عقدنا بداية حلقة نقاش عندما وضعنا أيدينا على فريسة قد تبدو غريبة وقد نبني عليها فيلما قصيرا من إخراجنا. داخل شقّة آيلة للسقوط بعد أن تكوّم نصفها، وعلى وقع صعقات الحرب التي كانت تدار بشتّى أنواع الأسلحة: الطائرات بكلّ تشكيلاتها المحلّقة، صليل الدبّابات المزمجرة وصوت زخّات الرصاص الذي لا يهدأ له بال.

بداية وقف الضابط أمامنا شارحا لفكرة الفيلم: بين أيدينا الآن طفل غزيّ بعمر خمسة عشر عاما من النوع "المنغولي" مصاب بمتلازمة داون، هنا تحلو الحكاية، بطل القصّة هذا الطفل الذي أرشّحه لكم للقيام بالدور قياما حقيقيّا وليس تمثيلا، بقيّة الممثّلين الذين سيجسّدون دور الذئاب الذكيّة عندما تأخذ شكلها البشريّ بعيدا عن أيّة زخرفة أو تمثيل، وسيمثّلون دور العدوّ المفترس الذي يستمتع بتعذيب ضحيّته ويتسلّى على آلامها بحنكة وذكاء، فيلم رعب هم فيه الروح الشرّيرة القادرة على إخراج كلّ تجليّات الشرّ الكامنة في أعماق أعماقها، سيجسّدون كيف وصلت هذه الروح إلى هذا القاع السّحيق من البشرية ذات الروح السوداء الكريهة المقيتة، سيظهرون في الفيلم كيف نجحت أرواحهم نجاحا باهرا في أن لا تستبقي شيئا من دواخلها الشرّيرة.



لا بدّ من أن يكون قد مرّ من يرشَح للقيام بهذا الدور بتجارب قد مارس فيها الإجرام بدرجات متفاوتة، ولا بدّ له من أن يرتقي في هذا السلّم درجة تلو الأخرى ليصل في النهاية إلى هذه القدرة الخارقة على ممارسة الجريمة بأبشع الصور التي لا يتخيّلها بشر ولا تمرّ بخياله ولو مرورا سريعا.

لا بدّ له مثلا من أن يكون قد دخل سباقا في نذالة الجريمة، قد هدم بيوتا فوق رؤوس ساكنيها من أطفال ونساء لا دور لهم في هذه الحرب، ودون أيّ مبرّر أو سبب، لا بدّ له من أن يكون قد مارس دورا في قصف القنبلة ذات الألفي رطل على بيوت النازحين البلاستيكية والمشافي والمدارس والجامعات ودور العبادة وأن يكون قد شاهد ذلك وهو يقهقه وينتشي ويفرح لا بدّ له مثلا من أن يكون قد دخل سباقا في نذالة الجريمة، قد هدم بيوتا فوق رؤوس ساكنيها من أطفال ونساء لا دور لهم في هذه الحرب، ودون أيّ مبرّر أو سبب، لا بدّ له من أن يكون قد مارس دورا في قصف القنبلة ذات الألفي رطل على بيوت النازحين البلاستيكية والمشافي والمدارس والجامعات ودور العبادة وأن يكون قد شاهد ذلك وهو يقهقه وينتشي ويفرح، ولا بدّ له من أن يكون قد اعتاد على أن يشعر بالطرب وهو يستمع لأنفاس الناس وصرخاتهم وهم يسلمون الروح، ولا بدّ له من أن يكون قد تسلّى كثيرا وهو يقوم بتعرية الناس وتعذيبهم شتى أنواع العذاب ليزداد طربا ويستعذب قلبه هذا العذاب، وأن يكون من الذين مارسوا السحل وتكسير العظام والحرق وكلّ أشكال البطش الشديد، والشرط أن لا تتحرّك في دواخلهم أية وخزة ضمير، بل يرتعش ضميرهم جزلا وسرورا وابتهاجا. هو بهذا وغير هذا يصبح مؤهلا للإبداع والتفكير خارج الصندوق المألوف في عالم الجريمة، يصبح له خيال خلّاق وفاتح لآفاق جديدة وذو قدرة عالية للوصول إلى الذروة التي لم يصلها أحد من قبله، لا من إنس ولا جانّ.

