لجريدة عمان:
2025-01-16@17:02:51 GMT

فارس اسمه الموت(1)

تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT

فارس اسمه الموت(1)

بوريس سافينكوف

الترجمة عن الروسية: أحمد م الرحبي

«فنظرتُ وإذا فرسٌ أخضر، والجالسُ عليهِ اسمهُ الموت، والهاويةُ تتبعه»

(سفر الرؤيا)

«وَأَمَّا مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ فِي الظُّلْمَةِ، وَفِي الظُّلْمَةِ يَسْلُكُ، وَلاَ يَعْلَمُ أَيْنَ يَمْضِي، لأَنَّ الظُّلْمَةَ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ»

(يوحنا)

6 مارس

وصلتُ موسكو مساء أمس.

لا تزال مثلما هي. الصُلبان تلمع فوق الكنائس، والمزالج تصدر صريفا على الثلج. الصباح برد قارس، الزخرفة على النوافذ، وفي دير ستراستنوي تقرع الأجراس لقداس النهار. إني أحبُ موسكو، القريبة من قلبي.

أحمل جوازا ممهورا بالختم الأحمر للملك الإنجليزي وتوقيع اللورد لانسدون؛ مذكورا فيه أني، جورج أوبراين، من رعايا بريطانيا، أقومُ برحلةٍ إلى تركيا وروسيا، وفي الأراضي الروسية أضافوا ختم «سائح».

في الفندق كان كلّ شيء مألوفا حدّ الضجر: البوابُ في السترة الزرقاء، والمرايا المُذّهبة، والسجاد. في غرفتي ديوانٌ رثٌ والستائر مُغبّرة. وتحت الطاولة ثلاثة كيلوجرامات من الديناميت جلبُتها معي من خلف الحدود. إن للديناميت رائحة مُطهراتٍ قوية وفي الليل يؤلمني رأسي منها.

سأتجول اليوم في موسكو. الشوارع مظلمةٌ وثلجٌ خفيف. ثمة ساعة تدّق في مكان ما. وأنا وحدي تماما. أمامي حياةٌ وادعة وبشرٌ هانئون. أمّا في القلب فيتردد صدى الكلمات المقدسة: «سأعطيك نجمة الصباح».

8 مارس

لدى إيرنا عينان خضراوان وضفائر سميكة. تدنو مني بخجل وتقول:

- لعلك تحبني ولو قليلاً؟

ذات يوم بعيد منحت نفسها لي كملكة، وكان لسان حالها يقول: لا تطالبني بشيء، لا تأمل مني شيئا. أما الآن فتتسول الحب مثل شحاذة. نظرتُ عبر النافذة إلى الساحة البيضاء وقلت:

- أنظري، ثلجٌ ناصع. فتخفض رأسها وهي صامتة، حينها أقول:

- كنت مساء في ساكولنيكي. الثلج هناك أنصع. إنه وردي، وظلال البتولا زرقاء. فأقرأ في عينيها:

- هل ذهبت من دوني؟

وأقول مجددا:

- اسمعي، هل سبق لك أن ذهبت إلى قرية روسية؟

تجيب:

- كلّا.

- إذن، ففي أوائل الربيع، حين يكون العشب قد اخضرّ في الحقول فعلا، وفي الغابة تفتحت أزهار الثلج، يكون الثلج قابعا في الوديان بعدُ. شيء غريب: ثلجٌ أبيض وأزهارٌ بيضاء. ألم تري ذلك؟ لا؟ ألم تفهميني؟ لا؟

تجيب:

- كلّا.

بينما أفكّر أنا بيلينا.

9 مارس

يعيش الحاكمُ العام في قصرهِ، محاطا بالجواسيس والحراس.. سياجٌ مزدوجٌ من الحِرابِ والنظراتِ الصارمة.

عددنا قليل، خمسةُ أشخاصٍ فقط. فيودور وفانيا وهاينريش وهم حوذيون، يقومون بمراقبتهم بلا انقطاع ويبلغونني عن ملاحظاتهم. إيرنا كيميائية وتقوم بتحضير المتفجرات.

على مكتبي أقومُ برسم مسارات الخطة وأحاول مُباركتها. نلتقي معاً بالضيوف في صالات القصر. معا نتجول في الحديقة، خلف السياج. معا نتخفى في الليل، ومعًا نبتهل لله.

لقد رأيته اليوم. انتظرته في تفيرسكايا حيث تسكعتُ طويلا على الرصيف المتجمّد. هبط المساء وتجمّد الهواء وكنت قد فقدت الأمل. فجأة لوّح المأمور بقفازه من الزاوية. تقدم رجالُ الدرك إلى الأمام صفا واحدا، وهرع المخبرون. تجمّد الشارع.

