التَّصَوُّف الفلسفى .. قِصَّةٌ فَى الفَلْسَفَةِ الصّوفيَّةِ
تأليف
سامح صلاح محمد احمد
إسكندرية، قبل عامين تقريبًا، كان الطقس معتدلًا، لا يميل إلى البرودة ولا إلى الحرارة، كانت الشمس في منتصف السماء، وشارع الكورنيش مليئًا بالعائلات والرجال والنساء والأطفال الذين يتناولون البوظة والفواكه من موز وبرتقال .

..
كان هناك من يدخن ويرمي أعقاب السجائر على الرصيف، فيما يعمل العديد من عمال النظافة على تنظيف المكان بشكل دوري.
قال معن: "إلى أين نحن ذاهبون؟"
أجبت: "إلى محل لبيع الخمور قريب من هنا."
قال: "لا بأس، لا مانع من ذلك."
ثم أضاف: "أريد أن أغير شريحة الهاتف."
فأخبرته: "يوجد محل قريب تابع لشركة We، وهي شركة اتصالات حكومية مصرية."
ردّ: "ممتاز."
بعد الانتهاء من استخراج الشريحة، سألني معن أثناء توجهنا إلى محل بيع الخمور:
"ما الذي يدفعك للشرب؟"
أجبت: "لا أعلم، ربما لأن والدي سمح لي بذلك... لم أشعر يومًا بحرمة الخمر، وكذلك عمي، لكنهم يجرمون من يتناول الحشيش."
قال معن: وانا كذلك إبى يعاقر الخمر بشكل دائم "
-وإردف قائلاً "ويمكن أن تتغير هذه المقولة إذا كنا في جامايكا وكان آباؤنا من هناك، سيكون شرب المارجوانا فرض عين لكل ذكر بالغ عاقل."
أجبت: "نعم، بالضبط، نحن نتبع ما ألفينا عليه آباؤنا."
عندما وصلنا إلى محل بيع الخمور المطل على مركز الإفتاء التابع للأزهر الشريف، طلب مني معن أن أطلب أربعة علب بيرة كبيرة وربع ويسكي.
قلت للبائع: "أفضل أن تعطيني ما أحتاجه في كيس أسود، فإذا بليتم فاستتروا."
بعد أن انتهينا من شراء الكحول، بدأنا نفكر في مكان آمن للشرب.
قلت: "كثيرًا ما أعاني في العثور على مكان أشرب فيه. أعتقد أن القانون يعاقب على الشرب في الأماكن العامة."
قال: "ألا توجد حانات قريبة من هنا؟"
أجبت: "يوجد ملهى ليلي قريب، لكن لا يعمل إلا في المساء. يمكننا الذهاب إلى الكورنيش، فقد لاحظت أن هناك الكثير من زجاجات الخمر مرمية على الطريق."
ثم أضفت: "قبل فترة، بينما كنت أستمتع بشرب البيرة قرب محل لبيع الملابس، استوقفني رجل أمن مصرى قائلاً: 'لا، يا باشا، لا يمكنك فعل ذلك! أعطني بطاقة الإقامة.'"
فقلت له: "بطاقة من يا عم؟ ولماذا؟"
قال: "ممنوع الشرب في الشارع، يجب أن أحرر لك محضرًا."
أجبت: "أنا قادم من السودان وأعاني من صدمة عاطفية."
قال: "طيب، مارإيك أن نشرب قوة؟"
ثم ذهبنا إلى محل القوة وشربنا شيشة وقهوة. وقال لي: "إذا كنت تريد فتيات جميلات يسهرن معك، كلمني!""
قال معن: "حسنًا، ماذا علينا أن نفعل؟"
أجبت: "في مثل هذه الحالات، نتبع قانون 'البقاء للأقوى'. معًا يمكننا تشكيل قوة لا تُقهر."
قال: "حسنًا."

