لجريدة عمان:
2024-09-13@21:01:43 GMT

التداخل بين المعارف والتخصصات العلمية -2

تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT

انتهيت في مقالي السابق إلى التأكيد على تداخل المعرفة والتخصصات العلمية الذي تفتقر إليه جامعاتنا، رغم أنه بات أمرًا مستقرًا في الجامعات المتقدمة منذ عقود طويلة. والحقيقة أن هذا التداخل لم تفرضه فحسب الحاجة والضرورة التي ترتبت على مخاطر تطبيقات العلوم، وهو ما استدعى النظر إليها من خلال البعد الأخلاقي والإنساني، كما في أخلاقيات البيئة وأخلاقيات التكنولوجيا، وما إلى ذلك.

بل يمكننا القول أيضًا إن هذا التداخل قد أصبح متأصلًا على عمق أبعد من ذلك منذ ما يزيد كثيرًا على نصف قرن من الزمان، أعني أنه أصبح متأصلًا في رؤية العلم والمعرفة ذاتها، حتى فيما يتعلق بالعلوم الدقيقة كالفيزياء والرياضيات: فلم تعد الفيزياء هي الفيزيقا أو علم الطبيعة الذي يمكن البحث فيه بشكل مستقل عن الرياضيات، وقد آل ذلك إلى علم الفيزياء الرياضية. ولكن الرياضيات نفسها أصبحت متأصلة في علم المنطق! فنحن إذا ما حفرنا حتى وصلنا إلى جذور الرياضيات ومبادئها الأولى، سنجد أنفسنا بالضرورة في مجال المنطق، وهذا ما كشف عنه برتراند رسل في كتابه الشهير «أصول الرياضيات».

وعلى هذا، فإن الخوارزميات الخاصة ببرامج الكومبيوتر تقوم بدورها على معادلات وبناءات تنتمي إلى المنطق.

وإذا كان هذا التداخل يحدث فيما بين العلوم الدقيقة، فإنه يحدث أيضًا فيما بين هذه العلوم من ناحية والعلوم الإنسانية من ناحية أخرى. وقد نوهت في المقال السابق إلى ما هنالك من صلات بين العلوم الطبيعية عمومًا والعلوم الإنسانية، على نحو ما نجد فيما يُعرَف «بأنسنة الطب» على سبيل المثال، أي في الأبعاد الاجتماعية والإنسانية والبيئية التي تدخل في دراسة الأمراض والظواهر المتعلقة بصحة البدن (فما بالك بالصحة النفسية)، فمثل هذه الظواهر لا يمكن دراستها كما لو كانت ظواهر فيزيائية أو عضوية خالصة!

إن استبعاد الإنسان (أو البعد الإنساني) من مجال دراسة الظواهر (بما في ذلك الظواهر الطبيعية) هو ما التفت إليه إدموند هوسرل- مؤسس الفينومينولوجيا أو الفلسفة الظاهراتية- باعتباره يمثل المشكلة الحقيقية للعلوم، كما كشف عن ذلك في كتابه الشهير «أزمة العلوم الأوروبية». ولكن هذه الأزمة تصبح أكثر عمقًا في مجال العلوم الإنسانية؛ لأن هذه العلوم المسماة بالعلوم الإنسانية تريد أن تستبعد الإنسان حينما تريد دراسة الظواهر الإنسانية كما لو كانت ظواهر طبيعية خالصة، بينما الظواهر الطبيعية نفسها ليست مستقلة عن الإنسان وعالمه! فيا لها من مفارقة تكشف بالفعل عن أزمة العلوم.