مرّت عربات الشرف حذو الرصيف وهي تنهب الشارع. خيول سوداء. سائقٌ بلحية حمراء. عروة الباب المحدودبة، مشدات العجلات الصفراء. والحرسُ في مزالجهم يتبعون كل ذلك.

بالكاد تعرفت عليه وأنا أجري بسرعة، أمّا هو فلم يرني. كنت بالنسبة له قطعة من الشارع.

سعيداً وبخطى وئيدة عدتُ إلى مسكني.

10 مارس

حين أفكر به فإني لا أحمل له غلا أو ضغينة. الشفقة أيضا لا أحملها له. إنه سيّان بالنسبة لي. مع ذلك أريده ميّتا. أعرف أنه من اللازم قتله. لزاما لأجل الكفاح المسلّح ولأجل الثورة. إني لا أؤمن بالكلمات؛ أؤمن بأن القوة تحطّم القشة. فإن كان بمقدوري لقتلت كلّ الرؤساء والحكّام. لا أريد أن أكون عبدا. لا أريد أن يكون هناك عبيد قط.

يُقال: إن القتل مُحرّمٌ. ويقال أيضا: إنه من الممكن قتل الوزير، ولكن لا يصحّ قتل الثوري. كما يُقال عكس ذلك.

لست أعرف لماذا لا يصّح القتل. ولن أفهم أبدا لماذا يكون القتل باسم الحرية جميلا، وقبيحا حين يكون باسم السُلطة.

أتذكر حين ذهبت للصيد أوّل مرة. كان الحقل أحمر، تدلت خيوط العناكب، والغابة كانت صامتة. وقفت في بقعة مكشوفة، حيث خلّف المطرُ حفرا في الدرب. أحيانا يُسمع حفيف البتولا، وتتطاير الأوراق الصفراء. وقفتُ أترقب. فجأة تمايل العشب، ومن بين السيقان انسلّ أرنبٌ صغير، رماديّ اللون مكوّرٌ، وبحذرٍ جلس على قائميه الخلفيين. تلّفتّ حولي، ورفعت سلاحي مُرتجفاً. ثم ارتجع الصدى في الغابة، وانبثق دخان أزرق بين أوراق البتولا، وعلى العشب القاني، كان الأرنبُ الجريح يرفس، غارقا في دمائه. كان يصرخ مثل طفلٍ يبكي. لقد شعرت بالشفقة نحوه. أطلقت النار مرّة أخرى فهمدت أنفاسه.

في البيت، نسيت أمره من فوري، فكأنه لم يعش قطّ، كأني لم أسلب منه أغلى ما لديه – الحياة. ثم سألت نفسي: لماذا تألمتُ حينما كان يصرخ؟ ولماذا لم أتألم وأنا أقتله إرضاءً للمتعة.

11 مارس

الحداد فيودور، عامل سابق من بريسنيا. يرتدي مريولا أزرق وقبعة حوذيّ، وكان يرتشف الشاي من صحنِ الكوبِ.

قلتُ له:

- هل شاركت في ِصدامات ديسمبر؟

- من أنا؟ كنتُ قاعدا في المهجع.

- في أي مهجع؟

- إحدى المدارس، في المدينة.

- لماذا؟

- كنت في الاحتياط. أحرس قنبلتين.

- هذا يعني أنك لم تشارك في إطلاق النار؟

- وكيف لا؟ لقد شاركت.

- فلتحدثني إذن.

لوّح بيده.

- لا شيء يُذكر... جاء سلاح المدفعية وراحوا يرجموننا بالمدافع.

- وأنتم؟

- ونحن أيضا... رجمناهم بالمدافع. صنعناها بأنفنسنا في المعامل. مدافع صغيرة، مثل هذه الطاولة، ولكنها تدّكُ بصورة جيدة. وقد أطحنا منهم خمسة عشر رجلا. ولكن سريعا ما ارتفع ضجيجٌ حيث وقعت قذيفة على السقف وفجّرت ثمانية منا.

- وماذا عنك؟

- أنا؟ وماذا عنّي؟ كنتُ رأس الاحتياط وبقيت مع القنابل في الزاوية. بعدها صدر القرار.

- أي قرار؟

- قرار اللجنة بالخروج. كان واضحا أن الوضع بحاجة إلى التروي... فانتظرنا قليلا وغادرنا.

