في مقدمات الغزو المعنوي والحضاري للأمة.. قاموس المقاومة (41)
تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT
ضمن قاموس المقاومة لا بد وأن نشير إلى منظومة من المفاهيم تستهدف الأمة في نفسيتها وعقلها، ولعل ذلك المعنى الذي يتعلق بغزو النفوس واحتلال العقول هو من المعاني التي يجب أن نتوقف عندها برويّة وتحديد ضمن هذا القاموس الذي تشكل ذروته فكرة أساسية تتعلق بمعاني المقاومة الحضارية.
وفي هذا السياق، كنت وأنا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أستمع من أستاذنا الدكتور حامد ربيع الذي ما فتئ يهتم بالعدو وأدواته في محاولته إيقاع الهزيمة بالإرادة العربية والإسلامية، وقد جاء كتابه "الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي" نموذجا في هذا المقام؛ وهو يحيلنا إلى تلك المقولة الخفية والمخيفة التي تتعلق بالغزو المعنوي والحضاري:
"إن ظاهرة الغزو الأجنبي للثقافة العربية هي في الواقع تستقل استقلالا تاريخيّا وكاملا حقيقة عن ظاهرة الغزو الاستعماري كما عرفته المنطقة العربية؛ ابتداء من القرن التاسع عشر.
وجب علينا أن نشير إلى أن الصفات التي ألحقت بمفهوم "الغزو" لم تكن صفات اعتباطية، ولكنها كانت تشير إلى الخطر الأكبر في هذا السياق الذي يتعلق بالسيطرة والتحكم في المجالات الفكرية والثقافية. لعل هذا يشير إلى كلمات عدة؛ "الغزو الفكري" و"الغزو الثقافي" و"الغزو المعنوي" والغزو الحضاري"، وما اعتمده البعض من الحديث عن "الإمبريالية الثقافية الكولونيالية"
ومن المهم أن نشير في هذا المقام إلى أن المعنى الذي شاع لكلمة "الغزو" هو ما يتعلق بـ"الغزو العسكري" و"الحركة الكولونيالية" التي ما فتئت تبحث عن وسائل غير المواجهة العسكرية من مثل وسائل ناعمة ثقافية تتعلق بهذا الغزو الممنهج للأمة، إلا أنه مع شيوع هذا الفهم العسكري لكلمة "الغزو" فإنها في حقيقة أمرها ذات معنى طبي وجب أن نشير إليه -مثلما هو ديدننا في ذلك الشكل حينما حاولنا تعريف المقاومة وضرورتها في كيان الأمة، حينما عقدنا مشابهات عدة يمكن العودة إليها في المقالات الأولى من تلك السلسلة- هذا المعنى الطبي ليس بعيدا عما نحن فيه في إطار الغزو باعتباره مرضا سرطانيا يعتري كيان الأمة في سياقات عدة.
وفي هذا المقام وجب علينا أن نشير إلى أن الصفات التي ألحقت بمفهوم "الغزو" لم تكن صفات اعتباطية، ولكنها كانت تشير إلى الخطر الأكبر في هذا السياق الذي يتعلق بالسيطرة والتحكم في المجالات الفكرية والثقافية. لعل هذا يشير إلى كلمات عدة؛ "الغزو الفكري" و"الغزو الثقافي" و"الغزو المعنوي" والغزو الحضاري"، وما اعتمده البعض من الحديث عن "الإمبريالية الثقافية الكولونيالية". وأي كان التعبير أو الأوصاف فإنها تعتمد معنى واحدا تتغيا فيه كل تلك المجالات التي تشكل العقول، وتحاول في هذا السياق أن تؤكد على انهيار المناعة الذاتية والثقافية والحضارية.