ذهبنا إلى الكورنيش بعد أن اشترينا كوبين من البلاستيك، وجلسنا على أحد المقاعد المصنوعة من الأسمنت على طول الكورنيش. بعد شرب ثلاثة كؤوس، بدأنا نشعر بالسكر يتسلل إلى أجسادنا.
شعور الاسترخاء بدأ يسيطر علينا، وكأن كل هموم العالم قد تلاشت. كانت الألوان أكثر حيوية، والأضواء تتلألأ حولنا، مما جعل الكورنيش يبدو كأنه لوحة فنية.
وأثناء استمتاعنا بتلك الحالة من الاسترخاء، أذن المؤذن لصلاة العصر. كان لدي تطبيق يقرأ آية الكرسي بعد الصلاة. استمعنا إلى الأذان والآية، فقلت: "ما أجمل صوت هذا المؤذن، وما أروع قول الله، إنه يدعو إلى الطمأنينة والراحة. لكنني لا أشعر بحرمة الخمر، بعكس الزنا الذي يثير اشمئزازي، لأني عشت تجربة تجلي من الرحمن على شكل إنسان تلا سورة الدخان في يوم 29 من رمضان."
سألني معن: "وأين حدث هذا التجلي؟"
أجبت: "في إندونيسيا عام 2016."
قال لي صديقي معن: "هل سافرت إلى دول أخرى غير أندونيسايا ومصر؟" فأجبته: "نعم، أتذكر عندما كنت في السادسة من العمر، كنت في سلطنة عمان، في منطقة تُدعى 'بركة الموز'. والدتي، أطال الله في عمرها، كانت تعمل أستاذة رياضيات."
قلت ل(مَعن) مبيناً له أحداث القصة :"في أحد الأيام، كان معي صديق عماني، وكنا نلعب معًا. وفور إنتهاءنا من اللعب ، قررنا الذهاب لإداء صلاة العصر في الطريق، التقينا برجلين، أحدهما يرتدي عمامة وجلباب، والآخر يرتدي بنطالًا وقميصًا، وكان يبدو أنهما هنديان يتبعان الديانة السيخية.
سألني الرجل المعمم: "إلى أين أنت ذاهب؟" فأجبت: "إلى المسجد." فقال: "يعني أنك مسلم؟" فأكدت له ذلك. ثم تناول حجر من الإرض ، ثم اخرجه من فمه ، واخذ حجر اخر و اخرجه من إذنه .
-قلت كيف فعلت ذلك !!!!
-قال : ليس هذا فقط بل لدى قدرة على استقراء المستقبل إيضاً،....ثم نظر إلي نظرة طويلة وقال: "ستفقد بصرك يوما ما !"
في تلك اللحظة، تجلت حكمة الله فى صديقي العماني، حين قال : "كذب المنجمون ولو صدقوا!!!!."
وبعد ثلاثين عامًا من تلك الحادثة، كنت أتأمل في هذه المقولة وما تعنيه في حياتي... بينما كنت أروي القصة لصديقي معن ونحن نتوجه إلى محل بيع الخمور بالقرب من المنزل ، مما يؤكد مقولة "ولو صدقوا"، حيث أن المنجم غالبًا ما يقصد فقدان "البصيرة". أما يؤكد مقولة الكذب "كذب المنجمون"، فيعبر عن الشعور بالذنب والإقبال على التوبة إلى الله.

samihsalah2018@gmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: إلى محل

إقرأ أيضاً:

ولو أجبت بغير السيف لم تُجب… تأريخ المعارك في الشعر العربي خلال العصور الإسلامية المتقدمة

ازدهرت الحياة الفكرية في العصور الإسلامية المتقدمة ازدهارا ملحوظا، وانعكس ذلك على الأدب والشعر، فتنوعت الموضوعات الشعرية واكتسى الشعر حلة قشيبة تحمل الموروث القديم في طياتها وتزدهي بما اكتسبته من صفات جديدة وحيوية تواكب روح العصر وعجلة التطورات المتنوعة على صُعد الحياة كافة آنذاك، السياسية والفكرية والثقافية والفنية وغيرها.

فبعد العهد الراشدي واستتباب أركان الحكم الإسلامي والانطلاق به نحو الفتوحات والتوسعات كان لا بد للحياة الأدبية أن تعكس ما وراءها من واقع يبدو مستقرا بالنظر إلى فرض السلطة الأموية نفسها واستلامها زمام الحكم، واتخاذ دمشق عاصمة للخلافة، وإدارتها الولايات الإسلامية كلها.

