لجريدة عمان:
2025-04-29@15:03:15 GMT

السيدة مكبث

تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT

السيدة مكبث

يبدو الأمر قديمًا قِدم الزمن. ما هو؟ الأحكام المسبقة، التحيّز، البحث عن أعذار ... من دون شك، هي أحوال دامت وتدوم في عالمنا. ناهيك عن بعض «الصيغ اللغوية» المنبثقة من بعض الحالات الاجتماعية. لنأخذ مثلا جملة «ابحث عن المرأة») على أمل ألا يثير ذلك سُخط الحركات النسوية وحفيظتها). من منّا لم يسمع بهذه العبارة، من لم يرددها ويقلها أو يقرأها في واحد من تلك الكتب التي استخدمتها (وربما تستخدمها لغاية اليوم) أو حتى تلك التي تبني عليها أحداثها بالكامل.

منذ الكتاب المقدس، وجدنا هذا الأمر، كيف يمكن إذًا تفسير «خدعة» حواء والثعبان الذي يهسهس في أذنها، ما أدّى في النهاية إلى سقوط آدم من الجنّة وبالتالي إيذاء نسله بأكمله. ومع انتقال هذه الحكاية من عصر إلى آخر، تلقف شكسبير «الجمرة»، ليكتب حولها مسرحيته الشهيرة: «مكبث»، وهو الشجاع الذي كان خارجًا من معركة منتصرًا، حين التقى بثلاث ساحرات، تعتبره الأولى «دوق جلاموس» (كان كذلك بالفعل) والثانية دوق كاودور (لم يتأخر الأمر ليعلنه الملك في منصبه الجديد هذا، مكافأة لشجاعته وإخلاصه)، والثالثة ترى فيه «الملك المستقبلي». يخبر مكبث زوجته (المعروفة باسم الليدي مكبث) بهذا اللقاء الغريب، فما كان عليها إلا أن دفعته لاغتيال الملك ليحل مكانه، لتتحقق نبوءة الساحرة الثالثة. بمعنى آخر، هي المرأة التي دفعت الرجل إلى ارتكاب الجريمة.

بعد قرون من شكسبير، «تواصلت المسرحية» هذه، ليستعير الكاتب الروسي نيقولاي ليسكوف الاسم، السيدة مكبث، ليضعه عنوانا لــ«النوفيلا» التي كتبها عام 1864 ويستوحي منها قصته «السيدة مكبث من مقاطعة متسينسك» (نقرأها اليوم بالعربية، بترجمة من يوسف نبيل، عن منشورات آفاق بالقاهرة). ومع هذه الترجمة، سيكتشف البعض صوتًا جميلًا وكبيرًا من أصوات الأدب الروسي الكلاسيكي، الذي لم يحظ بشهرة كبيرة يومها، بسبب طغيان حضور معاصره تولستوي على الساحة الأدبية في زمنه.

تختلف السيدة مكبث من متسينسك، واسمها الحقيقي كاترينا لفوفنا، عن السيدة الإسكتلندية. إنها لا تشجع على القتل بدافع الطموح بل بدافع الحب. وهي لا تُحرّض فحسب، بل تشارك في الجرائم، وتقتل بصحبة عشيقها، كما أنها تنتحر في النهاية، ولكن على الرغم من أنها رأت نفسها متروكة ومهجورة وعرضة للسخرية من قبل حبيبها إلا أنها لا تمتلئ بالندم؛ بل يأتي انتحارها ليكون بمثابة انتقام، لأنها ستأخذ معها حتى الموت المرأة التي سرقت حبيبها. يتم هذا الانتحار خلال رحلتها سيرًا على الأقدام نحو سيبيريا، حيث تم القبض عليها ومحاكمتها وإدانتها.

