بعد تعثر جنيف.. هل تتوسع حرب السودان؟
تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT
بعد تعثر محادثات جنيف بشأن السودان في التوصل إلى اتفاق بوقف إطلاق النار ازدادت المخاوف من تصعيد المواجهات العسكرية العنيفة!!
تقرير: التغيير
أبدى مراقبون خشيتهم البالغة من انتقال الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى مناطق جديدة، لم تصلها من قبل، خاصة بعد نهاية فصل الخريف الذي يحد من التحركات العسكرية، مما يؤدي لزيادة عدد الضحايا المقدرين حالياً بقرابة الـ19 ألفاً جراء المعارك.
وانتهت محادثات جنيف التي انعقدت بدعوة من الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة لحل الأزمة، دون اتفاق لوقف إطلاق النار، إلا أن الطرفين التزما بضمان وصول المساعدات الإنسانية عبر ممرين رئيسيين. ومع ذلك، تستمر المنظمات الإنسانية في التحذير من انعدام الأمن الذي يعيق إيصال المساعدات، حيث يعاني أكثر من 25 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي وخطر المجاعة.
رغبة استمرار الحربورغم الآثار التي خلفتها حرب 15 أبريل 2023م، إلا أن قادة طرفي الصراع مازلا يرغبان في استمرار الحرب، ويبحثان عن انتصارات جديدة دون مراعاة لحال المواطنين، الذين يعانون المجاعة والنزوح واللجوء.
وهذا ما ذهب إليه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، في لقاء مع الصحفيين بمدينة بورتسودان السبت، بأن الجيش يمكن أن يقاتل 100 عام- في إشارة إلى عدم انتهاء الحرب في القريب العاجل”.
وشدد على أن الجيش “لن يضع سلاحه ما لم ينته التمرد ولن يتعايش أو يسامح المتمردين”. وأكد أنه الآن في أفضل حالاته.
لكن القيادي بحزب المؤتمر الشعبي كمال عمر، اعتبر أن قيادة الجيش تشعر حقيقة بمرارة الهزيمة في عدة مناطق، وتسعى لتحقيق انتصار يتيح لها التفاوض، فهي تعاني من انكسار نفسي حاولت معالجته بالاستنفار، لكن لم تحقق النتائج المرجوة.
وقال: “نحن كقوى مدنية ليست لدينا مصلحة في هزيمة الجيش أو أن يخرج من هذه المعركة منهزماً، إذ نعتبره جيش الوطن رغم التدخلات السياسية التي تحدث داخله”.
وأضاف وفق جريدة (إندبندنت البريطانية): “في رأيي، تعاني الحكومة السودانية من قصور في تعاملها مع المفاوضات الحالية في جنيف لوقف إطلاق النـار، لأنها تفتقر إلى وجود مدنيين سياسيين، وهذا ما يفسر ما نشهده من عدم استقرار وغياب للفهم. ويظهر ذلك جليًا من خلال مقاطعتهم لتلك المفاوضات وإصرارهم على تنفيذ قرارات إعلان جدة التي لا تعدو كونها شعارات”.
استعداد الطرفينوبحسب مصادر عسكرية، فإن طرفي الصراع يستعدان للدخول في مواجهات عسكرية عنيفة بالخرطوم، الجزيرة، سنار والنيل الأبيض، إما بهدف استعادة السيطرة على مناطق تم فقدها أو السيطرة على مناطق جديدة عقب انتهاء فصل الخريف.
فيما قال شهود عيان لـ(التغيير)، إن قوات الدعم السريع تعمل على تحشيد قواتها في الجزيرة وسنار والنيل الأبيض لمهاجمة مناطق جديدة لإحكام وزيادة مساحة سيطرتها، للضغط على الجيش السوداني للجلوس للتفاوض.
لا نية للتوسعغير أن مستشار قائد قوات الدعم السريع إبراهيم مخير، نفى أن تكون هناك نية للدعم السريع للسيطرة على مناطق جديدة.
