بمعنى آخر.. هل التركيز على نماذج إيجابية من الاحتلال قد يمنحه وجها إنسانيا؟
تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT
لا يوجد احتلال جيد واحتلال قبيح، لكن وكما تعودنا من التاريخ وقراءتنا له أن أي شعب يأتي غازيا بهدف البقاء والاستمرار، يتعامل مع الأرض وما فوقها بمشاعر الملكية، ولو نظرنا إلى ما نسميه الفتح الإسلامي للأندلس من وجهة نظرنا، يعتبره الإسبان احتلالا، لكنهم تركوا آثارا معمارية مدهشة ليومنا هذا، ويتكرر الأمر في كل أنحاء العالم، في الرواية كتبت عن الوجهين (المعتقلات) وعن الفن متمثلا بالجدارية التي تبقى إرثا إنسانيا حتى لو أن صاحبه ينتمي للمحتل.
قدمتْ الرواية الشخصية اليهودية.. هل أردتِ القول: إن المجتمع الليبي كان متصالحا مع جميع أبنائه في الماضي؟ الرواية سردية الجماعة لا سردية الفرد، وفي ذلك الزمن كان اليهود سكانا أصليين سكنوا في ليبيا قديما، وكانت العلاقات الاجتماعية بينهم تخضع لمفهوم الانتماء إلى البلاد بغض النظر عن الدين، وعرف عنهم مساندتهم لليبيين المسلمين في مقاومة الطليان، إنما عندما حصلت هزيمة يونيو بدأت أيادٍ خفية تحرضهم على الهجرة وتم إشعال فتنة وهذه قصة أخرى مدونة في التاريخ الليبي، وقد تمر في سياق أعمال روائية، شخصية خيرية تعطي بُعدا عن أحوال ذلك الزمن، وهجرتها لإيطاليا ودعمها لسدينة، قريب من واقع نسمع عنه اليوم عن علاقات ليبيين بيهودٍ في إيطاليا كانوا يوما ما يعيشون في ليبيا، وحقيقة الأمر كان هناك تصالح وتعايش بعيدا عن مفهوم الصهيونية والاحتلال.
هل ترين أن قصص الحب التي امتلأتْ بها الرواية خففت من قساوة الأحداث وسوداويتها؟ قصص الحب حدثت ضمن سياق السرد بشكل سلس ولم تكن مقحمة، والكلام عن الحرب والمعتقلات، يستدعي استكمال الثنائية لتصبح عن الحرب والحب، كما هو الحال مع الجدارية التي تحمل ثنائية الحرب والسلام.
كنت أكتب ويدي على قلب القارئ، كما لو كنت مكانه تماما، لأنني مع تقدم العمر بت أنفر من أعمال الديستوبيا، وأخشى القسوة المفرطة في الكتابة والسينما، رغم أني مررت في الواقع الليبي وقبل الهجرة بأحداث لا يمكن تخيلها من العنف والدماء وأصوات الرصاص، لهذا اكتفيت منها، ولا أريد أن أستعيدها.
ما طموحك من خلف كتابة «الرسام الإنجليزي»؟ لكل كاتب رؤيته الخاصة جدا عندما يتعامل مع أرضه، وتاريخ منطقته، وفهمه لملابسات ما تم توثيقه وما تم تجاهله، تلك الحيرة بين المدون والشفاهي تصبح هاجسا ملحا يمكن لكل فنان استبطان حكايات جديدة من خلاله. والأهم أن ما تهيأ لي في لحظة البدء بمشروع «الرسام الإنجليزي» هو ما تمر به ليبيا في السنوات العشر الماضية، خاصة حالة التداخلات الدولية في البلاد، مما ولد صراعات وحروبا أهلية. لقد استدعيت تاريخ الحرب العالمية الثانية عندما اجتمعت جيوش العالم في تلك البقعة الصغيرة (طبرق). الطليان، والفرنسيون، والإنجليز، الألمان، الأستراليون، وحتى انتهت وحُسمت المعارك فيها بدخول أمريكا. ما أود قوله: لا أتمنى أن نشهد مرة ثانية تلك الحروب والعنف وعلينا أن نقرأ تاريخنا ونستفيد منه، أتذكر هنا جملة كتبتها على لسان سدينة تقول ما معناه: «لا نريد الأصنام التي تركوها لنا مهما كانت جميلة وأخذوا بالمقابل أبناءنا». تتحدث عن المنحوتات الفنية التي شكلت إرثا فنيا وجماليا التي نحتها فنانون إيطاليون وفي الوقت نفسه سلبوا الحياة من أهل البلد وظل المصير الغامض يلاحق المنفيين إلى إيطاليا.
