كما كان محب الدين الخطيب أحد العناوين البارزة في زراعة المؤسسات وبذرها في كل مكان تطؤه قدماه؛ فإنه كان كذلك سابقا عصره في النظرة للإعلام وأثره والتعامل معه.

وكان اهتمامه بالإعلام نابعا من قناعته بضرورة امتلاك منابر التأثير لنشر الإسلام وخدمته؛ فهو يرى ذلك مسؤولية العرب والناطقين بالعربية بالدرجة الأولى إذ يقول: "للناطقين بالضاد ومن سار في قافلتهم من المسلمين والإنسانيين رسالة هم المسؤولون الأولون عنها وعن القيام بها في كل زمان ومكان، وأن على من يدرك هذه الحقيقة منهم أن يبادر إلى الإيمان بهذه الرسالة، ودعوة الآخرين إلى الإيمان بها".

البدايات المبكرة

كانت البواكير وهو ما يزال طالبا في المرحلة الثانوية في مدرسة "مكتب عنبر" وهي المدرسة العثمانية الوحيدة في دمشق آنذاك، والتي كان لها دور في صناعة مستقبله لاحقا، وقد كانت الدراسة فيها باللغة التركية، مما مكنه من إتقانها قراءة وكتابة.

بدأ الكتابة الذاتية وترجمة ما يراه جميلا من نصوص من التركية إلى العربية، وكان ينشر ما يكتب ويترجم في صحيفة "ثمرات الفنون" وهي صحيفة دورية كانت تصدر في بيروت وقد أسسها عبد القادر أفندي عام 1875م.

غير أن المشروع الإعلامي الأول الذي صنعه محب الدين الخطيب كان عند وصوله إلى اليمن للعمل في ميناء الحديدة؛ فقد بادر إلى تأسيس شركة للصحافة والطباعة، وأعلن عن تأسيس "مطبعة جزيرة العرب" ثم أصدر "جريدة العرب".

وعقب عودته من اليمن إلى دمشق؛ كان أول ما فعله محب الدين الخطيب انخراطه في كادر العمل في جريدة "القبس" وهي جريدة أسبوعية صدرت للمرة الأولى عام 1912م، وأغلقت نهائيا أواخر عام 1914م، وصاحبها هو شكري العسلي الذي أعدم مع مجموعة من السوريين يوم 6 مايو/أيار عام 1916م بأوامر جمال باشا السفاح.

وقد تولى محب الدين الخطيب حين عودته من اليمن رئاسة الملحق الأدبي في الجريدة، وأصدر ذلك الملحق بعنوان "طار الخرج" دون أن يذكر فيه اسمه، وقد انتقد فيه بطريقة أدبية ساخرة ممارسات رجال حكومة الاتحاد والترقي غير الأخلاقية، وسخر من ممارسات الحكومة الجديدة، فلقي إقبالا مبهرا ونفدت النسخ كلها فور تداولها، وثارت ثائرة حكومة الاتحاد والترقي التي وجهت شكوكها إلى محب الدين الخطيب الذي شعر بالخطر فهرب إلى بيروت ومنها إلى الأستانة التي هرب منها ليستقر به المقام في القاهرة.

وصل محب الدين الخطيب إلى القاهرة عام 1909م، وفور وصوله اشترك في تحرير "جريدة المؤيد" وكانت من أهم صحف العالم العربي، وقد أسسها الشيخ على يوسف والشيخ أحمد ماضي أبو العزائم عام 1889م، وكان العمل الرئيس لمحب الدين الخطيب في الجريدة ترجمة ما ينشره المبشرون البروتستانت في مجلتهم الصادرة بالفرنسية "مجلة العالم الإسلامي" ونشر ذلك مما يكشف الأهداف والآليات التبشيرية، وقد كان لهذه المقالات دوي في العالم الإسلامي حينها.

انتقل محب الدين الخطيب إلى الحجاز والتقى بالشريف حسين، وأسس له "جريدة القبلة" سنة 1916م كانت تطبع في المطبعة الحكومية الهاشمية الأميرية الواقعة في أجياد بمكة المكرمة، وكان محب الدين أول رئيس تحرير لها، واستمر مديرا مسؤولا للجريدة حتى العدد 419 الذي صدر عام 1919م ليعود إلى دمشق.

فور وصول محب الدين إلى دمشق تولى رئاسة تحرير "جريدة العاصمة" وهي الجريدة الرسمية الناطقة باسم حكومة الملك فيصل الأول، وقد أسسها رضا باشا الركابي الحاكم العسكري آنذاك، وأرسل في طلب محب الدين الخطيب ليستلم رئاسة تحريرها.

