40 عامًا من الفري لانس.. موجز سيرة خبير غربي في الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT
"6.7 ملايين إنسان ماتوا ليثبتوا لنا أن الدوام الصباحيّ مجرد خرافة!"
تأملات موظف في كورونا
كل ما تنجزه في المكتب يمكنك إنجازه من البيت. كل ما في الأمر أن مديرك يستمتع برؤيتك وأنت متصلّب على كرسيّك. وكائنات الموارد البشريّة سيفقدون قدرتهم على قصف عمرك وراتبك بالحسومات.
هذه قصة صحفيّ عاش أكثر من 40 عامًا في إحدى أغلى مدن العالم من دون أن يضطر إلى "تسجيل حضور وانصراف".
"لقد شهدتُ بعيني سقوط هضبة الجولان، رأيت الدبابات الإسرائيلية عن بعد وهي تتقدم عام 1967، كنت في ميعة الشباب ابن 18 ربيعًا، قررت أن أطوف العالم، وحين وصلت إلى سوريا وقعتُ في غرامها"، قال لي ألان جورج الشيخ الطوال الخميص البطن، الذي لم تأكل الخمس والسبعون عامًا من عضله فظل جسمه متناسقًا. فإن تاقت نفسك عزيزي القارئ لأن تكتشف سره، فهاكه: المشي 10 كيلومترات يوميًا. كانت عيني متسمّرة على يده اليسرى وهو يتحدث إليّ، لفتني خنصره الأيمن المصبوغ بالذهب، لم أجرؤ على مبادرته بالسؤال عنه، لكني طويت عزمي ألا أغادر منزله قبل أن أعرف قصته..
كيف لشاب لم يجتز الثامنة عشرة أن يتحمل تكلفة هذه الرحلة؟ سألته بعد أن استقررت جالسًا على أريكته الرماديّة في شقته الصغيرة في حي كينغستون على ضفة نهر التيمز في لندن والتي استقبلني فيها بحفاوة.
"لقد عملت لأسابيع في مكاتب لشركة نفط لتوفير مبلغ الرحلة".
سيشرح لي لاحقًا ضروبًا من الأعمال التي قام بها في أسفاره، حين تناول من أحد رفوف المكتبة التي تقع في غرفة المعيشة، المزيّنة جدرانُها بصور أولاده وأحفاده، ألبوم صوره ليطلعني على صورة وهو محتبٍ بعِلاقة غيتاره، في أحد شوارع فنلندا، ويبدو كعازف سبيل.
"ليس كثيرًا، بالعزف لساعات على رصيف مناسب، تستطيع أن تجني أجرة المبيت وثمن وجبة في اليوم!".
وكيف كان مسار رحلتك في عام 1967؟ سألته"بدأت رحلتي من لندن، قطعت أوروبا الغربية وصولًا إلى صقليّة، ثم صعدتُ إلى يوغوسلافيا، ثم هبوطًا إلى رومانيا فبولغاريا، فاليونان، ثم إلى إسطنبول، فسوريا، ودخلت دمشق، ثم زرت بيروت، ثم عدتُ إلى سوريا، واتجهت جنوبًا إلى الأردن وفلسطين، احتفلت بعيد ميلادي الثامن عشر في القدس الشرقية، التي كانت تحت الوصاية الأردنيّة، بقيت لأسابيع في كيبوتس (مستوطنة) بالقرب من الجولان، ثم سافرت إلى قبرص، فتركيا مرة أخرى. قطعتُ القارة العجوز وصولًا إلى المغرب، ومنه عبرت إلى إسبانيا وفرنسا لأعود إلى لندن". أخذ يسرد طريق رحلته التي امتدت لستة أشهر وقام بها قبل خمسة عقود من ذاكرته، وكأنه يقرأها من قائمة بين يديه. ثم قام إلى المطبخ المفتوح على مكان جلوسنا، ليقدم لي ضيافته "ماذا تشرب؟" قال وهو يضع هاتفه في الشاحن.