ما جيلك داخل ليبيا؟ وما جيلك عربيا؟
نظريا أنتمي إلى جيل التسعينيات حيث بدأت أنشر أعمالي في تلك الحقبة وحتى قبل صدور كتبي بداية من عام 2000، وعربيا أنتمي إلى جيل الألفية الثانية.
هل ترين أن الرواية الليبية أخذت مكانة تستحقها خاصة مع حصول كتَّاب ليبيين على جوائز مهمة؟ ليبيا مرت بفترات صعبة لأسباب سياسية، قمعت معظم أصوات النخب وسمحت لعدد محدود جدا بالخروج عن الطوق المفروض في ذلك الوقت، الحديث يطول عن تلك المرحلة، هناك مبدعون تستحق أعمالهم أن تأخذ مكانتها عربيا، مع ظهور الجوائز، الأمر بات أفضل اليوم، ولهذا نشهد ظهور أسماء جديدة وشابة تبرز بأعمال جميلة ومختلفة.
هل يغريك التاريخ الليبي بالعودة إلى كتابته مجددا؟
جدا. ولديَّ أكثر من مشروع، حتى أنني كتبت فصولا وتوقفت، ومع هذا لا يمكن الادعاء بأنها تاريخية بل تتكئ على التاريخ.
ما الذي يجب أن تتميز به الرواية التاريخية؟ التقييد بوقائع حدثت فعلا في زمن معين، لكن يبقى للروائي حرية الحركة في تخييل القصص كما يراها وتخدم النص السردي. يعني لا يمكن أن نتحدث عن معارك الكر والفر بين مونتجمري ورومل ونغير نتائجها، لكن نستطيع تخيل أحداث تخدم سياق تلك المعارك.
هل تشعرين أن أعمالك تحصل على الاهتمام النقدي الواجب؟ نعم، معظم أعمالي نالت الاهتمام بالكتابة عنها، بالإضافة إلى أنها دُرِّست أكاديميا (ماجستير ودكتوراة).
ما الذي تعنيه الجوائز بالنسبة لك؟
الجوائز جميلة ومفرحة، وداعمة ماليا، وأيضا تضع العمل الفائز تحت دائرة الضوء.
أخيرا.. ما الخطوط العريضة لعملك القادم؟
أشتغل على عمل ربما يكون رواية قصيرة (نوفيلا)، تتحدث عن ليبيا اليوم بعد الربيع العربي، وترصد واقعا مؤلما وتقدم رؤية لما قد تؤول إليه الأمور.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هل نبالغُ في تقدير الحبّ! خطافٌ غير مرئي يشدُّ وجها لآخر ويُضيء جسدين
قصّة الزواج هي القصّة العادية التي يعيشها الإنسان في الريف والمدينة، يعيشها أبناء الطبقة العمالية تماما كما قد يعيشها الأثرياء. يبدأ الأمر بأن يفعل أحدنا ما هو متوقع منه، ثمّ يُكابدُ شعورا شرسا لحظة الهجر، لتأتي قصّة الانفصال الموجعة.. فهل تُكتب نهاية الحبّ في بدايته حقا؟
المجموعة القصصية التي حملت عنوان «نبالغ في تقدير الحبّ»، الحائزة على جائزة غونكور الفرنسية في القصّة القصيرة، للكاتبة بريجيت جيرو، ترجمتها عن الفرنسية وئام عداس، والصادرة عن منشورات حياة، تبدت لي أشبه ما تكون بكبسولة مُكثفة تضمُّ في طياتها أغلب المشاعر التي يمكن أن يُكابدها المُقبل على الانفصال. لقد كُتبت بحساسية عالية ومن وجهة نظر امرأة متروكة.
تأخذُ الأشياء طابعا رومنسيا في بدايتها - وإن لم تكن مثالية على أي حال- إلا أنّ الشريكين في أول الدرب يتساهلان بشأنها، ثمّ يُعاودان التبصر فيها، فتتحول - الأشياء ذاتها- إلى شيء بالغ السُمية بمرور الزمن.