نضوج التجربة واستقرارها في مصر

رجع محب الدين الخطيب إلى مصر مستقرا فيها عقب الاحتلال الفرنسي لسوريا، فعمل في جريدة الأهرام قرابة 5 سنوات، وبعد ذلك باع بيته في دمشق، وأسس بثمنه "المطبعة السلفية" كما أنشأ في القاهرة "المكتبة السلفية" وهذه المطبعة كانت مشروعه الأبرز وقد أحدثت نقلة نوعية في عالم النشر في العالم الإسلامي، فنشرت كنوزا من التراث الإسلامي التي لم يكتب لها النشر قبل ذلك.

وفي عام 1924م أصدر "مجلة الزهراء" وهي مجلة شهرية تعنى بالموضوعات الأدبية والاجتماعية وتولى رئاسة تحريرها بنفسه، ثم أصدر "جريدة الفتح" عام 1926م وهي جريدة أسبوعية تولى بنفسه رئاسة تحريرها أيضا، وقد اكتشف محب الدين موهبة "حسن البنا" وطلب منه الكتابة فكان أول مقال نشره البنا في مجلة الفتح بتشجيع ودعوة ورعاية من الخطيب بعنوان "الدعوة إلى الله تعالى".

ويمكننا القول: إن مجلة الزهراء وجريدة الفتح هما امتداد لمجلة المنار التي كان يصدرها محمد رشيد رضا، والمنار كانت امتدادا لمجلة العروة الوثقى التي أصدرها جمال الدين الأفغاني مع محمد عبده.

وحين أنشأ الإمام البنا مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية وأنشأ بعدها بفترة صحيفة "الإخوان المسلمون" اليومية الناطقتين باسم الجماعة أوكل رئاسة تحريرهما إلى محب الدين الخطيب الذي لم يكن عضوا في تنظيم الإخوان في خطوة تدل على الانفتاح الفكري والتنظيمي وسعة الأفق عند الرجلين.

وفي عهد شيخ الأزهر الشيخ محمد الخضر حسين أسندت رئاسة تحرير "مجلة الأزهر" إلى محب الدين الخطيب، وفي وصف ذلك يقول المستشار عبدالله العقيل: "ثم سعدنا به رئيسا لتحرير مجلة الأزهر بناء على ترشيح شيخ الأزهر العلامة الإمام محمد الخضر حسين، ولقد كانت افتتاحيات محب الدين الخطيب زادا لنا نحن الطلبة الأزهريين، تشحذ هممنا، وتقوي عزائمنا، وتستثير نخوتنا الإسلامية للذود عن الإسلام وحرماته، والتصدي لأعدائه في الداخل والخارج، ممن ينالون من الإسلام، أو نبي الإسلام، أو صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

لقد كان محب الدين الخطيب نموذجا عظيما للعالم الشرعي والمفكر الإسلامي الذي تنبه ووعى من وقت مبكر أهمية صناعة الإعلام فوقف حياته على صناعة المنابر الإعلامية بعقلية مؤسسية فذة، سبقت عصرها وما تزال تؤثر فيما بعدها إلى يومنا هذا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات رئاسة تحریر

إقرأ أيضاً:

