إيجاد سوق إفريقية متكاملة وموحَّدة في صالح الغرب
تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT
المعلومات الخاطئة ربَّما هي التي فجَّرت أعمال الشغب المعادية للهجرة في المملكة المتحدة مؤخرا. لكن الانزعاج من الهجرة غير المشروعة لا يقتصر على السواحل البريطانية. فالحكومات حول أوروبا تتراكض تحت ضغط الناخبين بحثا عن حلول. وفي المقابل تشعر الحكومات الإفريقية بالقلق من هجرة المتعلمين وروَّاد الأعمال أو نزيف العقول المخيف الذي يعرقل التنمية.
مع ذلك سيفضل عديدون من أولئك الذين يغادرون إلى الغرب، إذا كان لهم الخيار، البقاء في بلدانهم والحفاظ على روابطهم العائلية والثقافية والمجتمعية. لكن الظروف الاقتصادية تتآمر ضد هذه الرغبة المتواضعة.
إدراكا منها لهذا الواقع، تعهدت الحكومة العمالية الجديدة في بريطانيا بتخصيص 84 مليون جنيه إسترليني لتمويل مشروعات في إفريقيا والشرق الأوسط لمواجهة العوامل التي تدفع الناس إلى الفرار. ينبغي الترحيب بهذا التمويل. لكنه سيفشل في إحداث التحول الاقتصادي الذي تحتاجه إفريقيا لاقتلاع الجذر الأساسي للهجرة والمتمثل في انعدام الوظائف والفرص الاقتصادية.
يرتكز التحول الحقيقي على تنفيذ مشروع «منطقة التجارة الحرة القارِّية الإفريقية» إنه اتفاقية تاريخية تربط بين 54 بلدا وحوالي 1.47 بليون نسمة في أكبر منطقة تجارة حرة في العالم.
على الرغم من أن إفريقيا صاعدة اقتصاديا إلا أن التبادل التجاري بين بلدانها أقل مقارنة بأية قارة أخرى. وتغيير هذا الوضع سيكون حاسما للازدهار الإفريقي.
ما ترسله إفريقيا بالفعل إلى باقي العالم يضعها في علاقة تجارية غير متوازنة. فالصادرات من إفريقيا والموروثة من حقبة الاستعمار تهيمن عليها السلع الأولية كالبن والكاكاو وخامات المعادن وهذا يعرِّضها لتقلبات أسواق السلع العالمية.
خارج القارة، تُضفي عمليات التنقية والمعالجة والصناعة التحويلية قيمة مضافة لهذه المواد الخام. ثم تعود السلع النهائية مرة أخرى في شكل صادرات إلى إفريقيا. وهذا ما يعرقل طموحاتها في التحول إلى قوة اقتصادية.
لكن عندما تنخرط البلدان الإفريقية في التبادل التجاري فيما بينها ستشكل السلع المعالجَة والمصنَّعَة أكثر من 42% من تجارتها. وستفكك منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية الرسومَ الجمركية المفروضة على 97% من إجمالي المنتجات القابلة للتجارة داخل الكتلة التجارية لبلدانها. هذا سيقلص بشكل حاد تكاليف التجارة ويرفع من حجمها. وبدلا من تصدير الوظائف إلى الخارج سيكون بمقدور إفريقيا إطلاق التصنيع كثيف العمالة في كل أرجائها.
تسلط تقديرات البنك الدولي الضوء على خطة منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية. فمن المقرر أن تنتشل هذه المبادرة 50 مليون نسمة من الفقر المدقع وتزيد الدخول في القارة وتعزز التجارة الإفريقية البينية (بين بلدان القارة).
في الأثناء، يمكن أن يرتفع معدل الاستثمار في القارة إلى حوالي 159%. فالسوق المتكاملة والضخمة تجتذب رأس المال العالمي بقدر أكبر وتقلل مخاطر الاستثمار في البلدان المنفردة وتمكِّن من اقتصاديات الحجم الكبير (تقلل التكلفة بالتوسع في الإنتاج- المترجم).
التحالفات العالمية ضرورية لتنفيذ هذا المشروع الطموح. في عام 2021 أصبحت بريطانيا أول بلد خارج إفريقيا يوقع مذكرة تفاهم لتعزيز التجارة مع منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية ويخصص أموالا ويقدم خبرة في السياسات التجارية لدعم تطبيقها.
من الحيوي أن تواصل الحكومة العمالية البريطانية هذا العمل. فهو لا يقتصر فقط على فتح الأسواق والفرص الاستثمارية للشركات البريطانية في القارة ولكنه أيضا يقدم مقاربة منسَّقة لمعالجة الهجرة غير النظامية بشكل شامل.
