أديان الغرب الوضعية الجديدة : قراءة نقدية إسلامية للأديان والمذاهب الدينية والروحية الغربية الوضعية المعاصرة
تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT
د. صبري محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم
تمهيد: ظهر في الغرب فى العصور الحديثه والمعاصره " اى الغرب : الليبرالى ، الرسمالى ، العلمانى، الديموقراطى" العديد من الأديان والمذاهب الدينية الوضعية الجديدة ، وسنحاول في هذه الدراسة الموجزه تقديم قراءه نقدية لهذه الأديان والمذاهب الدينية، من خلال التعريف بهذه الأديان والمذاهب الدينية أولا، ثم عرض مفاهيمها الاساسيه ثانيا، ثم عرض الانتقادات التي وجهت إليها ثالثا، ونختم الدراسة بتقديم نقد عام لهذه الأديان والمذاهب الدينية ، من منظور إسلامى مقارن .
اولا: السينتولوجيا " الكنيسة العلمية" :
تعريف: السيَنتولوجيا مصطلح مركب من كلمتين هما : “سِيِنتيا ” وتعنى علم في اللغة اللاتينية ، و” لوجيا ” وتعنى دراسة أو علم في اللغة اليونانية. و هي مجموعة من المعتقدات و التعاليم ذات الصبغة الدينية ، تستند إلى فلسفة علمانية، تأسست عام 1952 من قبل الكاتب رون هوبارد، ثم أعاد صياغتها لاحقا باعتبارها فلسفة دينية تطبيقية. وتتمثل هذه الفلسفة رسميا عن طريق كنيسة السينتولوجيا، التي تصف نفسها بأنها منظمة غير نفعية، تسعى لإصلاح وإعادة تأهيل الروح الإنسانية، وهي تطرح نفسها كبديل عن مدرسة التحليل النفسي.
مفاهيمها :
الإنسان: كائن حي خالد, تتجاوز خبرته حدود حياته الفردية, يتمتع بقدرات غير محدودة 'حتي لو لم يدركها في حينها.
البعد التطبيقي : عدم وجود علاقة بين الروح كمفهوم فلسفي ، وبين روح الإنسان الموجودة في جسده, وتسبب وجوده الشعوري ، وبناء عليه فإن السنتيولوجيا مبادئ قابلة للتطبيق, تفسر القوانين الأساسية للحياة, و تبين معوقات البقاء ، وأفضل السبل لتذليل هذه المعوقات.
الروح والعقل والجسم : وترى أن الإنسان كائن مكون من جسم و عقل و روح مسيطرة مسئولة عن تنشيط الجسم وعن استخدام العقل, ووفقا لأشكال العلاقة بين مكونات الإنسان الثلاثة، وقياس مناطق الضعف في علاقاتها ،وفي الروح يمكن تحديد أساليب حل مشاكل الإنسان المختلفة.
وسيله الاستماع والمقياس النفسي الكهربائي : وقد ابتكر مؤسسها وسيلة أطلق عليها اسم "الاستماع" لتصبح أساس ممارسة السنتيولوجيا ، وتعتمد على جهاز أطلق عليه اسم المقياس النفسي الكهربائي.
انتقادات :
أولا: وصف العديد من علماء النفس والأطباء مبادئ السنتيولوجيا بأنها علم كاذب" زائف ".
ثانيا: يرى بعض الباحثين أن وسيله "الاستماع "و جهاز المقياس النفسي الكهربائي ما هما إلا صياغة معاصره لفكره الاعتراف وطقوسها في الديانة المسيحية ،.
ثالثا: اتهمت السنتيولوجيا بالانغلاق والسرية ، وتشجيع أتباعها على قطع كل صلاتهم بأهلهم غير المعتنقين لها، رابعا: تم رفع العديد من القضايا ضدها في الولايات المتحدة وأوربا ، بتهمه ابتزاز أعضائها للحصول على أموالهم.
ثانيا: الرائيلية:
تعريف : نشأت الحركة الرائيليه في فرنسا عام 1973 ، من قبل كلاود فوريلهون والذي يعرف حاليا باسم ” رائيل”.وقد انتقل لا حقا الى الولايات المتحدة الامريكيه ، وأسس الحركة الرائيليه في أمريكا، والتي تعتبر المؤسس لشركة كلونايد،التي تعمل في استنساخ البشر، والتي زعمت أنها استنسخت أول طفل بشري
مفاهيمها:
لا نهائيه الكون:ترى أن الكون لانهائي .
