التداخل بين المعارف والتخصصات العلمية -2
تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT
انتهيت في مقالي السابق إلى التأكيد على تداخل المعرفة والتخصصات العلمية الذي تفتقر إليه جامعاتنا، رغم أنه بات أمرًا مستقرًا في الجامعات المتقدمة منذ عقود طويلة. والحقيقة أن هذا التداخل لم تفرضه فحسب الحاجة والضرورة التي ترتبت على مخاطر تطبيقات العلوم، وهو ما استدعى النظر إليها من خلال البعد الأخلاقي والإنساني، كما في أخلاقيات البيئة وأخلاقيات التكنولوجيا، وما إلى ذلك.
وعلى هذا، فإن الخوارزميات الخاصة ببرامج الكومبيوتر تقوم بدورها على معادلات وبناءات تنتمي إلى المنطق.
وإذا كان هذا التداخل يحدث فيما بين العلوم الدقيقة، فإنه يحدث أيضًا فيما بين هذه العلوم من ناحية والعلوم الإنسانية من ناحية أخرى. وقد نوهت في المقال السابق إلى ما هنالك من صلات بين العلوم الطبيعية عمومًا والعلوم الإنسانية، على نحو ما نجد فيما يُعرَف «بأنسنة الطب» على سبيل المثال، أي في الأبعاد الاجتماعية والإنسانية والبيئية التي تدخل في دراسة الأمراض والظواهر المتعلقة بصحة البدن (فما بالك بالصحة النفسية)، فمثل هذه الظواهر لا يمكن دراستها كما لو كانت ظواهر فيزيائية أو عضوية خالصة!
إن استبعاد الإنسان (أو البعد الإنساني) من مجال دراسة الظواهر (بما في ذلك الظواهر الطبيعية) هو ما التفت إليه إدموند هوسرل- مؤسس الفينومينولوجيا أو الفلسفة الظاهراتية- باعتباره يمثل المشكلة الحقيقية للعلوم، كما كشف عن ذلك في كتابه الشهير «أزمة العلوم الأوروبية». ولكن هذه الأزمة تصبح أكثر عمقًا في مجال العلوم الإنسانية؛ لأن هذه العلوم المسماة بالعلوم الإنسانية تريد أن تستبعد الإنسان حينما تريد دراسة الظواهر الإنسانية كما لو كانت ظواهر طبيعية خالصة، بينما الظواهر الطبيعية نفسها ليست مستقلة عن الإنسان وعالمه! فيا لها من مفارقة تكشف بالفعل عن أزمة العلوم.
ومن المهم أن نلاحظ أولًا أن هوسرل كان يحذر من أزمة العلوم في الغرب أو المعرفة الحديثة كما تأسست في هذا الغرب، وهي المعرفة التي تحتذي نموذج العلم الطبيعي الذي يدرس الظواهر دراسة تجريبية ورياضية/ إحصائية بشكل مستقل عن الإنسان. ومن المهم أن نلاحظ ثانيًا أن هذا التحذير كان منذ قرابة قرن من الزمان. وبوسعنا القول إن الغرب قد تجاوز إلى حد كبير هذه الأزمة التي حذرنا منها هوسرل، بفضل تلك الدراسات المتنامية في مجال نظرية العلم والمعرفة التي استلهمت روح فلسفته وتعاليمه. أما في عالمنا العربي، فلا تزال الدراسات في مجال العلوم الإنسانية تتبع إلى حد كبير نموذج العلم والمعرفة الذي حذرنا منه هوسرل. ربما يحتاج إيضاح هذا الأمر إلى إيضاح من خلال التمثيل:
يلجأ معظم الباحثين في مجالات العلوم الإنسانية إلى نوع من الدراسة الإحصائية لظاهرة من الظواهر التي تقع في إطار تخصصهم، بالاعتماد على استمارات يسمونها الاستبيانات التي تستطلع الإجابات عن أسئلة الاستمارة أو ما يُراد قياسه؛ ثم يقوم بعد ذلك بتفريغ النتائج في صورة إحصائية، ويستخلص من كل هذا نتائج بحثه! يحدث هذا بناء على فرض هش ضعيف يحاول الباحث قياسه من دون أن تكون لديه معرفة وثيقة بماهية الظاهرة التي يبحثها. يحدث هذا- على سبيل المثال- حينما يشرع بعض الباحثين المبتدئين (بل حتى بعض الأساتذة) في تناول ظاهرة التذوق أو التفضيل الجمالي من دون الاطلاع على الكتابات الفلسفية الرصينة التي لا تحصى عن معنى الظاهرة نفسها، أعني: عن معنى الخبرة أو التذوق الجمالي، وهو معنى لا يدركه إلا الخبراء في الفن؛ وهو ما يمكن أن يمد هؤلاء الباحثين بالفروض الخصبة التي يمكن أن تتأسس عليها بحوثهم التجريبية الإحصائية.