وقال لـ(التغيير)، “لا نية للدعم السريع لتوسيع القتال، هو لم يبدأ القتال ودعا الفرق والضباط الشرفاء لعدم التورط في الحرب التي أشعلتها كتائب الإسلاميين، والدعم السريع قاتل للدفاع عن نفسه ولحماية المدنيين”.
وأضاف: “نرجو أن يعود البرهان إلى رشده ويسلم بقية الإسلاميين ويفكك الكتائب المتطرفة ويخضع إلى الإرادة الدولية”.
وتابع: “على السياسيين الذين يؤمنون بالتغيير الحقيقي أن يبذلوا مساعٍ أكبر تجاه الضغط على البرهان ورهطه، ونهنئ هنا التكتل المدني الذي رأى النور أخيراً القوى المدنية المتحدة بقيادة الأخ المناضل هارون مديخير ونتمنى لهم التوفيق في تمثيل السودانيين الذين هم بلا صوت ولا حزب والمهمشين بلا حق في المشاركة في اتخاذ القرار”.
نطاقات السيطرةويتقاسم طرفا الصراع السيطرة على ولايات البلاد في ظل استمرار معاناة المواطنين في أغلب المناطق سواء بالقصف المدفعي أو القصف بالطيران.
ويسيطر الجيش السوداني بشكل كامل على ولايات شرق وشمال البلاد (النيل الأزرق، القضارف، كسلا، البحر الأحمر، والشمالية ونهر النيل)، فيما تبقت له محلية المناقل في ولاية الجزيرة المحاصرة من كل الجهات، ومحليات كوستي وربك والدويم في ولاية النيل الأبيض، كما تبقت له سنار المدينة في ولاية سنار بعد سقوط جميع محلياتها بما فيها الفرقة 17 سنجة، كما تبقت له الفقرة 5 الهجانة في ولاية شمال كردفان الأبيض، وفي غرب كردفان الفرقة 22 مشاة بابنوسة، وفي جنوب كردفان الفرقة 14 مشاة كادوقلي، بالاضافة إلى الفرقة السادسة مشاة في مدينة الفاشر التي تشهد معارك ضارية.
فيما تسيطر قوات الدعم السريع على 4 محليات في ولاية الخرطوم من أصل 7 تتقاسم فيها السيطرة مع الجيش، الذي تواجد في ثكناته العسكرية، منذ انطلاق الحرب.
كما تسيطر الدعم السريع على ولاية النيل الأبيض عدا الدويم، كوستي، وربك التي تحاصرها من جميع الاتجاهات بعد سيطرتها على موقع جبل موية الذي يربط النيل الأبيض وسنار والجزيرة، كما تسيطر على ولاية الجزيرة عدا محلية المناقل، وولاية سنار عدا مدينة سنار، كما أحكمت السيطرة على جميع ولايات دارفور عدا مدينة الفاشر.
حرب أشرسوفي السياق، اعتبر الخبير العسكري الفريق أول ركن محمد بشير سليمان، أن ازدياد العمليات العسكرية وارد، وأن الحرب ستستمر بصورة أشرس، مع تخطيط مليشيا الدعم السريع لتطبيق استراتيجية الانتشار الواسع والتدمير الشامل بوتيرة أسرع، مع محاولة الاستيلاء على مزيد من المدن.
وقال لـ(التغيير)، إن ذلك يتطلب من القوات المسلحة تغيير استراتيجيتها وعقيدتها القتالية الحالية، تجديداً في أساليب القتال، حيث ما باتت استراتيجية التموضع الدفاعي، والسكون الحالية ذات جدوى، كما أصبح الموقف القتالي يحتاج لإنشاء تشكيلات جديدة، مع تطوير في التسليح، هذا مع التفعيل الحقيقي لمفهوم المقاومة الشعبية الشاملة التي يحب أن تعم كل السودان مع تأمين السلاح المكافئ للسلاح الذي تقاتل به مليشيا الدعم السريع، بل أن يكون متفوقاً عليها في ذلك لحصار هذه الاستراتيجية وبما يؤدي لحسم الحرب- حسب تعبيره.
