لجريدة عمان:
2025-03-04@03:49:53 GMT

صخر والشارخ

تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT

(1)

كلما زرت صلالة أحبُّ أن أتبين الاختلافات الحاصلة بين منطقة (الحصن) التي كنتُ أعيش فيها والمدينة (صلالة) الجديدة بشوارعها وجسورها ومحلاتها و(عوقد الشمالية) التي أسكن فيها الآن. حرصتُ على تبين ذلك في مقالات سابقة كتبت فيها عن صلالة، وركزتُ على تناول أجزاء ذاتية تخصّ علاقتي بالأمكنة التي تنقلت إليها، سواء في منطقة الحصن كقصر الحصن أو الحارات الثلاث مثلا أو صلالة الجديدة كشارع 23 يوليو فيها، أو مكتبة العائلة أو محل بيع الأشرطة السمعية، وسواء كان الجزء الذي أكتب عنه يدور عن طفولتي التي قضيت أجملها تحت أشجار النخيل في انتظار «الباص» المتجه إلى مدرسة «قصر الرباط»، أو انتقالي إلى مدرسة أخرى لخوض مغامرات اكتشاف وجوه جديدة لحياة التعليم في مدرسة «23 يوليو» بالدهاريز أو مدرسة «النور الثانوية» في صلالة، ففي الأحوال جميعها كنتُ «أكوّن نفسي».

أدّت ظروف الانتقال من مكان إلى آخر إلى تعدد التصورات واختلاف وجهات النظر حول القيمة التي يلعبها المكان في مرحلة الطفولة أو التنشئة أو الدراسة، لتشكل المدينة انعكاسًا لمجمل التصورات الذهنية، وتنوعًا في أسلوب التعبير عنها.

وفي كل جزء صغير (سكة، حارة، شارع، خور، وادٍ، جبل، محل، مكتبة، عمارة، دكان، تنور، ساقية، وبئر) كنت أتناول فيه ذكرى معينة أجدني أغوص عميقا في الماضي الذي لم يبتعد كثيرًا؛ لأنه ما زال يسكنني ويُحرك كتابتي في بعض حواراتي أو لقاءاتي. وليس أدل على ذلك من «شلة صديقات المدرسة» اللاتي إذا التقينا نعيش حالا من الحنين إلى الماضي بكلماته وأغانيه وطعامه، وهزله وجَده. وصحيح أن مظاهر صلالة قد تبدلت وتحولت، لكن فعل الذاكرة يعمل بطرق عديدة متباينة.

اليوم أريد الكتابة عن مظهر من مظاهر التحول الاجتماعي والثقافي في صلالة. يقف وراء كتابة هذا المقال ظرف شخصي بحت، ففي غمرة انشغالي بكتابة مادة دراسية، تعطل «الكمبيوتر» الذكي! وآثر الصمت. تذكرت أن أخي مبرمج «كمبيوتر» فكلمته وطلبت منه التدخل الفوري لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وبعد اجتماعات ونقاشات وعمليات إسعاف قال لي: «عليه العوض ومنه العوض». غضبت وسألته: أين ذهب زمن «الكمبيوتر» الضخم العنيد الذي كان لا يتزحزح من فوق الطاولة؟ أين اختفت مكاتب «كمبيوتر صخر» التي رافقتنا في الثمانينيات؟

أحدث اكتشاف «كمبيوتر صخر» في عالمنا العربي في أواخر الثمانينيات هزّة مجتمعية وفكرية كبيرة، ويجب العودة وأنا أكتب عن كمبيوتر صخر إلى محرك البحث جوجل فيقول التالي: «حاسوب صخر كان مشروعًا مشتركًا انطلق في عام 1982م، وذلك لكسر الحاجز التقني بين الشعوب العربية وتقنية المعلومات، بين شركتي (العالمية) الكويتية و(ياماها) اليابانية، وقد نجح المشروع بشكل كبير، وتم بيع مئات الآلاف من الأجهزة».

الناظر إلى الفقرة السابقة سيوقفه ما يتعلق بالصراع التقليدي الحاصل بين العلم والجهل، بين شعوب تنتج وأخرى تستهلك، بين عقول تفكر وتهيئ لها بيئة منتجة وعقول أخرى تلقى الصد واللامبالاة. سأنتقل إلى الجزء المتبقي من تعريف جوجل فيذكر التالي: «أدّى نجاح مشروع الحاسوب صخر لظهور العديد من المشروعات الشبيهة، التي كانت كلها تستخدم نظام التشغيل صخر «...» في الدول العربية التالية: الكويت، والمملكة العربية السعودية، وفي الجمهوريتين العراق وليبيا. وبينما كانت سوريا والأردن ومصر على وشك إنتاج أجهزة تعمل بالنظام نفسه أعلنت شركة مايكروسوفت المالكة لحقوق نظام التشغيل MSX عن إيقاف تطويره، وذلك في عام 1990م».

