«كلنا مريم»: ورطة القارئ بالحزن النبيل
تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT
«كلنا مريم» عنوان دائري، غير أن هذه الدائرة المفترضة -التي ترسم إحداثياتها في المخيّلة- متحركةٌ في الوقت نفسه، وقابلة للتمدد إلى ما لا نهاية، وليست مغلقة كما تفترض البديهة، بدليل ضمير جماعة المتكلمين في كلمة (كلنا). تبدأ الدائرة من أفراد معدودين يشكّلون عائلة، يُطلقونه اسما على مجموعتهم في الواتساب، لنعتقد بدءًا أنها محصورة بهم وتخصهم وحدهم كأي عائلة تجمعها مجموعات الواتساب والهموم المشتركة، ولكن الدائرة تنفرج ليجد القارئ نفسه واقعا في محيطها، ومطلعا على ما بداخلها، ومتأثرًا به حد التورط النبيل.
ربما بوسع المرء أن يحدد سلفا موقفه المحايد من الكم الهائل من اليوميات، والمذكرات، أو حتى السير الذاتية التي قرأها طوال حياته -وأزعم أنّي قرأت الكثير منها- ولكنه مع كتاب «كلنا مريم» يجد نفسه فردًا أصيلًا، أبًا أو أخًا أو أختًا أو أمًّا، وحتى مريم نفسها. يجد نفسه كل هؤلاء بينما يظن أنه يقرأهم على بعد مسافة من الوجع، فإذا به يتوجع بهم ولأجلهم، ولا يستطيع مع ذلك أن يترك جانبًا الكتاب المكوّن من أكثر من 500 صفحة؛ لأن في تركه شبهةَ تخلٍّ، ولا يليق التخلي بالنبلاء.
في كتابه «كلنا مريم» يسمح محمد المرجبي لنا نحن القراءَ أن ندخل بيته، ونتعرف على أفراد أسرته فردًا فردًا، هؤلاء الذين يرتقون لأن يكونوا أبطالًا في رواية متخيّلة، غير أنها لحسن الحظ (أو لسوئه) ليست كذلك. فإذا كان السؤال الذي يدفع القراء عادة لقراءة رواية ما، هو ما إذا كانت حقيقية أو مستلهمة من الواقع حتى يقرروا قراءتها أم لا، فإن قارئ كتاب «كلنا مريم» يود لو كان رواية من خيال المرجبي المحض، وسينهيها في الصفحات الأخيرة بما لا يشبه الواقع.
لقد استطاع المرجبي أن يجعلنا نلهث وراء الصفحات ننتظر خاتمة تُكذّب تلك التي عرفناها، أو لعله يفاجئنا بنهاية سعيدة أرادها طوال رحلة الكتابة وأردناها معه طوال رحلة القراءة، ونمنّي النفس بأنه سيخبرنا عمّا قليل أن الواقع ليس سوى لعبة لا تَصْدُق بالضرورة، وأن السرد هو اليقين المطلق، أليس المجاز أصدق من الحقيقة؟
لم يشأ المرجبي أن يدوّن يومياته إلا تشجيعًا لمريمه (التي أصبحت مريمنا)؛ تملأ بها الوقت في غرف العزل في المستشفيات. وحتى يشجعها على ذلك، قرر أن يكتب هو أيضا يومياته معها يوما بيوم، يكتبان من زاويتين مختلفتين، لعلهما يُصدران ما كتبا في مجلّد واحد بعد انتهاء رحلة العلاج مكللة بالشفاء التام. ولكن عزل مريم لم يكن مما يسمح لها بترف الكتابة، فشرع أبوها يكتب ويدوّن عنهما معا يوما بعد آخر، وهكذا تغير الهدف من تشجيع مريم على الكتابة، إلى تدوين التجربة لعلها تكون مفيدة لآخرين بما يشبه الالتزام، قبل أن يؤول التدوين تفريغا لصرخة لا يمكنه إطلاقها إلا في الكلمات. ولكنه في المحصلة الأخيرة للكتاب حقق أهدافه كلها مجتمعة، فقد كانت كتابته حافزًا لمريم للتعافي، تسأله بين حين وآخر ما إذا كان مستمرًا في الكتابة عنها، ويحرضها بدوره على بذل أقصى ما في وسعها من أجل أن يكتبا نهاية سعيدة.