تغيير الاستراتيجيةوحول إمكانية الجيش استعادة مناطق جديدة، قال الخبير العسكري: “نعم.. يستطيع الجيش أن يستعيد كل المدن والمناطق التي تنتشر فيها مليشيا الدعم السريع إذا عمل على تغيير في الاستراتيجية، واتخاذ أساليب القتال المتحرك، المسنود بزيادة القوة البشرية (إنشاء تشكيلات جديدة)، مع دقة التخطيط القائم على المعلومات الاستخباراتية الموثوقة والمرتبطة بمبدأ الوجود الكلي، مع التفعيل الحقيقي للمقاومة الشعبية”.
واستبعد الخبير العسكري، انسحاب قوات الدعم السريع إلى دارفور، وقال: “لن ينسحب الدعم السريع لدارفور حيث الحاضنة الاجتماعية له، دون الإحساس الحقيقي بحلول هزيمته واقعاً على كافة الأراضي السودانية، وهذا ما على القيادة العسكرية إدراكه والتخطيط له تجاوزاً لحالة البطء العملياتي وإطالة الزمن التي تسير عليها وتيرة العمليات العسكرية الآن”.
استمرار القتالبدوره، قال المحلل السياسي محمد تورشين، إن انهيار مباحثات جنيف كان أمراً متوقعاً في ظل رفض الحكومة السودانية مسار تلك المباحثات.
وأضاف لـ(التغيير): “السيناريو الماثل هو التصعيد العسكري، خاصة في ظل التحركات الإقليمية والدولية واستقبال الجيش السوداني لعدد من الطائرات سواء كانت k8 الصينية أو الطائرات الروسية فضلاً عن الأسلحة، هذا يؤشر أن هناك رغبة جادة من قبل الحكومة السودانية لاستمرار الحرب”.
وأوضح أن الدعم السريع في الاتجاه الآخر، بعد رفض الجيش المشاركة في مباحثات جنيف يسعى إلى التوسع في العمليات العسكرية والسيطرة على أكبر نطاق ممكن حتى يؤثر بشكل مباشر على فرص الحكومة في إعادة السيطرة على الأوضاع لا سيما المدن الرئيسية.
وتابع: “إذا نجح الجيش السوداني في تحقيق انتصارات يمكن أن يذهب للتفاوض بشروط جديدة منها ربما استقطاب أو دمج عدد محدود من القوات في المؤسسات العسكرية الأمنية ومحاولة تجريم القيادات العليا لاسيما أسرة آل دقلو، وهذا لا يأتي إلا بتحقيق انتصار كاسح وهزيمة نكراء للدعم السريع في كل المناطق التي ينتشر فيها”.
تقسيم أم حكومة موازية؟واستبعد المحلل السياسي، أن تمضى الأوضاع إلى التقسيم لأن التقسيم دائماً ما يكون مرتبطاً بعوامل اجتماعية، وقال: “إذا تحدثنا عن مسألة دارفور الدعم السريع ليس لديه تأييد اجتماعي كبير، ولا يمتلك أكثر من 50% من عدد السكان”.
وقال: “إذا أقبل على هذه الخطوة فإن الحركات المسلحة ستقوم بسحب قواتها وتذهب إلى دارفور وتسيطر على الأوضاع، لأن محاولة ترك الأمور في دارفور سيسهم بشكل أو آخر في مزيد من التعقيدات المستقبلية”.
وحول إمكانية تشكيل الدعم السريع حكومة موازية لحكومة بورتسودان، قال محمد تورشين، إن تشكيل حكومة لا يمكن الاعتراف بها في مثل هذه الأوضاع وخير دليل الوضع في ليبيا واليمن”.
وأضاف: “لذا أعتقد أن تشكيل حكومة من طرف الدعم السريع ستضعفه أكثر مما تقوية لأن هناك أطرافاً أخرى في دارفور وكردفان لديها خلافات جذرية من الدعم السريع”.