فقد يغضا الطرف عن الرطوبة والضجيج وعدم وجود سخان في البيت، في أوج العلاقة وجموحها -فذلك بالتأكيد لن يثني رغبتهما في البقاء معا- لكن مع الوقت ومع الاعتياد سيرغب كل شريك وضع الآخر في صندوق من صناديق المقارنة. سيرغب كل واحد منهما في تفكيك أوهام الحبّ.
التمويه لخداع الآخرين:
عند قراءة هذه القصص، نتدرجُ بصورة متسلسلة في قصّة الانفصال، منذ اللحظة التي تخدشُ الفكرة جدار الزواج إلى سقوطه المدوي. فنبدأ بطرح هذه الفكرة: نحن نحبُّ هذا الشخص، ولكن تكرار العيش معه يمكن أن «يُخربش» الانسجام بيننا. نفقدُ حرارة المشاعر الرقيقة التي نحملها شيئا فشيئا، فيتم اختراع ما يمكن تسميته «بالتمويه» بين الشريكين لخداع المجاورين، أو ربما لإعطاء الفرص، إلى أن ينكشف كل شيء ويتضح في صور لا محدودة.. فلا يعود التمويه كافيا.
«الخطافُ غير المرئي الذي يشدُّ وجها لآخر، العيونُ التي تبحثُ عن بعضها بهلع، الضوءُ الذي يُضيء جسدين، ثمّ الخوفُ الذي يعتريهما من عدم استحقاق الحبّ، من عدم الجاهزية له». هكذا يعترينا الخوف من فكرة الحبّ، وأيضا من فكرة أن لا نُحب بالشكل الكافي، وبالدرجة المتوقعة من الشريك.
استبدال الحميمي بمبارزة القراءة:
بلغة ساخرة يظهرُ صوت الزوجة المقموع في الحياة الواقعية. زوجة الكاتب التي تمتلكُ صوتها القوي في هذه المجموعة القصصية، بينما يتوارى أو يُحجب بتعمدٍ صوت الزوج، فيظهر كمحكي عنه في غيابه.
توجه الزوجة لوما شديدا لزوجها المشغول والمعني بكل ما من شأنه أن يُضيف للإنسانية وللتاريخ الأدبي. لكنه وبينما يُفكر في كتابة إهداء جديد على أحد كتبه، يهملُ القرارات الصعبة التي تنتظره في البيت.
تتحدث الزوجة عن زوجها الكاتب المُتطلب الذي يلتمسُ العزلة والوقت ليعيش لحظة إلهامه الخارقة، بينما تُظهرُ نفسها كمُتلاعب بها، لأنّها تُكيف حياتها لأجله ولأجل الأبناء، يصل الأمر لأن يخجل منها الزوج لأنّها لا تملكُ شيئا لتظهره للمجتمع الذي يُحيط بهما!
لكن الشيء الوحيد الذي يربطها بزوجها، والذي يمنحها القيمة، الشيء الذي يحدثُ في السر وليس في العلن، هو فعل القراءة، تقرأ مخطوطات كتبه، كإثبات وجود، لا سيما وأنّها القارئة الأولى له. وبصفتها قارئة فهي تُبارزه، لأنّها تتحدثُ بصراحة حول التصاعد الدرامي البطيء في أعماله على سبيل المثال، حول الكتابة الضعيفة، والمفاهيم النمطية، والنهاية غير الناضجة، وتفاعل الشخصيات غير المنطقي! في محاولة منها لتنتقم منه أو لترفع وتيرة التوتر لديه! أو لإشعاره بأنّها مرئية في هذا الحيز.
فهما وعلى غير العادة يستبدلان الحياة الطبيعية الحميمية بينهما كزوجين، بعراكٍ من نوع آخر. فعندما تناءت مساحتها من حياته أرادت أن تستعيدها.
أن تتوحش سلطتها على صميم ما ينسج من كتابة. تلك الرغبة بتمزيق الكاتب العظيم. الكاتب الذي ينأى بنفسه عن رمي كيس القمامة أو تصليح أعطال تسريب الماء!
حدود يستحيل محوها
في البيت يتوقف العرض الذي يقدمه الشريكان أمام الأصدقاء والجيران وزملاء العمل. تنكشف الحقيقة، يعودان مجددا لتصوراتهما الأصيلة عن ذواتهما. زوجان.. أمّ وأب. شخصان يتوجب عليهما اتخاذ القرارات وإن بدت سخيفة.
يرزح الشريكان تحت عبء العلاقة التي لا تنمو في أي اتجاه، بل تُخلفُ المزيد من الاحتقان والغضب. ومن ثمّ سيأخذ أحدهم قرار الرحيل، سيأخذ القرار وهو يعي في أعماقه بأنّه يُفسد حياة الآخرين، لا سيما عندما نتحدث عن فكرة العائلة. ولكنه يُفضلُ حسم الأمر.
فكرة الانفصال، تعني بدرجة ما أن نُغير جلودنا، كمن يرسمُ خطا بين حياتين. ما هو قبل وما هو بعد. حدود يستحيل محوها. فالشريك المتروك قد لا يُشغل أكثر من حيزه في السرير، قد لا يتعدى على مساحة الآخر الغائب.. في انتظار عودته أو خوفا من محو الحدود الدقيقة بينهما.
لكل واحد منهما منطقه الخاص، وربما المُنغلق على ذاته، لا سيما عندما تتحول المحادثات الليلية بينهما إلى مونولوج طويل يدور في حلقة مفرغة.
لم تكن الزوجة قادرة على رؤية أثر الحوارات بينهما. إذ يستحيل تمييز أثرها إن لم تظهر بوضوح على نسيج حياتهما الواقعية معا. لقد حاولت القبض على مكمن الخطأ. «هل الخطأ أنّي لا أعرف كيف أقول؟ أم أنّك لا تعرف كيف تسمع؟». ثمّ بكلمات واضحة ومباشرة قال الشريك لشريكته: «إنّ الحياة لم تعد مناسبة بيننا». هكذا بكل بساطة أطلق سمّه، فكان وراء هذه الجملة الشرسة الكثير من الترتيبات اللانهائية لحل ما امتد بينهما لسنوات، كمن يحل كنزة من الصوف.. غرزة غرزة.
البحث عن الوالدين في غابة الكنز
الخشية الأولى التي يمكن أن تُشغل المُقدمين على الانفصال، الأبناء بالتأكيد. فماذا يمكن أن يُقال لهم وكيف؟ السؤال الأهم: كيف يتوجب على الوالدين مصارحة أبنائهم بقرار من هذا النوع، دون أن يُجرح شعورهم بالأمان؟ وكيف يمكن للوالدين - وبشكل مثالي - تأكيد بقاء حبّهما للأبناء، بينما نفدت صلاحيته بينهما كزوجين! وكأنّ الحبّ بينهما تحول بقدرة قادر إلى آلة معطوبة انقطعت عنها الكهرباء!
ثمّ يتوهج السؤال الخصب: ماذا يمكن أن يموت في الأبناء بمجرد أن ينفصل الوالدين. إذ تعتملُ تلك الآلام المبرحة حول ما قد يحل بهم، فينشغل الوالدان بتلك المحاولة اليقظة بضرورة أن يتفادى الأبناء الأذى والتعاسة، دون أن يُبددا أوهامهم بشأن البناء الصلب لفكرة العائلة!
ليست الحياة وحدها التي ستتغير، حتى اللغة ستتغير أيضا. ستتغير كلمة «نحنُ» كعائلة إلى كلمتين جديدتين: « أبوك» و«أمّك» بعد الطلاق. سيبدو الأمر للأبناء كلعبة البحث عن الكنز في غابة، عندما ستذهب الأمّ إلى طريق والأب إلى طريق آخر. ستتوسع أماكن عيش الأبناء وسيعيشون كل حدث من أحداث حياتهم مرتين. قد يتسربُ إليهم بادئ الأمر الشعور بأنّهم يتحملون مسؤولية هذا الانفصال، وسيعيشون في ترقب التئام الشمل بين والديهم.
قد يهملهم الآباء وقد يقتتلا عليهم. سيخرج الأبناء من روتين البيت الواحد وسيعيشون مع أمّ وحيدة ووالد وحيد، وقد يرغب أحد الأبوين بحياة جديدة مع شريك مُغاير وعلى الأبناء تقبل مجرى التغيرات دون اعتراض يُذكر! ومهما ارتكب الأبناء من أخطاء في المدرسة والحياة على حد سواء سيكون مرد ذلك نظرة لوم مستمرة إلى انفصال الوالدين.
ستصبح النجاة من التمزق النفسي أمرا صعبا. تمزق الأبناء بين إثبات الذات وبين أن يصيروا غير مرئيين. سيأكلهم الحنين للعودة إلى الخلف مجددا كمن يرفض أن يكبر، كمن يرفض وقوع الانفصال الشاحب.
اجتياز الفخ عبر التخلي
نصبت الساردة «الزوجة» فخا لشريكها «الزوج». عندما طلبت منه أن يأتي إلى البيت ليأخذ متعلقاته الشخصية. بدا الأمر وكأنّها تريدُ أن تربطه بالماضي المشترك بينهما. سيغدو أمام مواجهة شرسة مع ألبومات الصور، السجادة ومسجل الأسطوانات وتذكارات السفر، ستجعله الأشياء يُفكر مجددا في قرار الرحيل الذي اتخذه. فلكل شيء من أشيائهما المشتركة تاريخ، تاريخ العلاقة بينهما. في أعماقها كانت الزوجة تئن في اضطراب شديد، مُتمنية أن تُعيده الأغراض، أن تحرقه، أن تجعله يتذكر زمن الحبّ والحياة التي مضت بينهما.
في قصّة أخرى سنجد مبررات اضطرابها الجارف من فكرة أن تكون الزوجة متروكة. لقد تُركت من قبل من قِبل أمّها بطريقة شديدة البؤس. قبضت أمّها على يد أخيها الأصغر وغادرت بصحبته دون كلمة وداع واحدة، دون تلويحة، دون فهم، وبالتأكيد دون عودة. ولذا فكرة أن تُترك للمرّة الثانية بدت كابوسية وغير محتملة.
إننا إزاء محاكمة. إزاء عقل يُفكر في الإجراء والعواقب على حد سواء.
وبصفتنا قراء توغلنا عميقا في هواجس نفسها وما تكابده من عناء.
لكن الزوج فضل الخروج دون حمل شيء، أي شيء، وكأنّه بذلك ينفي أهمية الأشياء وبالتالي أهميتها بالنسبة إليه. لم يأخذ الزوج الكتب ولا الجيتار ولا الموسيقى التي شكلت ملمح قصّة حبهما تلك، لم يأخذ التحف ولا الهدايا التي قدمتها له في مناسبات مختلفة. لقد ترك الزوجة عن قصد مع كل الأشياء. تخلى عنها وعن الخزائن الممتلئة. لقد اجتاز الفخ ومهمة الاختيار الصعبة، دون أن يترك أثرا خلفه. دون أن يربط حياته القادمة بالماضي.
لقد أوجعها بضربة الرحمة تلك. فضّل ألا يلمس شيئا. فكل ما سيأخذه سيكون له دلالة على شيء ما، لقد تركها في المنزل مع القصّة الفاشلة.
بعد أن يتبخر الأبناء
لم تكن الزوجة تُنكر عاطفتها المترسخة، رغم فوضى المشاعر المضطربة حولها، فقد كان يُؤسفها أن تتحول إلى مجرد قارئة غريبة تشتري كتب زوجها السابق، بعد أن كانت القارئة الأولى لمخطوطاته! لكن من سيصلح عطب الانكماش الباهت والمدمر في روحها الآن!
في البداية كانت تجهلُ معنى أن يظهر أحدنا وعلى وجهه ابتسامة، أن يظهر دون حزن بينما هو ممزق من الداخل، أو أن يظهر بمظهر المسيطر على ألمه في العمل. لكن عندما بلغت الخمسين وتسلل الخريف إلى قلبها تأكدت بأنّها لن تُغير الكون، لكن يمكن أن تُغير نظرتها له.
هذه القصص المباغتة والمكثفة، هي قصص النُدب التي يتركها فشل الحبّ والخسارات الموجعة. الأسئلة الطازجة حول الانفصال وآلامه، وفرص العودة بعد أن يتبخر الأبناء.
هدى حمد صحفية وروائية عمانية