يتملّكنا أحياناً ميلٌ خَلوق إلى استيلاد واقع أمثل يتّحد فيه الخير والخير في مواجهة شرٍّ يتّحد بدوره مع الشرّ، وفي كلٍّ من الجهتين يصطفّ الأصغر الأدنى مرتبة وراء الأكبر الأعلى مرتبة. لكنّ «واقعاً» كهذا لا يصير واقعاً لأنّه أمنية يجذبنا تناسقها الجميل قبل أن تطرحنا محبطين على القارعة. فماذا مثلاً لو طبّقنا المبدأ الجليل هذا وطالبنا الأوكرانيّين برفض معونات الدول الغربيّة تبعاً لموقفها السيّء في الحرب على غزّة، أو لو طالبنا الشعوب التي تئنّ تحت وطأة كوارثها بأن يتّجه تركيزها إلى قضيّة أخرى مُحقّة؟
والمشرق العربيّ طويلاً ما عمل بموجب هذا الاقتراح، وهو أصلاً إملاء الأنظمة الأمنيّة على شعوبها، أتت به من لفظيّتها القوميّة كيما تستخدمه لصالح تمكُّنها وديمومتها.
لكنْ إذا صحّ أنّ القضايا المحقّة تلتقي «في النهاية» في مكان ما، ظلّت وظيفةُ السياسة تدبُّرَ هذه الطريق التي قد توصل، ذات يوم، إلى «النهاية» الغامضة تلك. وهذا علماً بأنّ الطريق ملأى بالتعرّجات، وقد تحفّ بها تناقضات بين أبناء القضايا المُحقّة أنفسهم. فالعالم، بدوله ومصالحه وأشكال وعيه وأسباب نزاعاته، كان دائماً أقوى من الأفكار السامية التي تضع الأخيار مقابل الأشرار، والمؤمنون الذين اعتنقوا الأديان ذاتها تحوّلوا مذاهب وفِرَقاً وطوائف، وهذا قبل زمن على انشقاق شيوعيّين ظنّوا أنّهم يقاتلون الشرّ إيّاه إلى روس وصينيّين، وفييتناميّين وكمبوديّين…
لقد أشار كاتب هذه الأسطر، في عمود سابق، إلى حروب ثلاث يعيشها المشرق في وقت واحد: حرب تشنّها إسرائيل على غزّة، وحرب تشنّها إيران ومَلاحقها الميليشيويّة على المشرق، وثالثة تخاض بين إسرائيل وإيران.
والحرب الأولى، ذات البُعد الإباديّ، تستهدف الوجود الوطنيّ الفلسطينيّ بعدما فتحت عمليّة 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 الباب للاستهداف هذا. وهي، في المدى الذي بلغته توحّشاً وثأريّةً، تحضّ على موقف ضميريّ وأخلاقيّ يتضامن مع الضحايا المدنيّين ويساعد على وقف قتلهم تضامنَه مع الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة.
أمّا الحرب الثانية فتستهدف منطقة تمتدّ من العراق إلى لبنان، بتحويل مجتمعاتها مدى حيويّاً لإيران، وجيوشها ميليشياتٍ ومرتزقة، وحرمان أوطانها كلّ أمل بغد محترم. وهذه أيضاً ذات بُعد إباديّ رأيناه عارياً في سوريّا، ونراه بأشكال أشدّ مواربةً و»لطفاً» في البلدان الأخرى التي تُستنزف منهجيّاً.
وأمّا الحرب الثالثة فمن جنس الصراعات على النفوذ بين بلدين توسّعيّين.
والحروب هذه تتقاطع عند أكثر من محطّة إلاّ أنّها ليست حرباً واحدة ولا حروباً متماثلة.
وأغلب الظنّ أنّ النظرة التي ترى إليها على نحو مستقلّ ومركّب في آنٍ هي الأكثر فائدة، فضلاً عن كونها الأدقّ. ذاك أنّ فرضيّة القضيّة الواحدة، التي تذوب من أجلها القضايا الأخرى وتضمحلّ، تزوّر الواقع بأكثر من معنى، وتزويرٌ كهذا يتبدّى في أوضح أشكاله في تمويه المسائل النزاعيّة التي تنبع نزاعيّتها من تفرّعها عن تعدّد الحروب والقضايا.
فمفهوم القضيّة الواحدة يُفهمنا شيئاً ويسلبنا الوعيَ بأشياء كثيرة تطال التواريخ المحلّيّة ومسار الصراعات ونشأة العداوات واصطفاف المصطفّين، وتُنسينا كيف يكون التدخّل الأجنبيّ مرفوضاً هنا ومطلوباً هناك. وحتّى حين يقال، تنازلاً للواقع، أنّ ثمّة قضيّة مركزيّة لكنّها لا تلغي القضايا الأخرى، يبقى أنّ التجارب تشهد لغير ذلك. ففي ظلّ منح إحدى الحروب سلطة الفتوى على الحروب الأخرى، يغدو مطلوباً غضّ النظر، إن لم يكن الصفح، عاجلاً أو آجلاً، عمّن يقاتل «بجدارة» في الحرب المركزيّة المفترضة. وكثيرون أصدروا مؤخّراً أحكام براءة بحقّ قاتليهم في الحروب الأخرى. وفي خلط كلّ شيء بكلّ شيء، وهو امتداد للتقليد الذي سحق بلداناً وشعوباً وسيادات وطنيّة، تُزجّ أوطان في الحروب غصباً عنها، ويتحوّل زجّها تهديداً للقليل المتبقّي من وحدتها الوطنيّة، فيما يتولّى الكذب الصريح اختراع نتائج حربيّة علينا التظاهر بهضمها، وتناسي حكّام ممانعين ساهموا في جرّنا إلى الفتَن، ثمّ صمتوا حينما اشتعلت الفتنة حرباً. فهذه جميعاً غدت مواضيع تافهة بقياس الحرب المركزيّة!
