على الرغم من أن المسافة الزمنية التي فصلت بين حصول غابرييل غارثيا ماركيز على جائزة نوبل، والإعلان عن فوز الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا بالجائزة نفسها، قد قاربت الثلاثة عقود، فإن قناعة كانت هناك، ظلت تلازم غالبية من ينتمون إلى الوسط الثقافي، بأنها ومهما طال الوقت، سوف تذهب إليه في نهاية المطاف، وطوال الوقت الذي ظل الحديث، يتناول فيه من وقت إلى آخر، موضوع هذه الجائزة، كانت بورصة الترشيحات تتواصل، ويتردد خلالها اسمه من عام إلى الذي يليه، حتى حصل عليها في النهاية.

كان اسم فارغاس يوسا هو الأكثر ارتباطا باسم غارثيا ماركيز، اعتبارا من وقت الصداقة التي جمعت بينهما وبين الرئيس الكوبي فيديل كاسترو، وحتى في الحكايات التي ظلت تتردد، عن خلافات ظلت تندلع بين الكاتبين، ووصلت إلى حد الاعتداء الجسدي.

كان يوسا واحدا من بين 4 كتاب، وصفوا في القارة اللاتينية بأنهم الكبار، من بينهم الأرجنتيني خوليو كورتاثار، والمكسيكي كارلوس فوينتس، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، وأخيرا البيروفي ماريو فارغاس يوسا. وقد جاء صعودهم في تلك القارة، والانطلاق منها إلى بقية بلدان العالم، اعتبارا من بدايات الستينيات، بالتزامن مع ما بات يُعرف بطفرة الرواية التي شهدتها أميركا اللاتينية، وكان هؤلاء الأربعة، من بين أبرز ممثليها. في حين كان مجرد ذكر أسمائهم، يستدعي اسم خورخي لويس بورخيس، الكاتب الأرجنتيني الذي كان له الفضل، في تشكيل خريطة الأدب اللاتيني خلال القرن الـ20.

تطلعات بشرية

كانت رواية "حرب نهاية العالم" هي التي فتحت الطريق أمام فارغاس يوسا، الأمر الذي كان له أثر واضح في وصول جائزة نوبل إليه في عام 2010، تلك الرواية التي يزيد عدد صفحاتها المترجمة إلى العربية عن 700، يتناول فيها الكاتب أحداث الحرب الأهليّة، التي اندلعت في شمال البرازيل، أواخر القرن الـ19، ويروي فيها قصة حرب "كانودوس"، وكأنه يرسم لوحة جدارية مدهشة، ويستعرض فيها تطلعات الإنسان، في عالم لم تغادره تلك المفاهيم التي تتعلق بالمدينة الفاضلة.

رواية "حرب نهاية العالم" لماريو فارغاس يوسا (الجزيرة)

تأخذ تلك الرواية القارئ، إلى أماكن غير معروفة، بهدف تعويضه عن افتقار الحياة، من خلال ضخ الأمل بإمكانية وجود عالم أفضل. هذا الأمر ويبدو واضحا من خلال الشخصيات، التي تدور جميعها حول الشخصية الرئيسية، التي يطلق عليها مسمى "المستشار".

ويكشف يوسا هنا عن أنه اعتمد في بناء هذه الرواية على أحداث حقيقية، قائلا في كتابه الذي يحمل عنوان "الكاتب وواقعه" "قررت أن أستخدم كانودوس التاريخية، كمادة خام لكتابة هذه الرواية، التي أردت أن أكون فيها حرا تماما".

لكنه حين انتشلها، قرر أن يضع فيها "بعض المفارقات والتجليات الماكرة، لأن القصة الحقيقية التي استندت إليها الرواية تعود إلى عام 1897. وقت أن اندلعت في منطقة كانودوس البرازيلية، ثورة بين ما يقارب من 5 آلاف ثائر، وبين الحكومة، بسبب تحول نظام الحكم فيها إلى جمهوري، وقد شارك في هذه الثورة فلاحون ومشردون وعبيد، وقامت الحكومة المركزية وقتها، بتجنيد 4 حملات عسكرية لقمعها. لكن قبل اشتعال هذه الثورة بـ8 سنوات، كان النظام السياسي في البرازيل، قد تغيّر من الملكية إلى الجمهورية".