مطلوب المزيد من الحلفاء. ففي حين تنطوي منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية على أعظم وعد بالازدهار الإفريقي تظل هنالك عقبات كبيرة في تنفيذها. من بينها التحديات الفنية في تبسيط الأنظمة الإجرائية ورقمنة النظم الجمركية. وهنالك حاجة لاستثمارات كبيرة لتصنيع منتجات في إفريقيا تحفِز على إيجاد وظائف معقولة في القارة.
فوق كل ذلك، شبكات النقل واللوجستيات المتشظية في إفريقيا بحاجة إلى استثمارات. فخطوط الشحن أساسا تنقل السلع من المناطق الداخلية إلى الموانئ الساحلية للتصدير وتتجاهل حاجات المناطق المحلية.
هنالك حاجة لتعاون عالمي أكبر. الشراكة بين مؤسسة تمويل التنمية البريطانية «الاستثمار الدولي البريطاني» وشركة اللوجستيات «دي بي ورلد» لدعم تحديث وتوسيع الموانئ واللوجستيات الداخلية حول إفريقيا خطوة في الاتجاه الصحيح. لكن القارة لاتزال تواجه فجوة تمويل للبنية الأساسية بحوالي 100 بليون دولار سنويا.
مع ذلك وعلى الرغم من التحديات الهائلة إلا أن منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية تحقق تقدما. لقد تم تدشينها في عام 2018 لكن تنفيذها تأخر بسبب الجائحة وتداعيات الحرب في أوكرانيا. مع ذلك في أكتوبر 2022 انطلقت أولى الشحنات بموجب إطار منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية. فكينيا ورواندا صدَّرتا البطاريات والشاي والبن إلى غانا. شكلت هذه البلدان بجانب 6 بلدان أخرى مشروعا تجريبيا الهدف منه اختبار هذا الإطار وتحديد التعديلات الضرورية المطلوبة.
تَوسّعَ المشروع هذا العام لكي يضم 39 بلدا آخر من بينها جنوب إفريقيا ونيجيريا اللَّتَان صدَّرتا ثلاجات وأكياسا وسيراميك ومنسوجات وكيبلات وبطاقات ذكية وكلنكير إسمنت وصابونا أسود ونشا محليَّا وزبدة الشيا.
يحتاج توسيع وتعميق التكامل إلى وقت. لكن بدون التحول الاقتصادي الهيكلي في إفريقيا سيزداد تصدير المهاجرين إلى الغرب. يوجد حل طويل الأجل فقط لهذا التحدي، ومن الأفضل الشروع في العمل الآن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: منطقة التجارة الحرة القاریة الإفریقیة فی إفریقیا فی القارة
إقرأ أيضاً:
فون دير لاين تنعى موت الغرب
الغربُ مقابل الشرق مصطلحٌ جغرافي، إلا أنّه تجاوز ذلك الإطار ليدل على منظومة متكاملة: فلسفية وسياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية واجتماعية ودينية، ولدت ونشأت في أوروبا الغربية.
الغرب يعني البلدان الأوروبية الرأسمالية اقتصادياً. كما يعني سياسياً البلدان ذات الأنظمة السياسية الديمقراطية المؤسسة على الفلسفة الليبرالية. أي أن المصطلح يشير ويؤكد منظومة متكاملة تقودها أميركا تقابلها منظومة مخالفة لها سُميّت الشرقية، كان يقودها النظام السوفياتي - الاشتراكي في موسكو ونظيره في بكين.
بانهيار الاتحاد السوفياتي، واختفائه من خريطة العالم، لم يعد لتلك المنظومة المناوئة للغرب وجود. والدول التي كانت تدور في مدار موسكو، وتنهج نهجه السياسي والاقتصادي، انتقلت إلى الضفة الأخرى، وأضحت جزءاً منها. ورغم ذلك، فإن مصطلح الغرب لدى التطبيق، ما زال في كثير من مناحيه يضيق ليقتصر على دول أوروبا الغربية المتقدمة صناعياً، ولا يتسع ليشمل دول وسط أوروبا الاشتراكية سابقاً.
فيما يتعلق بالصين، فإن الحزب الشيوعي الصيني، على عكس نظيره ومنافسه الروسي، ما زال قائماً. لكن التطبيق الاشتراكي لحقه التغيير، واختلف تطبيقه عما كان عليه في عهد المؤسس ماو تسي تونغ. ويبقى من المفيد الإشارة إلى أن روسيا، على سبيل المثال، كانت لدى دول الشرق تُحسب على الغرب، ولدى دول الغرب تُحسب على الشرق. ولعلنا نتذكر أن اليابان حين هزمت روسيا عام 1905، وُصفت بأنها أول دولة شرقية تهزم دولة غربية في العصر الحديث!
ما انطبق على الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية يطول كذلك الغرب، ومركزه واشنطن
نحن لم نكن في حاجة إلى هذه المقدمة للتذكير والتدليل على معنى مصطلح الغرب، لو لم تبادر رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين، خلال مقابلة صحافية أجرتها مؤخراً مع صحيفة «دير يت» الألمانية، ونشرتها مترجمة صحيفة «التايمز» اللندنية يوم الخميس، الموافق 17 أبريل (نيسان) الحالي، إلى نعي موت الغرب، بتأكيدها أن «الغرب كما نعرفه مات». وتقصد بذلك نهايته سياسياً، في صيغته بصفته تحالفاً ليبرالياً رأسمالياً ديمقراطياً عسكرياً، يمتد من واشنطن إلى أوروبا الغربية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
«موت الغرب»، كما تقصده رئيسة المفوضية الأوروبية ارتبط، في رأيها، بفك الارتباط الذي أعلنه ونفّذه الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع الحلفاء الأوروبيين، بداية من التهديد بالانسحاب من حلف «الناتو»، مروراً بالموقف من أوكرانيا وروسيا، وانتهاءً بقرار فرض الرسوم الجمركية على جميع الدول، وفي المقدمة دول الاتحاد الأوروبي، مضافاً إليه موقفه المعادي لحرية التعبير في الجامعات، وتضييق الحريات... إلخ.
في تحليل الثورات، يتفق الكثير من المفكرين على أنها تبدأ في الأطراف، بعيداً عن أعين السلطات في المراكز، ثم تتمدّد باتجاهها. الأمر نفسه ينطبق على السقوط والانهيار، فهو يبدأ من الأطراف ويزحف نحو المركز. من الممكن الاستشهاد بما حدث في روسيا. انهيار الاتحاد السوفياتي لم يبدأ من موسكو، بل جاء زحفاً من الأطراف، أي في البلدان التي كانت تدور في مدار موسكو. ثم أخيراً وصل إلى موسكو، وكانت نهاية التاريخ، حسب رأي فوكوياما.
ما انطبق على الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية يطول كذلك الغرب، ومركزه واشنطن. يمكن الإشارة بصفته بداية إلى تتالي ظهور الحركات والأحزاب الشعبوية في بلدان أوروبا الغربية، وبشكل متسارع. ذلك البروز من الهامش إلى المتن، ترتبت عليه أشياء كثيرة يأتي في مقدمتها تضييق مساحة الحريات على عدة مستويات، والتوجه إلى بناء الحواجز والجدران العازلة، والعداء للمهاجرين من كل الجنسيات، خاصة المسلمين منهم، بمزاعم الحفاظ على الجنس الأوروبي والثقافة والتقاليد الأوروبية. ما بدأ في الأطراف وصل إلى المركز في واشنطن، واقتحم الكونغرس في 6 يناير(كانون الثاني) 2021.
يبدو لي من خلال المتابعة، أن نعي موت الغرب على لسان رئيسة المفوضية الأوروبية جاء متأخراً. وفي رأيي أنه تأكد بفقدان مصداقيته الأخلاقية في قطاع غزة، حيث وقف موقف المتفرج في آنٍ، لما يحدث من إبادة على يد أكبر قوة عسكرية في المنطقة ضد مليوني فلسطيني.
في قطاع غزة، أدار الغرب الليبرالي الديمقراطي ظهره إلى كل تراثه وأدبياته في حماية حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، وإدانة العسف والقمع والاضطهاد والاحتلال، بتجاهله عمداً حملة إسرائيل لإبادة وتهجير مليوني فلسطيني في القطاع. وكأن مَن يُقتل من أطفال ونساء وعجزة وشباب ليسوا بشراً، ويقابل ذلك موقفه لما يحدث في أوكرانيا، حيث يتدفق السلاح والمال والمقاتلون لنجدة الشعب الأوكراني من غطرسة وعدوانية الغزو الروسي!
الموت يأتي في أشكال مختلفة. ربما أحدها ما نعايشه من أحداث في أوروبا وأميركا. والعصر الشعبوي العنصري الذي بدأ زحفه لا يقتصر على معاداة النخبة الحاكمة في أوروبا وأميركا والقضاء عليها، وإقامة الأسوار والجدران بينها وبين دول العالم الأخرى، بل هو نذير بمرحلة ظلامية قادمة، تشبه، إلى حد ما، ما تعرّضت له بلداننا العربية والإسلامية من موجات إرهابية ظلامية دموية حدّ التوحش.
المصدر: الشرق الأوسط