ومن المهم أن نلاحظ أولًا أن هوسرل كان يحذر من أزمة العلوم في الغرب أو المعرفة الحديثة كما تأسست في هذا الغرب، وهي المعرفة التي تحتذي نموذج العلم الطبيعي الذي يدرس الظواهر دراسة تجريبية ورياضية/ إحصائية بشكل مستقل عن الإنسان. ومن المهم أن نلاحظ ثانيًا أن هذا التحذير كان منذ قرابة قرن من الزمان. وبوسعنا القول إن الغرب قد تجاوز إلى حد كبير هذه الأزمة التي حذرنا منها هوسرل، بفضل تلك الدراسات المتنامية في مجال نظرية العلم والمعرفة التي استلهمت روح فلسفته وتعاليمه. أما في عالمنا العربي، فلا تزال الدراسات في مجال العلوم الإنسانية تتبع إلى حد كبير نموذج العلم والمعرفة الذي حذرنا منه هوسرل. ربما يحتاج إيضاح هذا الأمر إلى إيضاح من خلال التمثيل:

يلجأ معظم الباحثين في مجالات العلوم الإنسانية إلى نوع من الدراسة الإحصائية لظاهرة من الظواهر التي تقع في إطار تخصصهم، بالاعتماد على استمارات يسمونها الاستبيانات التي تستطلع الإجابات عن أسئلة الاستمارة أو ما يُراد قياسه؛ ثم يقوم بعد ذلك بتفريغ النتائج في صورة إحصائية، ويستخلص من كل هذا نتائج بحثه! يحدث هذا بناء على فرض هش ضعيف يحاول الباحث قياسه من دون أن تكون لديه معرفة وثيقة بماهية الظاهرة التي يبحثها. يحدث هذا- على سبيل المثال- حينما يشرع بعض الباحثين المبتدئين (بل حتى بعض الأساتذة) في تناول ظاهرة التذوق أو التفضيل الجمالي من دون الاطلاع على الكتابات الفلسفية الرصينة التي لا تحصى عن معنى الظاهرة نفسها، أعني: عن معنى الخبرة أو التذوق الجمالي، وهو معنى لا يدركه إلا الخبراء في الفن؛ وهو ما يمكن أن يمد هؤلاء الباحثين بالفروض الخصبة التي يمكن أن تتأسس عليها بحوثهم التجريبية الإحصائية.

وعلى هذا، أرى أن علاج هذه المشكلات في البحث، هو تأسيس التعليم الجامعي على أفق واسع من المعرفة، تتداخل فيه المعارف والتخصصات الجامعية، وبحيث يكون دور الفلسفة في هذا الصدد دورًا مركزيًّا في العلوم الإنسانية. وهذا يمكن أن يتحقق من خلال تفعيل «التخصصات البينية» بحساب دقيق، والتعويل على منظومة التخصص العام والتخصص الفرعي؛ بمعنى أن الباحث يمكن أن يدرس علم الاجتماع أو علم النفس كتخصص عام، ويكون تخصصه الفرعي هو الفلسفة، على أن يتم تحديد المقررات الفلسفية الملائمة في كل حالة؛ والعكس صحيح، بمعنى أن الباحث قد يمكن أن يدرس الفلسفة كتخصص عام، على أن يدرس علم النفس أو الاجتماع (أو كليهما معًا) كتخصص فرعي، وهكذا.

وعلى النحو ذاته يمكن أن ننظر إلى التعليم ما قبل الجامعي، بحيث نتجاوز تلك القسمة الثنائية التي تفصل في مرحلة التعليم الثانوي- على سبيل المثال- بين ما هو علمي وما هو أدبي (أو هكذا يطلقون التسميات الساذجة)؛ وبالتالي تكريس الانفصال بين المعارف.

ومن المدهش أن القائمين على شؤون التعليم وجودته في معظم بلداننا العربية يجردون الدراسات الإنسانية من صفة العلم ويضعونها تحت مسمى أو صفة «أدبي»، ولا يعرفون مصطلح العلوم الإنسانية وارتباطها بغيرها من العلوم، ولن أتحدث هنا عن الموسيقى التي تجمع بين الفن والرياضيات بقوة، وإنما يكفي أن نشير إلى الجغرافيا التي تتداخل في جانب منها مع العلم الطبيعي (الجغرافيا الطبيعية)، وتتدخل في جانب آخر منها مع العوم الإنسانية (الجغرافيا البشرية). غير أن ما أود التأكيد عليه في النهاية هو أن دعم مفهوم التداخل بين المعارف والتخصصات هو أحد السبل الأساسية لإصلاح التعليم في عالمنا العربي، ولكنه ليس السبيل الوحيد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العلوم الإنسانیة یمکن أن فی مجال

إقرأ أيضاً:

الجمعية العلمية للنخيل تنظم المؤتمر الدولي الثالث للنخيل بالغردقة

نظمت الجمعية العلمية للنخيل بمركز البحوث الزراعية والمجلس الدولي للتمور  فعاليات المؤتمر الدولي الثالث للنخيل بمدينة الغردقة في الفترة من ١١ سبتمبر ٢٠٢٤ الي ١٤ سبتمبر ٢٠٢٤ وبرئاسة الدكتور عبد المنعم البنا وزير الزراعة الاسبق و تحت رعاية وزير الزراعة واستصلاح الأراضي علاء فاروق وتحت اشراف الدكتور عادل عبد العظيم رئيس مركز البحوث الزراعية والدكتور عز الدين جاد الله العباسي مدير المعمل المركزي للنخيل ورئيس الجمعية العلمية للنخيل.
وفي هذا السياق قال الدكتور عز الدين جاد الله أن هذا المؤتمر سوف يناقش  عدة محاور وهي الاستفادة من التقنية  الحيوية لاكثار الأصناف مرتفعة القيمة التصديرية وتطوير عمليات البستنة وعمليات مابعد الحصاد وتقديم طرق جديدة في مكافحة افات النخيل وعلي رأسها سوسة النخيل الحمراء وأفاد التمور المخزونة والتوسع في عمليات التصنيع والاستفادة من مخلفات النخيل وأكد العباسي انه سيتم تقديم بدائل عالية الجودة من منتجات النخيل للاغذية والاعلاف المستوردة وتم عقد عدد من اللقاءات الحوارية التي تهتم بجودة التمور وتصديرها والتسويق الدولي للعمل 
علي حل معوقات التصدير والاتجاة الي فتح أسواق جديدة خارج مصر وتأكيد تواجدنا في الأسواق الحالية والعمل علي توسيع قاعدة 
المستهلكين للتمور الدولية 
ومن جانبه قال الدكتور عبد الرحمن الحبيب المدير التنفيذي للمجلس الدولي للتمور انه لابد من التنويه عن أهمية التعاون بين الدول الرئيسية المنتجة للتمور مثل مصر والسعودية والمغرب بالتنسيق والتعاون مع الدول الأعضاء في المجلس من أجل توحيد المواصفات وتنسيق التصدير وتحسين الجودة بما يعود بالنفع علي الدول المنتجة حضر فعاليات المؤتمر عدد من قيادات وزارة الزراعة ومركز البحوث الزراعية

مقالات مشابهة

  • جهاز الأمن الوطني يعلن انطلاق أول منصة للأمن السيبراني في العراق
  • عالم مصري يحدث ضجة في الأوساط العلمية بتقينة لرؤية الجينوم في الخلايا السرطانية
  • خبراء: اختيار علوم المستقبل والتخصصات الواعدة ضرورة لمواكبة سوق العمل
  • تدابير لمكافحة الظواهر السالبة وحجز المواتر والعربات المخالفة بالخرطوم
  • الجمعية العلمية للنخيل تنظم المؤتمر الدولي الثالث للنخيل بالغردقة
  • «معلومات الوزراء» يُكرم وزير الأوقاف تقديرا لجهوده العلمية والدعوية
  • وزير الخارجية يبحث مع مديرة منظمة “ميرسي كور” المشاريع الإنسانية والتنموية التي تنفذها في اليمن
  • وزير الاتصالات يناقش مع وزير العلوم والابتكار في جنوب أفريقيا تعزيز الحراك الابتكاري بين البلدين لخدمة الإنسانية
  • تخص الباحثين والمبتكرين الشباب.. فتح باب الترشح لنيل هذه الجائزة العلمية المرموقة
  • الكليات المتاحة للشعبة العلمية في تنسيق المرحلة الثالثة 2024