتُ انتظرنا.. نحنُ نعرفُ / أنتَ تعرفُ أنّنا في لعبةٍ أبديّةٍ.. لا أنتَ تشبعُ أو تملُّ.. ولا الدماءُ تنشُّ..

٭ ٭ ٭

يا موتُ انتظرْ.. يا أيّها التمراحةُ الحيويُّ.. يا موتُ انتظرْ.. لسنا بطمّاعينَ.. مطلبنا بسيطٌ.. هدنةٌ عجلى ستكفي.. ساعةٌ أو ساعتان ستكفيان لجمع أشلاءِ الضّحايا.. ساعةٌ أو ساعتان ستكفيان لكي نرتّبَ مسرحَ القتلِ المُعادِ.. لكي نعدّلَ في السيناريو.. ربّما ملَّ المشاهِدُ مشهدَ القصف الرتيب.. وساعةٌ، أو ساعتان ستكفيان ليلتقي الموتى بمَنْ ماتوا حديثا.. كي يقولَ الآخرونَ لآخرينَ: هناك في الأفق المدمّى.. كيف أحوالُ الحياة؟ وساعةٌ أو ساعتان ستكفيان لكي نفتّش عن مياهٍ في شرايين الصهاريج التي نسيتْ طوابيرُ القنابل أن تفجّرَ بعضَها.. كي نغسلَ الموتى من الدمِ والغبارِ ومن سِباب الهاجمين.. وساعةٌ أو ساعتان.. وبعد ذلك سوف تنفجرُ السّماءُ سيبدأُ الزلزالُ.. زلزالُ القذائفِ.. سوف يندلعُ الجنونُ.. ونحنُ مصطافونَ بين قذيفتين.. صباحُنا كمسائنا.. ومساؤنا كصباحنا.. طوقٌ من الألوان.. أحمرُ، ثمّ أصفرُ، ثمّ أزرقُ.. ثمّ لا أدري.. يضيعُ اللونُ.. أبتلعُ الدخانَ.. أنا أميلُ.. أميلُ.. تهوي فوقَ رأسي قطعةٌ من حائطٍ يهوي.. فأهوي ثمّ يوقظني الدويُّ.. ستارةٌ شجّتْ.. وأبوابٌ مخلَّعةٌ.. وأجسادٌ محرّقةٌ.. هواءٌ أسحمٌ.. تيهٌ يوزّع ظلَّه فوق الشوارع.. أسقفٌ سقطتْ.. أثاثٌ فوضويٌّ.. أرجلٌ بُترتْ.. أنينٌ مستمرٌّ.. أضلعٌ كُسِرتْ.. أصابعُ لمْ تمارسْ متعةَ اللمس الحميم.. جهنّمٌ.. أفقٌ سديميٌّ.. سماءٌ.. لا سماءَ.. هنا القيامةُ أُعلنتْ..

 

٭ ٭ ٭

 

جيشٌ يحاولُ محوَ شعبٍ ها هنا..

شعبٌ يحاولُ أنْ يحبّ حياته..

 

٭ ٭ ٭

 

صوتٌ يجيءُ من البعيد محشرِجا: هل أنتَ حيٌّ؟ لم أمتْ.. شكرا، وشكرا.. ألفَ شكرٍ.. إنّ حظّي جيّدٌ.. يتأجَّلُ الموتُ المحتَّم ساعة أو ساعتين.. وهكذا تتكرّرُ الأحداثُ.. كلُّ دقيقةٍ موتٌ جديدٌ.. هكذا تمضي الدقائقُ كالسلاحف.. يُفلس الصبرُ الجميلُ.. رصيدنا صبرٌ.. وألفُ قذيفةٍ أخرى على الأبواب تنتظرُ الدخول.. قذيفةٌ أولى.. وثانيةٌ.. وثالثةٌ.. وعاشرةٌ.. صباحَ القصف.. يا أهلا وسهلا.. مرحبا يا خانيونس.. يا جباليا.. بيت لاهيا.. غزّة.. يا هيروشيما.. يا درسدن.. يا هانوي..

 

٭ ٭ ٭

 

يموتُ مَنْ ماتوا.. «بياناتٌ.. لقاءاتٌ.. حواراتٌ.. نداءاتٌ.. إداناتٌ.. تصاريحُ.. اتصالاتٌ..» وماذا بعدُ؟ ماذا؟ تبدأُ السهراتُ والويسكيُ أنهارٌ.. « وأمريكا تُبيح الموت.. ثمّ تحرّك الخيطانَ فوق المسرح الدمويّ.. والدولُ الصديقةُ مثلَ عادتها تطالبُ بالهدوء وبالتروّي…» نشرةُ الأخبار ترجو أطيبَ الأوقات فانتظروا هبوبَ النشرة الأخرى!