الالوهيم وتفسير خلق الحياة : وتقول ان كائنات فضائيه"اطلقت عليها اسم إلوهيم"، أتوا إلى كوكب الأرض منذ الأف السنين، وقاموا بإنشاء الحياة فيه، مستخدمين علوم الفضاء الشمسية والهندسة الجينية.
امكانيه خلق الحياة فى المستقبل:وتقول بإمكانية خلق حياة عندما يتحقق السلام بين البشرية وتتوقف الحروب، عندها سيتمكن الإنسان من السفر عبر الكون، واستخدام الاستنساخ والتعديلات الجينية لخلق الحياة ، وجعل الكواكب صالحة للحياة.
امكانيه استمرار الحياة بعد الموت: وترى أن تطوير حواسيب جبارة، وتقنيات عالية يمكن استنساخ بشر، ونقل ذاكرتهم وجيناتهم إلى الأجساد المستنسخة ، مما يسمح لهم متابعة الحياة بعد موت الجسد.
انتقادات :
أولا: أشار العديد من الباحثين أن أفكار رائيل مستقاة من روايات الخيال العلمي التي نشرت في ستينيات القرن الماضى
ثانيا : تعرضت محاوله الرائيين استنساخ البشر للانتقاد من العديد من المؤسسات والهيئات والجماعات الدينيه.
ثالثا. المونية"الكنيسة الموحدة":
تعريف : المونية أو الكنيسة الموحدة هى حركة دينيه مؤسسها هو صن مون المولود في كوريا عام 1920 ، والذي في انتقل إلى الولايات المتحدة عام 1973م .
مفاهيمها:
توحيد الأديان وتوحيد العالم : ترفع الحركة شعار السعي من أجل توحيد الأديان، كما تقول أن هدفها الرئيسي هو"العمل من أجل توحيد العالم تحت راية إله واحد "
الإنسان الكامل: وترى الحركة أن رسالة آدم الأساسية أن يخلق الأسرة الكاملة في الأرض، و ان هذه المهمة لم تتحقق نتيجة لعمل الشيطان ، و أن عيسى لم يتزوج ، وترك مبدأ تكوين الأسرة الكاملة، لكنه أحيا الجانب الروحي للإنسان، وقد ظل جسد الإنسان مستعبداً للشيطان، لذا يجب أن يوجد آدمً ثالثً بالاتحاد مع زوجة مثالية حتى يمكن تحقيق هذا الهدف لإنجاب الإنسان الكامل.
المنظور التكراري للتاريخ: وترى المونيه أن التاريخ والأحداث متكررة ومقدرة سلفاً – ويعبرون عن ذلك من خلال رسومات و جداول بيانية
انتقادات:
تستند الحركة المونيه إلى نظريه وحده الأديان ، و التي تقوم على أساس أن كل الأديان صحيحة بالتساوي ، وهى بذلك تستند إلى ذاتيه مطلقه تلغى اى موضوعيه .
رابعا: شهود يهوه :
تعريف: هي طائفة مسيحيه نشأت في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر في ولاية بنسلفانياالأمريكية على يد “تشارلز تاز راسل“. وكانت بدايتها مجموعة صغيرة لدراسة الكتاب المقدس ، وكبرت هذه المجموعة فيما بعد لتصبح “تلاميذ الكتاب المقدس”، ويرفض شهود يهوه الاحتفال بميلاد المسيح ، ولا يخدمون في الجيش ، ولا يتدخلون بأي شكل من أشكال في السياسة.
مفاهيمها:
يهوه: يؤكد شهود يهوه أن الاسم يهوه هو اسم الله وهو يرد في الكتاب المقدس (المخطوطات الاصلية) أكثر من 7200 مرة، ولكن المترجمين قاموا باستبدال الاسم بلقب “الرب”.
رفض الثالوث: لا يؤمن شهود يهود بالثالوث ولا بشفاعة القديسين ولا بنار الهاوية كوسيلة لتعذيب الأشرار.
التبشير بملكوت الله : ويقول شهود يهوه ان الهدف الأهم لهم هو التبشير بملكوت الله باعتباره الحل الوحيد والقريب لمشاكل العالم المتفاقمة، وكذلك تعريف الناس على اسم الله الفريد – يهوه – كما يذكر الكتاب المقدس.
انتقادات:
رغم أن بداية شهود يهوه أنها طائفيه مسيحيه، إلا أنها اختلفت مع سائر الطوائف والمذاهب المسيحية في العديد من المعتقدات ، كما أنها افترقت عن سائر الأديان السماوية في العديد من المعتقدات كإنكار وجود النار.
خامسا: المورمونية :
تعريف : هي مذهب ديني ذو أصول مسيحيه بروتستانتيه، تأسس عام 1820 على يد جوزيف سميث الابن ، وكان يأخذ شكل محاوله تقليد المسيحية الأولى في الفترة ما بين 1830 و1840 ، ثم بدأ تدريجيًّا يتميز عن المذهب البروتستانتي التقليدي، و عقب موت سميث أصبح بريغام يونغ رئيسًا للمورمون، و توجه بهم نحو جبال روكي، حيث أطلقوا على أنفسهم اسم أتباع كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة .
مفاهيمها:
استمرار الوحي الالهى: يعتقد المورمون أن كنيستهم هي وريثة الكنيسة التي أنشأها المسيح وتلاميذه والمسيحيين الأوائل وأن الوحي الإلهي عملية مستمرة ولم تتوقف .
نبوه سميث : كما يعتقد المورمون أن جوزيف سميث هو رسول ونبي مثله مثل موسى استلم ألواحا ووحيا.
الوجود الروحي قبل الولادة: يؤمن المورمون بفكرة الوجود الروحي قبل الولادة، والتي تعني بأن البشر في الواقع عبارة عن أبناء روحيون لله ،وإنه وقبل نشوء الأرواح كان هناك عنصر من الروح الإنسانية متواجدة بصورة أبدية مع الخالق الأعظم، ولعل هذا يفسر تعاليم الكنيسة المورمونية بفكرة اشتراك الإنسان والخالق في الأبدية.
عدم استعمال الصليب كرمز : ولا يستعمل المورمون الصليب للمسيحية .
تعدد الزوجات : كان جوزيف سميث يمارس ويعلم أتباع الكنيسة ممارسة تعدد الزوجات، وبعد موته، مارس هذا الأمر نخبة من أتباعه حتى عام 1890 عندما نهت الكنيسة رسميا هذا التقليد، ولكن لا زالت بعض الأقليات الأصولية المورمونية والمنشقة من الأكثرية المورمونية تمارس تعدد الزوجات.
انتقادات:
المورمونيه بقولها باستمرار الوحي تناقض مع مفهوم ختم النبوة في الدين الاسلامى، كما تتناقض مع الأغلبية المسيحية المؤمنة بأن عصر الوحي الإلهي قد انتهى برحيل تلاميذ المسيح وانتهاء العصر الرسولي المسيحي .
سادسا:حركة العصر الجديد: هى شبكة واسعة ومرنة ، من الأفراد والمجموعات والمنظمات...الذين يتمتعون بقدر كبير من الاستقلال التنظيمى، مع اشتراكهم فى تبني مفاهيم ذات طابع روحي ، مستمدة من مصادر فكريه وروحيه ودينية متعددة " كالاديان السماوية والأديان الوضعية الشرقيه القديمه...".
المفاهيم المشتركة للحركة :
مذهب الوحدة المطلقه :ترى ان التَعدُّدية الموجودة في الكون مُشتقة ومُستمدَّة من مصدر مطلق واحد، وكل التنوع الموجود يصدر من طاقة إلهية مُوَحَّدة.
مذهب وحدة الوجود : ترى ان الله هو الكل والكل هو الله.
السادهانا: من الواجب على كل شخص أن يقوم باختيار السادهانا أو المسار الذي سيخضع من خلاله إلى تحول، سيؤدي في النهاية إلى الوصول إلى معرفة مبدأ الألوهية الكامن فى الشخص..
التقمّص والكارما : إن السادهانا قد يكون طريقاً متعثراً بالنسبة للكثير من الأشخاص، وبالتالي فإنَّه يتطلب أكثر من حياة واحدة لاستكماله.وكبديل للجنة والنار فى الاديان السماويه تتبنى الحركة التقمص والكارما المُشتقَّة من الهندوسية. والتى مضمونها وضع الشخص في دورة من إعادة الولادة.
الديانة الكونية: تتبنى الحركة ديانة كونية "طبيعية" هدفها اكتشاف الشخص مبدأ الألوهية الكامن فى ذاته ، اما كل الديانات الموجود فى العالم ـ سواء كانت سماوية او وضعيه ، فهى مجرد مسارات بديلة تسعى لتحقيق هذا الهدف.
التحوّل لشخصي: هو تحول نوعى للوعى من نظام معتقدات العالم القديم، إلى إدراك لنظام ”العصر الجديد“، وتتمثل الخطوة الأولى في عملية التحول هذه في تبني إدراك الوحدة المطلقه للوجود، وهذا التحول لا يحدث من خلال معرفة الحقائق المنطقية أو الصيغ العقائدة، إنما من خلال التجارب الروحية.
الرؤية الكوكبية"االعالميه ": وتؤكد فرضية غايا- التى تؤمن بها الحركة - بشكل أساسي على أن الأرض بذاتها هي كائن حيّ.
ظهور المخلص : و كان الرواد الأوائل لحركة العصر الجديد قد تصوروا مجيء زعيم عالميّ أو أڤاتار عظيم يُبشّر ببزوغ فجر العصر الجديد.
الخطيئة: الخطيئة عند الحركة هي جهل الفرد بإمكانياته الداخلية"اى مبدأ الألوهية الكامن فى ذاته".
الموت: والموت عند الحركة هو مجرد نقطة انطلاق للدخول إلى الحياة التالية في دورة إعادة الولادة أو التناسخ.
العصر الذهبى: وترى الحركة ان الوقت قد بات قريباً من الحاله المثاليه التى سيمثلها مجىْ العصر الجديد- بالوعى بهذا العصر - حيث تنتهي كل المشاكل من المجاعة العالمية، والتهديد بالحرب النووية، وتدمير البيئة، والمخدرات، والإيدز، والجريمة ، وغيرها من مشاكل عالمية.
عصر الدلو: وترى ان الأرض يجب أن تمر عبر حقب تدوم لمدة تقرب من ألفي عام "علامات الأبراج الفلكية " ، وتبشر الحركة بعصر برج الدلو التالى لعصر برج الحوت.
انتقادات:
هذه الحركه هى محاولة للبحث عن حل لمشكلة الفراغ الروحي فى الغرب ، لكن فى المكان الخطأ ، اى فى مذهب وحده الوجود ، الذى يتناقض مع التصور الصحيح للعلاقة بين الخالق والمخلوق، كما عرضت له الأديان السماويه.
نقد عام من منظور إسلامى :
محاوله خاطئه لحل مشكله الفراغ الروحى : إن استمرار ظهور أديان و مذاهب دينيه جديدة في الغرب ، هو تعبير عن محاوله- خاطئة – لحل مشكله الفراغ الروحي، الذي تعانى منه المجتمعات الغربية، نتيجة لتبنيها الفلسفة الليبرالية ذات الأسس الفلسفية الطبيعية "المادية "، وأركانها" من علمانيه ورأسماليه وفردية...". ووجه الخطأ في هذه المحاولة -عندنا – هو أن اغلبها تتناقض مع مفهوم ختم النبوة الذي قرره الإسلام.
التحول الى طوائف مغلقه: كما يلاحظ ان اغلب هذه الأديان والمذاهب الدينيه تحولت إلى طوائف، اى دين أو مذهب ديني مقصور على فئه معينه من الناس ، وهو يدل على فشل هذه الأديان والمذاهب الدينيه في اقنع قطاع غالب او كبير من هذه المجتمعات بصحة معتقداتها .
شكل من اشكال الاستغلال الراسمالى: كما أن اغلب هذه الأديان والمذاهب الدينيه، أصبح شكل من أشكال الاستغلال ، الذي يميز النظام الاقتصادي الراسمالى، فهو استغلال للفراغ الروحي الذي تعانى منه المجتمعات الغربية ..