"كأس من الماء يكفي، لو تكرمت" أجبته.
استأنف كلامه عن رحلته الكبرى "كانت رحلتي تلك بداية لعلاقة ستمتد عُمرًا مع الشرق الأوسط، كنت دائما أقول لأولادي لا تنشغل بالتخطيط، سيجدك طريقُكَ".
قرأتُ قبل سبع سنوات في مجلة السياحة التي تصدرها "ناشونال جيوغرافيك" عن رحلة رحّالة أوروبي قطع قارة أوروبا راجلا، ولم يبقَ في ذهني من تلك المقالة الطويلة سوى سطرها الأول "وحده السائح لا يسأل عن الطريق، لأن كل الطرق تفي بالغرض"، قال وهو يناولني كأسًا من ماء إيفيان. كان جورج على مذهب ذلك الرحّالة.
"أوقعتني سوريا في حبها، كانت بلدًا مختلفًا عن أوروبا" ما الذي يجذبُ الغربيّ في بلادنا؟ طالما تساءلت، سيقولون التاريخ. وأنا أقول: إن الكثير من عبق التاريخ قد يزكم الأنف. ما الذي يجده الإنجليزي في بساتين الشام ولا يجده في الريف الإنجليزي، أو غابات أسكتلندا؟
سيقول لي جورج في آخر لقائنا: "زرتُ اليمن، ولم أرَ في حياتي إنسانًا يحافظ على شموخه مع بساطته مثل اليمني، ربما لأنه لم يعش تحت استعمار!"، هناك شيءٌ ما في الإنسان العربي مثير للعين الغربيّة، العيش في أماكن غير قابلة للعيش لكمية الظلم والفساد والتسلّط، لافتٌ للانتباه.
لم يكن جورج أول من ينتهي إلى تلك الخلاصة في انسحاره بالشام، فقبل 800 عام طاف رحّالة رومي اسمه ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) القارات المعمورة، ودوّن مشاهداته في كتابه معجم البلدان، ولما وصل إلى الشام قال "ما وُصِفتْ الجنة بشيء إلا وفي دمشق مثله".
لم ينسَ جورج الحقول والبساتين ومشهد امرأتين في الصباح الباكر تسيران في الحقل وتحملان على رأسهما الخبز "بدا لي وأني أعيش في صفحة من صفحات الكتاب المقدس" في سِفر الخروج توصف منطقة الشام بأرض اللبن والعسل، ونحن نصدق هذا لأن البحتري قال لنا عن الشام "وقد وفى لك مطريها بما وعدا!"
في رحلته تلك، تعرّف جورج على الصراع العربي الإسرائيلي، وتبيّن له زيف الدعاية الصهيونية.
"بالنسبة لي كانت الحرب منظرًا مدهشًا، كانت الدعاية الصهيونيّة تقدم قصة مختلفة عما يدور في فلسطين لا يعرفه أكثر الغربيين.. ما رأيته في 1967 بأم عيني كان مختلفًا عن هذه الرواية".
تذكر مثالًا؟"رأيتُ أسرى سوريين عزّلا يساقون والجنود يضربونهم بخوذاتهم الحديديّة على رؤوسهم".
درس آلان جورج الجغرافيا بقدميه سيرًا على الخريطة، قبل أن يدرسها على مقاعد الدراسة الأكاديمية. فقد تخرج من جامعة أكسفورد عام 1970، وحصل على درجة الماجستير في جغرافيا الشرق الأوسط من جامعة دورهام عام 1972، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الجغرافيا السورية من الجامعة نفسها عام 1978. ومنذ عام 1984 عمل صحفيا مستقلا وباحثا، وكتب في عدة صحف محليّة وعالمية مثل صحيفة أوبزرفر، وصحيفة إندبندنت، وصحيفة برايفت آي بالمملكة المتحدة، وصحيفة بروفيل ودير ستاندارد في النمسا، وصحيفة بانوراما في إيطاليا، وصحيفة بيرلينجسكي تيديندي في الدانمارك، وصحيفتي الشرق الأوسط والقدس العربيتين اللتين تصدران في لندن. وهو معلق دائم على شؤون الشرق الأوسط في الإذاعة والتلفزيون. كما عمل مساعدًا سابقًا لمدير مجلس تعزيز التفاهم العربي البريطاني (CAABU) وعضوًا في لجنته التنفيذية لسنوات عديدة. وقد زار سوريا والمنطقة العربية بشكل متكرر منذ عام 1967.
