عبد الله علي إبراهيم

وصفت مجلة "أتر" الأسبوعية على الشبكة في تغطيتها للحرب الزؤام الناشبة بأنها مما يوصف به الإنسان الحمول في الشدائد بأن كتفيه فوق الماء. فكتبت عن السيول والفيضانات لا بمصطلح "واخراباه" بل بالإحاطة لا بمنشئها فحسب، بل في ما ينبغي لنا فعله حيالها. فأخذت على الدولة بؤس تخطيطها الحضري وغير الحضري الذي لم يعتبر مسارات الخيران في خطط الإسكان.

فوزعت الحكومة أراض في مناطق مهددة بالسيول بلا وازع. ولم تستنر بمثل عبارة نبيهة أخذها الصحفيان من متأثر بالفيضان: "الموية ياها الموية كان صبت قليل أو كثير والخيران أصلها ما بتودر دربها". وأضاعت الخيران دربها بفعل فاعل.
ومن آيات رفع الرأس فوق الماء اقتراح الصحفيون أن يعد السودان عريضة تظلم من الاحتباس الحراري للآلية الدولية للتظلم المناخي كضحية للغرب الذي أحدثت صناعاته هذه البلوى. فالسودان من بين 10 دول تأثرت بهذا التغير المناخي ويأتي في المرتبة السادسة منها. بل شهد الحرب المناخية الأولى في القرن الحادي وعشرين في ولاية دارفور في 2003 التي اقتتل فيها المزارعون والرعاة حول الموارد المحدودة في وقت جدب ضربها. وهي الحرب التي ما تزال مشتعلة وتمددت لسائر القطر. أما المظهر الآخر من هذا العقل من وراء المقال فهو نقده، في معرض دعوته في وجوب التفكير في كيفية بناء مدننا وقرانا بعد الحرب، أن تتوافر جهود البحث في المواد المحلية التي يبني معظم السودانيين منها بيوتهم. فالدراسات تركزت إلى يومنا على الخرسانة المسلحة والحديد والصلب التي تدخل في بناء 29 في المية فقط من المباني في البلد في حين تجد 61 في المية من الدور مبنية من المواد المحلية من الطين الجالوص وعروق الأشجار وفروعها.
ببلوغ "أتر" ضحايا الحرب اعطتهم صوتاً حاك عن مسألتهم. وخرجوا بسرديتهم من صورة الضحية "الغلبان"، في العبارة المصرية التي عممها عادل إمام، والتي تتداولها الوسائط وبالذات ممن بدا لي أنهم يتكففون بغلب هؤلاء الضحايا في طلب وقف الحرب. بدا من هذه السرديات أن للضحايا رأياً في نوع العناية التي يلقونها، أو لا يلقونها. فاستردوا هويتهم التي وصفها المسرحي ربيع يوسف ب"أنهم مواطنون نازحون"، أي أنهم مستحقون للعناية وهم في حال الحرب.
بل جاءت سردياتهم بنازع استئناف حياتهم رغم الحرب. فلم يستسلم محمد عمر، صاحب مكتبة الوارقين بالخرطوم، لطرد الدعم السريع له من مكتبته، فغادر الخرطوم إلى عطبرة وفتح فيها كشكاً لبيع الكتب. فاتصل بدار المصورات للنشر للحصول على كتب لدكانته. فأشارت له بأن كل ما بوسعها التصرف فيه هو مخزون من الكتب في مدينة الأبيض بولاية كردفان المحاصرة بالدعم السريع. فكلف من جاء بها من الأبيض. وحرصاً منه ألا يصيب حاملها سوء من أي جهة كتب اسمه ورقم هاتفه على صناديقها. فأوقفها ارتكاز للقوات المسلحة في كوستي على النيل الأبيض وهاتفوه وأصروا على مصادرة بعض الكتب. ولتأمين الكتب أكثر خلط سائق الشاحنة الكتب مع بضاعة فول سوداني مجازة للترحيل. وهربها بهذه الحالة إلى مدني. وتولى تأمينها بعض شباب المقاومة فيها. وسافر بها أحدهم من مدني إلى حلفا في رحلة استمرت 6 أيام ولقي معاكسة من السلطات الحكومية حتى وصل حلفا ثم منها لمدينة القضارف. وانعقد معرض ناجح للكتب فيها بحضور كبير باع فيه 70 في المية من المعروض من الكتب.
وكانت الثقافة مما تعلق به الضحايا لسلامة عقلهم. فانعقدت في مدينة سنار رابطتها الأدبية التي كانت تأسست منذ نصف قرن وتفرق أعضاؤها. وعاد بعضهم إلى المدينة بعد الحرب واستأنفوا حلقات نقاشهم التي كانت استلفتت السودانيين أول قيامها. واحتفى الفنانون بيوم المسرح (27 مارس) في مدينة بورتسودان. وعرضوا على الجمهور مسرحية بعنوان "همستي" (وهي "نتجاوز" بلغة شعب البجا في المنطقة) عن قضايا النوع العرقي والاجتماعي. كما عقد "المسرح الحر" دورته الثامنة في مدينة كوستي بعروض مسرحية في مراكز إيواء النازحين من الخرطوم. وقال ربيع يوسف من هذه الجماعة إن الفن شكل من أشكال المقاومة: "مقاومة القبح والموت والفقر". ونظم "منتدى شروق" التاريخي بالمدينة ليال شعرية محضورة. ونشأ "مقهى شليل (وشليل من ألعاب الصبية)" في القضارف وقدم نشاطاً موسيقياً مرموقاً. كما بعث الكاتب عوض مشاوي منتداه في القضارف حيث لاذ إليها من الخرطوم.
وطالما كان التعليم شاغل الأسر خرج متطوعون باسم "لجان الطوارئ" لسد الحاجة إليه. واصطرعت الحاجة للتعليم مع الحاجة للإيواء الذي كانت المدارس مقاره. فانعقدت مدرسة بحي السلام بمدينة الفاشر لخدمة مراكز إيواء نازحين به. وأراد به المتطوعون، بجانب تدريس مواد منهجية، التلطيف على التلاميذ وإيوائهم روحياً. فرتبوا لهم برامج ترفيهية وألعاب ومسابقات. فيدرس التلاميذ لأربعة أيام من الأسبوع ليطلبوا الرزق من بيع الماء ونقل البضائع في سوق المدينة الأسبوعي الذي ينعقد كل اثنين وخميس
وانعقدت تجربة استثنائية في التعليم بمدينة كوستي. فعرض المعلم الهادي راضي على المعلمين المتطوعين فيها أن يتواثقوا على نهج من وراء تعليمهم لأطفال شردتهم الحرب. فهم، في رأيه، جماعة مقهورة صح أن يتم تعليمهم على ضوء نظرية التربوي بول فاليري صاحب نهج "تعليم المقهورين" ليحصل التلاميذ على تعليم "من أجل الدعم النفسي". وقال الهادي في ختام الفصل الدراسي، "رغم أننا استلهمنا الفكرة من تعليم المقهورين، ولكن أظن أننا استطعنا تبيئتها بما يناسب الواقع العنيف في السودان بعد اندلاع الحرب فكانت النتائج مرضية لنا".
إذا جنح خبر الحرب في الوسائط إلى تصوير ضحية الحرب كغلبان فإنه في صحافة "أتر"، التي استردت له صوت المواطن النازح المقهور، حالة شقية من "السردبة"، في العبارة السودانية، التي هي الاصطبار.