...................
للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبرى محمد خليل:
.مجموعه الفيسبوك( إستخلاف: تيار فكرى لتحقيق استخلاف الأمة الثانى .مجموعه من د. صبرى م خليل).
.صفحه د.صبرى محمد خليل فى الفيسبوك(د. صبرى محمد خليلSabri Khalil khairi).
.الموقع الرسمى للدكتور صبرى محمد خليل: دراسات ومقالات Google
. القناه الرسميه للدكتور صبرى محمد خليل فى اليوتيوب.
sabri.m.khalil@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الکتاب المقدس العصر الجدید العدید من من خلال
إقرأ أيضاً:
الدولة والسلفيات الدينية والمذهبية
الدولة - إن صح التعبير - مؤسسة متطورة، وإذا كانت هناك قيم مطلقة عابرة للزمكانية، إلا أن الدولة إجرائيا لها ارتباط وثيق بالظرفية، ولا يمكن بحال استنساخ نماذج إجرائية سالفة في واقع مختلف تماما، كما لا يمكن الوقوف عند حرفية النصوص الإجرائية الماضوية في واقع مختلف، قد تكون الروح مطلقة كالمساواة والعدل والحرية، إلا إن إجراء تحقق ذلك لا ينفصل عن الواقع المعيش، وفي نظري لا توجد ديانة أو فلسفة من حيث الابتداء أرادت أن تختزل الدولة في صورة إجرائية مغلقة، لكنها تناولت الدولة وفق ظرفية واقعها الذي تعيشه، فإذا وجدت نصوص في ذلك فهي لا تخرج عن روح القيم المطلقة، أو الظرفية المقيدة بواقعها، وعليه ربط الدولة كليا بواقع ظرفي مختلف تماما ربط يقود العقل المعاصر إلى الجمود والتخلف، وقد يقوده إلى الصراع والنزاع والاحتراب، كما يجعل العقل يعيش في مخيال وهمي يتمثل في أن استنساخ الدولة في صورتها الإجرائية الماضوية تقوده إلى الرفاهية والكرامة والخلاص من آلام الواقع، وهو نوع من الوهم، والهروب من واقع الحال الذي ينبغي أن يدرس بعقلانية الواقع، لا بأوهام الماضي، والكثير مما يروى عن الماضي يصلنا منه ما هو مختزل عن واقعه، وليست الصورة الحقيقية المرتبطة بإنسان تلك المرحلة وفق تقدمه أو تأخره وفق مقياس واقعه وظرفية زمنه.
ولما نتحدث عن السلفية لا نريد هنا السلفية بالمفهوم المذهبي المغلق المتمثل في بعض الجماعات الدينية المعتدة بأرثوذوكسيتها، أو التي ترى الخلاص في رؤى واجتهادات السلف، وليس المراد أيضا الوقوف عند بعض الجماعات الإصلاحية المعاصرة والتي تبنت السلفية لقبا لها، والمراد من حديثي هنا أنه لا يوجد ديانة أو مذهب أو حركة لا سلف لها، أو لا رؤية سلفية لها، تسمت باسم السلفية، أو حتى كانت رافضة لهذا المصطلح، فالعديد من هذه الحركات لها ارتباط سياسي في النشأة، ولها رؤية سلفية حول الدولة والاجتماع البشري، قد تجمد عليها، وقد تتطور رؤيتها إذا ما حدث انفتاح عند بعض منظريها وأتباعها، بيد أن الخلاص من الرؤية الماضوية لا يمكن أن يتمثل في جميع أفرادها، وقد يتعرض المنظرون الجدد لإقصاء من قبل التقليديين - السلفيين - في كل مذهب، والذين يستخدمون البراجماتية النفعية وفق كيان الدولة القائم، وإن كان واقع خطابهم له رؤية ماضوية خلاصية حول واقع الدولة، لهذا يحاربون المنظرين الجدد باسم الدولة نفسها عندما تكون المصلحة واقعة بين السياسي والديني الأرثوذكسي.
