الصقر الليبرالي.. قصة أنتوني بلينكن الذي يضع إسرائيل أولا
تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT
قبل أيام، خرج وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين ليبدي تفاؤلا بشأن التقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس). هذه المرة كان التفاؤل الأميركي مستندا على المقترح الذي قدمته إدارة بايدن الأسبوع الماضي "لسد الفجوات"، ومن ثم موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على ذلك المقترح الذي يشمل استمرار بقاء جيش الاحتلال في معبر رفح ومحور نتساريم، رغم معارضة مصر وحماس معا.
فبعد أشهر من التصريحات حول "الضغط الأميركي" على نتنياهو لعقد صفقة، جاء مقترح الإدارة الأميركية ليوضح موقف "الوسيط"! فإثر هذا المقترح، نقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" عن مسؤوليْن عرب أن المقترح عزز مواقف نتنياهو وأوصل المفاوضات إلى طريق مسدود.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جاءت بأسلحتها الثقيلة.. هل تنزلق أميركا لحرب شرسة لا تريدها؟list 2 of 2"خاوة".. العالم كما يراه يحيى السنوارend of listأما صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فقالت إن بلينكن "ارتكب خطأ كبيرا عندما أعلن عن قبول نتنياهو بالمقترح الأميركي ونقل الكرة إلى ملعب حماس"، إذ "حرص بلينكن على إظهار تفاؤله لاعتبارات سياسية تخص الحزب الديمقراطي… وحكم على الصفقة بالإعدام".
يجيء هذا الموقف ليُعبِّر عن الوسيط الأميركي الذي يُمثِّله بلينكن بعد ما يزيد على عشرة أشهر من حرب الإبادة، وليؤكد موقفه الأول حين سارع بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول لزيارة إسرائيل، للقول إنه لم يأتِ بصفته وزيرا لخارجية الولايات المتحدة؛ بل بصفته "يهوديا فرَّ جده من القتل". لكن ما الذي يجعل بلينكن يُبدي كل هذا الدعم غير المشروط لإسرائيل؟ وكيف يمكن أن نفهم مواقف وزير الخارجية الأميركي؟ وهل يمكن اعتباره وسيطا حقا؟
قصة صعود غير مفاجئلم يكن العالم قد تخطى تماما آثار وباء كورونا (كوفيد) عندما قررت جامعة جورجتاون الأميركية في العاصمة واشنطن أن تُقيم احتفالها بالخريجين بمشاركة شخصية، وبلا تباعد، وبحضور إحدى أهم الشخصيات السياسية الأميركية، وزير الخارجية أنتوني بلينكن. وفي 21 مايو/أيار 2022، وبينما كان خريجو الجامعة المرموقة يتسلمون شهاداتهم ويسلمون على بلينكن، ظهر عدد من الطالبات والطلاب يرتدون الكوفيات الفلسطينية، ويحملون صور الصحفية شيرين أبو عاقلة، التي كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد قتلتها قبل ذلك بعشرة أيام أثناء تغطيتها لاقتحام مخيم جنين. ووسط هؤلاء، مرت خريجة بملامح عربية تلوِّح بالعلم الفلسطيني في هدوء، لتتسلم شهادة تخرجها، وبينما كان بلينكن يمد يده ليصافحها مهنئا، أشاحت بوجهها عنه، وتمتمت بكلمات بدت غاضبة وهي تهز رأسها يمنة ويسرة، سحب بلينكن يده سريعا في إحراج ظاهر لم تخفف منه ابتسامته التي لم تفارق وجهه، قبل أن يعود الحفل إلى مجراه، ويعود بلينكن إلى مكتبه في مقر وزارة الخارجية.
لا شك أن بلينكن، الذي كان قد أكمل عامه الستين قبل شهر واحد، فكر لاحقا فيما حدث، فقد انتشر مقطع الفيديو الذي تتجاهله فيه الطالبة انتشار النار في الهشيم. لكن الأرجح أنه لم ير فيما حدث سوى رد فعل غاضب سيخفت مع الوقت، ولعله ابتسم في قرارة نفسه لحفاظه على رباطة جأشه المعهود الذي سمح له بأن تمر اللحظة سريعا وبأقل خسائر ممكنة.