ومن بين أسباب هذه الثورة، كان ظهور المرشد، وهو كاهن أسمر نحيف، طويل القامة يرتدي ثوبا أرجوانيا، ويتجول بين القرى وينادي قائلا إن الجمهورية هي الدجّال، ثم يواصل تحريض الناس على القيام بالثورة، في حين كان ينجح في تحويل كثير من الفقراء والمشردين والمنبوذين إلى أشخاص صالحين ومؤمنين، وزاهدين أيضا في الحياة، بسبب قدرة هذا المرشد على التأثير فيهم. لينتهي هذا التحريض باتخاذ تلك القرية مقرا للثورة، ثم يقوم هؤلاء الأشخاص بتحصينها وزراعتها، قبل أن يندفعوا فيما بعد للقيام بحملات من أجل قتل رجال الدولة وحرق أراضيهم، وعندها تبدأ الحكومة في إرسال حملاتها المتتابعة، لإخماد وهج الثورة وإطلاق اتهامات للثوار، بأنهم ليسوا سوى مجموعة من العملاء للإنجليز.

بين نقيضين

كان يوسا قد بدأ حياته مثل عديد من مثقفي أميركا اللاتينية، متعاطفا مع أهداف اليسار، لكنه مع حلول الثمانينيات، أصبح يدعو بحماس لقيم التجارة الحرة والليبرالية السياسية. ولم يكتف بذلك، بل انتقل إلى مرحلة أخرى عندما شارك كمرشح رئاسي عن تيار يمين الوسط، في الانتخابات الرئاسية البيروفية التي جرت عام 1990، لكنه لم ينجح في حصد النجاح.

وفي أعقاب ذلك، واصل يوسا إبداء حماسه الشديد، وميله الواضح نحو اليمين، وعندها أعلن انضمامه في عام 2014، إلى جمعية مونت بيليرين، المعروفة باحتضانها لليبرالية الجديدة.

لم يكن يوسا كما بات معروفا عنه، يتردد في التصرف، إذا ما رأى أن الأمر يستوجب ذلك، وفي هذا الإطار يمكن تفسير تقدمه لترشح إلى منصب رئاسة بلاده. بعد أن بات مؤمنا أن من واجبه الأخلاقي أن يكون ناشطا فعّالا في الحياة العامة، واتخاذ موقف لشجب ما يصدر عن الحكومات الشمولية أينما وجدت.

كما يمكن في هذا الإطار، تفسير صعوده إلى خشبة المسرح، لأداء أحد الأدوار التمثيلية، بدافع ميله الشديد للتمثيل المسرحي.

منعطف فكري

كانت أفكار يوسا قد تغيرت في أعقاب القراءات التي انشغل بها، والتي كانت لمفكرين كبار، من أمثال آدم سميث، وكارل بوبير، وأورتيغا إي غاسيت. وفي كتابه الذي أصدره تحت عنوان "نداء القبيلة"، أكد على ذلك، كما أنه كان قد عاش في فرنسا لمدة 7 سنوات، وتأثر خلالها بأفكار ألبير كامو، وفي عدة حوارات تناولت تلك الفترة، أكد يوسا أن إقامته في فرنسا، شكلت منعطفا جوهريا في حياته. كما أن انتقاله من الماركسية إلى الليبرالية، كان وراء تلك القطيعة التي حدثت في علاقته مع خوليو كورتاثار، وكارلوس فوينتس، وغابرييل غارثيا ماركيز.

من بعد هذا تحول الذي كانت لافتا في مسار فارغاس يوسا، راح يصف الزعيم الكوبي فيديل كاسترو بأنه دكتاتور، ويعتبر نظامه من أبشع الديكتاتوريات في أميركا اللّاتينيّة، في حين أن ماركيز وفوينتس وكورتاثار كانوا يعبرون في كل وقت، عن دعمهم التام لكاسترو ونظامه.

خلال ذلك، انتهت العلاقة الوثيقة بين يوسا وماركيز، بسبب ذلك الخلاف الشخصي الذي راح يتطور، إلى أن بلغ الحد الذي اندفع فيه الكاتب البيروفي إلى توجيه لكمة إلى وجه غارسيا ماركيز، وهو ما تسببت له بكدمة دكناء تحت العين اليسرى.

وقبل حدوث ذلك بوقت، كان فارغاس يوسا، قد تحدث في العاصمة الإسبانية مدريد، عن طبيعة العلاقة الشخصية والمهنية التي كانت تربطه بغارسيّا ماركيز، والتي بدأت بالتدهور بسبب اختلاف في المواقف السياسية التي تبناها كل منهما تجاه الثورة الكوبية، وانتهت تماما، إثر مواجهة حامية. وقعت في بهو قصر الفنون الجميلة في مدينة مكسيكو سيتي، عندما اقترب غارسيا ماركيز للترحيب بيوسا فاتحا له ساعديه، لكن فارغاس يوسا ومن دون أن ينبس بكلمة، سارع إلى توجيه لكمة قوية لوجه الكاتب الكولومبي.