لكن في الوقت نفسه، كان الحكم الأموي يموج فوق بركان فاتر قابل للاشتعال والانفجار في أي آن، فبعد تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان فيما عُرف بعام الجماعة غدا معاوية خليفة للمسلمين، واستلم الحكم نحو 20 عاما (41-60هـ)، ثبّت خلال حكمه الخلافة في بني أمية وجعلها وراثية في نسله، وكان أقوى من يُذكر من خلفاء بني أمية من الفرع السفياني، لكن جاء من بعده خلف ضعاف فانتقلت إلى الفرع المرواني، وذلك عندما تغلّب مروان بن الحكم على الطامعين في الخلافة، مستفيدا من الأحداث التي رافقت اعتلاء معاوية بن أبي سفيان عرش الخلافة من جهة، ومن ضعف الخلفاء الذين جاؤوا من بعد معاوية من جهة ثانية.

وجاء بعد مروان بن الحكم ابنه عبد الملك الذي امتد حكمه إلى 21 عاما (65-86هـ)، وأثناء ذلك كله كان المخالفون حاضرين، وكان أبرز المخالفين عبد الله بن الزبير الذي استوطن مكة ونادى بالخلافة لنفسه، كما اجتمع المعارضون لخلافة بني أمية من الشيعة والخوارج في العراق وما امتد بعدها شرقا.

أثّرت السياسة في الأدب والشعر خلال العصر الأموي تأثيرا كبيرا، فقد رأينا آثاره في ما وصل إلينا من دواوين وأشعار وخطب، وما اتسمت به من ظواهر أدبية وفنية، وقد أسهم النتاج الأدبي والشعري في العصر الأموي إسهاما مهما في نقل كثير من الأحداث التاريخية والسياسية بتفاصيلها.

وبيّن لنا الشعر الأموي انقسام الناس وتحزبهم في فرق دينية وأخرى سياسية، وأظهر بجلاء استيقاظ العصبية القبلية مجددا بعد أن خبت نارها في ظلال العهد الراشدي بنسبة عالية، لكن العهد الأموي اكتظ بالفرق والشيع الفكرية التي تتنافس على أحقيتها في الخلافة، وكانت تبدو دينية في ظاهرها، لكنها في حقيقتها ذات أبعاد سياسية، وإلى جانب أهل السنة والجماعة الذين كانوا المادة الرئيسة في الأمة، وكانوا يرون أن قبيلة قريش هي الأحق بالخلافة، كانت أبرز تلك الفرق الشيعة، الذين ناصروا العلويين وكانوا يعتقدون أن الخلافة لا بد أن تكون لأبناء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي للطالبيين من بني هاشم، وظهرت فرقة الخوارج التي اعتقد أصحابها أن الخلافة أمر دنيوي ولا حاجة للخليفة بين المسلمين إذا ما استطاعوا تسيير أمورهم بأنفسهم، والناس أحرار بتولية من يشاؤون عليهم بغض النظر عن انتمائه لقريش أو غيرها، وكانت هناك فرق أخرى كالمرجئة الذين نادوا بإطاعة الخليفة ولو كان على ضلال، وغيرها من الفرق المتعددة الأهواء.

كان العصر الأموي عصرا إشكاليا على الصعيد السياسي، فقد عجت الفتن في أرجائه واضطرب الناس وانقسموا، واشتعلت الحروب، وانبعثت العصبية القبلية وانتشرت أدرانها، وقد عُرف العصر الأموي بتنوع المشارب السياسية فيه، وانطلاقا من كثرة الفرق السياسية نجد تنوعا كبيرا في الشعر السياسي الذي استخدم للدفاع عن الفرقة حينا، ولتصدير أفكارها التي تدعو إليها ونشرها في حين آخر، ولمحاربة الفرق الأخرى وإظهار مثالبها في أحيان كثيرة، وبذا بزغ نجم كثير من الشعراء، ودبت الحياة مجددا في أواصر الشعر العربي بعد أن اتهم باللين بعد مجيء الإسلام وانصراف بعض الشعراء عن نظم الشعر واكتفائهم بالقرآن الكريم.

