لقد كان عبدالعزيز الفارسي -رحمه اللّه وبرَّد ثراه وجعل الجنّة مثواه- سليلَ تاريخٍ طويلٍ من العُلماء الذين نجحوا في العلم وبُرِّزوا في كتابة القصص.
طريقان كان في اعْتقادنا أنّهما متوازيان، العلم والأدب، فالعلم قائم على الحقائق وعلى المادّة، والأدب قائمٌ على الظنون وعلى الإمكان التخييليّ، غير أنّ تاريخ العلم عند العرب وفّر لنا ظاهرةً عميقةً حقيقةً بالاهتمام والمتابعة، وهي العلماءُ الأدباء، وخاصّة منهم الأطبّاء الأدباء، ويمكن أن يرجع ذلك إلى أصْل مهنة الطبِّ قبل أن يغزوها الجفاف الماديّ، وهو أصْلٌ إنسانيٌّ، فممّا كان يهزّ مشاعر صديقنا عبدالعزيز الفارسي أنّه منغمسٌ في مِهْنةٍ يرى الألم يوميًّا فيها، ويرى الموت يلْحق البشر، ويرى العلم عاجزًا عن دفْع الألم، ويرى انْعدام المنطق والسببيّة (التي هي جوهر العلم) في تفسير إصابة البشر بالعلل، وفي المقابل فإنّه واجِدٌ في العوالم الممكنة، في المُخيَّل السرديِّ عالما يُصرِّفه هو كما يشاء، يُصبِح الخيالُ عاملاً معزّيًا لمجابهة واقع قاتلٍ، ضيِّقٍ، محدود الأفق، الخيال القصصيّ كان دومًا مهرب الأطبّاء، ومساحتهم التي بها يواجهون صدَأ الواقع، وروائح المرض والموت، والإحساس بالعجز.
تذكَّرتُ صديقي عبد العزيز، وقصصه عن اعتباطيّة الإصابة بالمرض القاتل، تذكّرتُ، حكاياته عن مجابهة مرضاه لواقع مرضهم وقصص ردود أفعالهم الغريبة، وتذكّرت أنّ القصص عنده كان حياةً وأفُقا وعالما يعيشه ويحياه، تذكّرتُ كلّ هذا وأنا أقرأ كتابًا جميلًا أرجأتُ الغوْصَ فيه من سنواتٍ، وهو كتابُ «فاكهة ابن السّبيل» للطبيب الأديب راشد بن عُميرة الرستاقي العمانيّ، سليل أسرة طبيّة وصاحب مؤلّفات وسيعةٍ في طبّ الواقع، وقد عاش الطبيب الأريب في أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر الميلاديين، وهو إضافة إلى ما يعْرِضه في كتابه من معلوماتٍ طبيّة نظريّة وتجريبيّة ينتهج في كتابه أسلوبًا قصصيًّا يغلب عليه -في عرْضِ العلم وبيانه واختباره، أو في التمثيل والتدليل والبرْهنة- الرّكون إلى القصص الشّاهد على ظواهر مرضيّة أو علاجيّة، أو القصص الطريف المخفِّف من وطْأة العلم وأثقاله، وقد أصابت الدكتورة جوخة الحارثي عندما وسمت هذا المؤلَّف بـ»النصّ الأدبيّ المهدور»، وهو فعلاً نصٌّ أدبيٌّ وإن كان موضوعه علميًّا طبيًّا، وفي تاريخ العرب عموما وتاريخ عُمان تحديدا، هنالك هذه الظّاهرة التي لا يُخْلِص فيها الأطبّاء للعلم، ويركنون إلى الأدب مأوًى لا غنًى عنه، تأليفًا وقراءةً.