مجلة العربي الأفريقي (مارس 1979): والزمن كان ليل

تمر بنا بشهر مارس هذا الذكرى الثلاثين لصدور مجلة "العربي الأفريقي" (مارس 1979) الشهرية التي لم يصدر منا سوى عدد بهي واحد وأغلقها نظام نميري بالضبة والمفتاح. وكان صاحب امتيازها هو المرحوم الأستاذ عبد الرحمن السلاوي رجل الأعمال المعروف وقدت أنا هيئة تحريرها من وراء ستار.
جئت إلى رئاسة تحرير المجلة خلواً من خبرة في صالة التحرير سوى ما اكتسبته في جريدة أخبار الأسبوع الأسبوعية التي آلت إلينا نحن شباب الشيوعيين من الكتاب في آخر 1968. وكنا احتججنا على بؤس أداء حزبنا الشيوعي في حيز الثقافة والإعلام. فاحتوى أستاذنا عبد الخالق محجوب شتاء سخطنا بأن سلمنا الجريدة خالصة وورطنا في كدح الاصلاح ومصاعبه. ولكني جئت لتحرير مجلة العربي الأفريقي وقد أطلت النظر في مجلة الحوادث وجريدة النهار اللبنانيتين مما كان يبرني بهما الصديق محمد دوعالي وأنا قيد العمل تحت الأرض الشيوعي. كما أطلت النظر في مجلة "سوداناو" التي كان عليها الأستاذ السر سيد أحمد الكاتب الراتب بهذه الصحيفة. وصدرت من وزارة الثقافة والإعلام التي كان وزيرها السيد بونا ملوال مستشار رئيس الجمهورية الحالي. وكانت مجلة قامة كما نقول بإسراف على أيامنا هذه. وكمن من ورائها خبراء تحرير من الإنجليز جعلوها فتنة للقارئين والناظرين. واستمتعت المجلة بحرية صحافية نسبية لصدورها باللغة الإنجليزية لم تقع للناطقات بالعربية. وهي مرجع لا غنى عنه للباحث عن المجتمع خلال فترة صدورها. واقول هذا عن تجربة في البحث عن مادة كتابي عن تاريخ القضائية والإحياء الإسلامي.
من شغلنا في التحرير أننا لخصنا في الصفحة الثالثة أكثر مواد العدد. وربما استفدت هذا من مجلة الحوادث. ودمغنا كل صفحة بخاتم أو شعار المجلة. ونظرنا في هذا إلى جريدة النهار كما اعتقد. ثم جعلنا لصفحاتها عناوين. فتحت "المشهد الداخلي" عرضنا للوقائع السودانية مثل تغطيتنا لاجتماع المؤتمر الثاني لبرلمان وادي النيل بقلم السيد عبد الله حميدة الكاتب وعضو مجلس الشعب آنذاك. كما غطى لنا الأستاذ عبد المولى الصديق افتتاح جامعة الجزيرة. ثم جعلنا "المشهد العربي الأفريقي" عنواناً لقصص عن العالمين العربي والأفريقي. كتب لنا فيه الدكتور نورالدين ساتي عن بدء الديمقراطية التعددية في السنغال والدبلوماسي جعفر طه عن يوم الأرض في فلسطين. ثم جعلنا "المشهد العالمي" عنواناً لما يقع في العالم بأسره. وحررت فيه خلفية فكرية لثورة إيران والخميني بملخصات من كتاب أكاديمي عن شيعة إيران. وقصدنا بذلك أن يستنير القارئ بالمادة ليفهم مجرى الثورة الإيرانية المستفحلة آنذاك. وكنت معجباً بفكرة الصندوق المفروز من صلب المقال التي ربما استفدتها من مجلة النيوزويك والتايم الأمريكيتين. وكنت من المعجبين بحرفتهما الصحفية وما أزال. فخصصت صندوقين واحد لشرح مصطلحات الشيعة مثل "الخروج" و "المشهد" وغيرها. أما الصندوق الآخر فقد عرفت فيه بوثيقة شيعية مركزية هي "تنبيه الأمة".
ثم جعلنا "صحافة" عنواناً نعينا تحته الأستاذ السلمابي بأكثر من مجرد الترحم. فعرضنا لسيرته العصامية من ibrahima@missouri.eduجرسون بمقهى بالقضارف لرجل أعمال وصحافي لا يشق له غبار. ووصفه لنا البروفسير محمد عمر بشير بأنه فقد كبير لمجلس الشعب لأنه كان "واحداً من أكثر اعضائه حيوية وحباً للجدل". كتب لنا الأستاذ رحمي سليمان تحت نفس الباب عن ذكرى له في تونس. ثم جعلنا عنواناً هو "ندوات" لعرض ما يدور في منتديات الثقافة والعلم. ولخصت فيه وقائع ندوة انعقدت للتعريب في جامعة الخرطوم وكان نجمها الدكتور جعفر ميرغني. وقد أعدت نشر الكلمة في كتابي "أنس الكتب" للراغب. وسيقف قارئها على أن تعريب التعليم الجامعي لم يكن مفاجأة صادمة كما تقول الصفوة الناطقة بالإنجليزية. فقد كان استراتيجية طويل المدى للجامعة تستعين لأدائها بالبحث الدقيق. وكل المسألة أن صفوة الإنجليزية لم يستعدوا له سلباً أو إيجاباً ومثل هذه الندوات تنعقد بغير عناية منهم. فقد ظنوا أنها زوبعة في فنجان تفوت ولا حد يموت حتى جاءهم طائف من ربك.