لهذا قد يكون الأسلم اقتران التضامن الواجب مع غزّة باعتراف متبادل بتعدّد القضايا وبخصوصيّاتها. فمن دون الانطلاق من بلد معيّن وتجربة معيّنة ومزاج معيّن لا تكون المواقف أكثر من أهواء أعمارُها قصيرة. أمّا التنبّه إلى الخطر الكامن في تجاهل الخصوصيّات تلك فليس من مهمّات العقل العداليّ تعريفاً، كما يُستبعد أن يلتفت إليه طالب في جامعة أميركيّة، بيد أنّ أبناء المنطقة الذين تعلّموا من تجاربهم يبقون الأكثر تأهيلاً لأن يدركوه ويستدركوه.
*نشر أولاً في صحيفة الشرق الأوسط
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقفيا هلا و سهلا ب رئيسنا الشرعي ان شاء الله تعود هذه الزيارة ب...
نرحو ايصال هذا الخبر...... أمين عام اللجنة الوطنية للطاقة ال...
عندما كانت الدول العربية تصارع الإستعمار كان هذا الأخير يمرر...
المنتخب اليمني ............. لماذا لم يكن زي منتخب اليمن الف...
سلام الله على حكم الامام رحم الله الامام يحيى ابن حميد الدين...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: أکثر من
إقرأ أيضاً:
حماس توضح مطالبها الثلاث في المفاوضات.. أبرزها وقف دائم للحرب
علقت حركة حماس على المفاوضات التي جرت مع الوسطاء المصريين والقطريين ومبعوث الرئيس ترامب بشأن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، والمساعي للدخول في المرحلة الثانية منه.
وقالت "حماس" الاثنين، على لسان عبد اللطيف القانوع، المتحدث باسمها، إن المفاوضات التي جرت في الدوحة مع الوسطاء المصريين والقطريين ومبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ارتكزت على إنهاء حرب الإبادة الجماعية والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وعملية إعادة الإعمار.
وأضاف: "تعاملنا بمرونة مع جهود الوسطاء ومبعوث ترامب وننتظر نتائج المفاوضات المرتقبة وإلزام الاحتلال بالاتفاق والذهاب للمرحلة الثانية".
وتابع: "المفاوضات التي جرت مع الوسطاء المصريين والقطريين ومبعوث ترامب ترتكز على إنهاء الحرب والانسحاب والإعمار".
وأوضح أن الحركة التزمت بشكل كامل في "المرحلة الأولى من الاتفاق"، لافتة إلى أن أولوياتها في الوقت الحالي ترتكز على إيواء فلسطينيي غزة وإغاثتهم وضمان وقف دائم لإطلاق النار.
وأكد أن الإجراءات الإسرائيلية من تشديد للحصار على غزة وإغلاق المعابر ومنع الإغاثة عن الفلسطينيين ترمي إلى "دفعهم للهجرة"، مضيفا "هذا أضغاث أحلام".
كما قال إن الحديث الإسرائيلي عن خطط عسكرية لاستئناف القتال بغزة وقرار قطع الكهرباء المقطوعة أصلا منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، هي "خيارات فشلت وتشكل تهديدا على أسراه الذين لن يحررهم إلا بالتفاوض".
تفاصيل اللقاءات
ونشرت قناة "الجزيرة" الفضائية تفاصيل جديدة بشأن اللقاءات المباشرة التي جرت في العاصمة القطرية الدوحة، بين حركة حماس ومسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وأشار الصحفي في قناة "الجزيرة"، تامر المسحال، إلى أن أربعة لقاءات مباشرة عقدت في الدوحة الأسبوع الماضي، منوها بأن الأمريكيين طلبوا صفقة منفصلة (جزئية) بالإفراج عن جندي حي يحمل الجنسية الأمريكية وأربعة جثامين.
وأضاف المسحال أن "حماس وافقت على صفقة جزئية، وطلبت الإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين، ووافق الوفد الأمريكي على الإفراج عن 250 أسيرا، بينهم 100 من المؤبدات، والباقي من الأحكام العالية".
ولفت إلى أن "إسرائيل طلبت حق الاعتراض على 50 اسما من المؤبدات، وحماس وافقت على حق الاعتراض على 10 بحد أقصى"، مؤكدا أن الولايات المتحدة تراجعت في اللقاء الرابع، وقالت إن "الرئيس ترامب يريد الإفراجات دون مقابل، وانفض اللقاء دون إتمام الصفقة".
وتواصلت "عربي21" مع عدد من المصادر في حركة حماس للتأكد من هذه التفاصيل، والحصول على معلومات إضافية بشأن اللقاءات، إلا أنها لم تتلقَ إجابة.
وكان المبعوث الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، قد قال في وقت سابق إن الرئيس دونالد ترامب يريد من حماس إطلاق سراح الأسير الحامل للجنسية الأمريكية، إيدان ألكسندر، لأنه مهم لنا، وهو يظهر أن حماس جادة بشأن المفاوضات.