تحول اهتمام جورج بسوريا من بلدٍ سياحي إلى موضوع دراسة وبحث، حيث أصدر أول كتبه عنها، فاحصًا اقتصادها وسياستها.
قال حافظ الأسد ذات مرة "لا يعيش الإنسان بالخبز وحده، بل يحتاج الإنسان إلى أن يعيش إنسانيته، ويحتاج إلى معنى سامٍ في حياته، ويحتاج إلى الحرية والكرامة". حين زار جورج سوريا أخبرني أنه كان مندهشًا من كمية الخوف في عيون الناس. حكم حافظ الأسد بالحديد والنار، وحين تولى ابنه في مطلع القرن الجديد، هبّت نسمة "ربيع دمشق" فانفتح المجتمع شيئًا ما وتأسست منتديات ثقافية وارتفع سقف الحرية والعمل السياسي.
وقال الرئيس الجديد لشعبه وقتها "الديمقراطية واجبٌ علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقًا لنا"، لم يطل ربيع دمشق سوى ستة أشهر، أعقبته حملة قمع واعتقالات للطبقة المثقفة، وخنق للحريات. رصد آلان جورج هذا التحول، ودرس الاقتصاد السوري فاحصًا وعد الرفاهية، ليخلص إلى كتاب نُشر في 2003 يدلُ عنوانُه على خلاصته "سوريا.. لا خبز ولا حرية".
في إحدى زياراته البحثية لسوريا وهو يحضّر لرسالة الدكتوراه، قبضت عليه السلطات السورية وهو يلتقط بعض الصور في دمشق.
"وقفتُ أمام لجنة التحقيق التي أخذت تحاضرني عن خطورة ما قمتُ به وتتهمني بخرق سيادة البلاد بكاميرتي! رددت عليهم غاضبًا: سيادة وتصاريح؟ تحاضرونني عن السيادة والطيران الإسرائيلي يتجول في أجوائكم بلا محاسبة!" بعد عقدين من الزمان، لم يتوقف النظام وأتباعه عن ذكر السيادة السورية. لكن اختراق الأجواء السورية لم يعد حِكرًا على العدو الصهيوني، فقد انضم إليه الطيران الإيراني والروسي والأميركي والتركي!
هل شعرت بالخوف حين اعتقلوك؟"لا، لم أخف، عرفت أنهم لا يؤذون مواطنًا أوروبيا. ثم إني أتقنت لعبة الخوف التي تمارسها السلطات العربية على شعوبها. ألقي القبض علي مرّة في العراق، فاستخدمتُ الكلمة السحرية، وقلت إني "صديق لفلان" اسم مسؤول بعثي رفيع المستوى. فارتعب ضابط الشرطة السرية الذي أراد أن يخيفني بسلطته!".
حدثني عن بداياتك الصحفية؟"بدأت الكتابة في الصحافة البريطانية، كنت أكتب لعدة مجلات محلية متخصصة عن مواضيع تتعلق بالشرق الأوسط، في الصحة والتجارة، والصناعة والمياه، وكان بعضها مملًا للغاية. شيئًا فشيئًا، نما اسمي مع كتابتي في الشأن السياسي. لم تكن معرفة المنطقة العربية متاحة بوفرتها اليوم، وبالتالي كان لدي نوع من الامتياز. ظهر اسمي في صحف مرموقة داخل بريطانيا وخارجها، في الدول الأوروبيّة، وترجمت مقالاتي لعدة لغات مثل الألمانية والإيطالية والفرنسية". قال هذا وهو يناولني ملفًا ضخمًا يجمع قصاصات كثيرة من صحف أوروبية وبلغات شتى.
