يبدو الأمر قديمًا قِدم الزمن. ما هو؟ الأحكام المسبقة، التحيّز، البحث عن أعذار ... من دون شك، هي أحوال دامت وتدوم في عالمنا. ناهيك عن بعض «الصيغ اللغوية» المنبثقة من بعض الحالات الاجتماعية. لنأخذ مثلا جملة «ابحث عن المرأة») على أمل ألا يثير ذلك سُخط الحركات النسوية وحفيظتها). من منّا لم يسمع بهذه العبارة، من لم يرددها ويقلها أو يقرأها في واحد من تلك الكتب التي استخدمتها (وربما تستخدمها لغاية اليوم) أو حتى تلك التي تبني عليها أحداثها بالكامل.
بعد قرون من شكسبير، «تواصلت المسرحية» هذه، ليستعير الكاتب الروسي نيقولاي ليسكوف الاسم، السيدة مكبث، ليضعه عنوانا لــ«النوفيلا» التي كتبها عام 1864 ويستوحي منها قصته «السيدة مكبث من مقاطعة متسينسك» (نقرأها اليوم بالعربية، بترجمة من يوسف نبيل، عن منشورات آفاق بالقاهرة). ومع هذه الترجمة، سيكتشف البعض صوتًا جميلًا وكبيرًا من أصوات الأدب الروسي الكلاسيكي، الذي لم يحظ بشهرة كبيرة يومها، بسبب طغيان حضور معاصره تولستوي على الساحة الأدبية في زمنه.
تختلف السيدة مكبث من متسينسك، واسمها الحقيقي كاترينا لفوفنا، عن السيدة الإسكتلندية. إنها لا تشجع على القتل بدافع الطموح بل بدافع الحب. وهي لا تُحرّض فحسب، بل تشارك في الجرائم، وتقتل بصحبة عشيقها، كما أنها تنتحر في النهاية، ولكن على الرغم من أنها رأت نفسها متروكة ومهجورة وعرضة للسخرية من قبل حبيبها إلا أنها لا تمتلئ بالندم؛ بل يأتي انتحارها ليكون بمثابة انتقام، لأنها ستأخذ معها حتى الموت المرأة التي سرقت حبيبها. يتم هذا الانتحار خلال رحلتها سيرًا على الأقدام نحو سيبيريا، حيث تم القبض عليها ومحاكمتها وإدانتها.
يخبرنا ليسكوف عن روسيا، عن ظروف التجار المعيشية في المدن الصغيرة وخدمهم، عن أخلاقهم المختلفة وعدالة كبار مسؤولي القيصر السريعة وطرق رشوة الصغار البسيطة؛ عن مسيرات المدانين القسرية إلى أعماق سيبيريا وانفجارات الرومانسية على الطراز الروسي. عن الروح الروسية! (قد تكون عبارة مبتذلة اليوم ولا تتوافق مع أي شيء) فإذا كانت هذه الروح مجرد كليشيهات، فليسكوف يتعامل معها بشكل جيد... وإذا كانت أكثر من مجرد كليشيهات، فإن الكاتب يعمل عليها بشكل مثير للإعجاب، في جمل قصيرة، بلمسات صغيرة يجمعها في خبر واحد. هي العاطفة المفرطة التي تدفع كلّ الحدود، وتبقى عمياء وصمّاء تجاه الأوامر الأخلاقية، وقوانين المجتمع، وأقاويل الناس.