 

٭ ٭ ٭

 

يموتُ الميّتون.. يعاودون الموتَ… لا أحدٌ يسجّيهم.. ولا أحدٌ يشيّعهم.. ولا أحدٌ يزورُ قبورَهم.. أو يَشْكلُ الآسَ الدميعَ.. فلا قبورَ لهم.. لأنّ الأرضَ.. كلَّ الأرض مقبرةٌ

٭ ٭ ٭

يموتُ الميّتون.. يعاودون الموتَ.. والعبريُّ يشرب نخبَ آلاف الضحايا.. نخبَ طفلٍ ضائعٍ.. أو جائعٍ.. أو دامعٍ… أو نخبَ أمٍّ لم تجدْ بنتا.. وبنتٍ لم تجدْ أمّا لأنّ قذيفة في الليل لم تخطئْ فراشَهما.. ونخبَ الانتصار على الطفولة.. نخبَ آلاف الذين تبعثروا فوق الخريطةِ.. نخبَ مَنْ صار الصليبُ وسادَهُ الأبديّ.. أو صار النحيبُ نشيدَهُ الوطنيَّ.. نخبَ إبادة الإنسان.. نخبَ تفوّق الشيطان.. نخبَ جميع مَنْ قُتلوا..

 

٭ ٭ ٭

 

يموتُ الميّتون.. يعاودون الموتَ… تلفازُ العروبة ينتقي أحلى الأغاني للمشاهِد ثمّ يُعلن أنّ جوَّ اليوم سوف يكون معتدلا ربيعيّا يناسبُ نزهة.. ويبثُّ فيلما عن سلالات الضفادع ثمّ إعلانا تجاريّا عن الكولا.. لكنْ في القطاع وفي القطاع وفي القطاع يموتُ مَنْ ماتوا.. هنا لا صوتَ يعلو فوق صوت الموت في هذا الفضاء الفوضويّ.. ونحنُ نغلي فوق نيران الأثافي.. أشتهي عند الصباح حمامة تروي خوائي بالهديل.. ألوبُ في البيت المسيَّج بالتوجّس مثل لصٍّ… أفتحُ الصحفَ التي ولِدتْ حديثا ثمّ أغلقها سريعا فالنقيقُ هو النقيقُ..

 

٭ ٭ ٭

 

تسلّلوا من أسطر التلمود.. أهدونا النواحَ.. ومدّدوا هذا الهواءَ الرهوَ فوق أسرّة البارودِ.. باعونا ثيابَ الذئب.. ربّوا دمعَهمْ.. طرحوا الخرافةَ.. ذبّحوا رجلا يبيعُ نهارَ عينيه ويرهن قلبَهُ من أجل أرغفةٍ.. أو امرأة برتْ أقدامَها الطرقُ اللئيمةُ كي تعيلَ صغارَها.. أو أسرة نامتْ على الباطون في ليلٍ مطيرٍ تحت أغطيةٍ من الخيش المعفّر.. طفلة وهبتْ ضفائرَها لكفّ الريح.. تعلكها وطفلا في ندى ضحكاتِهِ ولعُ العصافير الصغيرة.. شاعرا صهلَ: الحياةُ جميلةٌ.. سأعيشها..