هل كان العمل بالقطعة، مجديًا وقتها؟ سألته وأنا أقلّب صفحات الملف، وأرى تواريخ نشرها في السبعينيات والثمانينيات.
"جدًا، في ذلك الوقت قبل الإنترنت، حيث كانت حقوق النشر محترمة ويسهل تطبيقها، كنت أكتب القطعة بالإنجليزية وأترجمها لثلاث لغات، وأبيعها لعدة دول للنشر في تاريخ محدد، وأقبض عليها ثمن أربع مقالات، كان ذلك مجزيًا"!
"في ذلك الوقت تبيّن لي أن الصحف الكبرى لها أجندتها الخاصة. عملت على تحقيق صحفي كان أحد أعمالي الناجحة؛ وصلت فيه إلى معلومات حصريّة عن تصنيع الأسلحة في العراق، وعن تعاون بعض الدول الأوروبية مع حكومة صدام في صفقات مواد وأجهزة يمكن استخدامها في تصنيع أسلحة فتّاكة. وحين لم أجد تجاوبًا من الصحف السياسية، توجهت إلى مجلة متخصصة اسمها "المهندس" (The engineer)، حين غزا العراق الكويت، أصبح موضوع التعاون الأوروبي مع حكومة صدام موضوعًا ساخنًا في الإعلام الغربي. لقد عرضتُ عليهم مقالي في وقت مبكر، ولم يهتموا به"!
"مؤخرًا بدا لنا في الوطن العربي التحيز الرهيب للصحافة الغربية للرواية الصهيونية في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة. يبدو أن استقلال الصحافة الغربية وحريّتها ليس دقيقًا تمامًا" علقتُ عليه.واصلَ حديثه دون أن يرد على تعليقي.
"قبل سنوات، كتبت مقالة في صحيفة مرموقة عن رجل أعمال عربي، فهدد بمقاضاة الصحيفة، استدعاني رئيس التحرير وطلب مني أن أعتذر عن مقالي لأنه سيعرّض الصحيفة لقضية تشهير! فقلتُ له إن مقالي يعتمد على معلومات دقيقية، ولا يمكن أن أعتذر عن عملي الصحفي. وبدلًا من الاعتذار، دافعتُ عن نفسي في الدعوى القضائية التي رفعها عليّ رجل الأعمال، وربحتها.. حينها وصلتُ إلى قناعة بأن الصحافة تجارة، أن تبيع المعلومات لمن يهتم بها"!
حسنًا، دعني أسألك بصراحة وأنت معدود في طبقة الخبراء بالمنطقة العربية، كيف يرانا الساسة الغربيون؟"لم يتخلَ الغرب عن جوهر نظرته العنصريّة نحو الشرق الأوسط وأفريقيا، علاقة الغرب بتلك المنطقة ما زالت علاقة استغلال وعقلية استعمار".
فكّر جورج في التدريس الأكاديمي لفترة لكنه لم يناسب شخصيته المنطلقة، رأى العالم أكبر من أن ينظر إليه من وراء مكتب، أو من قاعة دراسة. فآثر العمل المستقل.
ما الوظائف التي مارستها قبل أن تقرر أنك لا تصلح للوظيفة الدائمة؟"عملت باحثًا جامعيا، وعملت في شركة علاقات عامة في لندن، وكان عميلها الرئيسي العقيد القذافي. وكان ذلك في أوائل الثمانينيات. كنا ننتج مجلات دعائية للقذافي ولجانه الثورية، وكثيراً ما كنا نقتبس من كتابه الأخضر"!
هل زرت ليبيا؟"كنت هناك لمدة ستة أشهر في عام 1973، ودرست اللغة الإنجليزية في جامعة ليبيا في بنغازي، وبدأت في تعلم أساسيات اللغة العربية".