قوة الأدب

ظل يوسا في كتاباته يواصل الاهتمام بإسقاط الماضي على الحاضر، فطبيعة الإنسان ثابتة دائما مهما بدت البيئة متحولة. وبجرد بسيط للشخصيات يمكن توضيح لعبة يوسا السياسية لإيصال رسائل معينة ضمن إطار أدبي، فهو يتحكم في الشخصيات، فيجعل منها فاعلا مؤثرا في الأحداث وناتجا عنها في الوقت ذاته.

وعندما تلقى سؤالا أثناء مقابلة أُجريت معه في عام 1990 عن الأسباب التي تدعوه للكتابة، سارع يوسا للقول "أكتب لأني غير سعيد. ولأن الكتابة طريقة لمحاربة التعاسة، كما أن قوة الأدب تكمن في أنه يسمح لنا بأن نحيا حيوات عديدة، وهذه واحدة من أعظم ميزاته.. إذ ينتشلنا من واقعنا ويجعلنا ندخل إلى عوالم رائعة، نعيش حيوات غنية بكل ما هو مثير، ونغوص مغامرات في عوالم غير عالمنا، ونحن نتقمص شخصيات كثيرة، نختبر نفسيات مختلفة وعقليات متباينة. إنه إغناء مذهل للحياة. لكن الأدب في الوقت ذاته ليس شيك ضمان على السعادة، بل العكس ما يحدث أحيانا، بطريقة ما، فهو يحولك إلى شخص حزين لأن من خلاله تفهم أن هناك حيوات أغنى من حياتك. فأنت تصبح واعيا بحقيقة أنك قليل الأهمية".

وفي حواره مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية، قال يوسا "نحن نؤلف روايات ليس فقط لنحكي واقعا موجودا بل لنغيره مضيفين له شيئا ما"، وتابع قائلا إن "الأدب هو يوتوبيا الواقع" فهو لا يحكي لنا واقعا متوارثا محققا، ودرسا تاريخيا أكاديميا، بل يفتش بدقة حاويا محترفا، على إسقاطات تجمع الماضي بالحاضر، في توليفة سردية، غالبا ما تخرج بنتائج تنعكس على المستقبل. مؤكدا أن "الأزمنة تمر على المواقف السياسية البليدة، لكن الرواية العظيمة تبقى مؤثرة وخالدة على مرّ الزمن”. مشددا على ضرورة أن على المرء أن يتقبل الحرية بوصفها عنصرا أساسيا للتمتع بثقافة غنية وإبداعية. ولا يمكن أن تُحبَس الثقافة، في سجن أخلاقي أو ديني أو لائق سياسي، إذ يجب أن ندافع عن الحرية. لأن الأعمال الأدبية العظيمة لم تكن أبدا لائقة من الناحية السياسية، وفي كثير من الحالات، كان الأدب يأتي في صدارة العديد من الأشياء التي بدت رهيبة في بادئ الأمر، ثم صارت مقبولة على اعتبار أنها تمثل طفرات وتقدما اجتماعيا وثقافيا.

وفي هذه المقابلة لخص يوسا مفهومه لعملية الكتابة، قائلا "أعتقد أن ما أحبه ليس الكتابة نفسها، بل إعادة الكتابة، الحذف والتصحيح.. وأعتقد أن ذلك، هو أكثر أجزاء العمل، إبداعية".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات من بین

إقرأ أيضاً:

رحلة إلى جهنم .. مقطع مسلسل من رواية قنابل الثقوب السوداء

#سواليف

#رحلة إلى #جهنم
(مقطع مسلسل من #رواية #قنابل_الثقوب_السوداء )

ملحوظة: نُشرت عن دار كتبنا عام 2019
بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن ٢٤ فبراير ٢٠٢٥