كما عُرف في العصر الأموي بعض الشعراء بشعرهم السياسي دون غيره من الموضوعات الأخرى التي طرقوها في أشعارهم، وبذا صار الشعر السياسي تأريخا للعصر وتوصيفا للمرحلة وتفصيلا لوقائعها وأحداثها بوعي من أصحابه أو بدون وعي منهم، ومن نافلة القول: إن من أهم سمات هذا العصر إلى جانب الحركة الفكرية والسياسية الثرية اتساع رقعة الفتوحات واحتدام المعارك، وتسجيل اتساع غير مسبوق لرقعة الدولة الإسلامية، وفيما يأتي استعراض لبعض الوقائع والمعارك التي أرخ الشعر العربي لها وحكى كثيرا من دقائقها التي تفرد بذكرها، وذلك على سبيل التمثيل لا الحصر.

تأريخ معركة القادسية

اختلف أهل الأدب في صاحب الأبيات الآتية، فمنهم من نسبها إلى عمرو بن معد يكرب، ومنهم من نسبها إلى بشر بن ربيعة الخثعمي صاحب عمرو بن معد يكرب، ونسبت إلى غيرهما، وما يعنينا هنا هو ما تضمنته الأبيات من وصف وتصوير وتأريخ لمعركة القادسية الشهيرة التي تعد إحدى أهم معارك الفتح الإسلامي للعراق وبلاد فارس، وقد جرت في السنة الخامسة عشرة للهجرة في القادسية بين المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص، والإمبراطورية الفارسية بقيادة رستم فرخزاد، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين ومقتل قائد الفرس، فلننظر معا إلى الأبيات:

ونحن بصحراءِ العُذَيب ودارُها

حجازيةٌ إِنَّ المَحَلَّ شَطيرُ

 

تَحِنُّ بباب القادسية ناقتي

وسعدُ بنُ وقّاصٍ عليَّ أميرُ

 

وسعدٌ أميرٌ شرُّهُ دون خيرِهِ

طويلُ الشذا كابي الزنادِ قصيرُ

 

تَذَكَّر هَداكَ اللَهُ وَقعَ سيوفنا

بباب قُدَيسٍ والمَكَرُّ عسيرُ

 

عشيَّةَ وَدَّ القومُ لو أَنَّ بعضهم

يُعارُ جناحَي طائرٍ فيطيرُ

 

إذا ما فرغنا من قراع كتيبة

دلفنا لأخرى كالجبال تسير

 

ترى القوم فيها أجمعين كأنهم

جمال بأجمال لهن زفير

قصيدة (فلمّا أصبحوا صلّوا وقاموا) للشاعر الخارجي عيسى بن فاتك… تأريخٌ للمواجهة

الخوارج في العصر الأموي فرقة دينية، وحزب سياسي، يقال إنهم ظهروا في السنوات الأخيرة من عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعُرفوا بتكفير الفرق الأخرى، والمغالاة في قضايا الدين، وسبب تلقيبهم بالخوارج يعود إلى خروجهم على ولي الأمر، ولهم أسماء كثيرة، منها الحروروية لأنهم نزلوا في حروراء بعد انشقاقهم عن علي كرم الله وجهه، والشراة لأنهم يقولون إنهم شروا أنفسهم في طاعة الله وابتغاء الجنة، وغير ذلك من أسماء أخرى يقبلون بعضها ويرفضون بعضها، إذ يقبلون لقب الخوارج على تأويل أنهم خرجوا على ولي الأمر المائل عن أمر الله نصرة للدين وجهادا في سبيل الله.

كان كثير من الشعراء آنذاك أشبه بأبواق إعلامية تصدح بأفكار الفرقة الدينية والسياسية التي ينتمون إليها وينافحون عنها، وكانت أشعار الخوارج تحديدا تمتاز بقوة الأسلوب وجموح العاطفة وتوقدها، فيشعر المرء في حديثهم عن النجاة يوم القيامة أن الأمر حكر عليهم، فهم وحدهم الذين شروا أنفسهم في سبيل الدين وإعلاء الحق، ومن سواهم هم العدو الكامن المتربص المارق من الدين.

حتى إن عبد الملك بن مروان قال عن أشعارهم "لقد كان يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم وأنا أولى بالجهاد منهم"، والسبب وراء ذلك هو قوة اعتقادهم ورسوخ مفاهيم المثل العليا والأخلاق في نفوسهم، لأنهم كانوا يلتفون حول مبادئ معينة، لا حول شخص محدد، فحازت أشعارهم صبغة الجلال والجمال والتأثير.