كانت كاترينا لفوفنا متزوجة من أحد التجار الكبار. لم تُنجب أطفالا، وغالبا ما كانت تلام على عقمها، هي، إذ كانت التقاليد ترفض أن تتصور أو أن تفكر في أن يكون الزوج هو سبب هذا العقم، وعدم القدرة في الإنجاب. تعيش في ملل مفرط، في منزل مليء بالعمال والخدم، لكن ذلك لم يساعدها أبدا، إذ غالبا ــ وبسبب هذا الملل ــ كانت تدخل في حالات من المرارة والكآبة لكي تصاب بالدوار. لذا كان لقاؤها بسيرجي، أحد العاملين لدى زوجها (الغائب غالبا بسبب عمله)، فسحةً لها لتأخذها بعيدا عن هذا الجو القاتل، فستستلم لعاطفتها الأنثوية، كي تزيل من أمامها كلّ العقبات التي كانت تعترض طريقها. في الواقع، كان إطلاق العنان لشغفها الرومنسي هو من قادها إلى ارتكاب عدد من جرائم القتل والد زوجها (بوحشية) ومن ثم زوجها، وأخيرًا ذاك الطفل (نسيب الزوج) الذي يرث كل شيء في المرحلة الأولى، قبل أن يكتشف الجميع أنها حامل (من عشيقها)، فتؤول الثروة إليه، إذ يوضع في عهدة المربية العجوز، باعتباره ذاك الابن الشرعي للزوج المتوفي. كل هذه الجرائم قادت إلى ترحيلها إلى سيبيريا مع عشيقها الذي سيفقد الاهتمام بها، لأنها لن ترث الثروة، من أجل امرأة أخرى. وهو ما يقود في النهاية إلى هذا القدر المأساوي.
«السيدة مكبث من متسينسك»، قصة «مرعبة» عن تأثيرات العاطفة الرومانسية، وهي إن ذكرتنا، في البداية، ببعض أجواء «مدام بوفاري» رواية الفرنسي فلوبير، (أو حتى لمحات من أجواء الأخوات برونتي وتشيخوف) إلا أنها سرعان ما تغمرنا بعالم الليدي مكبث، من حيث هذه المجموعة الكاملة من الموضوعات والتفاصيل والزخارف: الجرائم المرتكبة في الليل، والحيوانات الشريرة، والهلوسة..
تبدو نوفيلا ليسكوف وكأنها كتبت يومها في سياق تحرير المرأة الروسية. كان الهدف من هذه الحركة أن تكون تقدمية، لكن المؤلف يعارض أفكار عصره. ولأن كاترينا لفوفنا خرقت الحظر الجنسي الذي يثقل كاهل المرأة الروسية، فقد أصبحت قاتلة. يجد ليسكوف أصل الشر في تحرر المرأة الجنسي، وهو باب مفتوح، حسب رأيه، لكل التجاوزات، ولاختلال الأخلاق والفوضى الاجتماعية. يمكن مقارنة هذا الفكر بفكر تولستوي. كما أقر بالحاجة إلى تحرير المرأة، لوضع حد للنفاق الذي كان يعني أن النشاط الجنسي الذكوري فقط هو الذي له الحق في التعبير عن نفسه، لكنه انتهى بإدانة كل النشاط الجنسي، حتى على حساب بقاء البشرية!
وإذا كان الجانب الأخلاقي للنص يبدو «قديمًا جدًا» بالنسبة لنا اليوم، فإن هذه الصورة للقاتلة تثير الانتباه. لا تقتل الليدي مكبث أحداً في مسرحية شكسبير، فهي راضية، إذا جاز التعبير، بأن تكون المحرض على جرائم قتل زوجها. كاترينا لفوفنا تقتل بيديها: حتى أننا نراها تمسك بيد رفيقها وهي تخنق رقبة ضحيتها البريئة! وفوق كل شيء، تكفر الليدي مكبث عن جرائمها بالجنون، وتلعن نفسها وينتهي الأمر بالانتصار عندما يموت مكبث بدوره. لا أثر للذنب عند كاترينا لفوفنا، ولا انتصار نهائيا للخير أيضًا. لا يشرح المؤلف أبدًا سلوك بطلته. لا شيء في موقفها الأولي يمكن أن يشير إلى أنها ستتصرف على هذا النحو لاحقًا. يحرص ليسكوف على عدم تقديم أي تفسير بطريقة طبيعية. بل يوضح لنا أن وجود أفراد بلا أي أخلاق، قادرين على فعل أي شيء لإشباع أهوائهم، والذين يظلون غير حساسين للوصايا الأخلاقية أو القوانين الاجتماعية، يصبح ممكنًا عندما لا يعود الحظر الديني مطبقًا، عندما لا تعود القيم الأخلاقية صالحة وتمليها سلطة عليا. وما يزيد من قوة نصه أنه يأخذ التقليد الروسي في رواية القصص: فالتناقض بين هذا الأسلوب الذي عفا عليه الزمن في الكتابة وحداثة الموضوع مذهل. صورة تقشعر لها الأبدان ولكن للأسف لا تزال حديثة للغاية!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: