جنديّ يروي قصّة إعدامهم لطفل غزّي بمتلازمة داون (قصّة من وحي المعركة)
تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT
عقدنا بداية حلقة نقاش عندما وضعنا أيدينا على فريسة قد تبدو غريبة وقد نبني عليها فيلما قصيرا من إخراجنا. داخل شقّة آيلة للسقوط بعد أن تكوّم نصفها، وعلى وقع صعقات الحرب التي كانت تدار بشتّى أنواع الأسلحة: الطائرات بكلّ تشكيلاتها المحلّقة، صليل الدبّابات المزمجرة وصوت زخّات الرصاص الذي لا يهدأ له بال.
بداية وقف الضابط أمامنا شارحا لفكرة الفيلم: بين أيدينا الآن طفل غزيّ بعمر خمسة عشر عاما من النوع "المنغولي" مصاب بمتلازمة داون، هنا تحلو الحكاية، بطل القصّة هذا الطفل الذي أرشّحه لكم للقيام بالدور قياما حقيقيّا وليس تمثيلا، بقيّة الممثّلين الذين سيجسّدون دور الذئاب الذكيّة عندما تأخذ شكلها البشريّ بعيدا عن أيّة زخرفة أو تمثيل، وسيمثّلون دور العدوّ المفترس الذي يستمتع بتعذيب ضحيّته ويتسلّى على آلامها بحنكة وذكاء، فيلم رعب هم فيه الروح الشرّيرة القادرة على إخراج كلّ تجليّات الشرّ الكامنة في أعماق أعماقها، سيجسّدون كيف وصلت هذه الروح إلى هذا القاع السّحيق من البشرية ذات الروح السوداء الكريهة المقيتة، سيظهرون في الفيلم كيف نجحت أرواحهم نجاحا باهرا في أن لا تستبقي شيئا من دواخلها الشرّيرة.
لا بدّ من أن يكون قد مرّ من يرشَح للقيام بهذا الدور بتجارب قد مارس فيها الإجرام بدرجات متفاوتة، ولا بدّ له من أن يرتقي في هذا السلّم درجة تلو الأخرى ليصل في النهاية إلى هذه القدرة الخارقة على ممارسة الجريمة بأبشع الصور التي لا يتخيّلها بشر ولا تمرّ بخياله ولو مرورا سريعا.
لا بدّ له مثلا من أن يكون قد دخل سباقا في نذالة الجريمة، قد هدم بيوتا فوق رؤوس ساكنيها من أطفال ونساء لا دور لهم في هذه الحرب، ودون أيّ مبرّر أو سبب، لا بدّ له من أن يكون قد مارس دورا في قصف القنبلة ذات الألفي رطل على بيوت النازحين البلاستيكية والمشافي والمدارس والجامعات ودور العبادة وأن يكون قد شاهد ذلك وهو يقهقه وينتشي ويفرح لا بدّ له مثلا من أن يكون قد دخل سباقا في نذالة الجريمة، قد هدم بيوتا فوق رؤوس ساكنيها من أطفال ونساء لا دور لهم في هذه الحرب، ودون أيّ مبرّر أو سبب، لا بدّ له من أن يكون قد مارس دورا في قصف القنبلة ذات الألفي رطل على بيوت النازحين البلاستيكية والمشافي والمدارس والجامعات ودور العبادة وأن يكون قد شاهد ذلك وهو يقهقه وينتشي ويفرح، ولا بدّ له من أن يكون قد اعتاد على أن يشعر بالطرب وهو يستمع لأنفاس الناس وصرخاتهم وهم يسلمون الروح، ولا بدّ له من أن يكون قد تسلّى كثيرا وهو يقوم بتعرية الناس وتعذيبهم شتى أنواع العذاب ليزداد طربا ويستعذب قلبه هذا العذاب، وأن يكون من الذين مارسوا السحل وتكسير العظام والحرق وكلّ أشكال البطش الشديد، والشرط أن لا تتحرّك في دواخلهم أية وخزة ضمير، بل يرتعش ضميرهم جزلا وسرورا وابتهاجا. هو بهذا وغير هذا يصبح مؤهلا للإبداع والتفكير خارج الصندوق المألوف في عالم الجريمة، يصبح له خيال خلّاق وفاتح لآفاق جديدة وذو قدرة عالية للوصول إلى الذروة التي لم يصلها أحد من قبله، لا من إنس ولا جانّ.
لقد قمنا بالفعل بتأهيل هذه المجموعة من الجنود وقد تأهّلت في هذه الحرب ووصلت ذروة الابداع، ثمّ إنّها ذات سبق في دوري الجريمة الممتاز، ولها تجارب في البحث عن أشكال جديدة لم يصلها أحد، فرصة تثبت للقاصي والداني في هذه العصابة أنّها لا يشقّ لها غبار ولا يحدّها حدّ في تحقيق أعظم التجلّيات، وأنتم مررتم بهذه التجارب لذلك أرشحكم للقيام بهذا الدور الفظيع.
ولتحقيق أفضل مشهد درامي في سينما إنتاج أفلام الرعب أضع بين أيديكم هذا الطفل الملائكيّ المصاب بمتلازمة داون، إنّ في ذلك لفرصة عظيمة، لأن الجريمة عندما يكون لها مبرّر تفقد جودتها، هذا الطفل لا مبرّر بأي حال من الأحوال يجيز الاعتداء عليه، وهنا يكمن فنّ الجريمة، هكذا أريد أن أقتلك دون مبرّر صادق أو حتى كاذب، ثم إن شكله يوحي بكلّ شيء عن مرضه وإعاقته، فرسالتنا في الفيلم واضحة العيان: لا داعي أيها الجندي العظيم عندما تقتل الفلسطينيّ أن يكون لك مبرّر لقتله، يكفي أن يكون فلسطينيّا.
هنا تبلغ الجريمة مداها العظيم ويبلغ الفيلم ذروته، يُنزع من حضن أمّه فنضرب بذلك قلبها في مقتل، ثم رصاصة في رأسه، لا أبدا هكذا تبدو الجريمة اعتياديّة والإخراج سيئ، تريح ضحيّتك بهذه السّرعة وكأنّكم لم تسمعوا وصيّة عظيمنا المقدّس بن غفير عندما قال: "لا يعتبر الموت عقوبة كافية للفلسطيني، يجب أن نذيقه ما هو أصعب من الموت". الرصاصة في الرأس غير كافية، ما رأيكم دام فضلكم؟
هتف أحدهم مغتبطا بفكرته:
- نقتل أمه ونتركه مكبّلا حتى يموت جوعا وعطشا.
هزّ الضابط المخرج رأسه منكرا:
- قد يأتي من ينقذه بعد مغادرتنا المكان.
قال ثالث مزهوا بفكرة بدت له أنّها عظيمة:
- نقوم بالعكس، نقتله ونترك أمّه تموت حسرة عليه.
أنكر عليه الضابط مقولته:
- فكرة ولكنّها مكرورة مملّة، حصل مثلها كثير. ثم أين المتعة فيها وأين التسلية؟
قال الرابع وهو يظنّ أنه يحسن صنعا:
- نقتل الاثنين برصاصتين غير مميتتين ثم نتركهما ينزفان حتى الموت.
لم تعجب الضابط، استخفّ بها ونعق:
- لا جديد، أريد فكرة خلّاقة، جديدة، طازجة لم يسبقنا إليها أحد.
قال شرّير واضح أنه قد رضع من حليب إبليس في صغره:
- وجدتها، لِمَ لا نطعم كلبنا، نترك الكلب يفترسه ولننظر كيف يواجه هذا المعتوه مصيره، وننظر في وجه أمّه كيف نقرأ رواية البؤساء في تقاطيعه الجميلة، نطعم كلبنا ونسلّي أرواحنا.
صفّق الجميع للفكرة، وسال لعابهم على مشهد سينمائيّ هوليودي رهيب:
- أرأيتم كيف تشرق الفكرة القويّة وتزهو بها الأرواح؟ أحضروا أمّه لتشاهد معنا الفيلم، هيّا أطلقوا الكلب عليه.
اعترض جنديّ صامت هادئ من الواضح أنه حديث عهد في هذه الجنديّة، وجّه كلامه لضابط المجموعة:
- لا أرى ذلك مناسبا سيدّي، إن كان ولا بدّ فدعوني أجهز عليهما برصاصتين.
قهقه الجند وضابطهم:
- ما زلت طريّ الفؤاد يا ولدي، محارب فاشل.
يدر بخلده الصغير ولم يمر في حياته أن هناك ضباعا على شكل بشر، حسِب الكلب صديقا أو دمية، ولكن الكلب أنشب أنيابه في يده فمزّقها، امتقع وجهه هلعا، وتداخلت مشاهد الرجاء والخوف والسذاجة والبراءة في صورة سيريالية واحدة في وجهه، امتزجت فيها كلّ الألوان القاتمة، تجعّد صباحه وشخصت عيناه، بكى بمرارة وحزن يقطّع القلوب، ثم صرخ من أعماقه صرخة اهتزّت لها الجدران
ناشدتهم أمّه باكية بعد أن رأت الشرّ في عيونهم وقرأ قلبها ما يحيط بفلذة كبدها من مخاطر:
- إنّه معاق، من أطفال متلازمة داون، ألا ترون شكله، بالله عليكم، أرجوكم ارحموه، اتركوه وشأنه.
سأل أحدهم ساخرا:
- أنتِ أم هو؟ الكلب جائع ونريد أن نطعمه.
- أنا، فليأكلني كلبكم واتركوا ولدي.
قهقه الضابط ونعق:
- أنت لحمك أزرق ناشف لا ينفع للأكل.
هجم الكلب بكلّ عنفوانه وأنيابه مشرّعة، صرخت أمّه بأعلى صوتها.. من وسط صراخها سمعت ابنها وهو يخاطب الكلب:
- "بس حبيبي، خلص".. لم يدر بخلده الصغير ولم يمر في حياته أن هناك ضباعا على شكل بشر، حسِب الكلب صديقا أو دمية، ولكن الكلب أنشب أنيابه في يده فمزّقها، امتقع وجهه هلعا، وتداخلت مشاهد الرجاء والخوف والسذاجة والبراءة في صورة سيريالية واحدة في وجهه، امتزجت فيها كلّ الألوان القاتمة، تجعّد صباحه وشخصت عيناه، بكى بمرارة وحزن يقطّع القلوب، ثم صرخ من أعماقه صرخة اهتزّت لها الجدران.
- ماما أنا بحبّك.. وكانت آخر كلماته.
نهش الكلب وجهه ليخفي صوته، لعق من دمائه ونزل الدم غزيرا من رقبته.
صرخت أمّه صرخّة تردّدت في جنبات خراب غزّة ثم راحت في غيبوبة طويلة.. نجحنا بتصوير الفيلم على هواتفنا، اشتدّ القصف علينا فولّينا هاربين..
هنا انتهت رواية الجنديّ بنهاية فيلمهم.
وجدت أمّه نفسها في خيمة يقال عنها مشفى، سألت عن ولدها لعلّها كانت في رؤيا سيئة أو كابوس في منامها، ولكن الناس ترحّموا عليه وقالوا لها ترضّي عنه، سبقك إلى الجنةّ والرفيق الأعلى. تذكّرت المشهد الأخير من فيلم الرعب وجّهت قلبها لربّها وناجت:
"اللهم إنّك تسمع وترى ولا تخفى عليك خافية، إنهم ظلمة جبابرة طغاة وحوش كاسرة، قد طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم سوط عذاب، اللهم ما صنعوا مع ولدي أرهم إياه أضعافا مضاعفة، وانتقم لي ولولدي انتقامك لأحبابك على أعدائك، اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه أطفال غزة الاحتلال أطفال جرائم قصة مدونات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة صحافة اقتصاد تكنولوجيا اقتصاد سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ولا بد فی هذه
إقرأ أيضاً:
اليمن في قلب المعركة .. موقف ثابت لا يتزحزح في نصرة غزة مهما كانت العواصف
يمانيون../
يتصدّر الشعب اليمني المشهد العربي والإسلامي، في نصرة فلسطين والدفاع عن مظلوميتها، وتثبيت خيار المقاومة في معركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس”، التي يخوضها اليمن منذ السابع من أكتوبر 2023م في مواجهة العدو الأمريكي الصهيوني البريطاني وأدواته في المنطقة.
خروج الشعب اليمني في مسيرات مليونية أسبوعية بالعاصمة صنعاء والمحافظات ليس طارئًا، بل هو امتداد لتجربة نضالية صامدة خاضها طوال 15 شهرًا، في مواجهة الغطرسة الصهيونية وحرب الإبادة التي يتعرض لها أهل غزة بدعم أمريكي مباشر، وتواطؤ عربي ودولي مخز.
أمواج بشرية هادرة اكتسحت أكثر من 900 ساحة وميدان في العاصمة والمحافظات، تردد شعارات الموت لأمريكا والموت لإسرائيل، وتندد بالعدوان على اليمن، وتستنكر تخاذل الشعوب والأنظمة العربية والإسلامية إزاء المجازر الوحشية التي ترتكب في غزة وسائر فلسطين دون أن تتحرك ضمائر العالم.
الضمير العربي والإسلامي بدا ميتًا، والشعوب صامتة والأنظمة بلا موقف، والحكام بلا أخلاق أو قيم، اكتفى البعض ببيانات مكررة، وآخرون بإدانات باهتة، بينما يستمر الذبح والمحو والدمار في غزة، وكأن لا أطفال يقتلون، ولا أسر تباد، ولا مدن تمسح عن الخارطة.
أين الشعوب الرافضة للمشروع الأمريكي الصهيوني؟ أين الجامعة العربية؟ وأين منظمة التعاون الإسلامي؟ أين القوى والأحزاب والنقابات؟ لماذا لم تخرج الجماهير لتصرخ في وجه المجرمين؟ ما هذه اللامبالاة التي صارت طابعا عاما لدى كثير من الشعوب؟ .. أسئلة بحاجة لردود وإجابات شافية لها.
في المقابل، جسد اليمنيون مشهدًا مهيبًا من التلاحم الشعبي، إذ تدفقت الحشود المليونية إلى الساحات، لترفع رايات العزة وتؤكد أن فلسطين ليست وحدها، وأن غزة تسكن الوجدان اليمني، معلنين للعالم أن الموقف الإيماني الثابت أقوى من كل الضغوط، وأن صوت اليمن سيبقى صادحًا في وجه الطغيان مهما اشتدت العواصف.
وما الثبات اليمني إلا تجسيدًا لإيمان راسخ بأن معركة فلسطين هي معركة الأمة كلها، وأن الدفاع عن غزة هو دفاع عن الكرامة، وأن الشراكة المصيرية مع المقاومة ليست شعارًا سياسيًا بل خيار أمة تحيا بالإيمان وتنتصر بالصدق والثبات.
التخاذل العربي والإسلامي شجع قوى الطغيان على ارتكاب المجازر، ليس فقط في فلسطين، بل أيضا في اليمن ولبنان والعراق وسوريا، ولولا أنظمة العمالة، لما تجرأت أمريكا على قصف بلد تلو آخر، ولما تمكنت إسرائيل من محو أسر بأكملها من السجلات المدنية في غزة، ومسح أحياء بكاملها من الخارطة.
محاولة العدو الأمريكي لإسكات الجبهة اليمنية بائسة، واستهدافه للمدنيين والبنى التحتية في اليمن يعكس فشله الميداني، بعد خسائره الفادحة وانكشاف منظومته العسكرية في البحرين الأحمر والعربي، وتراجع هيمنته البحرية رغم حشد حاملات الطائرات والقطع الحربية التي باتت تفر من الصواريخ والمسيرات اليمنية.
قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، أكد في خطابه الأخير أن العدوان الأمريكي فاشل وسيبقى فاشلاً، لأنه موقف بغي واستكبار، ولأن الشعب اليمني يقف على أرضية إيمانية صلبة، ومعنويات عالية، وموقف لا يتزحزح.
سيبقى الشعب اليمني على هذا الدرب، صامدًا في خندق العزة، رافضًا الاستسلام والخضوع، مهما كانت التضحيات، لأن الولاء لأمريكا وإسرائيل خيار لا مكان له في قاموس اليمنيين.
وهكذا، يمضي اليمنيون في دربهم بثقة ويقين، لا يحيدون ولا يتراجعون، لأنهم اختاروا الوقوف في صف المظلوم، وسطروا موقفًا سيظل علامة مضيئة في تاريخ الأمة، عنوانه: لا مساومة في الحق، ولا حياد في معركة الكرامة”.