٭ ٭ ٭

عند الظهيرة يرتخي النحلُ المدندنُ في دمي أمشي على قلقٍ يسوسُ مشاعري وأعدُّ خطواتي.. أحرّكها على ورق الرياضيّات كي لا أوقظَ التنّينَ.. كي لا أجرحَ الصمتَ النفورَ.. أمارسُ التحديقَ في اللاشيء.. تسرقني احتمالاتُ الوفاة.. وأحرسُ الأفكارَ من قصفٍ فجائيٍّ يبعثرها.. أرجّعُ لحنَ أغنيةٍ تداعبُ قلبيَ المكسورَ والمكسوَ بالفوضى.. أجولُ كحارس بين الدقيقة والدقيقة.. ثمّ أُرخي أرسنَ الصلواتِ كي تعدو على درج السماء خفيفة.. وتقودني الصحراءُ في حلقي إلى دهليز مطبخنا.. يغازلني قنوطٌ دافقٌ عذبٌ زلالٌ حين لا أجدُ المياهَ.. فأحتسي دمعي.. وأحلقُ بالشتائم عانةَ الدنيا.. ويسألُ جارُنا بعد التحيّة: كم لبثنا / كم سنلبثُ في الجحيم؟ وكم يدوم تغلغلُ السكّين في لحم الضحيّة؟ هل نؤدّي دورَنا في المسرحيّة مثلما رسمَ المسدّسُ؟ من يقيّمنا؟ ومن يزن الأداءَ.. أداءَنا؟ هل يُحسنُ الشعراءُ وصفَ نهارِنا، ودوارِنا، وفرارِنا نحوَ المياه الباطنيّة في قصائدهم؟ وهل أهلُ السماء يتابعون صعودَنا اليوميّ نحو سمائهم؟ كم مرّة يتكرّرُ الموتُ الذي عشناه أو سنعيشه؟

 

٭ ٭ ٭

 

عند المساءِ تضيءُ قلبي العتمةُ الطلساءُ.. أغلي إذْ أفتّشُ عن مفاتيح النهار فلا أصادفُ أينما أمشي سوى قلقٍ من الآتي الذي يستنسخُ الماضي.. سوى قلقٍ من الماضي الذي يستنسخُ الآتي.. أنا في بطن حوتٍ يطحنُ الساعاتِ.. كلُّ دقيقةٍ دنيا يثقّبها الرصاص… أجوسُ مثلَ الدومريّ خلال منزلنا.. تهدهدني الكآبةُ فوق ركبتها.. أصادفُ شمعتين.. فأشكرُ الحظَّ البخيلَ على عطاياهُ الكثيرةِ.. جيّدٌ جدّا… سأبني لي من اللاشيء شيئا.. تسعلُ الولاعةُ الخرساءُ.. تصحو شمعةٌ.. ترفو ذبالتُها ليَ الجوَّ المبقَّعَ بالأنين وبالدماء

 

٭ ٭ ٭

 

فمَنْ له حقٌّ بإخصاء الحياة هنا؟ وهل عادتْ عصورُ الجاهليّة؟ مَنْ لهُ حقٌّ بعرش الله؟ هل للموتُ جنسٌ؟ مَنْ يكلّفهُ؟ وهل صار الدمُ العربيُّ أرخصَ ما عليها؟

 

٭ ٭ ٭

 

يطلقُ العبريُّ أسرابَ القذائف ثمّ يُردفها بزقزقة المدافع.. ينهضُ الفجرُ الذي يفتكُّ نفسَه من مخادنة الظلام.. ولا ننامُ سوى لماما.. لا ننامُ لكي ندامرَ خوفَنا.. كي نمنعَ الطيرانَ من تهجيج أحلام الذين يعانقون الموتَ غصبا..

 

٭ ٭ ٭

 

ينثرُ الطيرانُ عند الصبح آلافَ التحايا.. تُشنقُ الشمسُ النحيلةُ خلف أمواج الدخان.. يفرِّخُ العبريُّ كلَّ دقيقةٍ سمّا جديدا ثمّ يبكي حين لا تزداد أعدادُ الضحايا.. يمتطي الحقدَ الولودَ.. يدورُ حول نصاله زهوا ويبني للجريمة ألفَ طقسٍ فالجريمةُ أوكسجينُ حياته.. ويدورُ حول نصاله زهوا ويرقصُ فوق أجسادٍ.. يمرّغُ نفسَه بالانتصارِ / الوهمِ.. ينثرُ كيفما يهوى بقايا لحمنا المحروقِ والممهورِ بالفوسفور.. يعطي للثعالب ألفَ درسٍ حين يلتحفُ البراءةَ.. ليس لي دورٌ بما يجري يقولُ.. أنا المبرَّأُ والقتيلُ…! وهكذا يغتال بالكلماتِ مرآةَ الحقيقة.. يرتدي جسدَ الضحيّة.. يستعيرُ دماءَها الينبوعَ.. يُلبس صوتَه صرخاتِها يبني مناوحَ.. والضحيّةُ ترتدي طلقاتِ مدفعه المعبَّأ دائما..