ولعلنا نتوقف قليلا حول مفهوم الغزو في المصطلحات الطبية وارتحال هذا المفهوم من علوم الطب؛ فالغزو (Invasion) هو الهجمة الأولى، أو بداية المرض، أو دخول وثبات الطفيليات في الجسم، سواء أنتج آثارا مرضية أم لا، وهذا بالمعنى العام. أما بالمعنى الخاص، الغزو هو حركة الخلايا السرطانية من موقعها الأصلي إلى الأنسجة غير السرطانية المحيطة بها؛ وكذا يُشار الى مصطلح آخر للغزو هو تسلل.
ويعتبر علماء الأمراض أن الغزو سمة حاسمة عند تحديد ما إذا كان الورم موجودا أم لا، حميدا (غير سرطاني) أو خبيثا (سرطانيا)، وفي حين أن الأورام الحميدة يمكن أن تنمو بشكل أكبر، فإن خلاياها عادة لا تغزو الأنسجة الطبيعية المحيطة؛ وعلى النقيض من ذلك، تنفصل الخلايا السرطانية دائما تقريبا عن موقعها الأصلي وتغزو الأنسجة المحيطة.
هذه القدرة على الانتشار تجعل السرطان خطيرا بشكل خاص وتسلط الضوء على أهمية الكشف المبكر والعلاج. إن اكتشاف السرطانات الموضعية وعلاجها مبكرا يمكن أن يمنعها من التطور إلى سرطانات غازية أكثر خطورة؛ بينما يمكننا تصور أن الجهاز المناعي هو عبارة عن جيش يدافع عن موطنه من الغزاة.
بهذا المعنى الواسع، لا يعني الخطر الذي يمثله غزو حضارة أو ثقافة متنوعة لحضارة ضعيفة أو دنيا، وإنما يعني تهديد ثقافة لثقافة أخرى بالاضمحلال أو الزوال لمجرد أن الأولى يحملها شعب متفوق عسكريا أو تكنولوجيا دون أن تكون ثقافته بالضرورة أكثر استحقاقا للبقاء أو أشد جدارة
يتكون جهاز المناعة من مجموعة خلايا وأنسجة وأعضاء تشبه الجيش، ويقوم كل منها بوظائف محددة لمهاجمة أي عدو يحاول اقتحام الجسم، فكيف يعمل هذا الجهاز بأنسجته المختلفة؟ حينما نتحدث عن جهاز المناعة، فإننا نقوم بوصف شبكة معقدة من الخلايا والأنسجة والأعضاء التي تمنع مهاجمة الجراثيم مثل البكتيريا والفيروسات والطفيليات للجسم؛ فإذا استطاعت هذه الجراثيم أن تقتحم الجسم، تقوم هذه الشبكة بالتعامل معها ومهاجمتها قبل أن تتكاثر وتفرز سمومها، وإن بدأت في التكاثر داخل جسم الإنسان، فإن جهاز المناعة يعمل بقوة حتى يخلص الجسم منها. وإذا كان ذلك مهما في الأحوال الصحية العادية للإنسان فهي في الحالة السرطانية أوجب؛ فهل لنا أن نتعلم درس الطب في سلامة كيان الأمة من كل غزو؟
يجب أن يُفهَم خطر الغزو الثقافي الصهيوني للمنطقة العربية بمعنى أوسع لا يقتصر خطره على الفكر العربي؛ أي الثقافة بالمعنى الضيق، بل يشمل أيضا الخطر الذي يواجهه نمط الحياة والسلوك والقيم والعقائد وطبيعة الولاء.. إلخ.والخطر الثقافي، بهذا المعنى الواسع، لا يعني الخطر الذي يمثله غزو حضارة أو ثقافة متنوعة لحضارة ضعيفة أو دنيا، وإنما يعني تهديد ثقافة لثقافة أخرى بالاضمحلال أو الزوال لمجرد أن الأولى يحملها شعب متفوق عسكريا أو تكنولوجيا دون أن تكون ثقافته بالضرورة أكثر استحقاقا للبقاء أو أشد جدارة.