كانت الرحلة إلى القمر هي الأمل المشرق للبشرية، وهكذا اكتظت أرض القمر بأكثر من ثلاثة آلاف من أبرز التقنيين الفضائيين، الذين كانوا من خيرة الخبراء في هندسة الفضاء والتصميمات الفضائية. بينهم مجموعة من البروفيسورات الحاصلين على جوائز نوبل، وكل واحد منهم كان يحمل عبئا ثقيلًا في مشروع قد يغير مستقبل البشرية. تسلّق هؤلاء العلماء حبلي السماء عبر المصاعد الفضائية التي كانت تعمل بنظام هوائي، مما جعلها صعودًا سهلًا كما لو كانوا على قطار سكة حديد، وكانت كل مركبة مضغوطة بعناية لتوفر أجواء من الراحة والتأمين.
بينما كان بعض العلماء قد تسلّقوا قبل ذلك بوقت طويل، كانت الغالبية العظمى قد تسلقت حديثًا بناء على دعوة جاك، ذلك العبقري الذي دعا الجميع للانضمام إلى بناء محطات ليزرية على سطح القمر وتنفيذ مشروع “ناسا” الذي بدأ منذ فترة قصيرة. كان جاك ينادي عبر شاشات التلفاز، داعيًا جميع الخبراء للتوجه إلى القمر، حيث كانت هذه هي معركتهم الحقيقية. كان صوته يتردد في العالم، يحثهم على التوحد والانضمام لمهمتهم العظمى: “تسلّقوا حبلي السماء، اصعدوا سلم السماء، اتحدوا هناك، نريد الهيليوم-3، نريد أن نكمل بناء المحطات الليزرية العملاقة”.

مقالات ذات صلة ثقافة اربد تنظم ورشة للخط العربي بمناسبة اليوم العالمي للغة الأم في مركز إربد الثقافي. 2025/02/27

وصلوا أخيرًا إلى القمر، حيث كانت الأرض تحتهم مجرد نقطة زرقاء بعيدة، وبدأ العمل على التنقيب في تربة القمر بحثًا عن هيليوم-3. هذه المادة، التي كانت تُعدّ مكونًا أساسيًا للطاقة المستقبلية، ستكون سر تقدم البشرية. بالإضافة إلى ذلك، كانت توجد العشرات من الروبوتات المتطورة التي تعمل على جمع الخامات المختلفة. كانت هذه الروبوتات تُرسل الخام إلى مراكز الخبراء لاستخلاص الهيليوم-3 منه، بينما كانت المجسات الفضائية تساعد في التوغل إلى أعماق التربة القمرية.

***

بينما بدأ العمل الجاد على سطح القمر، كانت هناك العديد من التقنيات المتطورة التي تمّ تصميمها خصيصًا لهذه الرحلة الفضائية العظيمة. أولى هذه التقنيات كانت المحطات الشمسية التي تمّ نشرها في نقطة استواء القمر. كانت هذه المحطات الشمسية قد تم تطويرها بواسطة مجموعة من الروبوتات المتخصصة في صناعة الخلايا الشمسية النانوية، التي تعمل على تحويل أشعة الشمس إلى طاقة هائلة. كانت المحطتان الشمسيّتان اللتان تمّ بناؤهما تعملان بطاقة تيرا وات واحدة، مما يضمن إمداد الطاقة اللازمة لجميع العمليات على القمر.
ثم كانت هناك تكنولوجيا الاندماج النووي، والتي كانت تمثل جزءًا محوريًا من المشروع. في المناطق المظللة من سطح القمر، حيث يتواجد الهيليوم-3، كان معظم الروبوتات يعملون بشكل مستمر لاستخراج هذا العنصر الذي يعدّ ضروريًا لعملية الاندماج النووي.
لكن المشكلة كانت أن تركيز الهيليوم-3 في تربة القمر كان ضعيفًا جدًا، مما جعل المهمة صعبة. كان يتعين على الروبوتات نقل أطنان من المواد القمرية إلى مراكز استخراج الطاقة، حيث كان الخبراء فيزياء النووية يقومون بفصل الهيليوم-3 من التربة. وكانت كل عملية استخراج تتطلب جهدًا هائلًا، حيث كانت المجسات تحدد مكان الحفر، ومن ثمّ تقوم آلات الحفر بحفر أعماق تتراوح بين خمسة سنتيمترات إلى 120 سنتيمترًا لاستخراج ما يمكن من المادة الثمينة.
وفي الوقت نفسه، كانت محطات الليزر تتخذ مكانها على سطح القمر، حيث كان العمل على بناء سبع محطات ليزرية مستمرًا. كان الهدف من هذه المحطات هو إرسال حزم مستمرة من الليزر على مدار اليوم القمري بالكامل. كل محطة كان يتم تصميمها بعناية، وكل واحدة منها تحمل شعار أحد القارات السبع، في رمز لاتحاد البشرية في هذا المشروع العظيم. كانت مساحة كل محطة تصل إلى حوالي ثلاثين كيلومترًا، ما يعكس حجم وتعقيد هذه المهمة.