- وأين ذهبتم؟

- نزلنا إلى الطابق السفلي، فالرمي من هناك أسهل.

لم يكن متحمسا للكلام. وقفت أنتظر.

قال بعد برهة صمت:

- نعم، لقد كانت وحدها هناك... وقد تضامنت معي... كما لو أنها زوجتي.

- وبعد؟

- وماذا بعد؟ لا شيء... قتلها القوزاق.

من خلف النافذة تلاشى النهار.

13 مارس

يلينا متزوجة. إنها تعيش هنا، في موسكو، ولا أعرف شيئا آخر عنها. في أيام الفراغ أتجول صباحا في الشارع، حائما حول دارها. الثلج الرقيق يطقطق تحت قدميّ. أسمع كيف تدّق ساعة البرج ببطء. لقد بلغت الساعة العاشرة. أجلس على المصطبة وبصبرٍ أراقب الوقت. أقول لنفسي: لم أصادفها بالأمس وسأصادفها اليوم.

رأيتها أول مرّة قبل عام. كان ذلك في الربيع حين توقفتُ في مدينة ن. في الصباح خرجت إلى حديقة كبيرة وظليلة. على الأرض الرطبة سمقت أشجار البلوط القوية وأشجار الحور النحيلة. كان المكان هادئا مثل كنيسة. حتى الطيور لم تشدو. وحده الجدول كان يهدرُ. نظرتُ إلى مجراه فرأيت الشمس تتلألأ في رذاذه. أنصتُّ لرقرقة الماء. رفعت عينيّ. على الضفة الأخرى وقفت امرأة وسط شبكة من الأغصان الخضراء.

لم تنتبه لوجودي. ولكني كنت أعرف أنها تنصت إلى ما كنت أنصتُ له. تلك كانت يلينا.

14 مارس

أنا في غرفتي. ثمة من يعزف على البيانو مِن فوقي. خطواتٌ تغوص في سجّادٍ ناعم.

لقد تعوّدت على حياة التنقّل. تعوّدت على الوحدة. لا أريد معرفة المستقبل. أحاولُ نسيان الماضي. لا وطن لي، لا اسم، لا عائلة. إني أقول لنفسي:

نعاسٌ أسود عظيم (2)

يسود حياتي

أملي كلّه في النوم

جلّ رغبتي في النوم

لكنّ الأمل لا يموت. الأمل في ماذا؟ في «نجمة الصباح»؟ إني أعرف أنه، وبما أننا قتلنا بالأمس، فسنقتلُ اليوم أيضا، ولا مفرّ من أن نقتل في الغد أيضا. «ثم سكب الملاك الثالث جامه على الأنهار وعلى ينابيع المياه فصارت دما»(3). وإنه لن يكون بالمستطاع غسل الدم بالماء وحرقه بالنار. فمع الدم إذن، من الآن وحتى القبر.

لم أعد أرى شيئا

وإني لأفقد ذاكرتي

بحلوها ومرّها

فيا للقصة الحزينة.

سعيدٌ من يؤمن بقيام المسيح ونشور لعازر. سعيدٌ أيضاً من يؤمن بالاشتراكية، وبالجنة الموعودة على الأرض. إلّا أن هذه الحكايات المأثورة مضحكة بالنسبة لي. لقد قلتُ إني لا أحبُ أن أكون عبدا، فهل حريتي تكمن في هذا! وما حاجتي بها؟ باسم ماذا أسعى للقتل؟ باسم الكفاح المسلّح، لأجل الثورة؟ باسم الدم، لأجل الدم؟

أنا مهدٌ

دع اليد تتأرجح

في قرارة القبو

وليعمّ الصمت...

الهوامش:

1- النص جزءٌ من رواية قيد الترجمة

2- هذا المقطع وما يليه للشاعر الفرنسي بول فيرلين وقد وردت بالفرنسية في الأصل- المترجم

3- سفر الرؤيا – المترجم

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

استثمار النفس

«لقد عجز البشر عن علاج الموت والبؤس والجهل، لقد قرروا أن يجعلوا أنفسهم سعداء، وألا يفكروا فـي الأمر»

