«تحدث عن حروب الموتى، قال: إنهم يخرجون بالليل، يتصايحون، ويتقاتلون بالفؤوس والحجارة»
علي المقري، اليهودي الحالي، الساقي لندن ٢٠٠٢م، ص١٤٨
تمهيد:
مَن يكون المرء بحياته القصيرة ليحكم على هوية ما ويضعها في إطار تصنيفي؟ كأن الهوية شيء جامد وليست شيئا حيّا بحياة صنّاعها؛ حسب المرء أن استطاع أن يقرأ ويتأمل، ولا ترمي هذه القراءة إلى أكثر من محاولة فهم التصوّر الذي يحمله اليهودي المعاصر لهويته وثقافته، وفهم سمة التطرف البادية للعيان في الدوافع السياسية لدولة إسرائيل اليوم، وما تجره من ويلات على نفسها وغيرها، ففي المحصلة كل هوية هي في مدار تحولات كأصحابها، سواء هويتي ذاتها، أو هنا، هوية اليهودي، وهي ليست هوية جامدة ككل هوية، وفوق ذلك هي هوية متنوعة كما سيأتي، لكن تصوراتها وتمثلاتها قديمة، وضعتها في إطار، ويمكن النظر إليها من أكثر من زاوية.
إلى يومنا هذا لا تزال بعض شواهد اليهود باقية في المدن والحواضر الشرقية، كمقبرتهم في صحار العمانية مثلًا، وحضورهم الفعلي كبقية يهود اليمن الذين لم يضطروا إلا مؤخرًا للخروج من اليمن، ضد المنطق الطبيعي، وخدمة لفكرة دولة إسرائيل، الدولة التي بقي اليهود قبلها متعايشين في الشرق إلى زمن قريب، ثم حين قامت دولتهم عملت بطبيعتها على نزع وجودهم الشرقي في كل مكان آخر، لتذيبهم في مصهرها اللاهب.
في الثقافة الإسلامية يستعيد المرء نكبات بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير، القبائل اليهودية في عصر نشوء الدولة الإسلامية، لكنهم ليسوا وحيدين في ذلك فقد طالت التصفيات السياسية اللاحقة حتى البيوت المؤسسة نفسها، ولا يمكننا إغفال واقعة أن تاريخهم يشكّل جزءًا معتبرًا ولافتًا من القرآن نفسه، فالقرآن يعتمد أغلب الرواية التوراتية الأقدم للتاريخ الديني، ويحفل بذكر بني إسرائيل وقصصهم التأسيسية، وحتى الأفضلية التي يدّعيها اليهود مثبتة في القرآن (يَٰبَنِيٓ إِسرَٰٓائيلَ ٱذكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰالَمِينَ) ١٢٢: البقرة، (وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِيٓ إِسْرَٰٓائِيلَ ٱلْكِتَٰابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَٰاهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰاتِ وَفَضَّلْنَٰاهُم عَلَى ٱلْعَٰالَمِينَ) ١٦: الجاثية. وكما جاء في آية أخرى فإن الدين هو ما اصطفاه الله لآل إبراهيم ويعقوب، ١٢٣: البقرة، وتفضيل آل إبراهيم وآل عمران مثبت، مع تمييز كون إبراهيم وأبنائه أسبق على اليهودية والنصرانية، فكأن النص القرآني يشارك ويناقش وينفي الاحتكار اليهودي والمسيحي لتلك الجذور ويعمل على تحررها وشيوعيتها، كما أن القرآن من جهة أخرى يسم اليهود باللعنة في بعض مواضعه، وقد يبدو هذا التعارض محيّرًا، وعدد معتبر من الباحثين كالفلسطيني الراحل زكريا محمد يقول بوجود بني إسرائيل تاريخيين مختلفين عن اليهود المعاصرين، وهو ما يؤكده كذلك الباحث المصري المتخصص في اليهودية عبدالوهاب المسيري، الذي يخلص بعد التتبع التاريخي إلى أن اليهود شكلوا جماعات وظيفية حيثما حلوا وبالتالي:
«الواقع أن هناك هويات يهودية مختلفة متعددة بعدد المجتمعات التي تكزن فيها هذه الهويات».