يخبرنا ليسكوف عن روسيا، عن ظروف التجار المعيشية في المدن الصغيرة وخدمهم، عن أخلاقهم المختلفة وعدالة كبار مسؤولي القيصر السريعة وطرق رشوة الصغار البسيطة؛ عن مسيرات المدانين القسرية إلى أعماق سيبيريا وانفجارات الرومانسية على الطراز الروسي. عن الروح الروسية! (قد تكون عبارة مبتذلة اليوم ولا تتوافق مع أي شيء) فإذا كانت هذه الروح مجرد كليشيهات، فليسكوف يتعامل معها بشكل جيد... وإذا كانت أكثر من مجرد كليشيهات، فإن الكاتب يعمل عليها بشكل مثير للإعجاب، في جمل قصيرة، بلمسات صغيرة يجمعها في خبر واحد. هي العاطفة المفرطة التي تدفع كلّ الحدود، وتبقى عمياء وصمّاء تجاه الأوامر الأخلاقية، وقوانين المجتمع، وأقاويل الناس.

كانت كاترينا لفوفنا متزوجة من أحد التجار الكبار. لم تُنجب أطفالا، وغالبا ما كانت تلام على عقمها، هي، إذ كانت التقاليد ترفض أن تتصور أو أن تفكر في أن يكون الزوج هو سبب هذا العقم، وعدم القدرة في الإنجاب. تعيش في ملل مفرط، في منزل مليء بالعمال والخدم، لكن ذلك لم يساعدها أبدا، إذ غالبا ــ وبسبب هذا الملل ــ كانت تدخل في حالات من المرارة والكآبة لكي تصاب بالدوار. لذا كان لقاؤها بسيرجي، أحد العاملين لدى زوجها (الغائب غالبا بسبب عمله)، فسحةً لها لتأخذها بعيدا عن هذا الجو القاتل، فستستلم لعاطفتها الأنثوية، كي تزيل من أمامها كلّ العقبات التي كانت تعترض طريقها. في الواقع، كان إطلاق العنان لشغفها الرومنسي هو من قادها إلى ارتكاب عدد من جرائم القتل والد زوجها (بوحشية) ومن ثم زوجها، وأخيرًا ذاك الطفل (نسيب الزوج) الذي يرث كل شيء في المرحلة الأولى، قبل أن يكتشف الجميع أنها حامل (من عشيقها)، فتؤول الثروة إليه، إذ يوضع في عهدة المربية العجوز، باعتباره ذاك الابن الشرعي للزوج المتوفي. كل هذه الجرائم قادت إلى ترحيلها إلى سيبيريا مع عشيقها الذي سيفقد الاهتمام بها، لأنها لن ترث الثروة، من أجل امرأة أخرى. وهو ما يقود في النهاية إلى هذا القدر المأساوي.

«السيدة مكبث من متسينسك»، قصة «مرعبة» عن تأثيرات العاطفة الرومانسية، وهي إن ذكرتنا، في البداية، ببعض أجواء «مدام بوفاري» رواية الفرنسي فلوبير، (أو حتى لمحات من أجواء الأخوات برونتي وتشيخوف) إلا أنها سرعان ما تغمرنا بعالم الليدي مكبث، من حيث هذه المجموعة الكاملة من الموضوعات والتفاصيل والزخارف: الجرائم المرتكبة في الليل، والحيوانات الشريرة، والهلوسة..

تبدو نوفيلا ليسكوف وكأنها كتبت يومها في سياق تحرير المرأة الروسية. كان الهدف من هذه الحركة أن تكون تقدمية، لكن المؤلف يعارض أفكار عصره. ولأن كاترينا لفوفنا خرقت الحظر الجنسي الذي يثقل كاهل المرأة الروسية، فقد أصبحت قاتلة. يجد ليسكوف أصل الشر في تحرر المرأة الجنسي، وهو باب مفتوح، حسب رأيه، لكل التجاوزات، ولاختلال الأخلاق والفوضى الاجتماعية. يمكن مقارنة هذا الفكر بفكر تولستوي. كما أقر بالحاجة إلى تحرير المرأة، لوضع حد للنفاق الذي كان يعني أن النشاط الجنسي الذكوري فقط هو الذي له الحق في التعبير عن نفسه، لكنه انتهى بإدانة كل النشاط الجنسي، حتى على حساب بقاء البشرية!

وإذا كان الجانب الأخلاقي للنص يبدو «قديمًا جدًا» بالنسبة لنا اليوم، فإن هذه الصورة للقاتلة تثير الانتباه. لا تقتل الليدي مكبث أحداً في مسرحية شكسبير، فهي راضية، إذا جاز التعبير، بأن تكون المحرض على جرائم قتل زوجها. كاترينا لفوفنا تقتل بيديها: حتى أننا نراها تمسك بيد رفيقها وهي تخنق رقبة ضحيتها البريئة! وفوق كل شيء، تكفر الليدي مكبث عن جرائمها بالجنون، وتلعن نفسها وينتهي الأمر بالانتصار عندما يموت مكبث بدوره. لا أثر للذنب عند كاترينا لفوفنا، ولا انتصار نهائيا للخير أيضًا. لا يشرح المؤلف أبدًا سلوك بطلته. لا شيء في موقفها الأولي يمكن أن يشير إلى أنها ستتصرف على هذا النحو لاحقًا. يحرص ليسكوف على عدم تقديم أي تفسير بطريقة طبيعية. بل يوضح لنا أن وجود أفراد بلا أي أخلاق، قادرين على فعل أي شيء لإشباع أهوائهم، والذين يظلون غير حساسين للوصايا الأخلاقية أو القوانين الاجتماعية، يصبح ممكنًا عندما لا يعود الحظر الديني مطبقًا، عندما لا تعود القيم الأخلاقية صالحة وتمليها سلطة عليا. وما يزيد من قوة نصه أنه يأخذ التقليد الروسي في رواية القصص: فالتناقض بين هذا الأسلوب الذي عفا عليه الزمن في الكتابة وحداثة الموضوع مذهل. صورة تقشعر لها الأبدان ولكن للأسف لا تزال حديثة للغاية!

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

البابا تواضروس: مصر كانت ملجأ للعائلة المقدسة

استقبل الرئيس أندريه دودا، رئيس بولندا، صباح اليوم، قداسة البابا تواضروس الثاني، والوفد المرافق لقداسته، في القصر الرئاسي في وارسو، وذلك في إطار جولة قداسة البابا الحالية في إيبارشية وسط أوروبا التي بدأها يوم الجمعة الماضي بزيارة بولندا.

لقاء رد المحبة 

رحب الرئيس دودا بقداسة البابا، معربًا عن سعادته بهذا اللقاء الذي وصفه بأنه "لقاء رد المحبة"، على خلفية زيارته لمصر في مايو ٢٠٢٢ ولقائه قداسة البابا بالمقر البابوي بالقاهرة.

وأكد الرئيس على المكانة العميقة التي تحتلها مصر في قلوب البولنديين قائلاً: "مصر صاحبة تاريخ طويل وكنيستها القبطية الأرثوذكسية صاحبة أقدمية روحية عظيمة، فبولندا عرفت المسيحية قبل نحو ألف عام، حيث دخل الإيمان المسيحي إلى أراضيها في القرن العاشر الميلادي."، معبرًا عن تقديره لتواجد الأقباط في بولندا وخدمتهم الرعوية في أجواء من الهدوء والسلام.

كما أشار الرئيس إلى أن بولندا تعد من أكثر الدول الأوروبية تدينًا، حيث تزخر بالعديد من الأديرة المفتوحة والمغلقة، لافتًا إلى إنه يحرص على زيارة هذه الأديرة بانتظام للصلاة، معربًا عن سعادته بمشاهدة شباب يكرسون حياتهم لخدمة الله والسلام وخلاص النفوس.