لقد قمنا بالفعل بتأهيل هذه المجموعة من الجنود وقد تأهّلت في هذه الحرب ووصلت ذروة الابداع، ثمّ إنّها ذات سبق في دوري الجريمة الممتاز، ولها تجارب في البحث عن أشكال جديدة لم يصلها أحد، فرصة تثبت للقاصي والداني في هذه العصابة أنّها لا يشقّ لها غبار ولا يحدّها حدّ في تحقيق أعظم التجلّيات، وأنتم مررتم بهذه التجارب لذلك أرشحكم للقيام بهذا الدور الفظيع.

ولتحقيق أفضل مشهد درامي في سينما إنتاج أفلام الرعب أضع بين أيديكم هذا الطفل الملائكيّ المصاب بمتلازمة داون، إنّ في ذلك لفرصة عظيمة، لأن الجريمة عندما يكون لها مبرّر تفقد جودتها، هذا الطفل لا مبرّر بأي حال من الأحوال يجيز الاعتداء عليه، وهنا يكمن فنّ الجريمة، هكذا أريد أن أقتلك دون مبرّر صادق أو حتى كاذب، ثم إن شكله يوحي بكلّ شيء عن مرضه وإعاقته، فرسالتنا في الفيلم واضحة العيان: لا داعي أيها الجندي العظيم عندما تقتل الفلسطينيّ أن يكون لك مبرّر لقتله، يكفي أن يكون فلسطينيّا.

هنا تبلغ الجريمة مداها العظيم ويبلغ الفيلم ذروته، يُنزع من حضن أمّه فنضرب بذلك قلبها في مقتل، ثم رصاصة في رأسه، لا أبدا هكذا تبدو الجريمة اعتياديّة والإخراج سيئ، تريح ضحيّتك بهذه السّرعة وكأنّكم لم تسمعوا وصيّة عظيمنا المقدّس بن غفير عندما قال: "لا يعتبر الموت عقوبة كافية للفلسطيني، يجب أن نذيقه ما هو أصعب من الموت". الرصاصة في الرأس غير كافية، ما رأيكم دام فضلكم؟

هتف أحدهم مغتبطا بفكرته:

- نقتل أمه ونتركه مكبّلا حتى يموت جوعا وعطشا.

هزّ الضابط المخرج رأسه منكرا:

- قد يأتي من ينقذه بعد مغادرتنا المكان.

قال ثالث مزهوا بفكرة بدت له أنّها عظيمة:

- نقوم بالعكس، نقتله ونترك أمّه تموت حسرة عليه.

أنكر عليه الضابط مقولته:

- فكرة ولكنّها مكرورة مملّة، حصل مثلها كثير. ثم أين المتعة فيها وأين التسلية؟

قال الرابع وهو يظنّ أنه يحسن صنعا:

- نقتل الاثنين برصاصتين غير مميتتين ثم نتركهما ينزفان حتى الموت.

لم تعجب الضابط، استخفّ بها ونعق:

- لا جديد، أريد فكرة خلّاقة، جديدة، طازجة لم يسبقنا إليها أحد.

قال شرّير واضح أنه قد رضع من حليب إبليس في صغره:

- وجدتها، لِمَ لا نطعم كلبنا، نترك الكلب يفترسه ولننظر كيف يواجه هذا المعتوه مصيره، وننظر في وجه أمّه كيف نقرأ رواية البؤساء في تقاطيعه الجميلة، نطعم كلبنا ونسلّي أرواحنا.

صفّق الجميع للفكرة، وسال لعابهم على مشهد سينمائيّ هوليودي رهيب:

- أرأيتم كيف تشرق الفكرة القويّة وتزهو بها الأرواح؟ أحضروا أمّه لتشاهد معنا الفيلم، هيّا أطلقوا الكلب عليه.

اعترض جنديّ صامت هادئ من الواضح أنه حديث عهد في هذه الجنديّة، وجّه كلامه لضابط المجموعة:

- لا أرى ذلك مناسبا سيدّي، إن كان ولا بدّ فدعوني أجهز عليهما برصاصتين.

قهقه الجند وضابطهم:

- ما زلت طريّ الفؤاد يا ولدي، محارب فاشل.

يدر بخلده الصغير ولم يمر في حياته أن هناك ضباعا على شكل بشر، حسِب الكلب صديقا أو دمية، ولكن الكلب أنشب أنيابه في يده فمزّقها، امتقع وجهه هلعا، وتداخلت مشاهد الرجاء والخوف والسذاجة والبراءة في صورة سيريالية واحدة في وجهه، امتزجت فيها كلّ الألوان القاتمة، تجعّد صباحه وشخصت عيناه، بكى بمرارة وحزن يقطّع القلوب، ثم صرخ من أعماقه صرخة اهتزّت لها الجدران
ناشدتهم أمّه باكية بعد أن رأت الشرّ في عيونهم وقرأ قلبها ما يحيط بفلذة كبدها من مخاطر:

- إنّه معاق، من أطفال متلازمة داون، ألا ترون شكله، بالله عليكم، أرجوكم ارحموه، اتركوه وشأنه.