IbrahimA@missouri.edu

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی مدینة

إقرأ أيضاً:

جابرو: مؤتمر أممي في كركوك لتعزيز عودة النازحين

جابرو: مؤتمر أممي في كركوك لتعزيز عودة النازحين

مقالات مشابهة

  • البيت الأبيض: بايدن وكير ستارمر أدانا الهجمات التي تشنها مليشيا الحوثي الإرهابية على ممرات الشحن التجاري في البحر الأحمر
  • الشرطة الإسرائيلية: إصابة شخص جراء انفجار سيارة بالقرب من مركز للشرطة في مدينة عكا
  • أمير القصيم يدشّن مركز المشيقح للبحث العلمي والابتكار بمدينة بريدة
  • العبدلي: الجهات الخارجية لم تكن متجاوبة مع الانخراط في عمليات الإعمار التي تشهدها مدينة درنة
  • انقطاع خدمات الإتصالات والإنترنت بمدينة الأبيض غربي السودان
  • فيديو يظهر أوضاع النازحين بدار إيواء “حنيش” بمدينة بورتسودان بولاية البحر الأحمر
  • هكذا احتفل النازحين في غزة بالمولد النبوي الشريف.. «إيه العمل يا أحمد»
  • جابرو: مؤتمر أممي في كركوك لتعزيز عودة النازحين
  • هآرتس: ما الذي تخشاه إسرائيل في غزة بمنعها دخول المراسلين الأجانب؟
  • الصراع يحول السودان إلى مركز تنافس دولي.. هذه الدول تبحث عن موطئ قدم