من خلال هذه الملاحظة، يُسلط الفـيلسوف الفرنسي باسكال الضوء على الأسباب التي تجعل البشر -حسب رأيه- يقضون أوقاتهم فـي الاستمتاع، أي استثمار أنفسهم بلا حدود فـي العمل حتى لا يضطروا إلى مواجهة العدم الذي هو جوهر وجودهم. تستحضر جميع المصطلحات المستخدمة هنا فكرة الحرمان أو النقص، والموت الذي يشير إلى نهاية الحياة البشرية، والبؤس الذي يثير الحرمان المادي، ولكن قبل كل شيء، الحرمان الأخلاقي، وأخيرا الجهل الذي يشير إلى عدم قدرتنا فـي الوصول إلى حقيقة مؤكدة، وأيضًا، فـي مواجهة هذا العدم، وفـي مواجهة محدودية وجودهم، لم يجد الناس أي حل آخر سوى الترفـيه عن أنفسهم، أي الابتعاد عمّا يعتبر مصدرًا للكرب بالنسبة إليهم، ولهذا السبب يكرسون أنفسهم بكل إخلاص لمختلف الأنشطة، وأحيانًا إلى حدّ الإرهاق.

وذلك لأن الترفـيه الذي يشير إليه باسكال هنا لا علاقة له بالمتعة. يجب علينا فـي هذا الحيّز، أن نفهم المصطلح بمعناه الحرفـي، فالأمر يتعلق بالابتعاد عن الجوهر، وعدم النظر وجهًا لوجه إلى ما يشكل حالتنا. وهكذا، فإن العمل بالنسبة إلى العديد من إخواننا من البشر هو ترفـيه، ولكن الأمر نفسه ينطبق على أوقات الفراغ أو الرياضة أو أي نشاط آخر يجذب انتباهنا ويمنعنا من مواجهة هشاشة وجودنا.

ولكن هل هذه الطريقة فـي فهم الحياة البشرية من الزاوية السلبية هي الطريقة الوحيدة الممكنة؟ ألا يعني التفكير فـي الموت بالضرورة اتخاذ موقف الإنكار؟

إذا كنا لا نستطيع أن نفكر فـي الموت، فربما يكون ذلك ببساطة؛ لأنه -كما يعلمنا أبيقور- الموت ليس شيئًا بالنسبة لنا. لذلك، إذا كان الموت لا شيء، فهو ببساطة غير قابل للتفكير؛ لأنه -بكل بساطة- لا يوجد شيء للتفكير فـي الموت. ومن ناحية أخرى، ما يمكن أن نفكر فـيه هو الحياة، وهي بالتأكيد حياة فانية ومحدودة لا نعرف متى ستنتهي، ولكنها حياة، ما دامت موجودة، فهي قبل كل شيء تأكيد لقوتنا من الوجود، من رغبتنا فـي تأكيد أنفسنا فـي الوجود. وبهذا المعنى، فإن فكر أبيقور ليس بأي حال من الأحوال رفضًا لمواجهة الحالة الإنسانية، والحكمة التي يعلنها لا علاقة لها بالترفـيه الباسكالي.

إذا كان الموت لا شيء بالنسبة لنا، فـيجب علينا مع ذلك أن نضع فـي اعتبارنا دائمًا أننا فانون، وإذا لم نتمكن من التفكير فـي الموت الذي هو لا شيء، فـيجب أن نكون واعين بفنائنا إذا أردنا أن ننجح فـي حياتنا. وهذا هو السبب الذي دفع أبيقور إلى تعليم تلميذه مينوسيوس ضرورة التفلسف. الفلسفة هي الطريق الذي يؤدي إلى السعادة، الطريق الذي يسمح لنا بالتفكير وطرح الأسئلة على أنفسنا حول ما يستحق المتابعة حقًا فـي الوجود لتحقيق الحياة الطيبة، فليس من المبكر جدًا أو المتأخر جدًا الانخراط فـي مثل هذه الممارسة. فـي هذا، يوافق أبيقور، إلى حدّ ما، مع النصيحة التي قدمها ماركوس أوريليوس فـي كتابه أفكار للعيش كل يوم كما لو كان هو اليوم الأخير. الذي يمكن تفسيره على أنه تعبير عن الحاجة إلى عيش كل لحظة دائمًا باعتبارها إنجازًا مملوءًا وكاملًا لوجودنا الذي ربما يمكن أن يقترب من الاستغلال اليومي الذي أوصى به الأبيقوريون اللاحقون لأبيقور نفسه.

علاوة على ذلك، للتغلب على الخوف من الموت، يجب علينا الاستجابة لضرورة التفلسف وبالتالي نكون قادرين على تنفـيذ العلاج الرباعي الذي يتلخص مذهبه فـي البيانات الأربعة التالية:

1) لا ينبغي أن نخاف من الآلهة.

2) لا ينبغي أن نخاف من الموت.

3) السعادة متاحة.

4) يمكن التغلب على الألم.