***

بعدما تمّ وضع خطة العمل بالكامل وبدأت الأمور تسير على نحو جاد، أصبحت جميع الأنظار متجهة نحو تحديد طاقم الرحلة الذي سيكون على عاتقه تنفيذ هذه المهمة الفضائية العملاقة. لم يكن الأمر مجرد اختيار للأفضل، بل كان له دلالات سياسية ودبلوماسية كبيرة، كما كان يحمل بين طياته رسالة للعالم كله.
في الاجتماع الذي عقدته وكالة ناسا، كان جاك يتقدّم الجميع بحماسة عالية، مستعرضًا الخيارات المختلفة. ورغم أنّ فكرة اختيار طاقم أمريكي محض كانت قد تبدو مغرية للبعض، إلّا أن جاك كان له رأي مختلف. نظر إلى الحضور وقال بصوت حازم: “لا يمكن أن تكون هذه الرحلة مجرد مسألة تخص أمريكا فقط. نحن نواجه تهديدًا عالميًّا، ولا بد من مشاركة الجميع في هذه المعركة.”
كانت هذه الجملة بمثابة الشرارة التي أثارت نقاشًا حادًا في الاجتماع، حيث اعترض بعض الحضور على هذه الفكرة بشكل علني، خاصةً في ما يخص تضمين رواد فضاء من دول مثل اليابان وروسيا والصين، الذين حملوا في ذاكراتهم تاريخًا مليئًا بالعداء والتوترات السياسية.
لكنّ جاك لم يتراجع عن موقفه. أضاف: “إنّ مشاركة هذه الدول ليست مجرّد خطوة دبلوماسية، بل هي خطوة ضرورية لضمان سلامة البشرية جمعاء. إذا تذكرنا ما حدث في الماضي، سنعرف أنه لو لم نتحد حينها لما كانت لدينا فرصة للنجاة. نحتاج إلى أن نُعلم الجميع درسًا واحدًا: إذا اتحدنا في الفضاء، سنكون أقوى على الأرض.”
حاول الرئيس تحجيم النقاش قائلاً: “جاك، هل تعتقد حقًا أن اليابان ستنسى ما فعلناه بها؟”
أجاب جاك بثبات: “نعم، أعتقد أننا يجب أن ننسى. ننسى عندما نتعظ من دروس الماضي. جميعنا أخطأنا، واليوم فرصتنا للمصالحة والتعاون من أجل البقاء. لا داعي للمزيد من الصراع.”
هذه الكلمات كانت نقطة حاسمة في تغيير مسار النقاش، مما دفع بقية الأعضاء إلى قبول الفكرة. أُقرّت التوصية باختيار طاقم متنوع يمثل دولًا من مختلف القارات، حيث تم تضمين اليابان وروسيا والصين جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة. كانت تلك رسالة قوية للعالم كله: “إنها رحلة للبقاء، وليست صراعًا جديدًا”.
لكن الحوار لم يتوقف عند هذا الحد، حيث كان من الضروري تحديد الكفاءات التقنية التي يمكنها التفاعل مع التحديات الفضائية الكبرى. وبحسب خطة جاك، كانت التكنولوجيا ستعتمد على أقوى الأجهزة والمعدات المتاحة في العالم، لتكون جاهزة لأية مفاجآت قد تطرأ أثناء الرحلة.
بعد النقاشات، قرر الجميع أن يتم الإشراف على محطات الليزر الشمسية بواسطة الفرق اليابانية والروسية، حيث أبدع هؤلاء في مجال التكنولوجيا المتقدمة. أما فيما يخص المفاعلات النووية، فقد تمّ اختيار مجموعة من الخبراء الروس، الذين اشتهروا بعبقريتهم في الفيزياء النظرية.
وفي لحظة حزينة، وبعد أن انتهى النقاش وأعلن الجميع موافقتهم على القرار، بدأ جاك يتذكر ما كانت عليه الأرض منذ سنوات قليلة فقط، وكيف أنّ هذه اللحظة كانت تحتاج إلى تضحيات أكبر مما يتصورون.
ثمّ انتقل الحديث إلى الجزء الأكثر تعقيدًا في المهمة: كيف سيُشرف هؤلاء على إدارة أجهزة الدفع المختلفة، وكيف سيتم استخدام محطات الليزر لدفع الشراع الشمسي؟ كانت العملية تحتاج لتنسيق دقيق بين التخصصات المختلفة، لكن الجميع كان متحمسًا لتحقيق الهدف المشترك.
وأخيرا، وفي خضم هذا التحليل المعمّق للتفاصيل التقنية، بدأ الجميع ينسحب تدريجيًا من الاجتماع. ولكن جاك كان لا يزال يراقب الأفق في صمت، كمن يختزن في داخله الكثير من الأسئلة التي قد لا تجد إجابة شافية، لكنه كان يعرف أن الجميع كان في هذه المهمة لأجل غاية واحدة: “إنقاذ البشرية.”