هل صادفتَ شيئًا غريبًا هناك؟ سألته بفضول."لا شيء غريب سوى القذافي"، أجاب بابتسامة عريضة، ثم قال وكأنه تذكر شيئًا "نعم، عانيت أنا وزوجتي معاناة حقيقيّة من مكبر الصوت القريب من الشقة التي أسكن فيها، وكانت تنطلق منه هتافات وأغان ثوريّة منذ ساعات الصباح الباكر"ّ!
هل التقيت بالقذافي؟"التقيتُ به مرة في زيارة صحفية لليبيا، أدخلوا الصحفيين لخيمته التي يبسطها في كل مكان يزوره، جاء العقيد مدججًا بفتيات جميلات يحطن به في لبسهن العسكري، وأهداني نسخة من كتابه الأخضر".
قام من مجلسه وتناول كتابًا من أحد الرفوف، ومرره إليّ.
"انظر، كتب لي إهداءً: ما المكتوب لم أستطع قراءة خطه؟".
"من الرفيق معمر، مع تحياتي" قرأته مترجمًا له.
رنَّ الهاتف، فاستأذن للرد عليه.
أخذت عينيّ تتجول في مكتبته، لفتني قاموس المنجد في اللغة للويس معلوف وبعض القصص العربية للناشئين، بدت تلك الكتب العربية غريبة وسط مكتبة إنجليزية خالصة. على جدار الغرفة تصطف صوره مع أبنائه وأحفاده. وفي الركن ينام غيتاره.
في القرنين الماضيين، انتشر الأوروبيون في الأرض بقوة الحديد والبارود، وسكنوا بلاد العالم المستعمَر رغبةً في خيرها، وعلى كرهٍ من أهلها، فلما ارتخت إمبراطورياتهم، وأزعجتهم كُلفة البقاء، وانحسرت خرائطهم، زحف إليهم مستضيفو الأمس بالزوارق والتأشيرات المزوّرة ليحلّوا ضيوفًا عليهم، وبقوّة القانون الذي فرضوه على أنفسهم والتزموا به.
يعمل جورج اليوم مستشارًا مستقلًا في قضايا اللجوء، تستفيد المحاكم البريطانية من خبرته في العالم العربي لتقييم القضايا التي يقدمها المهاجرون، وفحص مصداقيّة قصصهم.
"لا يتعب بعضهم نفسه في صياغة قصة مقنعة، أتذكر قضية للبناني سنّي يطلب اللجوء بحجة أن حياته في بلده مهددة، لأن حزب الله جنّدوه لتنفيذ عملية انتحارية، وهددوه بأنه لو لم يفعلها فسيقتلونه"! قال جورج وهو يسير أمامي ليأخذني إلى مكتبه، واصل قائلًا بصوت منخفض لكي لا نوقظ صديقته الإسبانية النائمة في الغرفة المجاورة والتي وصلت من السفر صباح اليوم، "هذا غباء محكم. كيف يمكن أن تصادق على رواية مزوّرة بهذه الطريقة الفجّة؟ كيف يجنّد حزب الله سنيًا؟ وكيف يكون التهديد مساويًا للأمر الذي طلبوه منه، هذا أمر لا يصدق"!
"كل هذه الأوراق لقضايا لجوء؟" سألتُه بصوت خفيض، ونحن نقف وسط المكتب الذي تتكدس فيه الأوراق بطريقة منظّمة وفي مصنّفات سوداء مرقّمة."نعم، كل هذه قضايا طلب لجوء. لا يمكنني أن أطلعكَ عليها لسريّتها. لكن يمكن أن أعرض عليك نموذجًا من قضية قديمة قبل سنوات دون أن أطلعك على اسم صاحبها". أخرج ورقة من أحد الملفات، وقال "انظر إلى هذه الوثيقة. محافظة بغداد، أمر بإلقاء القبض على المواطن (..) بموجب قانون ب د أ"، مذيّلة بختم وزارة الداخلية وتوقيع مسؤول.