والتاريخ يعرف هذين النوعين من الغزو الثقافي كما يشير إلى ذلك أستاذنا الدكتور عبد الوهاب المسيري في عمله الفكري والمعرفي في موسوعته عن "الصهيونية واليهود واليهودية". إن هذا الخطر يشترط لتَحقُّقه ابتداء، وقبل كل شيء، هزيمة نفسية من جانب العرب، وسيادة الاعتقاد لديهم بأن سبب التفوق العسكري الذي أحرزته "إسرائيل" عليهم هو تفوُّق قيمي وأخلاقي وحضاري وثقافي، ومن ثم يظهر بين العرب من المفكرين والكُتَّاب من يصدقه عدد متزايد من العرب؛ يدعون إلى احتذاء "إسرائيل" ليس فقط في تطبيق التكنولوجيا الحديثة، بل فيما يتعدى ذلك، كالإشارة إلى أسلوبهم في التنظيم والإدارة وإلى نظامهم السياسي وعلاقاتهم وقيمهم الاجتماعية ونمط سلوكهم. وقد بدأت مثل هذه الدعوة تعبِّر عن نفسها بأساليب مختلفة، على استحياء أولا في أعقاب هزيمة العرب عام 1967م، ثم زادت جرأة في أعقاب زيارة رئيس مصر السابق للقدس عام 1977م، وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1979م.
الارتحال المفاهيمي لمفهوم الغزو ومعانيه ومبانيه هو الذي يجب أن يكون موضع اهتمامنا حتى نشيد أركان تلك المقاومة الحضارية الشاملة بكل ما تعنيه من كلمة
ولعل هذا الاعتبار الذي يشير إلى صفة "المعنوي" المقترنة بالغزو والمرتبطة بالحضاري بشكل كامل وشامل، هو المعنى الذي يقصد بهذا الغزو باعتماده كافة الوسائل التي تتعلق بالقوة الناعمة وخوض معارك ضارية لا تقل أهمية عن تلك المعارك القتالية التي تدور على الأرض وفي الميدان. وتبدو عمليات الغزو تلك متسللة مخادعة حتى تتمكن وتقيم عناصر انتصارها ضمن تلك الهزيمة الثقافية والحضارية.
ومن هنا فعلينا أن نؤكد على أن كلمة الغزو هنا هي من المفاهيم الرحالة التي ترتحل من مجال إلى مجال، ومن حضارة إلى حضارة، ومن علم إلى علم، وهو أمر جدير بالتنويه، حينما نهتم بكل ذلك في قاموس المقاومة ضمن منظومة مفاهيم أخرى سنأتي عليها واحدا تلو الآخر في مقالاتنا التالية، ولعل هذا الارتحال المفاهيمي لمفهوم الغزو ومعانيه ومبانيه هو الذي يجب أن يكون موضع اهتمامنا حتى نشيد أركان تلك المقاومة الحضارية الشاملة بكل ما تعنيه من كلمة، ولعل ما أشرنا إليه في مقالات التطبيع يشكل جزءا مهما في هذا السياق من الغزو المعنوي، وكذلك زراعة ما يسمى بالبؤر المتصهينة في الكيان العربي والإسلامي. لا يمكننا بأي حال إلا أن نعتبر أن كل تلك الأمور شواهد ومؤشرات على غزو حضاري شامل لا يرتبط فقط بالحضارة الغربية أو صنيعة الكيان الصهيوني الذي أسسته تلك الحضارة، ولكنه يرتبط بصراع حضاري مصيري يجب أن نعد له العدة ونقيم كل ما يتعلق بمسالك مواجهته ومقاومته ومدافعته.
x.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المفاهيم الغزو المناعة مفاهيم الغزو المناعة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة صحافة سياسة مقالات تكنولوجيا سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الغزو الثقافی فی هذا السیاق یشیر إلى یجب أن ی
إقرأ أيضاً:
دراسة عالمية تدق ناقوس الخطر تجاه وباء قصر النظر بين الأطفال والمراهقين
دقت دراسة حديثة ناقوس الخطر، بعد أن باتت الشاشات جزءاً لا يتجزأ من يوميات الأطفال، حيث حذرت دراسة حديثة من تصاعد مخيف في حالات قِصر النظر بين الصغار والمراهقين حول العالم.
وباء قصر النظر بين الأطفال والمراهقينوأشارت الدراسة إلى أن العالم قد يكون على أعتاب وباء بصري صامت قد يهدد جيل بأكمله إذا لم تُتخذ الأمهات والمراقبين على الأطفال خطوات وقائية عاجلة.
ونُشرت الدراسة في المجلة البريطانية لطب العيون وأجراها فريق من الباحثين بجامعة سون يات سين الصينية.
وأظهرت الدراسة أن واحد من كل ثلاثة مراهقين حول العالم يعاني بالفعل من قصر النظر، وهذه النتائج أصبحت مخيفة، ومن المثير للقلق أن العدد مرشّح للارتفاع ليصل إلى أكثر من 740 مليون طفل ومراهق بحلول عام 2050 يعانون من ضعف البصر ومشاكل به.
5.4 مليون طفل تحت المجهر والأرقام ترتفعاعتمد الباحثون في الدراسة خلال تحليلهم على قاعدة بيانات ضخمة ضمت معلومات صحية وبصرية لأكثر من 5.4 مليون طفل ومراهق تتراوح أعمارهم بين 5 إلى 19 عامًا، تم جمعها من دراسات وتقارير حكومية في أكثر من 50 دولة.
وكشفت البيانات أن 1.9 مليون طفل من هؤلاء يعانون فعليًا من قصر النظر بدرجات متفاوتة، وهي أرقام لم يعد بالإمكان تجاهلها.
الجينات ليست السبب الوحيد
وأرجعت الدراسة السبب الحقيقي وراء ضعف النظر، إلى أنه لا ينعلق بالجينات أو العامل الوراثي فقط بل فى نمط الحياة للأطفال والمراهيين ويشمل:
الإفراط في استخدام الشاشات هواتف، تابلت، تلفاز، ألعاب إلكترونية.
البقاء الطويل في الأماكن المغلقة.
انخفاض معدل قضاء الوقت في الهواء الطلق، خاصة في ضوء الشمس الطبيعي.
يحدث قصر النظر عندما تعجز العين عن تركيز الضوء بشكل صحيح على شبكية العين، وهذا يؤدي إلى رؤية الأشياء بشكل غير واضح، مع إمكانية احتفاظ الشخص بقدرة جيدة على رؤية الأشياء القريبة.
اقتراب الطفل المفرط من الشاشات أو الكتب.
شكواه المتكررة من عدم وضوح الرؤية في الفصل.
صداع متكرر أو إجهاد بصري.
رمش مفرط أو فرك العينين بشكل مستمر.
نصح أحمد حسنين، استشارى العيون، فى تصريحات خاصة لـ صدى البلد، الأمهات بنصائح قد تحمي عيون أطفالهم من قصر النظر، وهي تشمل الأتي:
ساعة على الأقل يوميًا في الهواء الطلق، ويفضّل أن تكون في النهار وتحت أشعة الشمس.
تحديد وقت الشاشة بحد أقصى ساعتين يوميًا للأطفال فوق سن السادسة.
اتباع قاعدة 20-20-20، كل 20 دقيقة من استخدام الشاشة، ينظر الطفل إلى شيء بعيد 20 قدمًا لمدة 20 ثانية.
شجيعي طفلك على الأنشطة البدنية والهوايات غير الرقمية مثل الرسم أو اللعب الحركي.
أفحص النظر بانتظام لدى طبيب العيون، خاصة إذا كان أحد الوالدين يعاني من مشاكل بصرية.