***

بعد أن حسم جاك أمره، تواصل مع فريقه ليُعلمهم بالخطوات القادمة، وقرر أن الوقت قد حان لتحريك العملية بالكامل. لم يكن أمامه خيار آخر، الرحلة كانت بحاجة لأن تبدأ، والنقاط الحساسة التي تم التوافق عليها يجب أن تُنفذ فورًا. كان جاك يطمح أن يجمع تحت مظلته أكفأ العقول من مختلف أنحاء العالم، دون النظر إلى التوترات التاريخية والسياسية بين الدول. “الرحلة هي أمل البشرية، وليست ملكًا لدولة بعينها”، هكذا كان يردد دائمًا.
في اجتماع حاسم مع فريق ناسا، حيث كان يجلس حول الطاولة كبار العلماء والخبراء، أعلن جاك عن قراره الجريء: “هذه الرحلة ستشمل الجميع، ولن يكون فيها مكان للسياسات القديمة”. قد يُنظر لهذا القرار على أنه شجاعة، وقد يعتبره آخرون تهورًا، لكنه كان يؤمن أن هذه هي الفرصة الوحيدة لوضع نهاية للصراع، ولو لعدة سنوات.
ثم بدأ في عرض خطة الرحلة. “الطاقم يجب أن يتكون من جنسيات متعددة: أمريكي، روسي، ياباني، صيني، وحتى عربي. هؤلاء هم الأكثر كفاءة، وهم وحدهم القادرون على النجاح في هذه المهمة”، قال جاك، وهو يلتفت إلى الحضور الذين كانوا ينظرون إليه بعيون مشدوهة.
كان الجدل داخل الغرفة قد بدأ يدب في أرجائها، فالعالم ما زال يعاني من التوترات السياسية، وكان من غير الممكن أن يغفل أحد عن التاريخ الدامي الذي جمع بين بعض هذه الدول. ومع ذلك، كان جاك على يقين من أن المهمة أكبر من كل الخلافات، وأنها قد تكون المفتاح للسلام.
وبينما كان الجميع غارقين في النقاش، دخل الرئيس، الذي بدا مترددًا في اتخاذ قرار حاسم في هذا السياق. قال له جاك بثقة: “نعم، يجب أن نتخطى الماضي. أعتقد أنه حان الوقت لنصنع مستقبلاً أفضل. هل سنظل عالقين في دوامة الحروب والمنافسات، أم نبدأ بناء شيء عظيم للبشرية؟”
وأعلن جاك تفاصيل فريقه المختار: “سأكون قائد الرحلة، والروس سيتولون المهمة النووية، بينما اليابانيون هم الأقدر على التعامل مع تقنيات الليزر. أما العرب، فسيكون لهم دور أساسي في دعم الأنظمة الرقمية والاتصالات. ما رأيكم؟”
لكن على الرغم من الموافقة المبدئية، كانت بعض الهمسات تدور بين أعضاء الفريق. لم يكن الجميع متفقين مع الفكرة. كان هناك حديث عن مدى صعوبة إشراك بعض الدول مثل اليابان، حيث حمل الماضي الثقيل من التوترات بين الولايات المتحدة واليابان، لكن جاك، الذي كان يتنفس بعمق، قطع الحديث قائلاً: “إذا أردنا فعلاً بناء شيء أكبر، يجب أن نغفر ونبدأ من نقطة جديدة”.

***

بينما كان الاجتماع يتواصل، نظرت مجموعة الحضور إلى بعضهم البعض في صمت، حيث بدأوا يُدركون تباعًا أن ما قاله جاك ربما كان صحيحًا. شعور من الحيرة والندم تملّك الجميع، وكأنهم كانوا في حاجة إلى قوى إضافية، لحظة حاسمة في رحلتهم التي لا عودة عنها.
نهض رئيس ناسا فجأة، وتحرك مهرولًا نحو جاك، يناديه: “جاك، جاك!”
أجاب جاك في هدوء، “لبيك، سيدي الرئيس.”
قال الرئيس، “لا تغضب، أرى في عيونهم الحسرة والندم… ارجعْ، واخترْ ما تشاء.”
جاك وقف لحظة، ثم أجاب بصوت متأمل،
“سأرجع،” ثم سكت لحظة، وكأن كلمات كثيرة تملأ عقله، “لكن هناك شيء لطالما أردت أن أسالك إياه، منذ زمن، ولم أكن أجرؤ.”
أجاب الرئيس بلطف، “سلْ، لا تتردد.”
جاك بصوت خفيض، “أين مجموعة ذرات الرابيديوم الثلاث؟”
الرئيس تردد قليلاً، ثم أجاب:
“لا يعلم أحد مكانها سوى الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع ووزير المخابرات، وأنا.”
جاك، وقد بدا عليه الاستفهام، سأل: “أين هي؟”
أجاب الرئيس بتأنٍّ،
“على الرغم من أنه ليس لدي تصريح بإخبارك، لكنني متأكد أنهم لن يغضبوا إن أخبرتك. إنها في نفق تحت الأرض، حيث يوجد ثلاثة أجهزة ليزر عملاقة، وثلاثة من أفضل خبراء فيزياء النووي، وثلاثة آخرون كفريق احتياطي.”
جاك بدت عليه علامات الاستفهام والقلق، فقال مستاءً:
“كيف تجعلون مصير البشرية في أيدي هؤلاء الخبراء فقط؟”
الرئيس، وقد شعر بثقل السؤال، أجاب مطمئنًا:
“لا يعلم هؤلاء الخبراء مكانها في النفق. هم فقط مكلفون بمهمة محددة. في حال احتجنا إليهم، سنرسل لهم ذرات الرابيديوم ليقوموا بضربها بالليزر.”
جاك تنفس بارتياح وقال:
“هذا أفضل. لكنني بحاجة إلى ذرات الرابيديوم، سيدي الرئيس، الآن.”
أضاف جاك، بعد أن تراجع قليلاً في مكانه:
“هيا بنا إلى المجلس لنكمل حديثنا.”
في المجلس، عاد جاك وجلس وسط الحضور قائلاً:
“لقد فكرتُ كثيرًا في الرحلة، وأعددتُ لها كل التجهيزات. وضعتُ الخطة كاملة، ولم أنسَ الطاقم الذي اخترته. هذه هي التفاصيل في هذه الورقة.”
وهو يقرأ قائمة الطاقم بأصوات هادئة ومتسلسلة:
جاك، قائد الرحلة، للإشراف على جميع العمليات.
“جوليا”، الروسية، لقيادة المركبة الرئيسة.
“كازو”، الياباني، للإشراف على وحدة الخدمة.
إيريكا 300، الروبوت الياباني، للإشراف على الشراع والجهاز الشامل وأداء وظائف السُبات.
أما الطاقم الاحتياطي، فقد ضم:
فرد ياباني، فرد روسي، فرد أمريكي، فرد إيطالي.
فريق الدعم: أربعة روّاد من جنسيات مختلفة: روسي، صيني، أمريكي، وعربي.
توقف جاك لحظة، وخيم الصمت على الجميع، قبل أن يهمس أحدهم:
“هل سيأتون هؤلاء جميعًا؟ سيدخلون هنا، ويشرفون على مراكز اتصالاتنا، مراكز انطلاق صواريخنا…”
جاك نظر إليه بنظرة حادة، ثم قال ببرود:
“هل لديك اعتراض؟”
ثم أكمل حديثه،
“وسيتم دفع الشراع بواسطة سبع أجهزة ليزر،
كل جهاز عليه علم قارته،
وسيتم الدفع من على القمر بواسطة محطات ليزر خاصة بالقارات السبع.”
نظرات القلق بدأت تظهر على وجوه الحضور، لكن أحدًا لم يجرؤ على الاعتراض.
“هل هناك أحد غير موافق؟”
لكن لا أحد رد، وصمت المكان لوهلة، حتى أكمل جاك: “سيدفع بإشرافكم، وإشراف اليابان، لأنكم الأقدر على صناعة الليزر.
أما مفاعلات الانشطار والاندماج، فمعظمها تحت إشراف الروس لأنهم عباقرة في هذا المجال…”
لكنه توقّف فجأة، وتشنّج جسده، ثم انفجر باكيًا بحرقة،
“رفقًا بي يا ولدي…”
قالها رئيس ناسا وهو يربت على كتفه بحنان، “فهمان يعيش بين أهل الخير من الجنّ.”
جاك تمالك نفسه، ثم أكمل بعصبية شديدة، “عباقرة في الفيزياء النظرية…”
ثم، بلهجة حازمة، قال:
“موافقون؟”
ردّ الجميع بصوت واحد: “نعم.”

***

بينما كان الاجتماع مستمرًا في نقاشاته، كان في مكان آخر، في بُعد آخر من أبعاد الكون الذي كشفت عنه نظرية الأوتار الفائقة. بُعدٍ غامضٍ، مظلمٍ، ربما هو ما يُسمى بـ “بُعد الشيطان”. داخل غرفة صغيرة محاطة بأجهزة شيطانية متطورة، كان “فهمان” يتصارع مع ذاته، في صراعٍ عميقٍ لا يمكن تفسيره بكلمات. كان الجسد ينتفض هنا وهناك، وكأن هناك شيئًا غريبًا يجري في كيانه. الطبيب الذي كان يراقب حالته من بعيد، لم يستطع تفسير ما كان يحدث له، إذ كانت هناك بعض الحالات التي لم يسبق له أن شهدها من قبل.
في عينيه كانت نظرات حائرة، بين حلم واقعي وفكرة غامضة، وبينما هو غارق في تفكيره، شعر الأطباء وكأن “فهمان” يحاول الهروب من شيء ما. هل هو هروب من الذات؟ أم هو تماهي مع المجهول الذي يراه في أحلامه؟ كانت أفكار “فهمان” تتنقل بسرعة داخل رأسه، وكأنها صورة متحركة من الأحداث التي مرت به منذ سنوات، وكأن الزمان والمكان يتداخلان في لحظة واحدة.
تخيل أن تكون في مكان بعيد جدًا، حيث لم يعد للزمان أي معنى. كان “فهمان” يدرك أن هناك أمرًا أكبر يحدث، وأنه ليس مجرد جندي في تلك اللعبة الفضائية، بل كان جزءًا من شيء ضخم، شيء لم يكن ليعلمه أبدًا لو لم يكن قد مر بهذه التجربة.
وبينما كان عقله في دوامة من الأفكار، شعر بشيء آخر، صوتًا يهمس له من الداخل. “أنت جزء من الصورة الكبرى، أنت جزء من الحل، ولكن هناك حقيقة أخرى يجب أن تعرفها”. تلك الكلمات كانت تثير فيه فضولًا كبيرًا، وهو لا يعلم حتى الآن ما هي الإجابة. لكن شيئًا ما في أعماقه كان يقول له أن كل شيء سيصل إلى نهايته قريبًا.
وكان هناك شيء في قلبه يخبره بأن تلك اللحظات، رغم غرابتها، هي التي ستحدد مصيره. ما الذي يعنيه أن تكون هنا في هذا المكان الآن؟ هل كان مجرد صدف عابرة، أم أن هناك قوة خفية تسوقه نحو هدف أكبر؟ كانت أسئلة كثيرة تراوده، لكن الإجابة الوحيدة التي كان يشعر بها هي أنه لا يمكنه الهروب من هذه المهمة.

مقالات مشابهة

  • مدير أمن محافظة اللاذقية لـ سانا: المجموعات المسلحة التي تشتبك معها قواتنا الأمنية في ريف اللاذقية كانت تتبع لمجرم الحرب “سهيل الحسن” الذي ارتكب أبشع المجازر بحق الشعب السوري
  • ترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام لـنهجه تجاه الشرق الأوسط
  • ذكرى ميلاد رائد الواقعية العجائبية غابرييل ماركيز
  • تغير المناخ يهدد بزيادة حرائق المدن بحلول نهاية القرن
  • الإعلان التشويقي لـ البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو يفوز بأفضل جائزة دولية
  • الوحش الذي أرعب العالم: من هو محمد شريف الله الذي أعلن ترامب عن اعتقاله أمس
  • رحلة إلى جهنم .. مقطع مسلسل من رواية قنابل الثقوب السوداء
  • رواية في طرف الصحراء
  • ليست إسرائيل.. رواية مغايرة حول الجهة المسؤولة عن اغتيال نصر الله
  • أردوغان يجدد رغبة بلاده بالانضمام للاتحاد الأوروبي.. لا يُتصور أمن لأوروبا دون تركيا