لكن ما لم يعرفه بلينكن أن الطالبة لم تكن سوى نوران الحمدان، الفلسطينية الأميركية، التي درست العلوم السياسية والاقتصاد في أحد أفضل برامج الدراسات الدولية في العالم، قبل أن تنخرط في دراسة الماجستير في الدراسات العربية. كانت نوران تحمل صورة أبو عاقلة وقد كُتب عليها بالإنجليزية "مقاومة حتى العودة والتحرير"، وقالت لاحقا إنها لم تخبر بلينكن غير أنها تطالب بتحقيق مستقل في استشهاد شيرين أبو عاقلة، وهي المواطنة الأميركية كذلك، وأن على الولايات المتحدة أن توقف كل الدعم لإسرائيل. لم تكن نوران تتحدث بدافع لحظة غضب عابرة كما أمّل بلينكن، فقبل أشهر قليلة من حفل التخرج، كانت نوران تتحدث في محاضرة من تنظيم النادي الطلابي للعدالة لفلسطين، وفي نهاية المحاضرة قالت نوران كلمة دفعت الجميع للتصفيق بحرارة وأمل: "إنني أعلم يقينا أننا سنشهد تحرير فلسطين في حياتنا، وسيكون ذلك قريبا".
لم يكن تعامل بلينكن مع الموقف الذي تعرض له في جامعة جورجتاون استثناء، فمسيرته الدبلوماسية الطويلة تشهد بـ "لطفه"، لكنها أيضا تشهد بتأخره كثيرا في تقييم الأمور على حقيقتها، فتجاهله لمقتل صحفية تحمل جنسية بلاده لأن القاتل إسرائيلي، كان لا بد أن يؤدي إلى ما هو أفدح كثيرا. ولهذا نرى أن أزمة بلينكن الكبرى لا تكمن في صياغة سياسات لطيفة، لا تُغضب أصدقاء الولايات المتحدة المارقين، بل في اضطراره التعامل مع تداعيات سياساته "اللطيفة" تلك، التي عادةً ما تقوده إلى ترك الولايات المتحدة في وضع إستراتيجي وتكتيكي أسوأ كثيرا مما وجدها عليه.
السياسة بالنسبة لبلينكن ليست مشروع نجاح شخصي فقط، بلهي مشروع عائلي أيضا. (رويترز)
والحقيقة أن صعود أنتوني بلينكن على رأس الدبلوماسية الأميركية لم يكن مفاجئا، فقد أتى الرجل من عائلة يهودية عريقة في المجال. فقد كان عمّه سفيرا للولايات المتحدة في بلجيكا، في الوقت الذي كان فيه أبوه سفيرا في المجر، كما أن زوج أمه لاحقا عمل مستشارا للرئيس جون كينيدي، وخدم كذلك مستشارا مع عدد من رؤساء فرنسا. بلينكن يتحدث فرنسية لا يعيبها إلا لكنة أميركية بسيطة يصعب ملاحظتها، فبعد طلاق والديه، انتقل بلينكن مع أمه وزوج أمه، صامويل بيسار، المحامي الأميركي البولندي الذي نجا من المحرقة النازية لليهود إلى فرنسا ليدرس في بعض المدارس الثانوية المرموقة في باريس.
نشأة بلينكن جعلته معروفا بهواه الأوروبي، فلن تخطئ توجهاته وانحيازاته في أي قضية كبرى، من التغير المناخي إلى برنامج إيران النووي مرورا بالحرب الروسية الأوكرانية، فدوما يُصرِّح الرجل بأولوية التنسيق مع حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين.