"تبدو لي مزوّرة، لا توجد صيغة لأمر إلقاء قبض هكذا"، قلتُ له وأنا أعيد له الورقة.
"بالضبط، ثم ما معنى قانون ب د أ! هذا تزوير رديء"، أجاب بانزعاج من اكتشف محاولة تذاك فاشلة.
أعمل كل يوم من الساعة التاسعة إلى السادسة!
هذا كثير على رجل يعمل من بيته!"أمي سويسرية ومنها أخذت قيمة الانضباط في العمل"، لانت ملامحه قليلًا حين ذكر أمه، وواصل كمن يبوح بسر "في مرض وفاتها في سويسرا، زرتها وجلست عند فراشها، جئت لأقول لكِ: شكرًا للطاقة التي منحتني إياها. لقد كانت أحد أسباب ما قمت به في حياتي".
ما الذي تقصده؟"كل أسفاري وسياحتي وتجاربي في الحياة، بالإضافة إلى تتبعي لمسارات المشي الطويل، وفعاليات الرقص حول العالم أدين بها للطاقة التي زرعتها فيّ والدتي. على أية حال، لقد قررت منذ زمن طويل أنني أريد أن أستلقي على فراش الموت دون أي ندم. لا أريد أن أقول: لو فعلت هذا أو ذاك. أريد أن أصفّي حساباتي مع الحياة وأريد أن أجرب كل شيء".
ذكرت أنك مهتم بالرقص، أي نوع منه؟"رقصة السوينج (ليندي هوب على وجه التحديد) هي نوع من الرقص الإيقاعي الثنائي. نشأ هذا النمط من الرقص مع الأميركيين السود في نيويورك في ثلاثينيات القرن العشرين"، حين بدا له أني لم أستوعب نمط الرقص، فتح هاتفه وأراني أحد المقاطع التي سجلها لرقصه. "هذا في فرنسا، في مقهى شعبي. بالمناسبة، ألم تلاحظ اللون الذهبي لإصبعي الصغير؟".
بلى، لكنني ترددت في السؤال عن ذلك.
"حسنًا"، قال بحماس كبير، "عندما أمارس هذه الرقصة في مكان به إضاءة مناسبة، سيتعرض إصبعي الصغير الأيمن لأي ضوء يُسلّط علينا، حينها سيلمع إصبعي بشكل ساطع"ّ! "أعتقد أنها فكرة رائعة"!
هذه حقًا فكرة شيطانية، أخبرتني أنك تتبع مسارات طويلة، أخبرني عن أطول مسافة مشيتها؟"أعتقد أنها كانت في السويد، سلكنا مسارًا بطول 200 كيلومتر عبر الجزء الشمالي من السويد من الشمال إلى الجنوب. قطعناه في حوالي عشرة أيام"ّ "هذا الشهر (أغسطس/آب 2024) سأقوم بجولة سير في جبال البرانس الإسبانية، حوالي 200 كيلومتر".
ألا تفكر في كتابة مذكراتك؟ يبدو أنك عشت حياة مثيرةلقد تلقيت عرضين من دور النشر لكتابة مذكراتي، لكنني لست متأكدًا من أن حياتي كانت مثيرة للاهتمام بما يكفي لتكون موضوع كتاب!
لقد ذكرت لي أنك كنت حريصًا على شكر والدتك في لحظاتها الأخيرة، ما الذي تود أن يتذكرك به أبناؤك؟
"هذا سؤال جيد. آمل أن أكون قد تمكنت من نقل طاقتي إليهم. أريد أن يتذكروني كشخص طيب وأب جيد لهم، وكشخص استفرغ وسعه في كل ما قام به، ولم يندم على أي شيء".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد
إقرأ أيضاً:
للمسافرين... إليكم البيان التالي لشركة طيران الشرق الأوسط
أعلنت شركة طيران الشرق الأوسط عن جدول رحلاتها من بيروت وإليها للفترة الممتدة من 11 تشرين الثاني 2024، ولغاية 1 كانون الأوّل 2024.