عبدالوهاب المسيري، من هو اليهودي، دار الشروق القاهرة ط٣، ٢٠٠٢م، ص٣٨
إن تأمل التاريخ يفضي إلى أن كل التبدلات والتغيرات مستمرة، لكن بمعزل عن الحوادث التاريخية فإن الفرد يحتفظ بتصوّر محدد ورؤية خاصة يبني عليها قراءته ومفهومه، وهو مدفوع في كل ذلك بلحظته، كما هذه المحاولة هنا مدفوعة براهنيتها، وكما يبدو في المحصلة، وكما يثبت المسيري ونظريته عن الجماعات الوظيفية التي شكّلها اليهود عبر التاريخ في كتابه المذكور، فإن اليهودي كهوية ثابتة انقرضت منذ زمن بعيد، وبقيت صورتها مرهونة ومتجمدة هناك بوصفها تشمل ما بعدها، وهو غير صحيح، وتلك الصورة المتجمدة هي التي تحاول الصهيونية اليوم اعتبارها الجذور والأصول، في إسرائيل وخارجها، والبناء عليها كهوية قانونية، وهي هوية في جانب كبير منها ديني وتاريخي، لذلك فإن كل قراءة هي رهن بذلك التصور.
إن كل هوية هي بناء متشابك يتورط حتمًا في عجزه عن فك الارتباط الديني التأسيسي، والتاريخي الثقافي بالتالي، لا عنا كمسلمين، ولا عنهم كيهود، ولا عن المسيحيين، عن هذه الأرحام الشرقية القديمة التي غيّرت وجه الشرق والغرب؛ وجعلت النزاع قائمًا على القدس نفسها، كما هو على المقدّس.
وسط كل هذا التاريخ الثقيل، وفي العصر الأثقل، يحاول الإنسان المعاصر التخفف من كل ذلك، ولا يحاول إسقاط حكم ناجز بقدر ما يحاول قراءة الآخر، وهو في ذلك مدفوع بمحاولته المتعثرة لقراءة وفهم ذاته ومكوّناته.
اليهودي في الإطار الغربي:
في كتاب (فرويد وغير الأوروبيين) يلمح إدوارد سعيد، بوصف إدوارد سعيد هنا ملتقى طرق شرقية في الغرب، إلى قراءة اليهودي اللايهودي لإسحاق دويتشر، وعند دويتشر لا نجده يفرّق كثيرًا بين الصهيونية واليهودية، كما يروق لكتّاب اليوم أن يفعلوا، تحاشيًا لربما لتهمة العداء للسامية، والتهمة في حد ذاتها خرقاء، فما السامية أمام الإنسانية، والآن في عالم يبرر ارتكاب المجازر بحق الإنسانية بحمله لواء معاداة السامية:
«الجزء الأساسي من المأساة اليهودية تكون نتيجة لتطورات تاريخية طويلة بحيث أصبحت الجماهير الأوروبية معتادة على تحديد هوية اليهودي بالتجارة والسمسرة وإقراض النقود والإثراء. وعليه فقد أصبح اليهودي بنظر العقل الشعبي، رمزًا ومرادفًا لهذه الأعمال. فإذا ما بحثنا في قاموس أكسفورد الإنجليزي وتابعنا كيف يعطي المعنى الشائع لعبارة «يهودي» نجده يقول في البدء إنه الشخص الذي ينتمي «للجنس العبري» ثم يقول عن الاستعمال العامي بأنه «شخص ميال لابتزاز الأموال، أو قادر على عقد صفقات يغبن فيها الطرف الآخر. ويقول المثل العامي «ثري كاليهودي». وتستعمل الكلمة بالعامية كفعل متعد فقاموس أكسفورد يفسّر كلمة يُهوّد To Jew بأنها تعني «يخدع أو يمكر بـ» إن هذا يمثل التصور العامي المألوف لليهودي، وهو في الوقت نفسه إجحاف شائع يلحق به وهذا الشعور مثبت في لغات عديدة وأعمال فنية عديدة لا تقتصر على الإنجليزية أو تاجر البندقية فقط».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
اللغة العربية هوية
فى 18 ديسمبر 1973 قررت الأمم المتحدة إدراج اللغة العربية لغة رسمية فى أروقتها وقراراتها ومؤتمراتها، وبعدها بعام أعلنت منظمة اليونسكو يوم 18 ديسمبر من كل عام يومًا عالميًا للاحتفال والاحتفاء باللغة العربية التى يتحدث بها قرابة 400 مليون فى البلدان العربية والأفريقية ولأنها لغة القرآن الكريم كما أنها تلك اللغة التى أسهمت فى نقل الحضارات القديمة من يونانية ورومانية وفارسية إلى الغرب من خلال ترجمات أهل العلم والفكر فى الدولة الإسلامية، خاصة دولة الأندلس حين كانت هناك حضارة عربية غربية على أرض شبه جزيرة إيبيريا على مدى 800 عام حتى سقطت آخر معاقل تلك الدولة فى عام 1492 وهو ذات العام الذى اكتشف فيه كريستوفر كولومبس البرتغالى قارة أمريكا أغسطس 1492 وهى إشارة وإذان بسقوط حضارة وبداية أخرى.