كان عبيد الله بن زياد واليا على العراق في العهد الأموي، واشتد سعيه في طلب الخوارج، وعُرف بقسوته الشديدة في ملاحقة المعارضين له ولخلافة بني أمية، وكان مرداس بن أدية المعروف بأبي بلال لا يخشى في قول الحق لومة لائم، فسجنه عبيد الله بن زياد مع أتباع له، وبينما هو في السجن قتل أخاه عروة أيضا، وحين أذن بإخراجه من السجن استبقى أنصاره لديه في السجن، وكان عبيد الله يتتبع المعارضين رجالا ونساء على حد سواء، فيقتل ويسجن، ويُذكَر أن امرأة تدعى البلجاء كانت من أنصار مرداس، وكانت تتحدث عن جبروت عبيد الله وقسوته، فأمر بقطع يديها ورجليها ورميها في السوق.

لم يصبر مرداس على الظلم والأذى وهمّ بالرحيل مع مجموعة من أصحابه لا يتجاوز عددهم الأربعين نفرا كما تذكر كتب الأخبار والتاريخ، إذ قال لأصحابه وهم يهمون بالخروج من البصرة "والله إنه لا يمكن لنا أن نبقى عند هؤلاء الظالمين، والله إن صبرنا عظيم، وقتالهم لنا عظيم، ولكننا لا نقاتل إلا من يقاتلنا"، فشبههم شاعرهم عيسى بن فاتك بصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر؛ وزعم أنهم تغلبوا على جيش أموي تعداده أضعاف مضاعفة من عددهم، إذ يقول:

فَـلَمّـا أَصـبَـحوا صَلّوا وَقاموا

إِلى الجُـردِ العِـتاقِ مُسَوِّمينا

 

فَلَمّا اِستَجمَعوا حَمَلوا عَلَيهِم

فَـظَـلَّ ذَوو الجَـعـائِلِ يَقتُلونا

 

بَــقِـيَّةَ يَـومِهِـم حَـتّـى أَتـاهُـم

سَـوادُ اللَيـلِ فـيـهِ يُراوِغونا

 

يَــقــولُ بَـصـيـرُهُـم لَمّـا رَآهُـم

بِـأَنَّ القَـومَ وَلّوا هـارِبـيـنـا

 

أَأَلفـا مُـؤمِـنٍ فـيـمـا زَعَـمـتُم

وَيَهــزِمُهُــم بِــآسِـكَ أَربَـعـونـا

 

كَـذَبـتُـم لَيـسَ ذاكَ كَما زَعَمتُم

وَلكِــنَّ الخَــوارِجَ مُــؤمِــنـونـا

 

هُـمُ الفِـئَةُ القَـليـلَةُ غَيرَ شَكٍّ

عَلى الفِئَةِ الكَثيرَةِ يُنصَرونا

 

أَطَــعــتُــم أَمـرَ جَـبّـارٍ عَـنـيـدٍ

وَمـا مِـن طـاعَـةٍ لِلظّـالِمـيـنـا

قطري بن الفجاءة يؤرّخ لحربه مع أعدائه في موقعة «دولاب»

قطري بن الفجاءة، قائد الخوارج وشاعرهم الشهير، يذكر في قصيدة له حربه مع أعدائه في موقعة «دولاب» التي وقعت في البصرة ضد حكم بني أمية وأنصارهم، ويصورها كحرب مع الكفار، واصفا جيشه المكون من فتية باعوا أنفسهم لله مقابل جنات عدن أعدت لهم في الحياة الآخرة، فيقول:

وَلَو شَهِدَتني يَومَ دولابَ أَبصَرَت

طِعانَ فَتى في الحَربِ غَيرَ ذَميمِ

 

غَداةَ طَفَت عَ الماءِ بَكرُ بنُ وائِلِ

وَأُلافَها مِن حِميرٍ وَسَليمِ

 

وَمالَ الحِجازِيّونَ نَحوَ بِلادِهِم

وَعُجنا صُدورَ الخَيلِ نَحوَ تَميمِ

 

وَكانَ لِعَبدِ القَيسِ أَوَّلُ جِدِّها

وَوَلَّت شُيوخُ الأَزدِ فَهِيَ تَعومُ

 

فَلَم أَرَ يَوماً كانَ أَكثَرَ مَقعَصاً

يَمُجُّ دَماً مِن فائِظٍ وَكَليمِ

 

وَضارِبَةٍ خَداً كَريماً عَلى فَتى

أَغَرَّ نَجيبُ الأُمَّهاتِ كَريمِ

 

أُصيبَ بِدولابٍ وَلَم تَكُ مَوطِناً

لَهُ أَرضُ دولابٍ وَديرَ حَميمِ

 

فَلَو شَهِدَتنا يَومَ ذاكَ وَخَيلُنا

تُبيحُ مِنَ الكُفّارِ كُلَّ حَريمِ

 

رَأَيتُ فِتيَةً باعوا الإِلهَ نُفوسَهُم

بِجَنّاتِ عَدنٍ عِندَهُ وَنَعيمِ

امتاز شعراء الخوارج عامة بثبات الشخصية سياسيا والالتفاف حول المبادئ والتركيز عليها، لا حول الشخصيات، لذلك لا نجد في أشعارهم كثيرا من التفصيلات حول مهاجمة الأحزاب الأخرى، فكلها عندهم سواء، كل أفراد الأحزاب المخالفة لهم كفار وظالمون، والخلافة ينبغي أن ينالها من يحق الحق فحسب، ويعد الخوارج أنفسهم حماة للدين مناكفين عن الحق، وهم في الوقت نفسه عباد زهاد، وقد دفعهم إلى ذلك كله الحاضن الثقافي السياسي والديني الذي عاشوا فيه، فلا مكان لهم في السلطة، وهم مغيبون عن الواجهة الدينية، أي لا اعتبار لوجودهم إلا بقدر ما يشعلون الحروب ويواجهون ويقاتلون الفئات الدينية والأحزاب السياسية الأخرى.

 (السيف أصدق أنباء من الكتب) أبو تمام يؤرخ بشعره فتح عمورية:

كانت معركة عمورية بين الإمبراطورية البيزنطية والخلافة العباسية في عهد المعتصم بن هارون الرشيد في عام 223هـ، وكانت ردا من خليفة المسلمين، الذي خرج بنفسه، على ما فعله ملك الروم توفيل بن ميخائيل من تخريب لمدينة ملطية وقتل وتعذيب وأسر لسكانها وسبي لنسائها.

وبعد هذا الفتح العظيم جاء الناس والشعراء لتهنئة الخليفة الذي لبى نداء الكرامة المتمثل بصرخة المرأة الشهيرة التي استنجدت بالمعتصم، فحفظ التاريخ استغاثتها (وامعتصمااااه!). وقد سطر هذا النصر وخلد وأرخ له في صدر المجد بقصيدة أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، القصيدة البائية التي تُعَد من عيون الشعر العربي قد بلغت 70 بيتا. ويذكر أن الخليفة المعتصم قد كافأ أبا تمام على كل بيت منها بألف درهم. يقول أبو تمام فيها:

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ

في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

 

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في

مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ

 

أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما

صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ

 

تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً

لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ

 

فَتحُ الفُتوحِ تَعالى أَن يُحيطَ بِهِ

نَظمٌ مِنَ الشعرِ أَو نَثرٌ مِنَ الخُطَبِ

 

فَتحٌ تَفَتَّحُ أَبوابُ السَماءِ لَهُ

وَتَبرُزُ الأَرضُ في أَثوابِها القُشُبِ

 

يا يَومَ وَقعَةِ عَمّورِيَّةَ اِنصَرَفَت

مِنكَ المُنى حُفَّلاً مَعسولَةَ الحَلَبِ

 

أَبقَيتَ جَدَّ بَني الإِسلامِ في صَعَدٍ

وَالمُشرِكينَ وَدارَ الشِركِ في صَبَبِ

ثم يقول مادحا الخليفة المعتصم، وشاكرا صنيعه، ومتغنيا بحسن تدبيره وفعاله:

تَدبيرُ مُعتَصِمٍ بِاللَهِ مُنتَقِمٍ

لِلَّهِ مُرتَقِبٍ في اللَهِ مُرتَغِبِ

 

وَمُطعَمِ النَصرِ لَم تَكهَم أَسِنَّتُهُ

يَوماً وَلا حُجِبَت عَن رَوحِ مُحتَجِبِ

 

لَم يَغزُ قَوماً وَلَم يَنهَض إِلى بَلَدٍ

إِلّا تَقَدَّمَهُ جَيشٌ مِنَ الرَعَبِ

 

لَو لَم يَقُد جَحفَلاً يَومَ الوَغى لَغَدا

مِن نَفسِهِ وَحدَها في جَحفَلٍ لَجِبِ

 

لَبَّيتَ صَوتاً زِبَطرِيّاً هَرَقتَ لَهُ

كَأسَ الكَرى وَرُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ

 

عَداكَ حَرُّ الثُغورِ المُستَضامَةِ عَن

بَردِ الثغورِ وَعَن سَلسالِها الحَصِبِ

 

أَجَبتَهُ مُعلِناً بِالسَيفِ مُنصَلِتاً

وَلَو أَجَبتَ بِغَيرِ السَيفِ لَم تُجِبِ

ويقول مصورا حال الروم البيزنطيين وقد لاقوا من سيوف المسلمين ما لاقوه من شدة وعذاب:

تِسعونَ أَلفاً كَآسادِ الشَرى نَضِجَت

جُلودُهُم قَبلَ نُضجِ التينِ وَالعِنَبِ

 

يا رُبَّ حَوباءَ حينَ اِجتُثَّ دابِرُهُم

طابَت وَلَو ضُمِّخَت بِالمِسكِ لَم تَطِبِ

 

وَمُغضَبٍ رَجَعَت بيضُ السُيوفِ بِهِ

حَيَّ الرِضا مِن رَداهُم مَيِّتَ الغَضَبِ

 

وَالحَربُ قائِمَةٌ في مَأزِقٍ لَجِجٍ

تَجثو القِيامُ بِهِ صُغراً عَلى الرُكَبِ

 

كَم أَحرَزَت قُضُبُ الهِندِيِّ مُصلَتَةً

تَهتَزُّ مِن قُضُبٍ تَهتَزُّ في كُثُبِ

ثم يدعو للخليفة بخير الجزاء لما أداه من دفاع عن الإسلام والمسلمين، فيقول:

خَليفَةَ اللَهِ جازى اللَهُ سَعيَكَ عَن

جُرثومَةِ الدِينِ وَالإِسلامِ وَالحَسَبِ

 

خَليفَةَ اللَهِ جازى اللَهُ سَعيَكَ عَن

جُرثومَةِ الدينِ وَالإِسلامِ وَالحَسَبِ

 

بَصُرتَ بِالراحَةِ الكُبرى فَلَم تَرَها

تُنالُ إِلّا عَلى جِسرٍ مِنَ التعَبِ

 

إِن كانَ بَينَ صُروفِ الدهرِ مِن رَحِمٍ

مَوصولَةٍ أَو ذِمامٍ غَيرِ مُنقَضِبِ

 

فَبَينَ أَيّامِكَ اللاتي نُصِرتَ بِها

وَبَينَ أَيّامِ بَدرٍ أَقرَبُ النسَبِ

 

أَبقَت بَني الأَصفَرِ المِمراضِ كَاسمِهِمُ

صُفرَ الوُجوهِ وَجَلَّت أَوجُهَ العَرَبِ

إن الناظر في الشعر العربي الذي أرّخ للمعارك والانتصارات في العصور الإسلامية المتقدمة، يرى أنه أرخ للهزائم والخيبات أيضا، وحمل إلينا مشاعر الشعراء وأفكارهم ورؤاهم، والشعراء بالضرورة أبناء بيئاتهم، ويحملون في ثنايا أشعارهم همومهم وهموم أبناء جيلهم، وهذا ديدنهم حتى العصر الحديث والمعاصر، فالشعراء نموذج الإنسان بشكل من أشكاله، والشعر يعكس صور الحياة من زوايا مختلفة، وأهم ما يميز الشعر الذي يؤرخ للأحداث العظيمة أنه ينقلها بعيون القلب وإحساس الشاعر وتأثره وانفعاله بها، ويبقى للمتلقي مساحته الخاصة لينفعل وفقا لتأثره واستجابته، وتبقى للقصائد في صفحات التاريخ كلمتها التي لا يخبو نورها ولا ينتهي نبضها.

مقالات مشابهة

  • ولو أجبت بغير السيف لم تُجب… تأريخ المعارك في الشعر العربي خلال العصور الإسلامية المتقدمة