٭ ٭ ٭

 

الآنَ ترتفعُ الستارةُ والإثارةُ من جديدٍ.. سوف تبدأ جولةٌ أخرى من اللعب المضرّج بالدماء وبالصراخ.. قلوبُنا موجودةٌ.. هي جولةٌ أخرى وتنويعٌ جديدٌ.. سوف نلبسُ غابةَ الإنصات.. كونشرتو يشيعُ الرقصَ في الأطراف.. تنثالُ القذائفُ من جديدٍ.. يبدأُ التصويرُ.. (غرْنيكا) معدَّلةٌ قليلا.. ريشةُ العبريّ.. أعني حقدَهُ المغموسَ بالفوسفور قد أعطى لـ (غرْنيكا) بيكاسو سحنة عربيّة..

 

شاعر فلسطيني

 

 

المصدر: الوحدة نيوز

كلمات دلالية: الامم المتحدة الجزائر الحديدة الدكتور عبدالعزيز المقالح السودان الصين العالم العربي العدوان العدوان على اليمن المجلس السياسي الأعلى المجلس السياسي الاعلى الوحدة نيوز الولايات المتحدة الامريكية اليمن امريكا انصار الله في العراق ايران تونس روسيا سوريا شهداء تعز صنعاء عاصم السادة عبدالعزيز بن حبتور عبدالله صبري فلسطين لبنان ليفربول مجلس الشورى مجلس الوزراء مصر نائب رئيس المجلس السياسي نبيل الصوفي

إقرأ أيضاً:

العمدة صالح كوري: احرص على الموت توهب لك الحياة

العمدة صالح كوري:
احرص على الموت توهب لك الحياة

كتب – عثمان أبوزيد
حدثني الطيب الأمين من ولاية سنار عن مواقف إقدام وثبات لسكان بعض القرى حاربوا بالسهام وقليل من السلاح فاستطاعوا حماية أنفسهم وأموالهم من الجنجويد.
ذلك ما فعله مستنفرون شباب من قبائل الامبررو في جنوب الدندر وجنوب القضارف وجنوب النيل الأزرق، كان لهم دور بطولي في دحر وصد المليشيا المتمردة من الجنجويد والمتعاونين معهم بأسلحة بسيطة ومنها الأسلحة التقليدية الفتاكة.
يقول الطيب:
أذكر كنت في سفر بين الدمازين والكرمك والوقت في بداية الخريف والطرق شبه رملية، يعني العربات يمكنها السير ببطء وكنا من وقت لآخر ننزل من العربة ونمشي محاذين لها على الأقدام. في أثناء سيرنا وبعد منطقة باو وجدنا مجموعة من أبناء الامبررو يلعبون ويتبارون في إطلاق النشاب (السهام) على أشجار مستقيمة يسمونها (الطارايه) شبيهة بأشجار البان في وسط وشمال السودان، ولا تخطئ هذه السهام الأشجار لدقة التصويب فوقفت معهم مداعبا وقللت لهم من شأن هذه السهام، ولكن أحدهم حاول إقناعي بأن هذا السهم يقتل الفيل وقال لي: لو ما مصدق خذ رأس هذا السهم وضعه في لسانك ولم أفهم كلامه في البداية ولكني شاهدت أن هذه السهام موضوعة في جراب مكور وقيل لي إن به مادة قاتلة، ويمكن للسهم أن يقتل الفيل وهنا ضحكوا قليلا وتركتهم. ولحقت بعربتنا التي تترنح بين أشجار الطارايه وأنا أحدث نفسي أن هؤلاء قد حصنوا أنفسهم وأنعامهم من الحرامية والهمباتة.
ويروي حليم عباس قصة العمدة صالح كوري الرجل الذي واجه الدعامة عندما أوغلوا في المنطقة على متن عرباتهم القتالية المدججة بالدوشكا، فأتاهم الموت من حيث لم يحتسبوا… يأتي سهم في عنق سائق التاتشر فيرديه قتيلا دون أن يعرف من أين جاء وكيف؟ فهذا الشيء الذي ينغرز في العنق أو العين أو الرأس ما هو إلا قشة قاتلة.
بعد اجتياح مدينة سنجة ثم الدندر انتشر الجنجويد جنوبا وشرقا وبدأوا في نهب القرى في مناطق الدندر والرهد حتى تخوم ولاية النيل الأزرق دون أن يواجهوا أي قوة عسكرية. منطقة واسعة مفتوحة جنوب وشرق الدندر وعبر الجزء الجنوبي من ولاية القضارف إلى الحدود الأثيوبية. هناك حيث يستطيع الجنجويد أن يعيثوا فسادا دون أن يسمع بهم أحد. ولكن مقاومة العمدة صالح كوري غيرت المعادلة في تلك المنطقة. وجد الجنجويد أنفسهم أمام قوة ربما لم يتوقعوها، تفزع وتهجم وتتسلل وتطارد، وفي النهاية تم طردهم وتطهير المنطقة وتأمينها.
حلة إسمها “دبركي”، دخلها الجنجويد صباحا ونهبوها، بضائع السوق وسوق البهائهم؛ جمعوا البضائع بمهلة واطمئنان في كشك في السوق، وذهبوا إلى جزار وأخذوا منه بهيمة وأتوا بها إلى امرأة لتشويها لهم، فأكلوا ثم طلبوا منها أن تعمل لهم القهوة ولكن أحد المواطنين كان قد اتصل بالعمدة صالح، أفزعنا!
وصلت قوة صغيرة من قوات العمدة وانضم لها مواطنون مسلحين من الحلة وقع اشتباك وشهداء من المواطنين ولكن لم يخرج من الدعامة سوى ثلاثة لاذوا بالفرار.
أخبرني محدثي – والحديث ما يزال لحليم عباس – بأنه في تلك الأيام التي أعقبت سقوط سنجة والسوكي والدندر وقد نزح الآلاف، ومن لم ينزحوا في مناطق الرهد والحواتة بالذات كانوا قد حزموا أمتعتهم استعدادا للنزوح، وكلهم تقريبا نقلوا أموالهم وأسرهم وعرباتهم إلى مناطق أبعد، اتصل عليه أحدهم ليخبره: يازول ود عمكم دا قاطع ماش أم بقرة (يقصد قاطع نهر الرهد بالمركب). فسأله باستغراب واستنكار: ماش أم بقرة يا؛زول ماله ومال أم بقرة عمدة صالح؟ عنده نعجة هناك؟ عنده بقرة؟ عنده بيت؟ عنده شنو؟ قاطع بي جيش؟ قاطع بشنو؟
أجاب الرجل: والله قاطع معاه وليدات كدي ساي وماش.
قال محدثي: اتصلت عليه، عمدة صالح ياخ ما تكمل القبيلة. الناس ديل (يقصد الجنجويد) بتمشي بتهبشهم والله بجو يكملو القبيلة دي. يقصد مهاجمة الجنجويد ستجر الويلات على القبيلة كلها. (خوف منطقي في تلك اللحظات).
رد عمدة صالح: القبيلة خليها تكمل!
بقوة صغيرة راجلة، ثلاثة بنادق والباقي نشابات عبر العمدة صالح نهر الرهد إلى الضفة الأخرى. بلا سيارات وبذخيرة محدودة. في الضفة الأخرى توجد عربات لمواطنين هربوا من الدندر وتركوها لأنهم وجدوا النهر ممتلئا ونجوا بأنفسهم. جاء الدعامة لأخذ العربات ولكنهم وجدوا الموت في انتظارهم، وأنقذت العربات.