ثم خصصنا باباً لعرض الكتب سميناه "واجهة الكتب". عرض فيه البروفسير محمد عمر بشير كتاب الاستاذ حلمي شعراوي عن العلائق بين حركتي التحرر في أفريقيا والعالم العربي. كما عرض الدكتور أحمد عبد الرحيم فيه لكتاب "مقدمة لدراسة الأدب الأفريقي المعاصر" للدكتور يوسف الياس. وعرض لنا يوسف نفسه كتاباً لمؤلف من السنغال عن الإسلام والمجتمع في غرب أفريقيا. وتحت عنوان "الشباب" غطينا بالصورة والكلمة حمى مارس وهي المظاهرة الكرنفالية التي كانت تندلع في أول ذلك الشهر من كل عام للاحتجاج على قدوم شهر الامتحانات. ومن أطرف مشاهدها خصام الطلبة والطالبات. فيهتف الطلاب: بنات الجامعة بنات بايرات. فترد البنات: محجوزين للخريجين. وسعيت في مقبل الأيام لدراسة أوفى لهذا الكرنفال. وأوراقي عنه ما تزال تنتظر التحليل والكتابة.
وبدأت مع الأستاذ الطيب محمد الطيب في المجلة دراسة مسلسلة عن شعب بني جرار أهل الفارس ذائع الصيت موسى ود جلي تحت عنوان "شعوب وقبائل". واتفقنا على استخدام ما جمعته عن هذه الجماعة من كردفان وما جمعه الطيب من البطانة لكتابة سيرة هذه الجماعة المخاطرة. وكتبت الحلقة الأولى. وصحبتها صورة لجبل قرين جلي بشمال كردفان الذي قتل عنده جلي والد موسى. وهي صورة من صنع الأستاذ غالب من مصوري وزارة الثقافة والإعلام الأفذاذ. وكل الفتيات البدويات الحلوات اللائي يزين الدور والقصور مما التقطه غالب في بادية الكبابيش حين اصطحبته في عملي الميداني ليوثق بحثي وليحصل على صور للزينة والزي الكباشي لمشروع آخر. فردوا لغالب حق المؤلف. وتوقفت المجلة ولم نعد لا أنا ولا الطيب للمشروع. ولكنه ما زال يؤرقني وسأنتهز السانحة للفراغ منه بدون الطيب . . للأسف. ولكن إكراماً له.
ثم جعلنا عنواناً هو "اهتمامات" لعرض خبرات الرجال والنساء في شتى الضروب. وجئنا في العدد اليتيم بحوار مع الدكتور طه أمير عن موضوع تخصصه في علم النفس وهو التأتأة. وأعجبني تعريفه لها بأنها ضرورة الكلام والخوف من النطق. ثم خصصنا باباً للطرف والزوايا النادرة تحت عنوان "مما جميعه" كتب لنا فيه الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر عن ثائر سوداني من مجاهدي عمر المختار الليبي. وكتبت أنا أعلق على فكاهة سودانية لدفع تهمة التجهم عن السودانيين. كما كتب الأستاذ عبدون نصر عن خصومة الهلال والمريخ. ثم جئنا بعنوان "اصوات" لتغطية ضروب النشاط الثقافي خلال الشهر. وأذكر أنني استفدت هذا الباب من باب سبق بمجلة سوداناو حرره الأستاذ صلاح ؟ ؟ باقتدار. وكتب لنا الأستاذ محمد المهدي بشري عن كتاب أحاجي عبد الله الطيب. وعرضت أنا ندوة للاب فانتيني بدار المكتبة القبطية عن المسيحية في بلاد النوبة. واذكر البرد الذي أحدق بالخرطوم في ليلة المحاضرة. وضاعف منه بؤس المواصلات فشواني البرد منتظراً ركبها المراوغ إلى بري المحس. ثم اقتطفنا من الصحف العالمية في باب "صحافة عالمية". وحرر الأستاذ حسن مختار صفحة الرياضة. وكتب لنا في المناسبة السيد نجيب المستكاوي الناقد المصري المعروف.
تلك أيام في آخر السبعينات في مكتب بعمارة الضرائب بالخرطوم لم نجد بداً من تهريب حبنا للوطن "والزمن كان ليل".


ibrahima@missouri.edu  

مقالات مشابهة

  • العربي الأفريقي (مارس 1979): والزمن كان ليل
  • مجلة “ميليتري كرونيكل” : اليمن فخ للولايات المتحدة الأمريكية
  • الخطيب استقبل اللواء عبد الله ونائب رئيس جهاز أمن الدولة
  • الخطيب يُنهي عمل لجنة التخطيط في الأهلي
  • المفتي دريان بحث مع زواره في الاوضاع وترأس اجتماع مجلس القضاء الشرعي الأعلى
  • مات مخنوق| تفاصيل مثيرة في تقرير الطب الشرعي لجثة سائق أوبر حلوان
  • مجلة العربي الأفريقي (مارس 1979): والزمن كان ليل
  • هل ترك سجود التلاوة يُنقص من ثواب القراءة؟.. اعرف الموقف الشرعي
  • عن الدين والدولة ملاحظات أوَّلية
  • حتحوت: تأكدنا من توقيع زيزو للأهلي في منزل الخطيب