المشكلة هي أن هذا العلاج الرباعي ربما يكون أيضًا سمًا رباعيًا ـــ إذ أن مصطلح فارماكون يشير فـي اللغة اليونانية إلى العلاج والسُمّ ـــ لذلك من الضروري استخدامه بتمييز، وإلا فسيكون هناك خطر قوي فـي تحويل عقيدة المتعة إلى زهد منكر لمتعة الحياة نفسها. إن الأبيقورية ليست فـي الواقع دعوة إلى متعة غير محدودة؛ وهذا التفسير ليس أكثر من صورة كاريكاتورية ابتكرها أولئك الذين سعوا إلى تشويه سمعتها. يبحث الأبيقوري أولاً عن المتعة فـي الراحة من أجل تحقيق الطمأنينة- غياب متاعب الروح- ولهذا السبب يكفـي لأبيقور أن يرضي الجوع والعطش، وأن يعيش محاطاً بالأصدقاء ليكون سعيدا. لذا فإن القليل من الخبز والجبن مع إبريق ماء يمكن أن يكون كافـيًا لإسعاد الرجل الحكيم. ومع ذلك، إذا كانت كافـية، فهذا لم يمنع أبيقور فـي أي وقت من الأوقات الاستمتاع بأطباق أكثر حساسية إذا أمكن للمرء الحصول عليها؛ من ناحية أخرى، فهو يعلم عدم الشكوى عند نقصها. ولهذا السبب يمكن أن يكون العلاج الرباعي أيضًا سمًا رباعيًا؛ لأنه إذا أسيء تفسيره فقد يُفهم على أنه زهد.

ينضم أبيقور هنا إلى سبينوزا الذي يدين فـي مقترحه الخامس والأربعين من كتاب الأخلاق الرابع منتقدي اللذة الذين يصفهم بالحاسدين لدعوتنا للاستمتاع بمتع الوجود باعتدال، أي من دون الذهاب إلى أبعد من الاشمئزاز، بمعنى آخر عن طريق تجنب تحويل المتعة إلى معاناة:

«أقول: على الإنسان العاقل أن يعيد خلق نفسه ويعيد خلقها، بأكل الطيبات وشربها باعتدال، وكذلك باستعمال الروائح الطيبة للنباتات الخضراء، والزينة، والموسيقى، والألعاب التي تنمي الجسم، والمسارح وغيرها. أشياء من هذا النوع يمكن لأي شخص استخدامها من دون أي ضرر للآخرين».

هل ينبغي لنا أن نرى فـي هذه الأنشطة أن سبينوزا يوصي هنا بدعوة للترفـيه وهي مثلما يقول لنا باسكال: إنها مجرد مسكن لبؤس وجودنا؟ قد يكون هذا إساءة فهم لفكرة سبينوزا التي، بعيدًا عن كونها إنكارًا لحالتنا كبشر، هي قبل كل شيء تعبير عن قوة الحياة ذاتها، وهي قوة محدودة بالتأكيد؛ لأننا جميعًا سنستسلم للأسباب الخارجية التي تهاجمنا والتي ستقودنا إلى الموت. وبهذا المعنى، لا ينكر سبينوزا البعد المأساوي للوجود الإنساني الذي يحاول التغلب عليه من خلال فلسفة «ليست تأملًا فـي الموت، بل فـي الحياة».

مقالات مشابهة

  • أستاذ علاقات دولية: القاهرة لعب دورا حاسما في تحقيق الهدنة بغزة
  • بعد تردد اسمه بصفقة إسرائيل وحماس.. ماذا تعرف عن مروان البرغوثي؟
  • أنشيلوتي يقر تغييرًا في تكتيك الميرنغي: أحيانًا يكون المدرب غبيًا
  • من هو الملياردير وفيق رضا الذي استقبله الشرع؟ و ارتبط اسمه بـ صفقة اليمامة
  • من هو الملياردير وفيق رضا الذي استقبله الشرع؟ ارتبط اسمه بـصفقة اليمامة
  • بهجت العبيدي: “مجدي يعقوب أيقونة العلم والإنسانية يستحق جائزة نوبل وجامعة تحمل اسمه”
  • بعد صالة كبار الزوار.. أبرز 5 مطالبات لتكريم مجدي يعقوب
  • استثمار النفس
  • لميس الحديدي عن ابتكار مجدي يعقوب لصمامات القلب: أتمنى إطلاق اسمه على مطار أسوان
  • كيف رد السير مجدي يعقوب على دعوات إطلاق اسمه على مطار أسوان الدولي؟