ضمن قاموس المقاومة لا بد وأن نشير إلى منظومة من المفاهيم تستهدف الأمة في نفسيتها وعقلها، ولعل ذلك المعنى الذي يتعلق بغزو النفوس واحتلال العقول هو من المعاني التي يجب أن نتوقف عندها برويّة وتحديد ضمن هذا القاموس الذي تشكل ذروته فكرة أساسية تتعلق بمعاني المقاومة الحضارية.

وفي هذا السياق، كنت وأنا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أستمع من أستاذنا الدكتور حامد ربيع الذي ما فتئ يهتم بالعدو وأدواته في محاولته إيقاع الهزيمة بالإرادة العربية والإسلامية، وقد جاء كتابه "الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي" نموذجا في هذا المقام؛ وهو يحيلنا إلى تلك المقولة الخفية والمخيفة التي تتعلق بالغزو المعنوي والحضاري:

"إن ظاهرة الغزو الأجنبي للثقافة العربية هي في الواقع تستقل استقلالا تاريخيّا وكاملا حقيقة عن ظاهرة الغزو الاستعماري كما عرفته المنطقة العربية؛ ابتداء من القرن التاسع عشر.

ولنستطيع أن نفهم هذه الحقيقة، ولنتمكن من متابعة تطوراتها مع الحركة الصهيونية، ولنستطيع أن نحدد الوظيفة التي يجب أن يُعهَد بها إلى المفكر، وكيف يجب أن يُعهَد بها إلى أجهزة متخصصة في مواجهة ذلك الغزو؛ علينا أن نبدأ من ذلك المنطلق الحقيقي لتحليل الظاهرة، وهو حقيقة العلاقة بين الثقافات."

وجب علينا أن نشير إلى أن الصفات التي ألحقت بمفهوم "الغزو" لم تكن صفات اعتباطية، ولكنها كانت تشير إلى الخطر الأكبر في هذا السياق الذي يتعلق بالسيطرة والتحكم في المجالات الفكرية والثقافية. لعل هذا يشير إلى كلمات عدة؛ "الغزو الفكري" و"الغزو الثقافي" و"الغزو المعنوي" والغزو الحضاري"، وما اعتمده البعض من الحديث عن "الإمبريالية الثقافية الكولونيالية"
ومن المهم أن نشير في هذا المقام إلى أن المعنى الذي شاع لكلمة "الغزو" هو ما يتعلق بـ"الغزو العسكري" و"الحركة الكولونيالية" التي ما فتئت تبحث عن وسائل غير المواجهة العسكرية من مثل وسائل ناعمة ثقافية تتعلق بهذا الغزو الممنهج للأمة، إلا أنه مع شيوع هذا الفهم العسكري لكلمة "الغزو" فإنها في حقيقة أمرها ذات معنى طبي وجب أن نشير إليه -مثلما هو ديدننا في ذلك الشكل حينما حاولنا تعريف المقاومة وضرورتها في كيان الأمة، حينما عقدنا مشابهات عدة يمكن العودة إليها في المقالات الأولى من تلك السلسلة- هذا المعنى الطبي ليس بعيدا عما نحن فيه في إطار الغزو باعتباره مرضا سرطانيا يعتري كيان الأمة في سياقات عدة.

وفي هذا المقام وجب علينا أن نشير إلى أن الصفات التي ألحقت بمفهوم "الغزو" لم تكن صفات اعتباطية، ولكنها كانت تشير إلى الخطر الأكبر في هذا السياق الذي يتعلق بالسيطرة والتحكم في المجالات الفكرية والثقافية. لعل هذا يشير إلى كلمات عدة؛ "الغزو الفكري" و"الغزو الثقافي" و"الغزو المعنوي" والغزو الحضاري"، وما اعتمده البعض من الحديث عن "الإمبريالية الثقافية الكولونيالية". وأي كان التعبير أو الأوصاف فإنها تعتمد معنى واحدا تتغيا فيه كل تلك المجالات التي تشكل العقول، وتحاول في هذا السياق أن تؤكد على انهيار المناعة الذاتية والثقافية والحضارية.