عاد بلينكن إلى الولايات المتحدة في منتصف الثمانينيات ليدرس في جامعة هارفارد، قبل أن يدرس القانون في جامعة كولومبيا، ولينتقل لاحقا للسياسة. عمل الرجل في حملات انتخابية رئاسية في الثمانينيات، وبدأت علاقته بوزارة الخارجية مساعدا فيما كان يُعرف "مكتب الشؤون الأوروبية والكندية"، وانضم لاحقا إلى إدارة بيل كلينتون حيث عمل مساعدا ومستشارا في مجلس الأمن القومي حتى بداية عام 2001 وتولي جورج بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة. لفترة محدودة، انضم بلينكن بصفته باحثا إلى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، وفي 2002، انضم بلينكن إلى مجلس الشيوخ بصفته مديرا لموظفي الحزب الديمقراطي في لجنة العلاقات الخارجية التابعة للمجلس، التي كان يترأسها السيناتور جو بايدن.
السياسة بالنسبة لبلينكن ليست مشروع نجاح شخصي فقط، بل هي مشروع عائلي أيضا. في الثاني من مارس/آذار عام 2002، وقف أنتوني بلينكن في حفل زفافه أمام حشد من الحضور وقال رافعا كأسه: "هذا نخب أربعين مليونا من الأميركيين الذين صوّتوا لبيل كلينتون في الانتخابات الرئاسية، فمِن غيرهم لم يكن لهذا الزواج أن يتم!".
قبل ذلك بسبع سنوات، كان بلينكن قد التقى زوجته المستقبلية إيفان ريان في البيت الأبيض. فقد كان بلينكن يكتب خطابات مجلس الأمن القومي، في حين كانت ريان تنظم جدول مواعيد السيدة الأولى حينها، هيلاري كلينتون. عندما تزوجا، قرر بلينكن وريان أن يجعلا زواجهما متعدد الخلفيات أيضا، فقد شارك في عقد الزواج حاخام يهودي من طرف بلينكن، وقس كاثوليكي من طرف ريان. أتت ريان من خلفية سياسية إلى حدٍّ ما، فقد عمل جدها لعشر سنوات رئيسا لجهاز الخدمة السرية المكلف بحماية الرئيس الأميركي ونائب الرئيس، وأسرهم، وبعض الشخصيات مثل مرشحي الرئاسة والرؤساء السابقين، وكبار الشخصيات الأجنبية التي تزور الولايات المتحدة. تعرّض الرئيس الأسبق جون كينيدي للاغتيال خلال فترة تولي ريان الجد لمنصبه في جهاز الخدمة السرية.
ومنذ 2002، لم يفارق بلينكن بايدن تقريبا. فقد صحبه في لجنة العلاقات الخارجية حتى عام 2008، وعندما انتُخب بايدن على بطاقة باراك أوباما نائبا للرئيس، لم ينتظر طويلا إلى أن انتقل إلى البيت الأبيض مستشارا للأمن القومي لنائب الرئيس. وفي الفترة الرئاسية الثانية لأوباما بعد إعادة انتخابه، أصبح بلينكن، حسب سيرته الذاتية الرسمية التي وفرتها وزارة الخارجية الأميركية، مساعدا لوزير الخارجية، ونائبا لمستشار الأمن القومي في إدارة أوباما. لذلك، عندما اختاره بايدن مرشحا لوزارة الخارجية الأميركية بعد أربع سنوات من السياسات الخارجية المضطربة لدونالد ترامب، حصل بلينكن سريعا على ثقة مجلس الشيوخ بأغلبية 78 صوتا مقابل 22 في المجلس ذي الغالبية الجمهورية.
لكن لماذا يُصوِّت الجمهوريون لصالح أنتوني بلينكن بأغلبية مريحة بعد معركة انتخابية شديدة الشراسة بين ترامب وبايدن؟ لعل الأمر يرتبط بوجود بلينكن السابق في مجلس الشيوخ بصفته مستشارا للجنة العلاقات الخارجية، فهو وجه مألوف، لكن الإجابة الأوقع تكمن في مواقف بلينكن السابقة وشخصيته.
