سعود بن حمد الطائي
الزمن: 23 من أكتوبر 1086م
المكان: سرقسطة- الأندلس
كانت سرقسطة وهي من ولايات الثغر الأعلى في شرق الأندلس تُعاني من حصار خانق وشديد فرضته عليها قوات الملك الإسبانيَّ ألفونسو السادس المُنتشي باستيلائه على طليطلةَ في السنة الماضية.
عندما دخل على والديه طفل شبَّ للتو عن الطوق، وقال لأبيه: يا أبتي إني أرى جمعًا وأُبْصِر نقعًا وأسمع مِنْ وراء التلال رغاءً وثغاءً؛ فاستبشر والده خيرًا وقال له: يا بني إنه خميس المرابطين وقد جاءوا لنصرة إخوانهم في الأندلس بعد أن جاوز السيل الزبى، فهَلُم يا بني لنلحق بركبهم فعسى أن يكرمنا ربي ونكون من الشهداء المقبولين.
كان ألفونسو السادس قد علم بالعبور الكبير لقوات المرابطين من المغرب إلى الأندلس بقيادة أميرهم يوسف ابن تاشفين فأرسل إلى حكام سرقسطة من بني هود المحاصرين، إنه سوف يرفع عنهم الحصار ويعود أدراجه إذا دفعوا له مصاريف جيشه وزوّدوه بالمؤن والهدايا ولكن أخبار العبور الكبير كانت قد تناقلتها الأسماع والعيون فسخروا من رسالته وقالوا: له إنهم يكادون أن يسمعوا حوافر خيل المرابطين وهي تقترب يومًا بعد يوم.
فأسقط في يد ألفونسو وتخلى مرغمًا عن الحصار والفتح وكان على وشك أن يقطف ثماره وأنَّ عليه أن يذهب سريعًا للقاء المرابطين قبل أن يصلوا إليه وتولى عن سرقسطة وجمع كيده، ثم أتى بجنوده وفرسانه إلى سهل الزلاقة وهو يُمني النفس بالنصر العظيم وقد كتب إلى ملوك أوروبا ولجميع الكنائس أن توافيه بالمال والجنود فاجتمع لديه جمع غفير ومال كثير.
وعند وصوله إلى سهل الزلاقة كتب للأمير يوسف بن تاشفين رسالة يقول فيها: إن غدا الجمعة، وهي عيد للمسلمين يَذَرون فيها البيع ويُصلّون للإله الذي خلقهم من نطفة وأمشاج وإن السبت عيد لليهود والأحد عيد للمسيحيين يذهبون فيه إلى الكنائس؛ فالموعد الإثنين وليحشر النَّاس ضحى.
جمع يوسف أمير المرابطين ملوك الأندلس وقادة الجيوش، وقرأ عليهم رسالة ألفونسو وسألهم الرأي والمشورة، فأوجس المعتمد ملك إشبيلية في نفسه خيفةً، وعرِف أنها خديعة حرب وحقٌّ يُراد به باطل، فقال ليوسف: إن ألفونسو يُريد خداعنا وأن يأخذنا على حين غرة يوم الجمعة فلنُعِدّ له ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل نرهب به عدو الله، فأثنى يوسف والحاضرون على نصيحة المعتمد وجعله وملوك الأندلس جميعًا في مقدمة الجيش وجعل من خلفهم أشجع فرسانه وأفضل قواده داوود بن عائشة حتى إذا التقى الجمعان وحمي وطيس المعركة واعتقد ألفونسو أنْ لا جيش آخر في الميدان وعندئذ سيقوم يوسف وكتائبه السوداء بالهجوم الأخير.
وصدق المعتمد في قراءته وحدسه، فما إن بدأ أول ضوء للشمس من صباح يوم الجمعة حتى تدافعت موجات ثقيلة من الفرسان المدججين بالسلاح والدروع على جيوش ملوك الأندلس حتى أزاحتها عن مواقعها وشتت فصائلها لكثرة عددها وقوة اندفاعها ولكن فرسان المرابطين بقيادة داوود بن عائشة أعادتهم على أعقابهم، وردَّت كيدهم فعادوا مرة أخرى بأعداد أكبر وفرسان أكثر.
ولما رأى ألفونسو داوود بن عائشة، ظن أنَّه أمير المرابطين يوسف بن تاشفين وأن لا جيش آخَر من بعده فجمع كل ما أحضره من جنود وفرسان ونزل بنفسه إلى الميدان في حملة واحدة فاشتد القتال وحمي الوطيس وسالت الدماء أنهارا حتى أخذت الخيول تنزلق من كثرة ما سال من الدماء وفي اللحظة التي ظنَّ ألفونسو أنَّه أوشك على النصر سمع أصوات استغاثة قادمة من خلف الجيش ورأى حراس معسكره يهربون وقد مسهم الخوف وتنادوا صائحين فتلفت ألفونسو مستطلعًا وشاهد لأول مرة في حياته كتائب سوداء وهي الحرس الخاص ليوسف بن تاشفين وهم فرسان سود طوال القامة من السنغال كان يوسف قد دربهم وجعلهم في حرسه الخاص يرتدون ملابس حمراء وفي أيديهم رماح طويلة، جفل ألفونسو ومسّه الخوف لرؤية الكتائب السوداء، وقد انبثقت من باطن الأرض واستدار بجيشه لصد هجومها المفاجئ من خلف الجيش؛ فاندفعت نحوه تلك الكتائب السوداء في قوة ومضاء وطعنت برماحها الطويلة فرسان جيش ألفونسو وأخذتهم على حين غرة فكانت مفاجأة قاسية لم يتوقعها ألفونسو وعندما استدار بجيشه لصدهم.. تَنَفسَ جيش داوود بن عايشة وملوك الأندلس الصعداء وأعادوا تنظيم صفوفهم مرة أخرى واندفعوا صفا صفا نحو جيش ألفونسو الذي وقع بين الكتائب السوداء وفرسان داوود بن عائشة من المرابطين فكانت النهاية.
تمكن ألفونسو بضغط من ضباطه وحرسه من الهرب مع خمسمائة من فرسانه وآووا إلى جبل قريب يعصمهم من سيوف المرابطين وحال بينهم الليل فكانوا من الخاسرين.
في الصباح وقد انجلى غبار المعركة وصمتت أبواق الحرب خرج يوسف من خيمته الحمراء وخرج معه ملوك الأندلس وقادة الجيش إلى ميدان المعركة، وقد تناثرت فيه جثث الفرسان والجنود فأمر بدفنهم جميعاً والصلاة على المسلمين منهم بعد فصلهم عن سائر القتلى من غير المسلمين وصلى الجميع صلاة شكر للمولى عزَّ وجلَّ.
ولم يعد هنالك من جيش أو أثر يذكر لألفونسو وجيشه الجرار الذي كان يهدد به ملوك الأندلس الضعفاء وكتب يوسف للأندلس وللإسلام أن يبقى 400 عام أخرى في الأندلس ومنحها بفضل الله عمرًا جديدًا أوشك أن ينتهي وتطوى أيامه على أيدي أصحابه وتذهب ريحهم بعد نزاعهم وفشلهم في حفظ ما تركه لهم آباؤهم، إلى أن جاء أبوعبدالله الصغير في سنة 1492م وسلم مفاتيح غرناطة وقصر الحمراء للملكة إيزابيلا وفرديناند!
وبتسليم غرناطة واستسلامها، طُوَيَت صفحة مشرقة في تاريخ الحضارة الإنسانية أشرقت أنوارها ذات يوم من جبال مكة فملأت الوجود ضياءً ونورًا.
وجاءت من بعدهم أقوام أخرى غزت القارة الأمريكية، وأعملت في شعوبها السيف وأحرقت الأخضر واليابس، ولم تُبقِ على أحد من رجال أو نساء وأطفال وقضت على حضارات إنسانية قديمة مثل المايا والأزتك والإنكا ولم يسلم من هذه الأقوام، إلّا أهرامات في المكسيك دفنتها الغابات واحتضنتها لتبقى ما بقي من أثر لها وقرية في أعالي جبال الانديز هرب الناس إليها خائفين لتبقى شاهدة على تلك الإبادة التي لم تعرف لها الإنسانية مثيلا من قبل... فسبحان الله مُغيّر الأحوال!
"قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ" (آل عمران: 26).
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وزيرا التنمية المحلية والإسكان ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة يفتتحون حديقة الأندلس الأثرية
افتتحت الدكتورة منال عوض، وزيرة التنمية المحلية، والمهندس شريف الشربينى، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، وأنا كلوديا روسباخ وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والمديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية "الهابيتات"، والدكتور إبراهيم صابر، محافظ القاهرة، حديقة الأندلس الأثرية بكورنيش النيل بالجزيرة بعد الانتهاء من تطويرها، وذلك في ختام فعاليات اليوم الأول للمنتدى الحضرى العالمى.
بحضور اللواء إبراهيم عبد الهادى نائب المحافظ للمنطقة الغربية، ود. حسام الدين فوزي نائب المحافظ للمنطقة الشمالية، وم. منى البطراوى نائب المحافظ للمنطقة الشرقية، وم. أشرف منصور نائب المحافظ للمنطقة الجنوبية، واللواء يحيى الأدغم السكرتير العام المساعد، واللواء حسام لبيب السكرتير العام المساعد، ووزير الإسكان بجمهورية أذربيجان ، ود. رانيا هداية المدير الإقليمى لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، ود. أحمد رزق مدير مكتب الهايبتات بالقاهرة ، ومحمد أبو سعدة رئيس جهاز التنسيق الحضاري ، وم. خالد صديق المدير التنفيذى لصندوق التنمية الحضرية ولفيف من أعضاء السلك الدبلوماسى، والصحافة والإعلاميين ومحافظو القاهرة السابقين.
وأشار المهندس شريف الشربيني، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، إلى أن وزارة الإسكان، وتنفيذاً لتوجيهات القيادة السياسية، وبالتنسيق مع محافظة القاهرة، تتولى تنفيذ مشروعات إعادة إحياء القاهرة الخديوية (تم وجارٍ تنفيذها)، وذلك فى إطار خطة الدولة لإحياء القاهرة التاريخية، وتمكينها من أداء دورها التاريخي والثقافي والحضاري، موضحاً أن الوزارة تقدم كل الدعم لمحافظة القاهرة، لدفع معدلات العمل بتلك المشروعات، إضافة إلى تطوير المناطق غير الآمنة بمحافظة القاهرة.
وأوضح الدكتور إبراهيم صابر، أن أعمال تطوير الحديقة قامت بها شركة متخصصة فى الترميم التراثى والأثرى تحت إشراف وزارة الآثار وبتمويل من مديرية الإسكان بالمحافظة، مشيراً إلى أن الحديقة تعرضت للإهمال لفترة طويلة وهو ما دعا محافظة القاهرة لوضع خطة لتطويرها وإعادة الروح إليها فى إطار ما توليه الدولة من اهتمام بالحفاظ على التراث وإعادة إحيائه والحفاظ على المسطحات الخضراء.
وشملت أعمال تطوير الحديقة رفع كفاءة البنية التحتية وإصلاح شبكة الري بالحديقة ليتم بالتنقيط، وتطوير شبكة صرف النافورة الموجودة في الجزء الفرعوني بها، وترميم نماذج التماثيل الأثرية الموجودة داخل الحديقة ، إضافة إلى ترميم تماثيل ثعابين الكُبرى الموجودة في الجزء الفرعوني للحديقة ، وإزالة كل ما يعوق تمكن زائرى الحديقة من التمتع برؤية نهر النيل دون عوائق مع إضاءتها بالإضاءة التي تعطيها شكلا جمالياً للسائر فيها أو عند رؤيتها من أعلى برج القاهرة.
وتعد حديقة الأندلس التى أنشأها محمد بك ذو الفقار عام 1935 في أواخر حكم الملك فؤاد الأول أول حديقة تسجل كأثر فى مصر ضمن قائمة الآثار الإسلامية والقبطية، حيث مثلت جزءًا رئيسًا من ذاكرة أجيال عديدة كانت تستمتع بالتنزه فيها.
وتقع حديقة الأندلس في القاهرة في موقع مميز حيث تطل على النيل من الشرق وعلى أول شارع الجزيرة من الغرب، ومن الشمال تطل على ستوديو الجيب اما من الجنوب فتطل على ميدان الأوبرا الجديدة وأول كوبري قصر النيل.
وتتكون الحديقة من ثلاثة أجزاء هى حديقة الجزيرة، والأندلس، والحديقة الفرعونية، وهي مُقامة علي مساحة فدانين ونصف، ويسمى الجزء الجنوبي منها حديقة الفردوس العربية وهي علي نمط الحدائق العربية الأندلسية الموجودة في جنوب إسبانيا ، والجزء الشمالي يُسمى الحديقة الفرعونية.
ويتميز الجزء الجنوبي بوجود جوسق ( مظلة مقامة علي أعمدة مزدوجة تحمل عقود أندلسية تحمل السقف) وهو حافل بالزخارف الأندلسية العربية الهندسية والنباتية، ويتوسط الجوسق تمثال لأحمد بك شوقي أمير الشعراء من نحت المثال محمود مختار، ويلي التمثال مباشرة خمسة تماثيل علي شكل أسود ينبثق منها الماء الي بركة مستطيلة منخفضة تتوسط الحديقة تحوي نافورتين رخاماتين، ويلي ذلك جنوبا جزء من الحديقة يحتوي علي نافورة رخامية ثمانية الشكل يتوسطها عامود رخامي يحيط به ثمانية تماثيل أسود ينبثق منها الماء، ويحيط بزوايا المثمن الخارجي ثمانية ضفادع رخامية ينبثق منه الماء وعلي جانبي النافورة برجولتان خشبيتان ويلي النافورة نخيل ملوكي، أما بالنسبة للحديقة الفرعونية فهي تقع في الجزء الشمالي في جانبها الجنوبي بوابة فرعونية يتوسطها نموذج تمثال شيخ البلد مواجه للحديقة التي ينتشر بها النخيل الملوكي وغيرها من الأشجار، وتنتشر في جوانب الحديقة الفرعونية نماذج لتماثيل فرعونية مختلفة الأشكال.
وقد شهد حفل افتتاح الحديقة عروضًا فنية قدمتها اوركيسترا النور والأمل لاستعادة واحدة من سمات الحديقة التى اشتهرت باقامة الحفلات الغنائية للمطربين الكبار كعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش،ومحمد فوزي ، وكانت المطربة الكبيرة فيروز آخر من أقام حفلا غنائيا بالحديقة.
كما تفقد وزيرا التنمية المحلية والإسكان ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومحافظ القاهرة، معرضاً للحرف والمشغولات التراثية واليدوية بحديقة الأندلس والذي يضم عددا من العارضين والمنتجين بمشروع منصة " أيادي مصر " وبعض الـمنتجات التراثية مثل خيامية وشيلان وعبايات كرداسة وأحجار كريمة وخزف وفخار وخشب و مشغولات نحاس وسجاد يدوي وعرض نول حي ومنتجات زجاج ومنتجات من نبات الحلفا (صديقة للبيئة) ، كما تضمن المعرض عارضين من وزارة الثقافة ومديرية التضامن الاجتماعي بالقاهرة ومشروع الحفاظ على التراث بالتعاون مع اليونيسكو وشباب الخريجين وادارة الحفاظ على التراث بالقاهرة .
ومن جانبها أكدت الدكتورة منال عوض الاهتمام الذي توليه الوزارة لدعم المنتجات والحرف اليدوية والتراثية التي تتميز بها المحافظات المصرية، مشيرة الي ان الوزارة تسعي لمساعدة جميع المنتجين والعارضين بالمحافظات في تطوير منتجاتهم وإشراكهم في المعارض المختلفة داخل وخارج مصر ودعم جهودهم في عمليات التسويق لزيادة المبيعات وتوفير فرص عمل خاصة للمرأة والشباب .
وأشادت المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية " الهابيتات " بالمنتجات اليدوية التراثية المصرية التي يضمها المعرض والتي تتميز بتنوعها وجودتها.
كما أبدي الحضور من الضيوف المشاركين في المنتدي إعجابهم الشديد بحديقة الأندلس والمنتجات التراثية والحرفية والتي تم عرضها في المعرض.
وفي ختام الحفل أعربت أنا كلوديا عن سعادتها بالحضور في حفل افتتاح حديقة الأندلس، ختام اليوم الأول للمنتدي الحضري العالمي بالتواجد في هذا المكان الجميل والرائع والاستمتاع بأوركسترا النور والأمل.