ولعلنا نتوقف قليلا حول مفهوم الغزو في المصطلحات الطبية وارتحال هذا المفهوم من علوم الطب؛ فالغزو (Invasion) هو الهجمة الأولى، أو بداية المرض، أو دخول وثبات الطفيليات في الجسم، سواء أنتج آثارا مرضية أم لا، وهذا بالمعنى العام. أما بالمعنى الخاص، الغزو هو حركة الخلايا السرطانية من موقعها الأصلي إلى الأنسجة غير السرطانية المحيطة بها؛ وكذا يُشار الى مصطلح آخر للغزو هو تسلل.

ويعتبر علماء الأمراض أن الغزو سمة حاسمة عند تحديد ما إذا كان الورم موجودا أم لا، حميدا (غير سرطاني) أو خبيثا (سرطانيا)، وفي حين أن الأورام الحميدة يمكن أن تنمو بشكل أكبر، فإن خلاياها عادة لا تغزو الأنسجة الطبيعية المحيطة؛ وعلى النقيض من ذلك، تنفصل الخلايا السرطانية دائما تقريبا عن موقعها الأصلي وتغزو الأنسجة المحيطة.

هذه القدرة على الانتشار تجعل السرطان خطيرا بشكل خاص وتسلط الضوء على أهمية الكشف المبكر والعلاج. إن اكتشاف السرطانات الموضعية وعلاجها مبكرا يمكن أن يمنعها من التطور إلى سرطانات غازية أكثر خطورة؛ بينما يمكننا تصور أن الجهاز المناعي هو عبارة عن جيش يدافع عن موطنه من الغزاة.

بهذا المعنى الواسع، لا يعني الخطر الذي يمثله غزو حضارة أو ثقافة متنوعة لحضارة ضعيفة أو دنيا، وإنما يعني تهديد ثقافة لثقافة أخرى بالاضمحلال أو الزوال لمجرد أن الأولى يحملها شعب متفوق عسكريا أو تكنولوجيا دون أن تكون ثقافته بالضرورة أكثر استحقاقا للبقاء أو أشد جدارة
يتكون جهاز المناعة من مجموعة خلايا وأنسجة وأعضاء تشبه الجيش، ويقوم كل منها بوظائف محددة لمهاجمة أي عدو يحاول اقتحام الجسم، فكيف يعمل هذا الجهاز بأنسجته المختلفة؟ حينما نتحدث عن جهاز المناعة، فإننا نقوم بوصف شبكة معقدة من الخلايا والأنسجة والأعضاء التي تمنع مهاجمة الجراثيم مثل البكتيريا والفيروسات والطفيليات للجسم؛ فإذا استطاعت هذه الجراثيم أن تقتحم الجسم، تقوم هذه الشبكة بالتعامل معها ومهاجمتها قبل أن تتكاثر وتفرز سمومها، وإن بدأت في التكاثر داخل جسم الإنسان، فإن جهاز المناعة يعمل بقوة حتى يخلص الجسم منها. وإذا كان ذلك مهما في الأحوال الصحية العادية للإنسان فهي في الحالة السرطانية أوجب؛ فهل لنا أن نتعلم درس الطب في سلامة كيان الأمة من كل غزو؟

يجب أن يُفهَم خطر الغزو الثقافي الصهيوني للمنطقة العربية بمعنى أوسع لا يقتصر خطره على الفكر العربي؛ أي الثقافة بالمعنى الضيق، بل يشمل أيضا الخطر الذي يواجهه نمط الحياة والسلوك والقيم والعقائد وطبيعة الولاء.. إلخ.والخطر الثقافي، بهذا المعنى الواسع، لا يعني الخطر الذي يمثله غزو حضارة أو ثقافة متنوعة لحضارة ضعيفة أو دنيا، وإنما يعني تهديد ثقافة لثقافة أخرى بالاضمحلال أو الزوال لمجرد أن الأولى يحملها شعب متفوق عسكريا أو تكنولوجيا دون أن تكون ثقافته بالضرورة أكثر استحقاقا للبقاء أو أشد جدارة.