وأكد تورشين أن مسألة انتقال الحرب لشرق السودان أو شماله مرتبطة ارتباطاً وثيق بالقوة الصلبة للدعم السريع، لأن الدعم السريع يكتفي بالسيطرة على مناطق داخل المناطق التي ينتشر حولها، وعدا ذلك لا أتوقع أنه سيمضي نحو شرق السودان لأن ذلك سيغير المعادلة بشكل جاد باعتبار إريتريا لديها مخاوف وأصدرت تحذيرات بأن أي تقدم نحو شرق السودان يعني انخراطها في الحرب ومصر أيضاً تخشى من تمدد الدعم السريع في شرق السودان كل هذه العوامل يعلمها الدعم السريع تماماً وربما يكتفي فقط بمحاولة اكتساب مساحات جديدة في الأراضي التي لم يسيطر عليها”.
الوسومالبحر الاحمر الجيش الحركات المسلحة الدعم السريع السودان الشمالية القوات المسلحة دارفور شرق السودان مباحثات جنيف محمد تورشين نهر النيلالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: البحر الاحمر الجيش الحركات المسلحة الدعم السريع السودان الشمالية القوات المسلحة دارفور شرق السودان مباحثات جنيف نهر النيل قوات الدعم السریع الجیش السودانی للدعم السریع النیل الأبیض السیطرة على مناطق جدیدة شرق السودان لـ التغییر فی ولایة
إقرأ أيضاً:
لماذا تقوم الدول الأوروبية بحماية الدعــم الســريع؟
لم يفلح السودان حتى الآن في حمل العالم على تصنيف مليشيا الدعم السريع المتمردة منظمةً إرهابية على الرغم من جرائم الإبادة الجماعية، والفظائع التي ظلت ترتكبها ضد المدنيين في وضح النهار، ودون مواربة. ولكون هذه المليشيا بدت نموذجًا صارخًا، ومثاليًا لما عرف اصطلاحًا بـ “البنادق المأجورة”، وهو مصطلح يُستخدم لوصف المرتزقة الذين يقدمون خدماتهم القتالية مقابل المال دون اعتبار للأيديولوجيا أو القيم.
فهؤلاء المرتزقة لا يهمهم سوى العائد المادي، ويعملون بشكل رئيسي لخدمة أهداف من يدفع لهم، سواء كان طرفًا على المستوى الداخلي، أو الإقليمي، أو الدولي.
فقد جعلت هذه “الميزة” الأطراف المستفيدة من خدمات مليشيا الدعم السريع أطرافًا ممانعة لتصنيفها منظمةً إرهابية، كما يجب. لقد بدأت هذه المليشيا قوة شبه عسكرية من “الجنجويد” – مجموعات مسلحة غير نظامية في دارفور -، وتطورت إلى قوة بقانون تشارك في النزاعات الداخلية.
وعلى الرغم من التقارير الحقوقية التي توثق انتهاكاتها، فإن العوامل السياسية، والاقتصادية الإقليمية، والدولية ظلت مؤثرة جدًا في تأخير تصنيفها منظمة إرهابية. ويعكس ذلك التردد تناقض المجتمع الدولي، حيث يتم تغليب المصالح السياسية، والأمنية، والاقتصادية على حساب العدالة الدولية المزعومة.
وتجدر الإشارة هنا إلى قول الموظف السابق في البيت الأبيض المختص بشؤون القرن الأفريقي، والسودان في لقائه مع الجزيرة مؤخرًا بعد أن تحرر من الموقع الرسمي: إن “مليشيا الدعم السريع يجب أن تصنف منظمة إرهابية؛ لأنها تقوم بأعمال إرهابية ضد الشعب السوداني”.
فمن الجلي أن هناك أولويات تتعلق بمصالح الدول الكبرى، والإقليمية التي تخشى أن يؤدي هذا التصنيف إلى فقدان شريك أمني أو “بندقية مأجورة”. وما قد يتعارض مع مصالح بعض القوى الدولية هو أن تصنيف هذه المليشيا منظمة إرهابية، سيؤدي إلى انعكاسات إيجابية على الأوضاع الداخلية في السودان، من إنهاء النزاع المسلح، وتقليل الانقسامات الاجتماعية، إلى التأثير الإيجابي على الاقتصاد، وخفض معاناة المدنيين.
فبالإضافة إلى ذلك فإن هذا التصنيف سيحلحل تعقيدات العملية السياسية، ويمكن الدبلوماسية السودانية من المزيد من النشاط، مما يجعل من السهل إيجاد حلول سلمية، واستقرار طويل الأمد.
نشأة رغائبية شائهة
بدأ التفكير في إنشاء مليشيا الدعم السريع في 2003، لأغراض أمنية بحتة تتعلق باضطراب الأوضاع في إقليم دارفور مع بداية التمرد هناك، لكن سرعان ما تم استغلالها رغائبيًا في إطار حالة عدم اليقين، واهتزاز الثقة بين أركان السلطة، لا سيما بعد انشقاق الحزب الحاكم آنذاك في العام 1999.
وفي إطار طبيعة النزاع المتوارثة في دارفور بين القبائل الرعوية، والزراعية، ومع تأثر السودان بالحرب الأهلية في تشاد المجاورة التي تربطها به حدود مفتوحة، وقبائل مشتركة اتخذت النزاعات بين القبائل أشكالًا مسلحة تتطور طرديًا مع زيادة تدفق السلاح من تشاد.
وقامت مجموعات من القبائل المحلية بتنظيم قوات مسلحة عرفت باسم “الجنجويد”، وأجادت فنون القتال، والكر، والفر في مناطق ذات طبيعة سهلية شاسعة تجد أقوى الجيوش صعوبة في الانتشار فيها، والسيطرة عليها.
هذه الميزات جعلت السلطة المركزية في حقب عديدة، لا سيما نظام الرئيس السابق عمر البشير، تسعى لاستغلالها وتجنيدها لصالح السيطرة على المجموعات المتمردة ذات الأهداف السياسية، وربما المرتبطة بالخارج.
بيد أن حكومة البشير غضت الطرف عن السمعة السيئة للجنجويد؛ نتيجة الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان، والجرائم ضد المدنيين. والحقيقة أن السلطة المركزية كانت كمن يحاول عبثًا ترويض ذئبٍ ليجعله أليفًا يُؤلَف يعيش بين الناس، لكن الذئب يظل ذئبًا، ولن يغلب الطبع التطبّع.
في عام 2013، قررت حكومة البشير إعادة تنظيم هذه المليشيا في هيكل رسمي رغم اعتراضات ضباط من الجيش، وأطلقت عليها اسم “قوات الدعم السريع”، ومنحتها وضعًا قانونيًا ضمن الجيش القومي، ولكن بصيغة مرتبكة. وتم تعيين محمد حمدان دقلو، المعروف بـ “حميدتي”، قائدًا لهذه القوات.
غير أن هذه القوات بقيت – لشيء في نفس البشير – تابعة له مباشرة، ولم تتبع لهيئة أركان الجيش، كما كان يفترض، وهذا الأمر كان سيمنع لاحقًا تفلّتها، ومحاولة بناء نفسها باعتبارها جيشًا موازيًا بعقيدة غير عقيدة الجيش الوطني القومي. وقد ساعد هذا الوضع الشائه في تعزيز قدرات المليشيا، وتسليحها بشكل كبير بعيدًا عن خطط وسيطرة الجيش، لا سيما بعد سقوط نظام البشير في أبريل/ نيسان 2019.
وبعد الإطاحة بالبشير برزت مليشيا الدعم السريع قوة رئيسية في المرحلة الانتقالية، ووقّعت على اتفاق مع القوى السياسية للمشاركة في السلطة الانتقالية بجانب الجيش، وشغل حميدتي منصب نائب رئيس المجلس السيادي، الأمر الذي جعل المليشيا لاعبًا رئيسيًا في السياسة السودانية، بل إنها تطلّعت لاحقًا للاستيلاء على السلطة بالتعاون، والتخابر مع قوى إقليمية، ودولية، وهذا كان السبب الرئيسي في اندلاع الحرب الحالية التي تكاد تذهب بالدولة السودانية من القواعد.
إن هذا الوضع الشاذ لم يمكنها سياسيًا، وعسكريًا فحسب، وإنما سيطرت على أهم الموارد الاقتصادية في البلاد، وهي مناجم الذهب في دارفور. وكانت عوائد هذا المورد عاملًا حاسمًا في بناء نفوذها العسكري والسياسي، ولعب دور الوكيل المعتمد للقوى الإقليمية الطامعة في الذهب السوداني.
ولذلك كان هدف الاستيلاء على السلطة هو تعزيز هذه الأوضاع الآثمة لتتحول من خانة “البنادق المأجورة” إلى خانة “الأنظمة المأجورة”، ومن ثم تحويل كامل الدولة السودانية لدولة وظيفية خادمة مطيعة للإمبريالية العالمية.
تجاهل رغم التوثيق والاعتراف
إن سلوك هذه المليشيا أصبح محيرًا، ويدلُّ على خلل نفسي ما، وهو سلوك ناتج عن فقدان التوازن العقلي؛ فلا يتوانى عناصر المليشيا في تسجيل، وتوثيق جرائمهم بأنفسهم، وهم يبدون سعادتهم بذلك دون مواربة. وأظهرت مقاطع مبثوثة من جانبهم إجبار مواطنين اختطفتهم على تقليد نباح الكلاب، ومرة أخرى صوت القطط. ومن قبل وثّقوا عمليات اغتصاب ارتكبوها، وقد تناوبوا على الضحية.
إن الجرائم التي ترتكبها هذه المليشيا ليست أقل بأي حال من جرائم مخزية تندرج في إطار الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، وهذه كلها جرائم تتعارض مع القوانين الدولية في المجال الإنساني.
وقامَ العديد من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية بإصدار تقارير تفصيلية عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في السودان، وتناولت هذه التقارير قضايا القتل الجماعي، والاعتقالات التعسفية، والانتهاكات ضد المدنيين، إضافة إلى استخدام العنف المفرط خلال النزاعات. وهنا نعرض ملخصًا لأبرز هذه التقارير ودور الإعلام العالمي في توثيقها.
في أوائل هذا العام أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا أمميًا بشأن ارتكاب مجازر في إقليم دارفور، كان قد قطع قول كل خطيب، وأفاد التقرير المقدم إلى مجلس الأمن الدولي بأن نحو 15 ألف شخص قتلوا في مدينة واحدة في منطقة غرب دارفور منذ اندلاع التمرد، في أعمال عنف عرقية نفذتها مليشيا الدعم السريع.
ونقلت مقاطع مصورة، دفن أبرياء أحياءً وذبح آخرين في مشاهد هزت الضمير الإنساني هزًا عنيفًا. كما أصدرت “هيومن رايتس ووتش” عدة تقارير تركز على الانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، خاصة في دارفور.
أما منظمة العفو الدولية، فقد أشارت في تقاريرها إلى انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها المليشيا، مع التركيز على حالات القتل خارج إطار القانون، والتعذيب، والاعتداء على النساء، والأطفال.
وتزامنت تقارير المنظمات المعنية مع تقارير صادمة بثتها وسائل إعلام دولية، حيث قامت وكالات مثل: (رويترز)، و(بي بي سي)، و(سي إن إن) بنشر، وبث تقارير ميدانية مصورة حول اعتداءات المليشيا على المدنيين، في مناطق تسيطر عليها، أو تلك التي استعادها الجيش السوداني من قبضتها.
هذا بالإضافة إلى تحقيقات صحفية استقصائية كشفت جوانب أخرى من هذه الانتهاكات، مثل: تجنيد الأطفال، والعنف ضد النساء. كما تمكّنت العديد من وسائل الإعلام من نشر شهادات الضحايا، والوصول إلى الشهود، وإبراز مقابلات، وتقارير، وثائقية تُظهر الظروف الصعبة التي يواجهها السكان الواقعون تحت جحيم هذه الجرائم.
