لجريدة عمان:
2025-01-30@22:39:31 GMT

السيدة مكبث

تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT

السيدة مكبث

يبدو الأمر قديمًا قِدم الزمن. ما هو؟ الأحكام المسبقة، التحيّز، البحث عن أعذار ... من دون شك، هي أحوال دامت وتدوم في عالمنا. ناهيك عن بعض «الصيغ اللغوية» المنبثقة من بعض الحالات الاجتماعية. لنأخذ مثلا جملة «ابحث عن المرأة») على أمل ألا يثير ذلك سُخط الحركات النسوية وحفيظتها). من منّا لم يسمع بهذه العبارة، من لم يرددها ويقلها أو يقرأها في واحد من تلك الكتب التي استخدمتها (وربما تستخدمها لغاية اليوم) أو حتى تلك التي تبني عليها أحداثها بالكامل.

منذ الكتاب المقدس، وجدنا هذا الأمر، كيف يمكن إذًا تفسير «خدعة» حواء والثعبان الذي يهسهس في أذنها، ما أدّى في النهاية إلى سقوط آدم من الجنّة وبالتالي إيذاء نسله بأكمله. ومع انتقال هذه الحكاية من عصر إلى آخر، تلقف شكسبير «الجمرة»، ليكتب حولها مسرحيته الشهيرة: «مكبث»، وهو الشجاع الذي كان خارجًا من معركة منتصرًا، حين التقى بثلاث ساحرات، تعتبره الأولى «دوق جلاموس» (كان كذلك بالفعل) والثانية دوق كاودور (لم يتأخر الأمر ليعلنه الملك في منصبه الجديد هذا، مكافأة لشجاعته وإخلاصه)، والثالثة ترى فيه «الملك المستقبلي». يخبر مكبث زوجته (المعروفة باسم الليدي مكبث) بهذا اللقاء الغريب، فما كان عليها إلا أن دفعته لاغتيال الملك ليحل مكانه، لتتحقق نبوءة الساحرة الثالثة. بمعنى آخر، هي المرأة التي دفعت الرجل إلى ارتكاب الجريمة.

بعد قرون من شكسبير، «تواصلت المسرحية» هذه، ليستعير الكاتب الروسي نيقولاي ليسكوف الاسم، السيدة مكبث، ليضعه عنوانا لــ«النوفيلا» التي كتبها عام 1864 ويستوحي منها قصته «السيدة مكبث من مقاطعة متسينسك» (نقرأها اليوم بالعربية، بترجمة من يوسف نبيل، عن منشورات آفاق بالقاهرة). ومع هذه الترجمة، سيكتشف البعض صوتًا جميلًا وكبيرًا من أصوات الأدب الروسي الكلاسيكي، الذي لم يحظ بشهرة كبيرة يومها، بسبب طغيان حضور معاصره تولستوي على الساحة الأدبية في زمنه.

تختلف السيدة مكبث من متسينسك، واسمها الحقيقي كاترينا لفوفنا، عن السيدة الإسكتلندية. إنها لا تشجع على القتل بدافع الطموح بل بدافع الحب. وهي لا تُحرّض فحسب، بل تشارك في الجرائم، وتقتل بصحبة عشيقها، كما أنها تنتحر في النهاية، ولكن على الرغم من أنها رأت نفسها متروكة ومهجورة وعرضة للسخرية من قبل حبيبها إلا أنها لا تمتلئ بالندم؛ بل يأتي انتحارها ليكون بمثابة انتقام، لأنها ستأخذ معها حتى الموت المرأة التي سرقت حبيبها. يتم هذا الانتحار خلال رحلتها سيرًا على الأقدام نحو سيبيريا، حيث تم القبض عليها ومحاكمتها وإدانتها.

يخبرنا ليسكوف عن روسيا، عن ظروف التجار المعيشية في المدن الصغيرة وخدمهم، عن أخلاقهم المختلفة وعدالة كبار مسؤولي القيصر السريعة وطرق رشوة الصغار البسيطة؛ عن مسيرات المدانين القسرية إلى أعماق سيبيريا وانفجارات الرومانسية على الطراز الروسي. عن الروح الروسية! (قد تكون عبارة مبتذلة اليوم ولا تتوافق مع أي شيء) فإذا كانت هذه الروح مجرد كليشيهات، فليسكوف يتعامل معها بشكل جيد... وإذا كانت أكثر من مجرد كليشيهات، فإن الكاتب يعمل عليها بشكل مثير للإعجاب، في جمل قصيرة، بلمسات صغيرة يجمعها في خبر واحد. هي العاطفة المفرطة التي تدفع كلّ الحدود، وتبقى عمياء وصمّاء تجاه الأوامر الأخلاقية، وقوانين المجتمع، وأقاويل الناس.

كانت كاترينا لفوفنا متزوجة من أحد التجار الكبار. لم تُنجب أطفالا، وغالبا ما كانت تلام على عقمها، هي، إذ كانت التقاليد ترفض أن تتصور أو أن تفكر في أن يكون الزوج هو سبب هذا العقم، وعدم القدرة في الإنجاب. تعيش في ملل مفرط، في منزل مليء بالعمال والخدم، لكن ذلك لم يساعدها أبدا، إذ غالبا ــ وبسبب هذا الملل ــ كانت تدخل في حالات من المرارة والكآبة لكي تصاب بالدوار. لذا كان لقاؤها بسيرجي، أحد العاملين لدى زوجها (الغائب غالبا بسبب عمله)، فسحةً لها لتأخذها بعيدا عن هذا الجو القاتل، فستستلم لعاطفتها الأنثوية، كي تزيل من أمامها كلّ العقبات التي كانت تعترض طريقها. في الواقع، كان إطلاق العنان لشغفها الرومنسي هو من قادها إلى ارتكاب عدد من جرائم القتل والد زوجها (بوحشية) ومن ثم زوجها، وأخيرًا ذاك الطفل (نسيب الزوج) الذي يرث كل شيء في المرحلة الأولى، قبل أن يكتشف الجميع أنها حامل (من عشيقها)، فتؤول الثروة إليه، إذ يوضع في عهدة المربية العجوز، باعتباره ذاك الابن الشرعي للزوج المتوفي. كل هذه الجرائم قادت إلى ترحيلها إلى سيبيريا مع عشيقها الذي سيفقد الاهتمام بها، لأنها لن ترث الثروة، من أجل امرأة أخرى. وهو ما يقود في النهاية إلى هذا القدر المأساوي.

«السيدة مكبث من متسينسك»، قصة «مرعبة» عن تأثيرات العاطفة الرومانسية، وهي إن ذكرتنا، في البداية، ببعض أجواء «مدام بوفاري» رواية الفرنسي فلوبير، (أو حتى لمحات من أجواء الأخوات برونتي وتشيخوف) إلا أنها سرعان ما تغمرنا بعالم الليدي مكبث، من حيث هذه المجموعة الكاملة من الموضوعات والتفاصيل والزخارف: الجرائم المرتكبة في الليل، والحيوانات الشريرة، والهلوسة..

تبدو نوفيلا ليسكوف وكأنها كتبت يومها في سياق تحرير المرأة الروسية. كان الهدف من هذه الحركة أن تكون تقدمية، لكن المؤلف يعارض أفكار عصره. ولأن كاترينا لفوفنا خرقت الحظر الجنسي الذي يثقل كاهل المرأة الروسية، فقد أصبحت قاتلة. يجد ليسكوف أصل الشر في تحرر المرأة الجنسي، وهو باب مفتوح، حسب رأيه، لكل التجاوزات، ولاختلال الأخلاق والفوضى الاجتماعية. يمكن مقارنة هذا الفكر بفكر تولستوي. كما أقر بالحاجة إلى تحرير المرأة، لوضع حد للنفاق الذي كان يعني أن النشاط الجنسي الذكوري فقط هو الذي له الحق في التعبير عن نفسه، لكنه انتهى بإدانة كل النشاط الجنسي، حتى على حساب بقاء البشرية!

وإذا كان الجانب الأخلاقي للنص يبدو «قديمًا جدًا» بالنسبة لنا اليوم، فإن هذه الصورة للقاتلة تثير الانتباه. لا تقتل الليدي مكبث أحداً في مسرحية شكسبير، فهي راضية، إذا جاز التعبير، بأن تكون المحرض على جرائم قتل زوجها. كاترينا لفوفنا تقتل بيديها: حتى أننا نراها تمسك بيد رفيقها وهي تخنق رقبة ضحيتها البريئة! وفوق كل شيء، تكفر الليدي مكبث عن جرائمها بالجنون، وتلعن نفسها وينتهي الأمر بالانتصار عندما يموت مكبث بدوره. لا أثر للذنب عند كاترينا لفوفنا، ولا انتصار نهائيا للخير أيضًا. لا يشرح المؤلف أبدًا سلوك بطلته. لا شيء في موقفها الأولي يمكن أن يشير إلى أنها ستتصرف على هذا النحو لاحقًا. يحرص ليسكوف على عدم تقديم أي تفسير بطريقة طبيعية. بل يوضح لنا أن وجود أفراد بلا أي أخلاق، قادرين على فعل أي شيء لإشباع أهوائهم، والذين يظلون غير حساسين للوصايا الأخلاقية أو القوانين الاجتماعية، يصبح ممكنًا عندما لا يعود الحظر الديني مطبقًا، عندما لا تعود القيم الأخلاقية صالحة وتمليها سلطة عليا. وما يزيد من قوة نصه أنه يأخذ التقليد الروسي في رواية القصص: فالتناقض بين هذا الأسلوب الذي عفا عليه الزمن في الكتابة وحداثة الموضوع مذهل. صورة تقشعر لها الأبدان ولكن للأسف لا تزال حديثة للغاية!