سأل أحدهم ساخرا:

- أنتِ أم هو؟ الكلب جائع ونريد أن نطعمه.

- أنا، فليأكلني كلبكم واتركوا ولدي.

قهقه الضابط ونعق:

- أنت لحمك أزرق ناشف لا ينفع للأكل.

هجم الكلب بكلّ عنفوانه وأنيابه مشرّعة، صرخت أمّه بأعلى صوتها.. من وسط صراخها سمعت ابنها وهو يخاطب الكلب:

- "بس حبيبي، خلص".. لم يدر بخلده الصغير ولم يمر في حياته أن هناك ضباعا على شكل بشر، حسِب الكلب صديقا أو دمية، ولكن الكلب أنشب أنيابه في يده فمزّقها، امتقع وجهه هلعا، وتداخلت مشاهد الرجاء والخوف والسذاجة والبراءة في صورة سيريالية واحدة في وجهه، امتزجت فيها كلّ الألوان القاتمة، تجعّد صباحه وشخصت عيناه، بكى بمرارة وحزن يقطّع القلوب، ثم صرخ من أعماقه صرخة اهتزّت لها الجدران.

- ماما أنا بحبّك.. وكانت آخر كلماته.

نهش الكلب وجهه ليخفي صوته، لعق من دمائه ونزل الدم غزيرا من رقبته.

صرخت أمّه صرخّة تردّدت في جنبات خراب غزّة ثم راحت في غيبوبة طويلة.. نجحنا بتصوير الفيلم على هواتفنا، اشتدّ القصف علينا فولّينا هاربين..

هنا انتهت رواية الجنديّ بنهاية فيلمهم.

وجدت أمّه نفسها في خيمة يقال عنها مشفى، سألت عن ولدها لعلّها كانت في رؤيا سيئة أو كابوس في منامها، ولكن الناس ترحّموا عليه وقالوا لها ترضّي عنه، سبقك إلى الجنةّ والرفيق الأعلى. تذكّرت المشهد الأخير من فيلم الرعب وجّهت قلبها لربّها وناجت:

"اللهم إنّك تسمع وترى ولا تخفى عليك خافية، إنهم ظلمة جبابرة طغاة وحوش كاسرة، قد طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم سوط عذاب، اللهم ما صنعوا مع ولدي أرهم إياه أضعافا مضاعفة، وانتقم لي ولولدي انتقامك لأحبابك على أعدائك، اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه أطفال غزة الاحتلال أطفال جرائم قصة مدونات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة صحافة اقتصاد تكنولوجيا اقتصاد سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ولا بد فی هذه

إقرأ أيضاً:

تبادل أسرى بين روسيا وأوكرانيا وموسكو تعتبر الناتو جزءا من المعركة

اتهمت روسيا اليوم الجمعة الغرب برفع حظر استخدام صواريخ بعيدة المدى عن أوكرانيا، متهمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالمشاركة فعليا في الحرب ضدها من خلال تقديم هذا النوع من الأسلحة لكييف.

وقال المندوب الروسي في الأمم المتحدة -خلال جلسة لمجلس الأمن– إن روسيا "ستتخذ من الآن فصاعدا قرارها وفقا لاعتبار الحلف جزءا من المعركة".

من ناحية أخرى، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أنه سيلتقي الرئيس الأميركي جو بايدن هذا الشهر، وسيعرض عليه ما وصفها بـ"خطة النصر" التي أعدها لإنهاء الحرب مع روسيا.

ودعا زيلينسكي إلى جعل الحرب "أكثر صعوبة" بالنسبة لروسيا، "وهو ما سيجعلها تدرك ضرورة إنهائها"، وفق تعبيره.

غرب "خائف"

كما أكد أن الغرب "خائف" للغاية من إثارة احتمال إسقاط الصواريخ والطائرات المسيرة الروسية التي تستهدف أوكرانيا، على الرغم من أنه يساعد إسرائيل في القيام بذلك.

