الابتكار الإستراتيجي... ضرورة أم رفاهية؟
تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT
بدأت شركات الابتكار التكنولوجي بتطوير وتحديث مسارات نظم تشغيلها منذ أكثر من عقدين من الزمن، حدث ذلك قبل صعود التقنيات المصاحبة للثورة الصناعية الرابعة، في المقابل لم تنجح فرضيات الاستشراف المستقبلي في استقراء الاحتياجات المتغيرة بشكل دقيق، وهذا ما برهنت عليه حالات التفاوت الشاسعة في درجات الاستجابة والتكيف بين المؤسسات أثناء وبعد جائحة كورونا.
فالمؤسسات التي اتخذت النهج الإستراتيجي في الابتكار كانت الأكثر صمودًا، إذ ليس كل نموذج مبتكر هو ابتكار إستراتيجي، وفي الواقع يكتسب التخطيط الإستراتيجي للابتكار أهمية نوعية مع تسارع وتيرة الاكتشافات العلمية والتقنية، إذن أين يكمن الجوهر الحقيقي للابتكارات الإستراتيجية؟ وكيف يمكن للمبتكرين والشركات الناشئة المدفوعة بالابتكار تركيز الجهود التطويرية باستخدام الأطر المتاحة للتخطيط الإستراتيجي لتحقيق الميزة التنافسية وعوائد الاستثمار المضمونة؟
في البدء لا بد أن نتوقف قليلاً عند النقطة المحورية التي تعترض الابتكار الإستراتيجي، وهي الانطباع السائد بأن الابتكار غالبًا ما يرتبط بالمواهب العلمية الخارقة، وبأنه ينتج من استمرار محاولات ترجمة الأفكار الإبداعية إلى منتجات، ولا يحتاج للتخطيط التقليدي القائم على إجراء تحليل للموقف الراهن، وتقييم نقاط القوة والضعف، ثم وضع الأهداف والمبادرات، في الواقع هذا الفكر لا يخلو تمامًا من الصحة، ولكنه في المجمل قد تسبب في تأخير إدماج محور التخطيط الإستراتيجي في الابتكار، ويعتبر ظهور نموذج الآفاق الإستراتيجية الثلاثة للابتكار هو البداية الفعلية للتخطيط الممنهج في التطوير التكنولوجي، ويضع هذا النهج ثلاثة مستويات للتخطيط الإستراتيجي في الابتكار، حيث يركز المستوى الأول على تحسين وتطوير العمليات الأساسية القائمة ومنتجاتها الابتكارية وذلك بشكل تدريجي يضمن تحقيق هدفين متكاملين؛ وهما رفع الكفاءة التقنية وخفض التكاليف.
أما في المستوى الثاني فالتركيز يتمحور حول تخصيص الموارد المستدامة لتطوير منتجات جديدة بناءً على نقاط القوة الحالية، ومواءمتها مع الاحتياجات الناشئة للمستفيدين.
وفي المستوى الأخير تظهر أولويات استكشاف الابتكارات المبتكرة التي تستشرف أسواقا جديدة، ونماذج أعمال غير تقليدية، ويتطلب تحقيق الابتكار الإستراتيجي مهارات عالية في تحقيق التوافق في الاستثمار عبر هذه الآفاق الثلاثة لضمان التدفق الثابت من مدخلات التطوير التدريجي، وإيجاد فرص النمو والاستيعاب للابتكارات الناشئة.
ولكن واقع رحلة الابتكار يختلف إلى حدٍ كبير عن هذه المستويات النظرية ذات الحدود الواضحة، وهذا يشمل جميع الجهود الابتكارية سواءً على المستوى الفردي أو لدى الشركات الناشئة، إذ ليس من الهين تأسيس مساحات للابتكار بحيث تستند إلى الأفكار والبيانات والتفكير الإبداعي، ووضع خطط إستراتيجية متكاملة وقابلة للتكيف مع المستجدات العلمية والتكنولوجية، وتكون في ذات الوقت داعمة لقادة العمل في اتخاذ قرارات مستنيرة؛ لأن التحدي الأساسي الذي يعترض المبتكرين هو معرفة كيفية إذابة ثقافة الجمود، والبقاء في محيط الراحة، والتخوف من التغيير، وكذلك التعامل الذكي مع عدم اليقين، والتحلي بالحكمة في اتخاذ قرارات ذات مخاطر استثمارية عالية فيما يرتبط بالتطوير التكنولوجي، إذ أن معظم المخاطر التي تقع فيها الجهود الابتكارية الناشئة تنشأ من حالة غياب التوازن والتوافق الاستراتيجي بين الابتكار المفتوح والإبداع وبين الالتزام بهامش المجازفة محسوبة العواقب. فالسمة الغالبة على المجموعات البحثية والابتكارية هو الطموح العلمي، وقلما نجد بين هذه المجموعة أعضاء من خارج محيط التخصص البحثي والتطويري مثل مجالات إدارة الأعمال، والتسويق، وإدارة المخاطر، أو ما يسمى بنظام التشغيل الريادي للابتكارات، الذي يعد متطلبا رئيسيا للوصول للابتكارات الإستراتيجية.
وهذا يقودنا إلى أهمية التخطيط الإستراتيجي للابتكارات، فالنجاح في التطوير التكنولوجي لا يأتي بالصدفة، بل هو عملية مستمرة تتطلب التعلم والتكيف والتجريب من أجل استكشاف الفرص الإستراتيجية الكامنة، أو تطوير الفرص الحالية، مع الأخذ في الاعتبار أهمية تطوير إطار إستراتيجي لرحلة الابتكار في وقت مبكر من بدء الجهود الفعلية في التطوير التكنولوجي بحيث يسهل الانتقال إلى مجالات بديلة في الابتكار إذا ما ظهرت تحديات تقنية أو هيكلية أو تمويلية، حيث إن التخطيط الإستراتيجي للابتكار لا يقتصر على تعريف الفرص وتوجيه الموارد والمدخلات ولكنه بمثابة صمام الأمان في حفظ مسار الجهود التطويرية من الهدر، وكذلك تعزيز البيئة الإبداعية الحاضنة للأفكار التي تقع ضمن نطاق الابتكار.
كما أن التخطيط الإستراتيجي للابتكار يتميز عن التخطيط التقليدي بأنه ليس مجرد عملية ذات خطوات ومراحل محددة، بل هو في الأصل توجيه وانصهار لمجموعة الأفكار والمهارات والخبرات والكفاءات الأساسية، وهي تشتمل على طيف واسع من مهارات التفكير النقدي، والتفكير الإبداعي، وكذلك القدرات الفنية والاجتماعية التي يمكنها توليد الأفكار ودمجها وتحويلها إلى حلول مفيدة ومستدامة للمستفيدين، وأصحاب المصلحة. وبنفس الأهمية تحتاج المجموعات الابتكارية لاكتساب مهارات التفكير النظمي أو التفكير على مستوى الأنظمة، والذي يتطلب فهم العلاقات المتبادلة بين الأنظمة المعقدة مثل الأسواق المحتملة، أو تفضيلات المستفيدين، أو تأثير ثقافة مقاومة التغيير، ومدى الإلمام بجوانب الاستشراف المستقبلي المتوازن.
إن الابتكارات الموجهة نحو الأهداف الإستراتيجية هي مطلب أساسي لضمان التميز والصمود في عالم سريع التطور، والتخطيط الإستراتيجي للابتكار هو بمثابة فن أكثر منه علمًا نظريا مؤطرا ومحددا بالقواعد، إذ يكمن جوهر الابتكار الحقيقي في كيفية توظيف أدوات التحليل للنهوض بالجهود الواقعية إلى الإنجاز، وموازنة هذا التحليل المشبع بالأرقام والبيانات الصامتة مع الخيال العلمي الطموح، وفهم أن تحقيق الابتكار غير المسبوق يأتي أحيانا من المجازفة المدروسة ذات المرونة العالية، ولا يعتمد على إطلاق العنان لجميع الأفكار، وإنما يستوجب التركيز على مجموعة منتقاة من الخيارات ذات الأثر العميق على طول الأفق الزمني المحدد للتطوير التكنولوجي، مع إدراك أهمية الجمع بين طرق التفكير المختلفة كونها مفتاح دعم التخطيط الإستراتيجي الناجح للابتكار؛ لأن تحقيق النجاحات المذهلة لا يعتمد فقط على امتلاك الأدوات المناسبة، بل يتعلق الأمر كذلك بالجمع بين العقول المبدعة والمتنوعة لرؤية المشهد الأكبر للابتكار التكنولوجي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التطویر التکنولوجی فی الابتکار
إقرأ أيضاً:
مناقشة تطوير الابتكار والإبداع بمسندم
نظمت إدارة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بمحافظة مسندم حلقة عمل بعنوان "فكر خارج الصندوق"، استهدفت الباحثين عن عمل والشركات الطلابية، وذلك بقاعة ريادة بتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وركزت على أساليب تحفيز الابتكار والإبداع في المشاريع، بهدف تعزيز الفهم لأهمية التفكير الابتكاري في تحسين الأداء وتطوير المشروعات، وتنمية مهارات التفكير الإبداعي والخروج عن الأنماط التقليدية في حل المشكلات.
كما تناولت تعليم تقنيات توليد الأفكار الريادية وتطبيقها في بيئة العمل، إلى جانب تطوير مهارات التعاون وبناء فرق عمل مبدعة تسهم في تحقيق النجاح وتعزز من ثقة المشاركين بقدرتهم على الإبداع.
وناقشت الحلقة ثلاثة محاور رئيسة أهمية الابتكار ودوره في تحسين الأداء وتحقيق الأهداف، مع تعريف الفرق بين الابتكار والإبداع وأثرهما في تطوير المشاريع، كما تناولت المحاور تنمية مهارات التفكير الإبداعي وحل المشكلات، وتطبيق أدوات وتقنيات مثل التفكير الجانبي والعصف الذهني، إضافة إلى تدريب عملي لمواجهة التحديات بحلول مبتكرة، وركزت الحلقة في محورها الثالث على تقنيات توليد الأفكار الريادية، والتفكير التصميمي، وخطوات تحويل الأفكار إلى مشاريع ملموسة، مع تعزيز ثقافة العمل الإبداعي داخل فرق العمل.
واختُتمت الحلقة بأنشطة تفاعلية ركزت على بناء الثقة الذاتية، وتشجيع المشاركين على التفكير خارج الصندوق، بما يمكّنهم من تحويل التحديات إلى فرص وتطوير مشروعاتهم بطرق مبتكرة تعزز من قيمتها في السوق.