إذا كنا سنؤجل الحديث حول العلاقة التصادمية ما بين الغرب الذي يسبقنا بأزمنة طويلة في التكنولوجيا وتطورها، وتأخرنا كعرب، فلا يمكن التغافل عن التطور الذي كان يمكن أن يحدثه «كمبيوتر صخر» في مجتمعات الدول العربية من المحيط إلى الخليج لاسيما مع تطبيق استخدام اللغة العربية! فالدول العربية من ضمن سياج الدول المنعوتة بدول العالم الثالث، نقلا عن (محمد سعيد، الكمبيوتر في العالم الثالث، مجلة الهلال، العدد السادس، 1984م) ليست متطورة تكنولوجيا لكنها آخذة في النمو والتطور، حيث سبقنا كل من (البرازيل والهند ويوغوسلافيا) إلى محاولات تصنيع «الكمبيوتر» والتخلّص من سيطرة القوى العالمية الكبرى في مجال بيع وشراء أجهزة «الكمبيوتر»، «...» فمشكلات اقتصاديات الكمبيوتر كثيرة تتمثل مثلا في «التصميم وتطوير مجالات البحث للحصول على صيغة مختلفة لنوعية الإنتاج تختلف عن الإنتاج الذي يسود الأسواق والمنتج في الدول الكبرى، ومشكلة نقص الأسواق وعنصر المنافسة غير المتكافئ ومسألة صيانة الكمبيوتر واستخداماته وتوجيه من يتخصصون في العمل عليه...».

في سياق الاجتهادات أو المحاولات التي بعثت على الأمل في عالمنا العربي في سوق التكنولوجيا الجهد الذي قدمه رجل الأعمال الكويتي الراحل (محمد عبدالرحمن الشارخ 1942م- 6 مارس 2024م) الذي عمل رئيسا لمجلس إدارة شركة صخر لبرامج الحاسب عام 1982م، وإليه يُنسب الفضل في إدخال اللغة العربية إلى الحواسيب أول مرة في التاريخ. أسس الشارخ الشركة العالمية للإلكترونيات في الكويت والسعودية، وفي الكويت أسس مشروع صخر لتعريب الكومبيوتر، وبعد ذلك طُوِّر القارئ الآلي والترجمة الآلية والنطق الآلي»، وغيرها من المشروعات التي تخدم اللغة العربية والقرآن الكريم.

(2)

بدأت صلالة التعرّف على كمبيوتر صخر عن طريق معهد صخر في أوائل التسعينيات، ويمكن مقارنة قصة التعرّف إلى جهاز الكمبيوتر وخوض غمار التدريب في تكنولوجيا المعلومات وتاليا الاستثمار فيه، بقصة اكتشاف النفط في الجزيرة العربية. شكَّل معهد صخر قفزة كبيرة في حياة جيل كبير من الذكور والإناث. حيث مكّن شرائح المجتمع المختلفة من الدخول إلى عالم جديد من المعرفة والتقنية الحديثة.

هناك اتفاق على أنّ معهد وكمبيوتر صخر كانا الشرارة الأولى لاكتساح الشوارع في ظفار بمحلات بيع الكمبيوترات وإكسسواراتها. أتذكر في صلالة الجديدة حيث كنا نسكن، افتتحت عدة محلات لبيع الكمبيوتر هَويتها لم تكن واضحة تماما كهوية كمبيوتر صخر؛ بمعنى أن احتواءها على بضع أجهزة كان الهدف منه التسلية لا التدريب. كان الناس يسارعون إلى تقليد بعضهم، فإذا فتح أحدهم محلا لبيع الكمبيوترات في شارع (النجاح)، قلده الآخرون في شارع (صلالة الجديدة) أو شارع (الغبيراء) والعنصر المختلف بينهم هو عنوان المحل، أما القاسم المشترك، فكان كلمة كمبيوتر، وعندما بدأت التوجيهات الرسمية بتعريب المصطلحات لدى الجهات الحكومية، سارعت مكاتب الشركات والمؤسسات التجارية والمحلات إلى تعريب كمبيوتر إلى مفردة الحاسب الآلي، وهكذا انتشرت اللفظة المعرّبة بعد ذلك في جميع ولايات ظفار.

في أوائل التسعينيات أخذ انتشار الكمبيوتر يشكل طفرة واسعة. كان هناك دورات كثيرة مبتدئة ومتقدمة، سارعت المديريات إلى إدخال الكمبيوتر في دوائرها وأقسامها وتأخرت أخرى. وكان هناك أناس درسوا على حسابهم تلبية لشغفهم الخاص، بالرغم من ارتفاع رسوم الدراسة في معهد صخر، وأناس آخرون استطاعوا أخذ دورات على حساب الحكومة، وفي مراحل التقدم إلى الوظيفة كان مَن لديه شهادة متقدمة في تشغيل الحاسب الآلي له الأولية في التوظيف.

عندما ظهر معهد صخر لتعليم مبادئ الحاسوب الآلي كان موقعه في رقم (5) بصلالة الشرقية، ثم استبدل وانتقل إلى منطقة صلالة الجديدة، وظهرت في مكانه بعد ذلك معاهد أخرى. كان كل من يتعلم في معهد صخر يعد من فئة المميزين كأول معهد لتعلم الكمبيوتر المُعرّب.

سبق العمل في السوق على الكمبيوتر الارتباط بآلة الطباعة الإلكترونية، وانكب الناس يتدربون على أصولها، ثم أخذ المجتمع يستجيب لدواعي التنمية المتطورة، فتزامن العمل على الكمبيوتر مع الإنترنت، في صلالة بالقرب من بيتنا، كان افتتاح محل لبيع أجهزة الكمبيوتر يفتتح إلى جواره محل آخر لألعاب التسلية، ولا يزدان سطح البيت إلا بقرص ستالايت يتنافس على قنواته المشفرّة من لديه وفرة في المال، ثم مع الوقت، صار كل بيت يمتلك ساكنوه (اللابتوب) الخاص، وتطور الحال بعد ذلك خطوة خطوة فأصبح كل فرد له (بيجر). في المقابل كانت الألعاب والبرامج التي كان يقدمها كمبيوتر صخر في بدايته مقتصرة على «مغامرة البطريق، وابن سيناء، واختبر معلوماتك، والوطن العربي، واختبر ذكاءك، ونافذة على العالم، والجدول الدوري»، صار الفرد المنتمي إلى اقتصاديات السوق الجديدة والعولمة لديه أجهزة ألعاب التسالي الرقمية وتوابعها، وفي هذا الوقت يتمدد العالم بكل سطوته المالية في الذكاء الاصطناعي الذي يتدخل في المواد الجامدة وغير الناطقة، فيحركها إلى مواد حية تنطق ألوانها بالبهجة وأصواتها بما لا يخطر على العقل والفؤاد.

اليوم في ظل زحمة التكنولوجيا واختفاء محلات تعليم الحاسب الآلي وحلت مكانها محلات بيع زينة السيارات والمطاعم والأزياء وأدوات التجميل، ومع انتشار مقاهي القهوة التي صار كل زبون يدخلها يحمل فوق كتفه حاسوبه الخاص لينزوي في ركن يطلب كابتشينو، ويفتح حاسوبه ليغرق في تواصل افتراضي مع خوارزميات لا نهاية لها، أرجع إلى الماضي بكل بساطته وفَقره المعلوماتي وتقشف فضاءاته، اشتبك مع أغنية من التراث المرباطي، ولا أنوي فعل شيء سوى تأمل شكل مدينة صلالة الجديد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی صلالة

إقرأ أيضاً:

معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان.. ومن الذي يوسوس لنا ؟

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما معنى تصفيد الشياطين في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»، وكيف نفسر حصول المعاصي من بعض الناس في شهر رمضان مع كون الشياطين مُصفَّدة؟".

لترد دار الإفتاء المصرية، موضحة: أن معنى عبارة "تصفيد الشياطين" الواردة في الحديث الشريف المسؤول عنه قد تفاوت العلماء في تفسيره على مداركَ متعددةٍ، وإن كانت في جملتها متكاملة متعاضدة، فقد يُرَاد به أنَّ الشياطين مغلولون ومقيدون حقيقةً في هذا الشهر، وقد يكون المراد أنهم ممنوعون من إيذاء المؤمنين وإغوائهم والتزيين لهم، ويحتمل أن المراد أن الله تعالى يحفظ فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، أو يقصد به نوعٌ مخصوصٌ من الشياطين، وهم: مُسْتَرِقُو السَّمْع منهم، أو مَنْ صُفِّدوا هم غالب الشياطين والمَرَدةُ منهم، وأما غيرهم فغير مُصَفَّد.

وأما حصول المعاصي من بعض الناس في شهر رمضان مع كون الشياطين مُصَفَّدة: فإما أن يكون تصفيدُهم إنما هو في حقِّ الصائم المراعي لشروط الصوم وما ينبغي أن يتحلَّى به من آدابه، أو أنَّ سبب اقتراف الذنوب آتٍ من النفس وخَطراتها.

تفضيل شهر رمضان على غيره من الشهور

مما امتاز به شهر رمضان المعظم عن غيره من الشهور الأخرى ما أكدته السُّنَّة النبوية المطهرة من أنه إذا دخل هذا الشهر المُعظم صُفِّدَتِ الشياطين، وقد تواردت نصوص السُّنَّة المشرفة على ذلك، وأهمها:

ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه مسلم.

وما ثبت أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه الشيخان، واللفظ للبخاري.

وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» رواه الترمذي، وابن ماجه في "السنن"، والحاكم في "المستدرك".

معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان

لفظ «صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» الوارد في كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إما أن يكون معناه التصفيد حقيقة، فتكون الشياطين في هذا الشهر مغلولةً مُصَفَّدَةً ممنوعة من التصرف وبعض الأفعال التي لا تُطِيقُهَا إلا مع الانطلاق، والأغلال تكون بالحديد، وإن الشياطين مع ذلك ليست ممتنعةً مِن التصرف جملة؛ لأن الْمُصَفَّدَ المغلول اليد إلى العنق يتصرف بالكلام والرأي وغيرهما، كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (1/ 144، ط. دار المعرفة)، والإمام الباجي في "المنتقى" (2/ 75، ط. مطبعة السعادة).

وإما أن يكون تصفيد الشياطين معناه: أنه مِن شدةِ بركات هذا الشهر فكأنها كالْـمُصفَّدة، وإما أن يكون المراد: أنهم ممنوعون من إيذاء المؤمنين وإغوائهم وتزيين الشهوات لهم في هذا الشهر.

قال القاضي عياض في "شرح صحيح مسلم" (4/ 5-6، ط. دار الوفاء): [«وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»: قيل: يحتمل الحقيقة... وكذلك تصفيد الشياطين ليمتنعوا من أذى المؤمنين وإغوائهم فيه، وقيل: يحتمل المجاز لكثرة الثواب والعفو، والاستعارة لذلك بفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، وقد جاء في الحديث الآخر: «وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» وبأن الشياطين كالمصفدة لما لم يتم إغواؤهم بعصمة الله عباده فيه... ويكون معنى "تصفيد الشياطين" هنا خصوصًا عن أشياء دون أشياء، ولبعض دون بعضٍ، أو على الغالب، وجاء في حديث آخر: «صُفِّدَتْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ»... ومعنى "صُفِّدَتْ": أي: غُلِّلَتْ، والصَّفَد، بفتح الفاء، الغُلُّ، وقد روى في الحديث الآخر: "سُلسِلت"] اهـ.

وقال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (16/ 153، ط. أوقاف المغرب): [وأما قوله: «وَصُفِّدَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ» أو «سُلْسِلَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ» فمعناه عندي -والله أعلم-: أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، فلا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليه منهم في سائر السَّنَة] اهـ.

ومن المعاني المحتملَة في "تصفيد الشياطين": أن يكون المراد نوعًا من الشياطين، وهم: مُسْتَرِقُو السمع منهم، والذين يقع تسلسلهم في ليالي رمضان دون أيامه؛ لأن القرآن كان ينزل فيها، وهم قد مُنِعُوا في زمن نزول القرآن مَن استراق السمع، فزيدوا في التصفيد والتسلسل مبالغة في الحفظ. يُنظر: "فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (4/ 114).

ويحتمل أيضًا أن يكون المراد: أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام والطاعات ومما فيه قَمْعٌ للشهوات، فكأنَّ الله تعالى يَعْصم في هذ الشهر المُعَظَّم المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي.

قال الإمام المُنَاوي في "فيض القدير" (1/ 340، ط. المكتبة التجارية): [لفظ رواية مسلم: "صُفِّدت" (الشياطين)، شُدَّت بالأغلال؛ لئلا يوسوسوا للصائم، وآية ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن الذنوب فيه وإنابتهم إليه تعالى] اهـ.

وقال العلامة الطيبي في "شرح الطيبي على مشكاة المصابيح" (5/ 1576، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [والتصفيد في شهر رمضان مبالغة للحفظ، ويحتمل أن يكون المراد به أَيَّامَهُ وبعده، والمعنى: أن الشياطين لا يخلصون فيه من إفساد الناس ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغال أكثر المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات، والله أعلم] اهـ.

تفسير وقوع المعاصي في رمضان مع كون الشياطين مصفدة


أما وقوع المعاصي والذنوب مِن بعض الناس في شهر رمضان مع أن الشياطين مُصَفَّدة، فهذا له تأويلات: فإما أن تصفيدهم إنما هو في حقِّ مَن صام محافظًا على شروط الصوم وما ينبغي أن يتحلَّى به الصائم من آداب، وإما أن هناك أسبابًا أخرى لاقتراف الذنوب والمعاصي، كالنفوس الخبيثة، والعادات الركيكة، والشياطين الإنسية، وإما أن يكون المراد بمن صُفِّدوا هم غالب الشياطين والمردة منهم، وأما غيرهم فقد لا يُصَفَّد، ويكون المعنى المراد حينئذٍ هو: تقليل الشرور، وذلك موجود في رمضان؛ فإن وقوع الشرور والفواحش فيه قليلٌ بالنسبة إلى غيره من الشهور الأخرى.

قال الإمام أبو العباس القرطبي في "المفهم" (3/ 136، ط. دار ابن كثير): [فإن قيل: فنرى الشرور والمعاصي تقع في رمضان كثيرًا؛ فلو كانت الشياطين مُصَفَّدة لما وقع شرٌ؟ فالجواب من أوجه:

أحدها: إنما تُغَلُّ عن الصائمين الصوم الذي حُوفظ على شروطه، ورُوعيت آدابه، أما ما لم يحافظ عليه فلا يُغَل عن فاعله الشيطان.

والثاني: أنا لو سلمنا أنها صُفِّدت عن كل صائم، لكن لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين، ألا يقع شرٌ؛ لأن لوقوع الشر أسبابًا أُخَر غير الشياطين، وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الرَّكيكة، والشياطين الإنسية.

والثالث: أن يكون هذا الإخبار عن غالب الشياطين، والمردة منهم، وأما من ليس من المردة فقد لا يُصَفَّد. والمقصود: تقليل الشرور. وهذا موجود في شهر رمضان؛ لأن وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور] اهـ.

وقال الإمام المُنَاوي في "فيض القدير" (1/ 340): [وأما ما يوجد فيه من خلاف ذلك في بعض الأفراد فتأثيرات من تسويلات المردة أغرقت في عُمْق تلك النفوس الشريرة وباضت في رؤوسها، وقيل: خُصَّ من عُمومٍ.. تنبيه: عُلم مما تقرر أن تصفيد الشياطين مجازٌ عن امتناع التسويل عليهم واستعصاء النفوس عن قبول وساوسهم وحسم أطماعهم عن الإغواء؛ وذلك لأنه إذا دخل رمضان واشتغل الناس بالصوم وانكسرت فيهم القوة الحيوانية التي هي مبدأ الشهوة والغضب الداعيَيْن إلى أنواع الفسوق وفنون المعاصي وصَفَتْ أذهانهم واشتغلت قرائحهم وصارت نفوسهم كالمرائي المتقابلة المتحاكية وتنبعث من قُواهم العقلية داعية إلى الطاعات ناهية عن المعاصي فتجعلهم مُجمِعين على وظائف العبادات عاكفين عليها مُعرِضين عن صنوف المعاصي عائقين عنها، فتفتح لهم أبواب الجنان وتغلق دونهم أبواب النيران ولا يبقى للشيطان عليهم سلطان فإذا دنوا منهم للوسوسة يكاد يحرقهم نور الطاعة والإيمان] اهـ.

مقالات مشابهة

  • شيخ الأزهر: ندعو الله أن يوفِّق القادة العرب في القمة العربية ووضع حدٍّ للغطرسة والفوضى التي يتعامل بهما الداعمون للكيان المحتل
  • محمد الأشمر.. من هو الثائر السوري الذي تحدى الفرنسيين؟
  • الدور المصري الذي لا غنى عنه
  • اليابان تطور أصغر لعبة كمبيوتر في العالم !
  • الطبق الذي كان يفضله الرسول عليه الصلاة والسلام
  • عبد الله: ودعنا اليوم رفيقنا علي عويدات الذي تشهد له الساحات والمواقف
  • التقاطع المزراحي الفلسطيني الذي لا يتحدث عنه أحد
  • المغرب الدولة العربية الوحيدة التي أعلنت الأحد أول أيام رمضان
  • معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان.. ومن الذي يوسوس لنا ؟
  • ألمانيا تحقق مع امرأة حاولت تقليد مشاهد من لعبة كمبيوتر في أماكن عامة