لماذا يتأخر دمغ المليشيا بالإرهاب؟
هناك كثير من العوامل السياسية التي تمنع ما يعرف بالمجتمع الدولي من اتخاذ خطوة تصنيف مليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية، هناك مصالح إقليمية، ودولية في السودان تتأسس على الموقع الإستراتيجي للسودان، لا سيما في القرن الأفريقي.
وهناك قوى إقليمية ترى أن مصالحها أو بالأحرى مطامعها لن تحصل عليها إلا عبر “البندقية المأجورة” المتمثلة في المليشيا، وأن تصنيفها منظمة إرهابية لن يمكنها من استعمالها لأهدافها.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك تنسيقًا سياسيًا مع بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية التي تجد في المليشيا “بندقية مأجورة” غير مباشرة يمكن استخدامها في تحقيق أهداف معينة في السودان، والمنطقة، مما يدفعها إلى عدم السعي لتصنيفها منظمة إرهابية. فضلًا عن أن واشنطن هي وحدها صاحبة “حق الملكية” لمصطلح الإرهاب تستخدمه سياسيًا متى تشاء، وكيفما تشاء.
كذلك سبق للاتحاد الأوروبي استعمال هذه المليشيات “بندقية مأجورة” للحد من الهجرة غير الشرعية من القرن الأفريقي نحو أوروبا عبر السودان. هذا التعاون الأمني جعل بعض الدول الأوروبية تتردد في تصنيفها منظمة إرهابية؛ خشية فقدان شريك محوري في مكافحة الهجرة.
ففي 2016 عقد معها الاتحاد الأوروبي اتفاقًا تحت جنح الظلام؛ لوقف تدفق اللاجئين من أفريقيا عبر السودان بقيمة (110) ملايين يورو، حسب تأكيدات الخارجية السودانية حينذاك. وردت منظمة “هيومن رايتس ووتش” غاضبة في بيان لها: إن “من السخرية تعاون الاتحاد الأوروبي الذي تأسس على قاعدة من القيم، مع حكومات مستبدة تحتقر الحقوق الإنسانية، لمجرد الرغبة في منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا”.
إن القوى الدولية، والإقليمية الممانعة لتصنيف المليشيا منظمة إرهابية سخّرت آلتها الإعلامية لتبني سردية متعلقة بالدور العسكري، والسياسي داخليًا؛ بغرض دفع الآخرين للوقوف في صفّ الممانعة أو على الأقلّ تأخير، ومماطلة تحقيق تلك الخطوة المهمة.
وتقول تلك السردية التي تغلف باطلًا بحق إن المليشيا أصبحت جزءًا من البنية السياسية، والعسكرية في السودان، ولها نفوذ في البلاد. لذا، يُخشى من أن يؤدي تصنيفها منظمة إرهابية إلى تفاقم الأزمة السياسية، والأمنية في السودان، وإضعاف الحكومة المركزية.
كذلك يشيع الممانعون، ويخوفون من التبعات الاقتصادية للتصنيف الإرهابي للمليشيا، إذ سيؤدي إلى زيادة المخاطر على شركات التعدين، والنفط في المناطق التقليدية للمليشيا، وحواضنها الاجتماعية.
ويقولون إن فرض عقوبات أو تصنيفها منظمة إرهابية، سيؤدي إلى تعقيدات قانونية بالنسبة للشركات الدولية التي تعمل في هذه المناطق، مما يضر بالمصالح الاقتصادية لهذه الشركات، والدول التي تقف خلفها.
لعلّ الممانعين لو اكتفوا بالقول إن تصنيف المليشيا منظمة إرهابية، سيؤدي إلى تفككها إلى مجموعات إرهابية صغيرة كما يبدو عليه حالها اليوم بعد الضربات القوية التي سببها لها الجيش، فإن ذلك كان سيبدو منطقيًا، ومقبولًا ويبعد عنهم شبهة النوايا السيئة التي تقف حجر عثرة في إقرار تصنيف دولي للمليشيا باعتبارها منظمة إرهابية، يسهم في القضاء المبرم عليها.
د. ياسر محجوب الحسين
الجزيرة
إنضم لقناة النيلين على واتساب