اللغة العربية الآن على المحك ليس فقط للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى يمر بها الوطن العربى والمنطقة التى يصرون الآن على تسميتها الشرق الأوسط الكبير لإدراج الكيان الصهيونى ودولته الغاشمة ضمن المنطقة العربية وحتى يمكنوا أيضًا من طمس أولى وأهم مفردات وأركان الثقافة ألا وهى "العربية" مفردًا وصفة ومعنى وفكرًا؛ ولكن لأن اللغة العربية تواجه أكبر التحديات ألا وهو التكنولوجيا الحديثة وما يسمى «الذكاء الاصطناعى» وتداعياته من المحتوى الرقمى الذى ما زلنا فى واد بعيد عن الدخول إلى عوالمه الغريبة والمخيفة... الأطفال والشباب يتعاملون اليوم مع التطبيقات الحديثة والألعاب والترفيه والعلم عن طريق التليفونات المتاحة للجميع وهى مؤثرة على الأجيال الجديدة بصورة مرعبة سواء فى مجال الإعلام أو الفن أو الثقافة والتواصل والتكوين الفكرى والسلوكى ولكن الأخطر والأهم الآن هو العلم والتعليم...
يستخدم الصغار والشباب تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى الوصول السهل السريع للمعلومات وليس البحث الدقيق من أجل المعرفة والعلم وأيضًا القيام بالواجبات والتكليفات والابحاث والرسائل العلمية الأكاديمية دون معرفة وتعلم...
فى المدارس لا توجد وحدات لقياس الاقتباس والنسخ من تطبيقات الذكاء. الاصطناعى وكم المعلومات المغلوطة التى يبثها، بينما الجامعات كذلك لا تهتم بالدرجة العلمية المطلوبة لهذا الأمر الخطير، وإن كانت الرسائل العلمية فى بعض الجامعات العريقة والراسخة تخضع لهذه الاختبارات لقياس مدى ونسبة الاقتباس من تلك التطبيقات فيما يخص الرسائل الأكاديمية إلا أن المشكلة الكبرى الآن فى المدارس وفى طلاب مراحل الليسانس والبكالوريوس وفى المعاهد والمراكز التى تمنح درجات وشهادات قد لا تكون مدققة بشكل كاف علميًا.
اللغة العربية بعيدة عن التكنولوجيا وعن تلك التطبيقات وعن المحتوى لأنها غير معترف بها ضمنيًا فى المدارس والجامعات وحسنًا فعل وزير التعليم السابق د. طارق شوقى فى محاولة تطوير كتب ومناهج اللغة العربية على النظام الغربى مع التعريب فى طريقة التعلم والتدريبات والأسئلة... أيضًا وزير التعليم الحالى أصدر أهم قرار فى إدراج اللغة العربية مادة أساسية ليس فقط للنجاح والرسوب ولكن ضمن الدرجات والمجموع فى جميع المدارس الأجنبية والدولية وهى خطوة تأخرت أكثر من ربع قرن وهى مهمة وضرورية ومحمودة على أية حال...
اللغة العربية يجب أن تكون مادة أساسية فى جميع الكليات والمقررات حتى كليات الطب والعلوم والهندسة والحاسبات... أما كليات الإعلام فإن اللغة العربية مفروض أن تطرح فى عدة مقررات بداية من الكتابة إلى النطق والأداء مرورًا بالترجمة ودراسة الأسلوب حتى دراسة تاريخ الثقافة والفكر العربى... أما الوزارات والهيئات فإن وحدة اللغة العربية واجبة فى التصحيح اللغوى وفى النشر وتصحيح اللغة ومفرداتها... أما فيما يتعلق بالإعلام والفضائيات والإعلانات فهى معضلة كبرى تم تناولها لعشرات المرات من قبل الكثيرين... نبدأ من التعليم والمدرسة والجامعة حتى نصل إلى الإذاعة والتليفزيون والصحافة ووسائل التواصل...
القضية أننا لم نبدأ بعد ولم نحتفل ولم نحتف علميًا ونريد مبادرة وخطة على مستوى الدولة ووزارة الثقافة والتعليم والإعلام ليس للحوار ولا إلقاء الأبحاث وإقامة الندوات، ولكن لجمع المعلومات والأبحاث والرؤى ومعرفة الداء ووصف الدواء، وإطلاق التوصيات وتنفيذ القرارات ومتابعتها... اللغة العربية هويتنا والهوية هى الوجود قبل الاختفاء والضياع.