الصبر في زمن الثروات!
تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT
أحمد بن محمد العامري
ahmedalameri@live.com
"الصبر على المكاره أسهل من الصبر على النعم".
الصبر هو إحدى الفضائل الإنسانية الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها في أي مجتمع يسعى إلى تحقيق التوازن والاستقرار، إلّا أن الصبر لا يُختبر فقط في أوقات الشدة، بل يُختبر أيضًا في أوقات النعم والرخاء.
في واقعنا العربي المعاصر؛ حيث تتوافر الثروات والموارد بشكل غير مسبوق، نجد أن الصبر على النعم أصبح تحديًا حقيقيًا؛ بل يمكن القول إنه أصعب بكثير من الصبر على المكاره.
في القرآن الكريم، نجد نموذجًا عظيمًا للصبر على المكاره في قصة سيدنا أيوب عليه السلام. أيوب عليه السلام كان يعيش حياة مليئة بالنعيم، ولكنه ابتُلي بفقدان ماله وأهله وصحته. ورغم تلك الابتلاءات الشديدة، لم يتزعزع إيمانه أو يصبه اليأس. كان أيوب صابرًا على المكاره بطريقة تبعث على الدهشة والإعجاب، إذ لم يكن صبره مجرد تحمّل للآلام، بل كان تسليمًا كاملًا لإرادة الله وثقة في حكمته.
هذا النوع من الصبر يُظهر القوة الروحية العظيمة التي يمكن أن يتمتع بها الإنسان المؤمن، الذي يدرك أن البلاء ما هو إلّا جزء من اختبار الله لعباده، وأن النجاة من هذا الابتلاء تكمن في الصبر والاحتساب.
وعلى النقيض، نجد أن الصبر على النعم هو تحدٍّ من نوع آخر، يتجلى في قصة سيدنا سليمان عليه السلام. سليمان عليه السلام كان ملكًا عظيمًا، منحه الله ملكًا لم يُمنح لملكٍ من قبله ولا من بعده، مع قدرة على التحكم في الجن والإنس والطيور. هذه النعم الكبيرة كانت اختبارًا لصبره وشكره لله، وليس فقط في قدرته على التحمل كما في حالة أيوب.
سليمان عليه السلام أظهر نوعًا مميزًا من الصبر؛ وهو الصبر على عدم الانجراف وراء مغريات السلطة والثروة. بدلًا من استغلال هذه النعم في تحقيق مصالح شخصية أو زيادة سلطته، استخدمها لتحقيق العدالة ونشر الخير بين الناس. كان سليمان يعلم أن النعم هي اختبار من الله، وأن استخدامها بطريقة صحيحة هو شكل من أشكال الصبر الذي يستحق عليه الشكر.
اليوم، في ظل الثروات الهائلة التي تملكها بعض الدول العربية، نجد أن اختبار الصبر على النعم بات أشد وضوحًا وأهمية. بعض القادة العرب لم يتمكنوا من الصمود أمام هذا الاختبار، فبدلًا من استثمار هذه الثروات في البناء اختاروا مسارًا مختلفًا تمامًا. بعضهم أنفق هذه الثروات على النزاعات الداخلية والخارجية، وعلى مشاريع تدمير دول عربية أخرى، بدلًا من تعزيز الوحدة والتنمية.
هذه السياسات التي تعكس ضعفًا في الصبر على النعم، أدت إلى تدمير الأوطان وتشريد الملايين من الناس، وبدلًا من أن تكون هذه الثروات نعمة، تحولت إلى نقمة على العرب.
من قصتي أيوب وسليمان عليهما السلام، يمكن استخلاص دروس ثمينة حول كيفية التعامل مع النعم والمكاره. القادة الذين يتمتعون بثروات وسلطات كبيرة عليهم أن يدركوا أن هذه النعم هي اختبار لهم، وأنهم مسؤولون أمام الله وأمام شعوبهم عن كيفية استخدامها. الصبر في هذه الحالة لا يعني فقط تحمّل المسؤولية؛ بل يشمل أيضًا التواضع والشكر، واستثمار الموارد في تحقيق الخير والعدل.
على الشعوب أيضًا أن تعي أهمية الصبر على المكاره، وأن تتوحد في مواجهة التحديات، وأن تعمل على تعزيز قيم الشكر والصبر على النعم، حتى لا تتحول إلى نقمة. يجب أن تكون هناك رقابة مستمرة على الحكومات للتأكد من أن الثروات تُستخدم في خدمة الشعب، وليس في تحقيق مصالح شخصية أو في تغذية الصراعات.