من جانبه، أعرب قداسة البابا في كلمته عن امتنانه العميق لحفاوة الاستقبال، قائلاً: “يسعدني أن أعبر عن خالص امتناني لفرصة زيارة بلدكم الجميل، بولندا، هذا البلد الذي يحمل داخله تاريخًا عظيمًا، مع قيادة حكيمة وشعب قوي يعتز بتاريخه ويعمل بجد من أجل مستقبله”.

مصر ملجأ للعائلة المقدسة 

وأشار قداسته إلى كلمات الرئيس دودا خلال لقائهما في القاهرة بأن مصر كانت ملجأ للعائلة المقدسة، وبالتالي فوجود الأقباط فيها منذ آلاف السنين مهمًا لكل للإيمان المسيحي، وعلق: "هذه الكلمات نحملها في قلوبنا ونفرح بوجودنا في بلاد نابضة بالحياة وجمال التاريخ"

واستعرض قداسة البابا لمحة عن تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، مشيرًا إلى أنها كنيسة عريقة يعود تاريخها إلى نحو ألفي عام، تأسست في الإسكندرية على يد القديس مرقس الرسول.

الأنبا عمانوئيل يواصل استقبال الوفود لتقديم التعازي في انتقال البابا فرنسيسبطريرك الأقباط الكاثوليك يستقبل وفد الكنيسة الأرثوذكسية لتقديم التعازي في انتقال البابا فرنسيسالرئيس البولندي يستقبل البابا تواضروس الثاني في القصر الرئاسي بـ وارسوقداسة البابا تواضروس يزور رئيس أساقفة وارسو .. تفاصيل

وأعرب قداسته عن تقديره للدعم الذي يلقاه المصريون ومن بينهم الأقباط، من الدولة في بولندا، مثمنًا الجهود المبذولة لدعم كنيسة الأقباط الناشئة هناك وخدمتها تحت رعاية نيافة الأنبا چيوڤاني.

ودعا قداسة البابا الرئيس دودا لزيارة مصر مجددًا، مُرَحِبًا باستقباله في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

وفي ختام كلمته قال: "أرفع قلبي بالصلاة إلى الله أن يبارك بولندا، قيادةً وشعبًا، وأن يمنحكم القوة والحكمة لتحقيق المزيد من التقدم والازدهار، وأن يديم المحبة والسلام بين جميع شعوب العالم".

وفي نهاية اللقاء تم تبادل الهدايا التذكارية بين فخامة الرئيس وقداسة البابا.

طباعة شارك الرئيس أندريه دودا رئيس بولندا البابا تواضروس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية

مقالات مشابهة

  • كانت بتتفسح .. مفاجأة في واقعة اختفاء فتاة المرج
  • تعليم مطروح تكرم الطالبات المتفوقات بمدرسة السيدة عائشة
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • وزير الخارجية والمغتربين السيد أسعد حسن الشيباني يلتقي في مدينة نيويورك السيدة كارلا كينتانا رئيسة المؤسسة المستقلة المعنية بالأشخاص المفقودين في الجمهورية العربية السورية.
  • وزير الخارجية والمغتربين السيد أسعد حسن الشيباني يلتقي السيدة إيزومي ناكاميتسو وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة لنزع السلاح في نيويورك.
  • وزير الخارجية والمغتربين السيد أسعد حسن الشيباني يجتمع مع المندوبة الدائمة للمملكة المتحدة السيدة باربرا وودوارد في الأمم المتحدة بمدينة نيويورك.
  • البابا تواضروس: مصر كانت ملجأ للعائلة المقدسة
  • صلاة الجنازة على أمح الدولي بعد صلاة الظهر بمسجد السيدة عائشة
  • علي الأزهري: الرجل مطالب بالإنفاق على زوجته حتى لو كانت غنية
  • حلقات خاصة من برنامج "واحد من الناس" من داخل مسجد السيدة نفيسة بعد عملية تطويره.. الأسبوع المقبل