والتاريخ يعرف هذين النوعين من الغزو الثقافي كما يشير إلى ذلك أستاذنا الدكتور عبد الوهاب المسيري في عمله الفكري والمعرفي في موسوعته عن "الصهيونية واليهود واليهودية". إن هذا الخطر يشترط لتَحقُّقه ابتداء، وقبل كل شيء، هزيمة نفسية من جانب العرب، وسيادة الاعتقاد لديهم بأن سبب التفوق العسكري الذي أحرزته "إسرائيل" عليهم هو تفوُّق قيمي وأخلاقي وحضاري وثقافي، ومن ثم يظهر بين العرب من المفكرين والكُتَّاب من يصدقه عدد متزايد من العرب؛ يدعون إلى احتذاء "إسرائيل" ليس فقط في تطبيق التكنولوجيا الحديثة، بل فيما يتعدى ذلك، كالإشارة إلى أسلوبهم في التنظيم والإدارة وإلى نظامهم السياسي وعلاقاتهم وقيمهم الاجتماعية ونمط سلوكهم. وقد بدأت مثل هذه الدعوة تعبِّر عن نفسها بأساليب مختلفة، على استحياء أولا في أعقاب هزيمة العرب عام 1967م، ثم زادت جرأة في أعقاب زيارة رئيس مصر السابق للقدس عام 1977م، وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1979م.

الارتحال المفاهيمي لمفهوم الغزو ومعانيه ومبانيه هو الذي يجب أن يكون موضع اهتمامنا حتى نشيد أركان تلك المقاومة الحضارية الشاملة بكل ما تعنيه من كلمة
ولعل هذا الاعتبار الذي يشير إلى صفة "المعنوي" المقترنة بالغزو والمرتبطة بالحضاري بشكل كامل وشامل، هو المعنى الذي يقصد بهذا الغزو باعتماده كافة الوسائل التي تتعلق بالقوة الناعمة وخوض معارك ضارية لا تقل أهمية عن تلك المعارك القتالية التي تدور على الأرض وفي الميدان. وتبدو عمليات الغزو تلك متسللة مخادعة حتى تتمكن وتقيم عناصر انتصارها ضمن تلك الهزيمة الثقافية والحضارية.

ومن هنا فعلينا أن نؤكد على أن كلمة الغزو هنا هي من المفاهيم الرحالة التي ترتحل من مجال إلى مجال، ومن حضارة إلى حضارة، ومن علم إلى علم، وهو أمر جدير بالتنويه، حينما نهتم بكل ذلك في قاموس المقاومة ضمن منظومة مفاهيم أخرى سنأتي عليها واحدا تلو الآخر في مقالاتنا التالية، ولعل هذا الارتحال المفاهيمي لمفهوم الغزو ومعانيه ومبانيه هو الذي يجب أن يكون موضع اهتمامنا حتى نشيد أركان تلك المقاومة الحضارية الشاملة بكل ما تعنيه من كلمة، ولعل ما أشرنا إليه في مقالات التطبيع يشكل جزءا مهما في هذا السياق من الغزو المعنوي، وكذلك زراعة ما يسمى بالبؤر المتصهينة في الكيان العربي والإسلامي. لا يمكننا بأي حال إلا أن نعتبر أن كل تلك الأمور شواهد ومؤشرات على غزو حضاري شامل لا يرتبط فقط بالحضارة الغربية أو صنيعة الكيان الصهيوني الذي أسسته تلك الحضارة، ولكنه يرتبط بصراع حضاري مصيري يجب أن نعد له العدة ونقيم كل ما يتعلق بمسالك مواجهته ومقاومته ومدافعته.

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المفاهيم الغزو المناعة مفاهيم الغزو المناعة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة صحافة سياسة مقالات تكنولوجيا سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الغزو الثقافی فی هذا السیاق یشیر إلى یجب أن ی

إقرأ أيضاً:

الخطر الخفي.. مشروب شهير قد يهدد حياتكم دون أن تشعروا!

شمسان بوست / متابعات:

أطلق أحد الخبراء تحذيرا صادما بشأن قاتل صامت في مشروب، يحرص غالبية البشر على تناوله بمعدل يومي.

وقال مدير التصوير الطبي في جامعة سيميلويس في بودابست (عاصمة المجر)، بال موروفيتش هورفات، إن الإفراط في شرب القهوة سريعة الذوبان، قد يزيد من خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان.