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

هل دفنت السيدة زينب في مصر؟.. أمين الفتوى يحسم الجدل

أكد الدكتور محمد وسام، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن السيدة زينب، عقيلة بني هاشم، هي إحدى أبرز رموز الصبر والفداء في تاريخ آل البيت، مشيراً إلى دورها العظيم في مواجهة الأزمات والابتلاءات.


وقال أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، خلال تصريح اليوم الثلاثاء: "السيدة زينب، رضي الله عنها، كانت من أكثر آل البيت صبراً بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد شاهدت بأم عينها ما حدث لأخيها سيدنا الحسين وأهل بيته في واقعة كربلاء، ومع ذلك، فقد تحملت كل الصعاب وصبرت صبراً عجز عنه الصبر."

وأشار إلى أن السيدة زينب كانت واحدة من الشخصيات التي ترمز إلى الكفاح والعطاء، وهو ما ينعكس بشكل واضح في شخصيتها الشجاعة، رغم ما تعرضت له من مآس، موضحا أن السيدة زينب هي صورة حية من صور الصبر على البلاء، وقد ذكرت سيرتها الطاهرة في العديد من المناسبات، بما في ذلك موسم الإسراء والمعراج، الذي يتم الاحتفال به في مصر كل عام تكريماً لها ولصبرها العظيم.

وتابع: "عندما نحتفل بمولده السيدة زينب، فإننا نحتفل بمثابرتها على تحمل الألم، وبقدرتها على تحويل المصائب إلى قوة إيمانية،  هذه السيدة التي تحملت أكبر الابتلاءات، لم يجعلها ذلك إلا أكثر صبراً وعطاءً.".

أما بالنسبة لرأي البعض حول مكان دفن السيدة زينب، فقد أشار الدكتور وسام إلى وجود بعض الآراء التي تقول إنها دفنت في سوريا، مؤكدا أن الشواهد التاريخية  تؤكد دفنها في مصر. 

وأضاف: "بحسب الوثائق التاريخية والشواهد، فقد سافرت السيدة زينب إلى مصر بعد أن ضُيق عليها في المدينة المنورة، واستقبلها والي مصر في ذلك الوقت، مسلمة بن مخلد الأنصاري، استقبالا حافلا، حيث جعلها في قصره وأكرمها في مصر."

وأكد أن السيدة زينب مكثت في مصر مدة قصيرة قبل أن تتوفى، وهو ما خلف حزناً كبيراً في نفوس المصريين، الذين ظلوا يذكرونها بكل إجلال وتقدير.

مقالات مشابهة

  • نهلة الصعيدي: المرأة القوية التي تحسن تربية الأبناء وتقدر على صنع المستحيل
  • “رهينة إسرائيلية” تتحدث عن صدمتها عندما كانت تشاهد نتنياهو يتجاهل الرهائن في غزة
  • خلال ندوة بالمعرض.. كيف كانت الحياة اليومية في عصر الرعامسة؟
  • الآثار والمتاحف تعلن فتح أبوابها أمام البعثات الأثرية التي كانت تعمل في سوريا
  • رويترز: طائرة بلاك هوك العسكرية التي اصطدمت بطائرة الركاب كانت في رحلة تدريبية
  • أمين الفتوى: السيدة زينب كانت صورة حية للصبر على البلاء
  • أمين الفتوى بـ«الإفتاء»: كل الشواهد تؤكد دفن السيدة زينب في مصر
  • هل دفنت السيدة زينب في مصر؟.. أمين الفتوى يحسم الجدل
  • بلال حبش: التنسيقية كانت فرصة لتلاقي رؤى الشباب
  • من كانت تقاتل إسرائيل في غزة؟