وعلى هذا، أرى أن علاج هذه المشكلات في البحث، هو تأسيس التعليم الجامعي على أفق واسع من المعرفة، تتداخل فيه المعارف والتخصصات الجامعية، وبحيث يكون دور الفلسفة في هذا الصدد دورًا مركزيًّا في العلوم الإنسانية. وهذا يمكن أن يتحقق من خلال تفعيل «التخصصات البينية» بحساب دقيق، والتعويل على منظومة التخصص العام والتخصص الفرعي؛ بمعنى أن الباحث يمكن أن يدرس علم الاجتماع أو علم النفس كتخصص عام، ويكون تخصصه الفرعي هو الفلسفة، على أن يتم تحديد المقررات الفلسفية الملائمة في كل حالة؛ والعكس صحيح، بمعنى أن الباحث قد يمكن أن يدرس الفلسفة كتخصص عام، على أن يدرس علم النفس أو الاجتماع (أو كليهما معًا) كتخصص فرعي، وهكذا.
وعلى النحو ذاته يمكن أن ننظر إلى التعليم ما قبل الجامعي، بحيث نتجاوز تلك القسمة الثنائية التي تفصل في مرحلة التعليم الثانوي- على سبيل المثال- بين ما هو علمي وما هو أدبي (أو هكذا يطلقون التسميات الساذجة)؛ وبالتالي تكريس الانفصال بين المعارف.
ومن المدهش أن القائمين على شؤون التعليم وجودته في معظم بلداننا العربية يجردون الدراسات الإنسانية من صفة العلم ويضعونها تحت مسمى أو صفة «أدبي»، ولا يعرفون مصطلح العلوم الإنسانية وارتباطها بغيرها من العلوم، ولن أتحدث هنا عن الموسيقى التي تجمع بين الفن والرياضيات بقوة، وإنما يكفي أن نشير إلى الجغرافيا التي تتداخل في جانب منها مع العلم الطبيعي (الجغرافيا الطبيعية)، وتتدخل في جانب آخر منها مع العوم الإنسانية (الجغرافيا البشرية). غير أن ما أود التأكيد عليه في النهاية هو أن دعم مفهوم التداخل بين المعارف والتخصصات هو أحد السبل الأساسية لإصلاح التعليم في عالمنا العربي، ولكنه ليس السبيل الوحيد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العلوم الإنسانیة یمکن أن فی مجال
إقرأ أيضاً:
جامعة ذمار تنظم الاربعاء المؤتمر العلمي الاول حول مواجهة تحديات الإدمان
الثورة نت/ رشاد الجمالي
تنظم جامعة ذمار، الاربعاء القادم، المؤتمر العلمي الاول التي تنظمه كلية العلوم الطبية حول مواجهة تحديات الإدمان في المجتمع اليمني
خلال الفترة 19 – 20 نوفمبر الجاري بمشاركة أكاديميين وباحثين ومختصين ومهتمين.
وفي تصريح لـ “الثورة نت” قال رئيس جامعة ذمار الدكتور محمد الحيفي، إن المؤتمر سيتناول عددا من المحاور واوراق العمل حول رفع مستوى الوعي المجتمعي بمخاطر الآفة وتقديم حلول عملية قابلة للتنفيذ اضافة إلى وضع خطة وطنية شاملة لمكافحة الإدمان.
وأضاف أن المؤتمر يهدف إلى مواجهة تحديات الإدمان في المجتمع اليمني ومناقشة أهم المشكلات الاجتماعية والنفسية والتي هي مشكلة الإدمان بمختلف أنواعه وآثاره.
وذكر أن المؤتمر يهدف إلى توحيد الجهود البحثية والطبية في إطار توجه وطني شامل يشكل منصة علمية تجمع الباحثين والأطباء والأكاديميين لتبادل الخبرات ومناقشة أحدث التطورات في العلوم الطبية والصحية.
ولفت إلى أن المؤتمر يتضمن جلسات علمية ومحاور تخصصية متنوعة تغطي مختلف الجوانب العلمية.
وأكد أن المؤتمر سيتضمن معرضاً خاصاً بطلاب كلية العلوم الطبية يتضمن أعمالا إبداعية وصورا توعوية تخص فعاليات المؤتمر وتناقش أهم قضية من قضايا المجتمع وخاصة المخدرات الرقمية.
ونوه إلى أن هذا المؤتمر العلمي يجسد توجه الجامعة نحو ربط العلوم الطبية بالاحتياجات الصحية للمجتمع وإيجاد بيئة بحثية محفزة للإبداع العلمي وتبادل الخبرات الأكاديمية والطبية بما يعزز الدور الوطني للجامعة في تنمية القطاع الصحي.