لقد غلب على ابن عميرة أسلوب الأديب وهو يصف الأجساد وعللها والأدوية والأخلاط والعقاقير وجدواها، ينظرُ في الجسد البشريّ وما يُمكن أن يعتريه من أسْقامٍ، وما يحتاجه من ميْلٍ طبيعيّ وما يرْغَبه من انْصرافٍ نفسيّ أو ماديّ بلغةٍ وأسلوبٍ أقرب إلى الفهم البشريّ، وأعلق بالخطاب الأدبيّ في التعابير التصويريّة وفي الدّخول في الطّبائع والمركوز في الأنفس من شتّى الرّغبات والميولات، ينظر بعين الصّالح والطّالح، بعين الرّاغب والزاهد، بعين الشّرِه والمُقْصِر، بعين المُسْرف والمُقتِّر، بعين الفقيه والخليع، يُدرك أهواء البشر وأمزجتهم، يتعقّل بواطنهم، وينفذ من ذلك إلى الدّاء والدّواء، ويُورد قصصا عرَضت له أو رُويت له، يتمثّل بها ويُمثِّل، وتلك طريقةٌ تجعل العلم يسيرًا، مُدرَكًا، قريبًا من الأنفس والأذهان. لم يكن الأدب عند العرب ظاهرةً مخالفةً للعلم، نابيةً عنه، بل كانت من مقوِّمات العلم، بل إنّ العالم الحقَّ، لا يحقُّ له الحقُّ إلاَّ متى دَاخَل الأدب وخصّه بمؤلّف، ولذلك، كنّا نرى علماء في الفقه والشرع والتفسير والحديث والفلك والطبّ والتّاريخ والحساب والمنطق والاجتماع، يتوسّلون بالقصص رغبةً ذاتيّة ونهجًا للاستدلال والبيان، دوما كان القصص هو الفضاء الذي يُمكن أن يُمثّل التاريخ والمجتمع والعِلَل والفضاءَ والنّجوم، الأكدار والمباهج.
وليس لي أن أثير مبحث الأطبّاء الأدباء أو القُصّاص دون أن أشير إلى كبيرهم الذي علّمهم الطبّ، وفتّح منه أبواب القصص، وهو الشيخ الرئيس الذي بثّ النّواة الأولى لحكايةٍ سيكون لها البُعد الكونيّ، وهي حكاية حيّ بن يقظان، والذي خرج بالطبّ معاينةً للجسد إلى معاينةِ الرّوح والنّفس، فكتب في العشق رسالةً، وفي منطق الطير رسالةً، وفي القصّة «سلامان وأبسال»، هذا إضافةً إلى القصص المبثوث في كليّة كتبه العلميّة والفلسفيّة والرّوحانيّة. لقد فهم أطبّاءُ العرب منذ زمنٍ بعيد أن قرينةً جامعةً بين علل الجسد وعلل الرّوح، وأنّ المدخل الأساس للجسد هو النّفسُ، وهي مأتى الدّاء وأصْل الدّواء، والنّقسُ مدخلُ الأدب ومجاله، وقُل لأولئك الذين صاروا في جامعاتنا يضعون علوم الإنسان في قعْر مراتب الأهميّة، في جامعة السلطان قابوس يهتمّ بابن عميرة الطبيب القاصّ، في رسالةِ بحثٍ مشتركة بين كليّة الطبّ وكليّة الأدب المقهور. عودا إلى صديقي الطّبيب، ولا يُمكن أن أقفل هذا المقال إلاّ ببداياته، فقد كان عبدالعزيز الفارسي الرّوائيّ والقاصّ أوّلا ثم الطبيب ثانيا، عارفا بآلام الرّوح وأوجاعها، يئنُّ لأوجاع مرضاه، ولا يحتمل شدَّتها، وكان وفيًّا لمدرسة الأدب في الطبّ، يعيشُ الواقع اليوميّ الجمعيّ من جِهةٍ ويُوجِدُ لنفسه في القصّة عالمًا هو صانعه وباعثه. هل يأتي يومٌ وندرّسُ أولئك الذين سيصبحون أطباء الغد، عبد العزيز الفارسي وابن عميرة والشيخ الرئيس، وعددا هائلا من أطبّاء الزمن المنقضي أو أطبّاء ومننا الحالي ممّن كانوا إلى النّاس أقرب منهم إلى الأدوية وروائح العقاقير، ولقد قُدّ معجمٌ كاملٌ جمع الأطبّاء الأدباء هو معجم «أدباء الأطباء» لمحمد خليلي، جمع فيه عددًا هائلًا من العرب الذي مارسوا الأدب صُحبة مهنة الطبّ. وهذا بابٌ الحديث فيه يطول، والهمّ فيه لا يزول.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة الطب
إقرأ أيضاً:
مخرجة فيلم دخل الربيع يضحك: نتناول بشكل طبيعي حياة النساء المعقدة
ينافس فيلم "دخل الربيع يضحك"، للمخرجة نهى عادل، في المسابقة الدولية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في عرضه العالمي الأول، وهو الفيلم المصري الوحيد المشارك ضمن المسابقة.
تدور أحداث الفيلم، خلال فصل الربيع المعروف بطبيعته الخاصة، ويتناول أربع حكايات ما بين الأسرار والغضب والأحزان والدموع المخفية، وسط الضحكات الظاهرة، ولكن مع بداية ذبول الأزهار الزاهية، يأتي خريف غير متوقع ليختتم القصص.
وقالت نهى عادل: " إن الفيلم يعد قفزة إيمانية عميقة، عبر رحلة لإخراج مجموعة من القصص القصيرة المجزأة التي تطاردها منذ نهاية عام 2019"، مضيفة :"مع إغماض عيني على اتساعهما، أشعر بدافع لمشاركة هذه القصص وروايتها، دون أن أدرك إمكانية دمجها في باقة متفتحة من أزهار الربيع داخل أول فيلم روائي طويل لي".
وأضافت: "لقد أدركت التأثير العميق الذي خلفه الربيع على رؤيتي الإبداعية، فبدأت أدرك الخيوط المشتركة والروابط الدقيقة بين قصصي، ولم أتأثر قط بالصورة السطحية لواجهة الربيع المفعمة بالبهجة؛ فبالنسبة لي، يظل الربيع موسمًا من التناقضات القاسية، مع العواصف الرملية المفاجئة، والطقس غير المتوقع، والحقائق والأسرار الخفية التي يكشف عنها من خلال الدموع الغزيرة".
وتابعت في حديثها عن فيلمها المشارك ضمن المسابقة الدولية: "أنا مدينة للربيع بالامتنان لإلهامي لكتابة وإخراج هذا الفيلم وخلال المشروع، أواصل الكشف عن الدوافع الحقيقية وراء اختياري لهذه القصص الخمس المحددة، وكشف جوهرها وأهميتها مع تقدمي نحو الانتهاء، حيث تعكس كل حكاية في هذه المجموعة الشبكة المعقدة التي نسجتها ألعاب الربيع الغامضة. إنها حكايات فريدة شهدتها أو سمعتها أو ربما كنت جزءًا من نفسي (رغم أنني لن أعترف بذلك أبدًا)".
استعدادات مهرجان القاهرة السينمائي وأبرز النجوم العالميين المتوقع حضورهم منى هلا تشارك بـ "تيتا" في قسم البانوراما بمهرجان القاهرة السينمائي الدوليونوهت إلى أنها بالصدفة اكتشفت كل قصة خلال موسم الربيع الخيالي، وهي تجسد فلسفتها المظلمة، كما عبر عنها صلاح جاهين شعريًا في قصيدته المثيرة المكونة من أربعة مقاطع: (يأتي الربيع ضاحكًا، لكنه وجدني حزينًا، ينادي الربيع باسمي، لكنني لم أجب، يضع الربيع أزهاره بجانبي،ما فائدة أزهار الربيع للموتى؟).
وأشارت إلى أن تجسيد كل قصة في الفيلم، تعد استلهام من القصائد المصرية الأصلية والألحان الخالدة والجمال المميز للمناظر الطبيعية في بلدنا، وهو تفسيري البصري والسمعي للموسم، وتمتد على مدار رحلة مدتها أربعة أشهر بنهاية حاسمة من دون السعي عمدًا إلى إضفاء دلالات نسوية، حيث يتجه هذا الفيلم بشكل طبيعي نحو حياة وقصص النساء، التي تم التقاطها من خلال منظور معقد ومربك.
وتابعت في نهاية كلمتها: "كان من الضروري أن يتم تجربة هذا الفيلم من خلال عيون وعقول النساء، وأعتبر نفسي محظوظة لأنني جمعت مجموعة رائعة وموهوبة من النساء لإنتاج هذا الفيلم والتمثيل فيه والمساعدة فيه وتصويره وتحريره"، وأهدت هؤلاء النساء الاستثنائيات هذا الفيلم".
من جانبها، كشفت منتجة الفيلم كوثر يونس، كواليس العمل قائلة: "منذ البداية، ألهمني تصميم نهى عادل الثابت على إحياء هذا المشروع بشكل كبير، وعلى الرغم من العقبات التي لا حصر لها، فقد تابعت شغفها ورؤيتها بلا خوف لقد أدى إدراكي لمرونتها وتفانيها إلى تعزيز التزامي بهذا المشروع، فهناك تعمق إيماني بموهبتها وإمكاناتها في سرد القصص، مما دفعني إلى تولي دور المنتج فكان العمل جنبًا إلى جنب مع مثل هذه المخرجة العنيدة شرفًا لا يصدق".
وأضافت: الفيلم يتعمق في طبيعة الحياة غير المتوقعة، ويزيل التوقعات المجتمعية ليكشف عن التعقيدات الخفية من خلال الفكاهة السوداء والقصص الدقيقة، يتحدى الفيلم مفاهيمنا المسبقة عن السعادة، ويكشف عن شبكة متشابكة من المشاعر البشرية التي تشكل حياتنا في مختارات الكوميديا السوداء هذه".
وتابعت: "هدفنا هو توفير منصة للأصوات النسائية، وإلقاء الضوء على المشاعر الخفية وراء موسم الربيع المبهج، ونسعى إلى تحدي تهميش أصواتهن في عالم غالبًا ما يتجاهلهن، فكان التزامنا بإنتاج عمل يركز على المرأة لا يقتصر على الشاشة، بل يمتد إلى فريقنا الذي يعمل خلف الكواليس، والذي توحد لتجسيد هذه الرؤية على أرض الواقع".
وأضافت: "بفضل فهمنا العميق لتعقيدات التجربة النسائية، فإننا ملتزمون بإنشاء شخصيات أصيلة وقابلة للتواصل مع الجمهور، ومن خلال تسليط الضوء على قصصهم، نهدف إلى المساهمة في تمثيل أكثر شمولاً ومساواة داخل الصناعة، ونحن حريصون على مشاركة الفيلم مع الجمهور، ودعوتهم إلى الشروع في رحلة من الاكتشاف والضحك والتأمل الذاتي من خلال الاحتفال بقوة المرأة وقدرتها على الصمود ووجهات نظرها الفريدة نسعى جاهدين لإحداث تأثير مفيد وتعزيز صناعة أفلام أكثر شمولاً ومساواة وذلك من خلال استكشاف المشاعر المعقدة".
واختتمت منتجة الفيلم حديثها: "يكشف الفيلم عن خيط مشترك من الضعف والتناقض يوحدنا جميعًا من خلال الاعتراف بهذه الحقائق، نأمل في تعزيز الفهم والتعاطف، مما يساهم في نهاية المطاف في خلق مجتمع أكثر تعاطفًا وشمولاً وإن المشاركة في هذا المشروع، الذي يتخطى الحدود ويتحدى التصورات ويقدم منظورًا فريدًا للتجربة الإنسانية، يشكل امتيازًا غير عادي، حيث إن طموحنا هو أن يثير (الربيع جاء ضاحكًا) المحادثات ويشعل المشاعر ويترك أثرًا دائمًا على الجماهير في جميع أنحاء العالم".
يُشار إلى أن الفيلم من كتابة وإخراج نهى عادل، وإنتاج كوثر يونس وأحمد يوسف، ومنتج مشارك لورا نيكولوف وسمر هنداوي وساندرو كنعان، ومديرة تصوير سارة يحيى، ومونتاج سارة عبدالله، وتسجيل صوت مصطفى شعبان، وميكساج الصوت أحمد أبو السعد، وتلوين سامي نصار وأحمد شافعي، ومهندس ديكور سلمى تيمور، ومصممة أزياء مشيرة الفحام، ومخرج منفذ ميسون المصري، ومونتاج تتر: ماركوس عريان.
والفيلم من بطولة سالي عبده، ومختار يونس، ورحاب عنان، وريم العقاد، وكارول عقاد، ومنى النموري، وسام صلاح، وروكا ياسر.
المخرجة نهى عادل ولدت عام ١٩٧٥، وهي كاتبة سيناريو ومخرجة أفلام تخرجت من قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة. بفضل خلفيتها في التعلم والتطوير، تابعت شغفها بالسينما من خلال حضور ورشة عمل "أساسيات الإخراج" لمدة ثلاثة أشهر في عام ٢٠١٧. عُرض مشروع تخرجها، الفيلم القصير "مارشدير"، في مهرجان دبي السينمائي الدولي. في عام ٢٠٢٠، كتبت وأخرجت فيلمها القصير الثاني "حدث ذات مرة في القهوة". حققت كلا الفيلمين إشادة، حيث شاركا في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية والمحلية المرموقة كما حصدا عدة جوائز.
ويعد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، هو أحد أعرق المهرجانات في العالم العربي وأفريقيا والأكثر انتظاما، إذ ينفرد بكونه المهرجان الوحيد في المنطقة العربية والأفريقية المسجل في الاتحاد الدولي للمنتجين في بروكسل "FIAPF".