في مقال سابق تحت عنوان «فن التلصص على حياة الآخرين» كتبتُ عن اليوميات، وفن السيرة الذاتية، والمذكرات، وكيف أنها فنون كتابية تقرّبنا من شخصيات قد نعرفها قليلًا أو كثيرًا، وتكشفها لنا خالية من الأقنعة ووهم المسافات، وأحسبنا في هذا التلصص (المشروع) على حياة محمد المرجبي وأسرته، اقتربنا من وجهٍ آخر للشخصية العامة، الهادئة، الرصينة، الشخصية التي قلّما تُفرِج عن حياتها الخاصة، ولكننا وجدناه في هذا الكتاب كاشفًا ومكشوفًا، هشًا وقويًا، صلبًا ومنهارًا، مريضًا يدّعي العافية من أجل عائلته، حزينًا يظهر السعادة من أجل الناس والوطن، يحمل حزنه الخاص بينما يعبّر للناس عن حزنهم العام، باكيًا في سيارته وحيدا كما يحسب، مبتعدًا عن عيون أسرته ومريم، وكنا معه نسمع تضرعاته إلى الله، وإن مع فارق التوقيت.
لا يحرص المرجبي على كتابة كل التواريخ، كما نريدها في يومياته، ويدوّنها فقط متى ما كانت فارقة، وما عدا ذلك يذكر حساب الأيام في غرف العزل، وفي العناية المركزة. يذكر حسابها بين مراجعة وأخرى، بين تنويم وآخر. يحسب الأشهر والليالي والساعات في انتظار نتيجة تقرير هذا الطبيب أو ذاك. أقول إنه لا يحرص على تدوين التواريخ كلها كما تفرضها اليوميات؛ لأنه يكتب الألم الممتد، والحدث المتكرر بين المستشفى والبيت، تتخلله أحداث سعيدة مقطوعة لا تكتمل إلا بعودة عاجلة على جناح الطوارئ إلى المستشفى من جديد. ولكن من يلوم مكلومًا يفقد ساعة الوقت ليكتب حسب ساعة قلبه؟ فإذا بها أمضى في حساب العمر والتعب والحب!
ومثلما يتجاوز المرجبي تدوين التواريخ إلا ما كان فارقًا منها، فإنه يتجاوز أحيانا التعريف بشخصياته في أول ورودها، قبل أن تتكشف بعد صفحات قليلة مواقعها وأدوارها. ولعلنا نجد تفسيرًا لذلك في عبارته التي تقول: «مريم، سامحيني إن لم أستطِع العودة لقراءة ما كتبتُ»، لنفهم أنها كتابة من لا يقوى على الموت مرتين، فهل يلومه القارئ وقد عرف أي ألم كان يحمل بين جنبيه؟!
يدوّن المرجبي الأحداث يومًا بيوم ما يعتقد أنها ذاكرته هو، وإذا بها ذاكرة تتقاطع مع ذاكرتنا العامة والخاصة، عن أحداث كبرى وصغرى مررنا بها، ومرت به في خضم مكابداته اليومية، ويجعل القارئ من حيث شاء أو أبى يقيس موقعه من هذا الحدث أو ذاك. ولكن المرجبي لا يتحدث عن نفسه كما يعرفه الناس، بل يتحدث عما لا يعرفونه، فهو مثلا لا يتحدث عن تعليقه الصوتي في مراسم تشييع جنازة السلطان قابوس -رحمه الله- على الهواء مباشرة، بينما يخبرنا أنه بات في مكتبه ليلته تلك بعد اجتماع سري، ليتركنا نحن القراء نكمل ما نعرفه عنه؛ عن صوته الباكي في تلك المراسم وهو يقول جملته الحزينة «رحل القابوس»، وفي خاطره حزنان. لا يتحدث في كتابه عن حلقاته الثلاثين في أول نوفمبر يمر على البلاد بعد وفاة السلطان قابوس على إذاعة مسقط أف أم، ولكنه يخبرنا عن حدث إسعافه من الاستوديو أثناء بث الحلقة الأولى وخضوعه لعملية القسطرة. يمسك محمد المرجبي عن تسمية بعض البرامج التي اشتغل عليها وعُرضت خلال أحد الأعوام الأربعة هي عمر هذه اليوميات؛ لأنه أراد أن يقول للقارئ: أنت تعرف الباقي! وتعرف أن البرنامج الذي كنت أحدثك عنه هو برنامج «بيوت» الذي تم عرضه في رمضان عام 2019م.
قد تكون الحكاية حكاية مريم، وهي كذلك، ولكنها في جانب كبير منها، هي حكاية محمد المرجبي نفسه، في كل سلوكه، وخوفه، وهواجسه، وألمه. في الشخصية التي نكتشفها من جديد على غير ما عرفناه على شاشات التلفزيون وما سمعناه عبر أثير المذياع. فأن يسمح لنا نحن القراء بهذا القدر من الاقتراب من روحه المتعبة، وقلبه القلِق، وهواجسه المرعبة، وبكل هذا الصدق والانكشاف، لهو مما يعزز كل أسباب محبتنا السابقة له.
لم يشأ المرجبي أن يصنف ما يكتبه سوى أنه كتابة على سبيل الاستشفاء؛ يكتب ليستريح، ليصرخ الصرخة المكتومة التي لا يجد أين يطلقها بغير الكتابة، يقول: «لا أدري لماذا ألجأ إلى الكتابة رغم أنني في وضع سيئ جدًا جدًا! ربما لأنني لا أعرف أين أطلق صرختي، ومن سيسمعني» ص400. ولا يعنيه بعد ذلك إذا جاء المكتوب في شكل يوميات أو مذكرات أو حتى سيرة ذاتية، ولا يهمه أن يقول النقاد شيئا في كتابته، ولا يضيره إذا سمّى الكتاب رواية أحيانا، كأن يقول لمريم: «أنت بطلة الرواية. وهكذا هم أبطال الروايات لا يعلمون عما كُتِب عنهم.. أنت لستِ من صنع خيالي، ولكن من حبر دمك الطاهر، الذي مازال ينزف قطراته الأخيرة، ومن أقلام الإبر التي شارفت على الجفاف» ص 504. ويصر تواضعا على أن قلمه متواضع، وأنه يكتب لأن لديه ما يجب أن يقوله وحسب، ويودع الكثير منه في مشاريع قادمة تستحق الانتظار، ويوافينا ببعضه في نهاية كل أسبوع في عمود جريدة عمان تحت عنوان «دفتر مذيع».
وإذا كنت أستمتع بمقالات المرجبي كل خميس في جريدة عمان، فهل من المشروع أن أقول إني استمتعت بكتاب «كلنا مريم» من دون أن أخدش الألم الذي كُتِب به؟ هل يجوز أن أقول: «هذا كتاب جميل» من دون أن أسيئ إلى الدموع التي ذُرِفَتْ خلال رحلة كتابته؟ يقول سليمان المعمري في الغلاف الخلفي للكتاب: «يحلو لي أن أسميه «كتاب العمر» ليس فقط لموضوعه الإنساني المؤثر، ولا لأنه يحوِّل القارئ من مجرد متفرج على الألم إلى مشارك منغمس فيه، ولكن أيضا لأنه كُتِب بحرارة وصدق». ومرد تلك الحرارة وذلك الصدق أنها كتابةٌ ابنةُ لحظتها، أُنجِزت قبل أن تبرد العاطفة، وقبل أن يتدخل الزمن بضمّاداته النسبية، وقبل أن تغيم تفاصيل الحدث. إنها ليست كتابة من الذاكرة، بل كتابة من أجل الذاكرة؛ نعم. تلك الذاكرة الممتدة التي تتجاوز كاتبها لتصبح ذاكرتنا نحن، وتصبح مريمُ مريمَنا جميعًا.
لقد آمن المرجبي منذ الوهلة الأولى بالرسالة التي يؤديها للآخرين بكتابة «يوميات المرض والذبول» كما يصفها سليمان المعمري، حتى أصبحت الكتابة التزاما مضى به إلى النهاية. أراد أن يكتب لمريم، وأن تقرأ مريم ما يكتب، وأن يوقّع معها الإصدار الجديد في معرض الكتاب، ويضع على غلافه اللوحة التي رسمتها بقلمها وألوانها. كان حلمًا بسيطًا جدًا يحلم به الكتّاب؛ أن يشارك أحباؤهم في حفلات توقيع كتبهم الجديدة، ولكنَّ للقدر مع مريم وأبيها وعائلتها شأنًا آخر. كتب في مقال له بعنوان «مشهد قبل المعرض» ونشر في جريدة عمان بتاريخ 22 فبراير 2024م: «منذ وقت طويل وأنا أنتظر هذا اليوم، وهذا المشهد، لأرى كتاب «كلنا مريم» وقد أخذ مكانه على منصات المعرض، منتظرا قراءه، الذين قد يتهامسون قبل أن يقتنوه، ويتساءلون: ما قصة مريم التي استحقت أن يوثق عنها أبوها خمسمائة صفحة؟! وقفتُ في زاوية تخيلت اكتمالها، وبأنها ستكون الأجمل والأرحب والأبهى، مسترجعا أحلامي مع مريم عندما كنا نخطط كيف سنقف أنا وهي وأسرتي، لنعلن تدشين كتابها، ونقدم إيجازًا عن قصة كفاحها وصبرها، وعن دروس تعلمناها، وقد بدت وجوهنا أكثر جمالًا، وعيوننا تلمع بريقا ونورا، وألسنتنا تتمتم بالشكر لله بأن تم العلاج، وعلى رأسها تاج العافية، ونوقّع معا لكل من يقتني الكتاب، وأتمادى في حلمي كيف ستتلقى مريم تهاني الشفاء والدعوات لها بحياة سعيدة تنسيها وجع الآلام ووخز الإبر وتجرع الأدوية وأجنحة التنويم والعناية. كم سنكون سعداء. ولكن سرعان ما صحوت من أحلام اليقظة إلى واقع أن القصة لم تكتب لها النهاية السعيدة، وواقع الفَقد ومرارة الرحيل. وأصحو على مفاجأة أخرى غير سارة، بأن الكتاب لن يصل اليوم ولا غدًا ولا بعده، وإنما بعد المعرض بأجل غير مسمى، بسبب الظروف الملاحية في البحر الأحمر وباب المندب. فالمنطقة ملتهبة، والسفينة التي حملت الكتاب من بيروت لا تجرؤ على عبور المضيق، فتعود أدراجها إلى البحر الأبيض، وربما تضطر إلى الالتفاف على القارة الإفريقية حتى رأس الرجاء الصالح.
سلمني إبراهيم النسخة الوحيدة التي أحضرها معه صدفة أ. أحمد كنفاني في حقيبته من رحم المطبعة.. احتضنت الكتاب، وقبّلته في جبينه، حيث رسمت مريم باقة حمراء... سامحيني يا صغيرتي إن لم يجد كتابنا مكانه في المعرض، ولكن فلنحتفل أنا وأنت بأن الكتاب قد اكتمل وطبع، وتقبلي مني هذه النسخة الأولى اليتيمة، لأضعها بين لعبتك ونظارتك، لأواصل حديثي اليومي معك».
في الحياة نوع من الكتب إما أن تحبها أو لا تحبها، ثم لا تملك ما تقوله في الحالين، وأحسب أن هذا الكتاب مما أحببته ولا أملك ما أقوله عنه. إنه من الكتب التي لا تحتمل التفلسف النقدي؛ لأنه ببساطة كُتِبَ لأسباب أخرى لا علاقة لها بالمعايير النقدية، ولا يطمح أن يكون جنسًا كتابيًّا محددًا غير نية كاتبه في كتابة يومياته مع ابنته المريضة، وقد حقق ما أراد وزيادة، بلغة رائقة رغم ألمها، واصفة رغم انصرافها إلى همّها. يصف بنجلور وتايلند بعين لاقطة تجيد رسم المشاهد كما لو كانت تقدم لقطات مرئية تعيد إلى الأذهان برامج شرق إفريقيا التي قدمها المرجبي مستعيدًا اللغة نفسها وزاوية الرؤية، ولكن بعاطفة خاصة تفرّق بين عين الإعلامي، وعين الأب المكلوم.
وأحسب أن الكتاب سيكون غير هذا الكتاب لو أنه كُتِبَ على سبيل الاستعادة من الذاكرة، وقد لا يجد كاتبه المبرر لكتابته بعدما آلت الأحداث إلى ما آلت إليه، ولكننا نحمد الظروف التي جعلته يشرع فيه مدفوعًا بأحلام شتى، وبإحساس عالٍ بالالتزام الأخلاقي تجاه من يعانون مما عانت منه مريم؛ لنجده في النهاية كتابًا يُودع مريم في خانة الخلود. قد يتكرر الألم ويتعدد المتألمون، ولكن الكتابة وحدها ما يجعله حدثا غير عادي. بالكتابة عرفنا مريم وقصة صبرها وتكاتف عائلتها، وستكبر دائرة الذين يعرفونها كلما انضم قارئ جديد إلى مجموعة «كلنا مريم» التي بدأت بمجموعة واتساب، لتصبح كتابا يرتحل مع القراء متجاوزا الزمن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ا الکتاب أن یقول قبل أن من أجل
إقرأ أيضاً:
خالد الغندور: حمزة علاء يعطي الأهلي الضوء الأخضر لتجديد عقده ولكن
قال الإعلامي خالد الغندور، إن حمزة علاء حارس مرمى النادي الأهلي ومنتخب مصر، رحب بتجديد تعاقده مع النادي الأهلي.
وتابع الغندور خلال برنامجه ستاد المحور:"حمزة علاء قعد مع المسؤولين في الأهلي وبلغهم بشكل واضح موافقته على تجديد عقده مع النادي".
وأضاف:" حمزة علاء طلب السماح له بالخروج على سبيل الإعارة في يناير سواء في أوروبا أو محليًا في حالة وصول عروض رسمية له للمشاركة في المباريات".
واختتم:" حمزة علاء قدم أداء كبير في أولمبياد باريس وقبلها قدم بطولة عظيمة في كأس الأمم الإفريقية للشباب".