وأوضح في تصريحات لوسائل إعلام غربية، أمس الخميس، أن ذلك المشروب الشعبي الذي يحتوي على الكافيين، يحتوي على ضعف كمية “الأكريلاميد” الموجودة في القهوة المطحونة، وهي مادة كيميائية تنتج عندما يتم طهي الطعام، بما في ذلك حبوب البن، في درجات حرارة عالية.

وتم الإعلان عن “الأكريلاميد” على أنها “مادة مسرطنة للإنسان” من قبل الوكالة الدولية لأبحاث السرطان، مما يعني أن هناك أدلة على أن المادة الكيميائية يمكن أن تسبب السرطان لدى البشر.

وكشفت الاختبارات المعملية، أن “الأكريلاميد” في النظام الغذائي يسبب سرطان الرئة والجهاز التناسلي لدى الحيوانات، ويتفق العلماء على أنه يحتمل أن يسبب السرطان لدى البشر أيضا، وفقا لوكالة معايير الغذاء البريطانية.

وكشفت دراسة بولندية أجريت في عام 2013، حللت 42 عينة من القهوة، بما في ذلك 10 أنواع من القهوة سريعة الذوبان، أن القهوة سريعة الذوبان تحتوي على ضعف كمية “الأكريلاميد” الموجودة في القهوة المطحونة حديثا.
ووفقا للباحثين في جامعة ماكغيل بكندا، فإن تناول “الأكريلاميد” يصبح أمرا مثيرا للقلق، عند تناول نحو 10 أكواب من القهوة سريعة التحضير يوميا.

وبينما تحتوي القهوة سريعة التحضير على “الأكريلاميد”، إلا أنها تحتوي أيضا على مضادات أكسدة أكثر من القهوة المطحونة، مما يحمي من تلف الخلايا.

وأكد الدكتور هورفات أن القهوة سريعة التجهيز تحتوي على “الميلانويدات”، وهو مضاد للأكسدة يزيد من تنوع البكتيريا في الأمعاء، والذي يمكن أن يساعد أيضا في الحماية من الأمراض.
ومع ذلك، فإنه يُعتقد أن القهوة المفلترة و”الإسبريسو”، من أكثر أشكال مشروبات الصباح صحية؛ إذ وجد أن القهوة سريعة التجهيز – التي يتم تصنيعها عن طريق تمرير حبوب البن المطحونة والماء الساخن من خلال مرشح ورقي أو شبكي معدني – تسهم في خفض معدلات الإصابة بأمراض الشرايين، وهو السبب الأكثر شيوعا للنوبات القلبية.

ووفقا للباحثين في النرويج، الذين درسوا عادات القهوة لدى نصف مليون شخص على مدى عقدين من الزمن، فقد اكتشفوا في دراستهم أن تناول 4 أكواب من القهوة المفلترة يوميا يساعد على جني فوائد صحة القلب هذه.

كما يُعتقد أن القهوة التي تعتمد على “الإسبريسو”، والتي تشمل الكابتشينو، واللاتيه، والقهوة البيضاء المسطحة، مفيدة للأدمغة، وترتبط بانخفاض خطر الإصابة بمرض “ألزهايمر”.

مقالات مشابهة

  • الخطر الخفي.. مشروب شهير قد يهدد حياتكم دون أن تشعروا!
  • «الشارقة الرقمية» تهدي «قاموس المصطلحات التكنولوجية» لمعرض الكتاب
  • مقدمات نشرات الاخبار
  • سردية الخطر الجاثم في تونس: الحدود والآفاق
  • "زايد العليا" تطلق جائزة "قاموس علم النفس للبحث العلمي"
  • الجريمة في مارسيليا تدق ناقوس الخطر في أوروبا
  • الشرعية تدق ناقوس الخطر بعد إفراج الحوثيين عن القيادي بالقاعدة الذي ارتكب مجزرة العرض العسكري بميدان السبعين
  • قائد الثورة: المشروع الصهيوني تهديد للأمة وعدوان عليها في هويتها ودينها واستقلالها وحريتها
  • الأمم المتحدة: دق ناقوس الخطر والقيام بالمسؤولية
  • دراسة تدق ناقوس الخطر بشأن مرض السكري حول العالم