إنَّ الصبر في زمن الثروات ليس مجرد فضيلة؛ بل هو ضرورة لتحقيق نهضة حقيقية. وفي عالم مليء بالتحديات والمغريات، يصبح الصبر على النعم اختبارًا حقيقيًا لإيمان القادة والشعوب. وعلى القادة والزعماء أن يدركوا أن النعم التي يمتلكونها هي أمانة من الله، وأنهم سيُسألون عنها يوم القيامة. وعليهم أن يستخدموا هذه النعم بحكمة لتحقيق التنمية والرخاء، بدلًا من تدمير الأوطان وزرع الفتن. بهذه الطريقة فقط يمكن تحقيق نهضة حقيقية في عالمنا، تُبنى على أسس الصبر، والشكر، والعدل.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كيف نفعل الخير ويقبله الله؟.. علي جمعة يجيب
يسأل الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، كيف نفعل الخير؟ يقول سيدنا رسول الله ﷺ : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة، وما جلس قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه».
وقال جمعة، فى منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، أن رسول الله ﷺ صدق في تلك الوصايا الجامعة وهي سبعة «من نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا» مريض وقفت معه مديون سددت دينه، فقير أنهيت عوزه «من نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا» غارم مسجون أخرجته من سجنه، فعلت خيرًا نفّست فيه كربة فإن الله لا يُضيّعها عليك، ويوم القيامة يوم الكربات يحتاج كل واحدٍ منا إلى هذا التنفيس، ويريد أن يُنَفّسَ عليه يومئذٍ بين يدي المالك سبحانه وتعالى، افعل لآخرتك في دنياك، عمّر هذه الحياة الدنيا التي هي موطن امتحان وابتلاء لآخرتك، نفّس الكُرب عن الناس، أصلح بين الناس ففي ذلك تنفيسٌ للكربات.
وورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن سيدنا ﷺ أنه قال: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» يعني إذا قمت بحاجة أخيك كنت مستجاب الدعاء، كنت محل نظر الله سبحانه وتعالى، رأيت الله وقد وقف معك، وهل بعد هذه المعية من خيرٍ ومن فضل؟ أبدًا والله فإن رب العالمين الذي معه كن فيكون، القادر على كل شيء يقف معك.
«ومن يسّر على معسر» والتيسير على المعسر إما بإنذاره وهو فرضٌ عليك، وإما بإسقاط دينه، ويجوز أن يكون ذلك من الزكاة فإذا أسقطت دينه أو أنذرته، وإسقاط الدين هنا ليس فرضًا عليك، ولكن هذا من القليل الذي يفوق فيه النفل الفرض، الفرض خيرٌ من النفل دائمًا، صلاة الظهر خيرٌ من السنة بعدها، صوم رمضان خيرٌ من صوم الاثنين والخميس مثلًا بعدها، ولكن إلا في هذه الحالة، وفي قليلٍ من أبواب الفقه نراها تتكرر كرد السلام فإن إلقاء السلام نافلة، ورد السلام واجب، وإلقاء السلام خيرٌ من رد السلام.
إذن فالفرض أفضل من النفل إلا في أمورٍ قليلة منها إسقاط الدين عن المعسر، وإن كان نفلًا فهو أفضل من الفرض، وسيدنا النبي ﷺ أمرنا بالإخوة، وأمرنا بستر عيوب الناس، وأمرنا ألا نفضح المسلمين، وألا نتكلم في أعراضهم رجالًا ونساء، وقال: «إذا رأيت أخاك على ذنب فاستره ولو بهدبة ثوبك» ما هذا الجمال والرقي عامله كابنك ؛ فلو فعل ابنك المعصية سترته ونصحته، وكان قلبك يتقطع عليه، افعل هكذا مع كل الناس فإن الله سبحانه وتعالى يسترك في الدنيا وفي الآخرة كما قال ووعدنا سيدنا ﷺ.
أما العلم فما بالكم بالعلم ﴿اقْرَأْ﴾ ، أول ما نزل ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ، ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ ، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ ، أمرنا بالعلم دائما، وهذه أمة علم ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ ، ولم يقل أحد الأدباء على مر التاريخ، ولم يرد في حكمة الحكماء، ولا في كلام الأنبياء لم يرد أبلغ من هذا «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة» يعني وأنت تذهب تشتري كتاب، أو تحضر درس علم، أو تذهب إلى جامعتك تُلقي الدرس، أو تستمع إلى الدرس فأنت في طريق الجنة، هذا تصويرٌ لم يتم إلا على لسان سيد الخلق وأفصح البشر ﷺ ، وكتاب الله هو محور حضارة المسلمين، «ما جلس قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم وأحاطت بهم الملائكة» والخير كل الخير «وذكرهم الله فيمن عنده» .
فاللهم يا ربنا اذكرنا فيمن عندك، ولا تجعل يا ربنا أعمالنا تُبطّئ بنا فإن أنسابنا لا تُسرع بنا فوفقنا إلى ما تحب وترضى، وأقمنا في العمل الصالح، وارض عنا، وانقلنا من دائرة سخطك إلى دائرة رضاك.