وقال -خلال مؤتمر في كييف- "إذا كان الحلفاء يسقطون بشكل مشترك الصواريخ والطائرات المسيرة في مواقع بالشرق الأوسط، فلماذا لا يوجد قرار مماثل لإسقاط الصواريخ الروسية والمسيرات شاهد (الإيرانية) بشكل مشترك في سماء أوكرانيا؟"

وأضاف "إنهم يخشون حتى أن يقولوا: نحن نعمل على ذلك".

وبشأن هجوم كورسك، قال زيلينسكي إن هجوم كييف على هذه المنطقة الحدودية الروسية مطلع الشهر الماضي "أبطأ" تقدم موسكو في شرق أوكرانيا.

وأضاف "لقد أعطى النتائج التي توقعناها، صراحة. في منطقة خاركيف، تم إيقاف العدو، وتباطأ التقدم في منطقة دونيتسك، على الرغم من أن الوضع صعب للغاية هناك"، مشيرا إلى أن روسيا نشرت 40 ألف جندي في كورسك.

وأكد أن الهجمات الروسية المضادة في المنطقة التي تسيطر عليها القوات الأوكرانية جزئيا لم تحقق حتى الآن "نجاحا كبيرا".

ميدانيا، أعلنت القوات الجوية الأوكرانية أنها هاجمت بالمسيرات الانقضاضية وبالصواريخ مواقع وتجمعات روسية في كورسك، في حين قالت وزارة الدفاع الروسية إن قواتها استعادت 10 بلدات في المنطقة خلال يومين.

كما ذكر قائد عسكري روسي في كورسك أن كييف تسحب قواتها من جبهات أخرى، وتدفع بها إلى هذا المحور، وأن قدراتها بدأت تنفد.

وقالت السلطات في منطقة سومي بشمال أوكرانيا إن شخصين قتلا وأصيب 6 آخرون، بينهم طفل، اليوم في هجوم روسي بقنابل موجهة.

تبادل أسرى

على صعيد آخر، نفذت كييف وموسكو عملية تبادل أسرى اليوم الجمعة، هي الثانية منذ بدء الهجوم الأوكراني بمنطقة كورسك الروسية الشهر الماضي، وأعلن الرئيس زيلينسكي عودة 49 أسير حرب إلى بلاده كانوا محتجزين لدى روسيا.

وقال -على تليغرام- "عاد 49 أوكرانيا إلى ديارهم"، مرفقا رسالته بصور جنود وبينهم نساء لففن أجسادهن بالأعلام الأوكرانية.

وشاهد مراسلو وكالة الصحافة الفرنسية الذين حضروا عملية التبادل جنودا روسا، بعضهم ملثم، يُنقلون في حافلة في اتجاه الحدود مع بيلاروسيا حليفة موسكو، لكن لم يقدم زيلينسكي ولا السلطات الروسية تفاصيل عن عملية التبادل بعد، وعن عدد الروس المفرج عنهم.

وبدت ملامح الارتياح والتعب في آن واحد على وجوه الواصلين إلى الحدود. وترجل الجنود الأوكرانيون المحررون، ومعظمهم نساء من حافلة والدموع في أعينهم، وعانقوا أشخاصا كانوا في انتظارهم.

ومنذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، أجرى البلدان المتحاربان عدة عمليات تبادل سجناء. وفي الخامس من يونيو/حزيران، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن روسيا تحتجز 6465 جنديا أوكرانيا، في حين تحتجز أوكرانيا 1348 جنديا روسيا. ولم تؤكد كييف هذه الأرقام.

مقالات مشابهة

  • تبادل أسرى بين روسيا وأوكرانيا وموسكو تعتبر الناتو جزءا من المعركة
  •  أردني يروي معاناة نساء غزة في الحرب / تفاصيل صادمة
  • رواد فضاء بولاريس داون يؤدون بنجاح أول عملية سير تجاري
  • كيف تشاهد رواد فضاء بولاريس داون يحاولون القيام بأول عملية سير في الفضاء تجاريًا
  • نباح الكلب كشف اللصوص.. كواليس سرقة شقة مذيعة قناة الأهلي
  • برج غلاطة: رمز إسطنبول التاريخي الذي يروي أسرار الطيران الأولى
  • حسن خليل: المعركة مع العدو طويلة
  • من نعم الله على هذا الشعب موت الهالك حميدتي في بداية المعركة
  • كاتب مسرحي يروي في وثائقي «سيرة الفن» تاريخ شارع عماد الدين: من هنا بدأ الفن
  • طارق فهمي: هاريس نقلت المعركة مع ترامب إلى مساحة أخرى بعد المناظرة