قد يكون من الناحية الشكلانية لا خطورة في علاقة السلفيات الدينية والمذهبية بالدولة في الخطوط الجامية والنفعية البراجماتية، الخطورة لما تتسع دائرتها حيث يتمثل إشكاليتها في رفض الآخر القريب دينيا أو مذهبيا إذا كانت مخالفا لسلفيتها الحرفية، ورفض البعيد خارج التفكير الديني ذاته محاولة لإقصائه وإبعاده، مستخدمة أدوات الدولة ذاتها من حيث المؤسسات، وقد تتسع إلى القضائية والضغط الاجتماعي، ولو كانت الدولة لها صورة ليبرالية أو علمانية من حيث الابتداء، ليخرج مفهوم الآخر المختلف من دائرة المواطنة المرتبطة بالذات الواسعة، إلى المواطنة المرتبطة بمدى النفعية من جهة، وبضيق التصنيفات المذهبية تجاه المختلف من جهة ثانية، وتتسع الخطورة عندما يملأ العقل الجمعي المستقِبل لخطابات سلفية ترى الخلاص في نماذج ماضوية هي بذاتها تصارعت وتحاربت، واختزلت في روايات وقصائد شعرية، يستقبل العقل الجمعي هذه الخطابات بلا إعمال عقلي، ولا نقد معرفي، تجعله يعيش الازدواجية بين مخيال الخطاب وظرفية الواقع، ليسقط ذلك سلبا في تأثره بجماعات متطرفة باسم الدين، أو يكون ناقما لمحيطه الذي يعيش فيه.
لهذا لابد من إعادة قراءة الدولة وفق نظريات الواقع، ولابد من نقد مثل هذه الخطابات غير المنضبطة من تديين الدولة وإخراجها من إطارها الإنساني المتحرك، إلى الأطر اللاهوتية المغلقة من جهة، ومن طبيعتها الحالية الواقعية إلى الخلاصات الماضوية الوهمية من جهة أخرى، ليبنى العقل الجمعي على المواطنة المرتبطة بالذات المتساوية بين الجميع، هذه الذات لا تلغي الخصوصيات الدينية والمذهبية والفكرية والثقافية، ولكنها من حيث الدولة يبقى الجميع ذاتا واحدة لا تمايز بينهم، والكل سواء في العمل والاجتهاد والشراك والإبداع والكفاءة، فإذا لم يحدث مثل هذا النقد، وإذا لم يتم إعادة التعامل مع العقل الجمعي ليكون متعقلا ناقدا محاورا، وليس مستقبلا فقط لخطابات من الخارج باسم المقدس أو غيره، قد ينضبط تفكيره حاليا نتيجة قوة الدولة الوطنية، وليس لسبب ما يتمثله من ثقافة جمعية مؤمنة بإنسانية الدولة وظرفيتها الزمكانية، يظهر ضرر ذلك في الخطابات غير المنضبطة التي قد تتحول إلى فعل حال ضعف الدولة المركزية.
فالجماعات الحركية المتطرفة مثلا لم تكن بعيدة عن هذه الخطابات والسلفيات غير المنضبطة، التي بنيت على كراهية وإقصاء الآخر تحت مفهوم «الولاء والبراء»، أو تحت عمومية الأسلمة بما في ذلك المتحرك في الاجتماع البشري، ومحاولة لاستنساخ تجارب سابقة لها ظرفيتها وفق التديين والخلاص باسم المقدس، ولو كانت مرجعيتها روائية وتطبيقات تراثية لا علاقة لها بالنص الأول من حيث الابتداء، هذه الجماعات تجاوزت حد الخطاب إلى الفعل، بيد أن الخطاب الذي تحمله لا يختلف عن خطاب السلفيات الدينية والمذهبية في عالمنا العربي والإسلامي، فما زالت النظرة الخلاصية للدولة في صورتها الماضوية حاضرة، والعديد من أدبيات هذه الجماعات الحركية المتطرفة لا يختلف تماما عن الذي يطرح في الجامعات والمساجد، وما نراه أيضا في الكتب الدينية التقليدية فيما يتعلق بالحكامة، وتصنيف المختلف الديني والمذهبي، وكلاسيكية الولاء والبراء والتكفير والتفسيق، وإسقاطات ذلك على المعاملات والحدود والقوانين المدنية وما يماثلها.