هكذا بدأت رحلة مقاومة طويلة للجنجويد من مناطق نائية بعيدة معزولة بظروف الطبيعية والخريف والأمطار والخيران انتهت بمطاردة الجنجويد حتى الدندر وما تزال مستمرة. معارك عديدة دارت في قرى غير معروفة مثل “دبركي”، “أم بقرة”، “عبدالبنات”، “الدليبة”، “منوفلي”، “حلة بلة” وغيرها، وصولا إلى كامراب قرية الجنجويد التي اشتهرت مؤخرا، ليتم تطهير القرية التي أصبحت جنجويدا بأكملها. في كامراب تم قتل وأسر العديد وهرب من هرب.
سعى العمدة نحو الجنجويد بنفسه بقدميه في البداية ثم على ظهر جمل وقاتلهم من على ظهر “تركتر زراعي”. رجل بسيط نحيف البنية يقود مجموعة شباب من أهله بإمكانيات قليلة ليطارد الجنجويد في مناطق لا يملك فيها لا مال ولا بيوت وليس لديه فيها عشيرة. ولم يستنفره أحد؛ مجرد غريزة فطرية ضد ظلم وإجرام الجنجويد. لذلك حظي بشعبية كبيرة في مناطق الرهد والدندر.
بدأ اسمه في الظهور في لحظة بلغ فيها الجنجويد أوج تمددهم بعد جبل مويا ثم سنجة والدندر وبدا أنهم سيزحفون نحو النيل الأزرق وربما القضارف. لحظة وصلت فيها الروح المعنوية للناس في مناطق الرهد والدندر إلى الحضيض؛ هزائم عسكرية ونزوح جماعي هربا من الجنجويد الذين ينتشرون مثل الطاعون، في تلك اللحظات بدأ الناس يسمعون أن رجلا اسمه صالح كوري قاتل الجنجويد في قرية تسمى أم بقرة واستطاع أن يسترد منهم تراكتورات زراعية كانوا قد نهبوها. خبر واحد جيد وسط المآسي والإحباط والخوف، فكرة مقاومة الجنجويد بواسطة مواطنين حتى لو كانوا مسلحين كانت تبدو غير منطقية مع الهزائم التي تعرض لها الجيش. من هنا بدأت قصة العمدة صالح كوري بالنسبة لأهل المنطقة.
في مناطق نفوذه دعا المزارعين للاستمرار في زراعتهم وطلب من سكان القرى عدم النزوح وتعهد بحمايتهم.
كانت تلك هي البداية، بعدها طلب العمدة الفزع بالذخيرة والرجال. طلب المساعدة من أهله ثم من الحكومة في لحظة كان يُمكن للدعم السريع أن يمده بما يريد من سلاح وعتاد وعربات، لو انضم لهم وهم حاولوا معه.
ولكن العمدة مقاتل قديم منذ التسعينيات. وعلاقة العمدة صالح مع الجيش تجددت مرة أخرى تقريبا في العام 2017 للمساعدة في تأمين الشريط الحدودي مع أثيوبيا من جنوب ولاية القضارف إلى النيل الأزرق حيث تنتشر قبائل الفلاتة الرعاة الذين يشكلون حائط صد طبيعي ضد (المليشيات الأثيوبية) الذين يعبرون الحدود في تلك المناطق ليحتلوا المشاريع الزراعية وينهبوا القرى المتاخمة للحدود ويشردوا أهلها. ويبدو أن هناك اتفاق ضمني يسمح الجيش بموجبه للمليشيات التابعة لعمدة صالح بحمل السلاح لتسرح وتمرح في المنطقة في مقابل تأمين الحدود من الأحباش.
استطاع العمدة صالح تكوين قوات هجومية تقدر ببضعة آلاف استطاعت التصدي لإجرام الجنجويد في مناطق واسعة بين الدندر وجنوب ولاية القضارف والنيل الأزرق. خاضت قواته معارك شرسة وكبدت الجنجويد خسائر واحتسبت شهداء. تطورت قواته لتضم قبائل أخرى من العرب الكنانة والمساليت وأولاد الصعيد وغيرهم، ليهبوا لحماية مناطقهم ويتقدموا إلى الدندر وقريبا سنجة ثم ضمن الزحف الكبير لجيوش سنار نحو الجزيرة ومدني.
قوات العمدة صالح حاليا تعمل كقوات عمل خاص تابعة للجيش وتحت إمرته تقاتل بوعي وطني ضمن ملحمة الكرامة التي تجري على امتداد التراب السوداني المترامي الأطراف، وفي كل جزء منه بطولات وتضحيات كلها تؤكد صلابة عود هذه الدولة وأنها لن تنكسر ولن تُهزم.
قصة تستحق التسجيل، فيها العبرة والفكرة لمن يتقاعسون أو ينكصون عن حماية أرضهم وعرضهم.
وقديما قال سيدنا أبوبكر الصديق لخالد بن الوليد رضي الله عنهم: احرص على الموت توهب لك الحياة.
وقال شاعر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما…

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الموت يفجع مي عز الدين بأقرب الناس اليها
  • الموت يفجع الفنانة مي عز الدين
  • مغترب يمني ينقذ سعودي من الموت ويصبح مليونير خلال يومين
  • الموت غرقا يفجع نجم المنتخب اليمني ”عادل عباس”
  • الموت يغيب الفنان المصري عادل الفار
  • موازنة الموت!!
  • رونالدو يثير تفاعلا بإجابة على دعابة أنت على وشك الموت في حوار مع مستر بيست
  • العمدة صالح كوري: احرص على الموت توهب لك الحياة
  • الثانية خلال 24 ساعة.. منتسب يضرب زوجته حتى الموت في بغداد
  • حوثيون يدهسون طبيباً ناشئاً في إب ويتركونه ينزف حتى الموت