إذا جاز لنا تصنيف السياسيين الأميركيين إلى صقور وحمائم، وإلى محافظين وليبراليين، فعادة ما يُنظر إلى رموز الحزب الجمهوري باعتبارهم من الصقور المحافظين، في حين يقدم الديمقراطيون أنفسهم باعتبارهم من الحمائم الليبراليين. أما أنتوني بلينكن، فيمكن اعتباره صقرا ليبراليا. يعارض بلينكن الجمهوريين، لكن هل هذا يعني أنه يعارض كل سياسات الحزب الجمهوري؟ في الحقيقة، يبدو بلينكن متفقا مع الصقور الجمهوريين ودعاة الحرب، لا حول بعض السياسات فحسب، بل كلها غالبا.
فمثله في ذلك مثل بايدن، كان بلينكن من أشد المؤيدين للحرب الأميركية على العراق، وكذلك كل الحروب الأميركية والتدخلات العسكرية، ومعظمها في المنطقة العربية، خلال العشرين عاما الماضية. فقد دعم التدخل العسكري الأميركي في ليبيا، وفي سوريا، وكذلك لا يختلف موقفه تجاه الصين أو روسيا عن مواقف معظم الجمهوريين، من حيث السعي لإثبات الهيمنة الأميركية بلا كثير نظر للقوى الصاعدة في العالم.
وبحسب بعض المعلقين، فإن هذا الموقف يأتي، جزئيا، بسبب أن بلينكن من ذلك الجيل من الدبلوماسيين والسياسيين الأميركيين الذين لم يضطروا للتعامل مع الاتحاد السوفياتي، فمنذ تخرجه في جامعة هارفارد عام 1988، لم يعرف بلينكن عن العالم إلا أنه أحادي القطب، وهذا ما لا يمكن التعامل معه بوصفه حقيقة واقعة في الوقت الحالي ولسنوات مضت.
أما العلاقة مع إسرائيل، فتلخصها كلمات بلينكن في زيارته الأولى لإسرائيل بعد بدء حرب الإبادة على غزة في أعقاب هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين قال: "إنني لا أقف أمامكم بصفتي وزير خارجية أميركا فحسب، بل بصفتي يهوديا"، وأكمل الدبلوماسي اللطيف قائلا: "لقد هرب جدي من اضطهاد اليهود في روسيا، ونجا زوج أمي من محارق النازية"، وتابع ملتفتا إلى نتنياهو: "إنني أعرف الألم الذي تسببت فيه مذبحة حماس شخصيا، لا ليهود إسرائيل فحسب، بل لليهود في العالم كله"، وهو الأمر الذي علقت عليه صحيفة "جيروزالم بوست" بالقول إن بلينكن يرى "تدمير المجتمعات اليهودية في جنوب إسرائيل [مستوطنات غلاف غزة] بالعين نفسها التي يرى بها الهولوكوست".
ربما لم يكن بإمكان أي صقر جمهوري، ولا حتى دونالد ترامب، أن يقدم دعما لنتنياهو مثل ذلك الذي قدمه بلينكن وإدارة بايدن، ولعل ذلك أهم الأسباب التي رآها الجمهوريون مسبقا وشجّعتهم على منحه الثقة في مجلس الشيوخ بمجرد اقتراح اسمه لوزارة الخارجية.
الموظف المثالي والسياسي المترددلم يكن الخامس والعشرون من مايو/أيار 2021 يوما جيدا للدبلوماسية الأميركية في جنوب شرق آسيا. فقد اجتمع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في أول اجتماع افتراضي لهم مع وزير الخارجية الأميركي الجديد أنتوني بلينكن. وبعد انتظار دام نحو ساعة، علموا أن خللا فنيا من شأنه أن يمنع بلينكن من المشاركة في المكالمة، التي كان من المقرر أن ينضم إليها من طائرته أثناء توجهه إلى الشرق الأوسط. لكن بعد بضعة أسابيع، طارت المجموعة نفسها من وزراء رابطة دول جنوب شرق آسيا إلى الصين ليستمتعوا بمعاملة خاصة للغاية بعد أن فُرشت لهم السجادة الحمراء، ونُظم اجتماع شخصي مثمر وخالٍ من الفوضى والمشكلات التقنية مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي. ولم يكن صعبا على أي مراقب رصد الفرق الكبير بين الحادثتين.
فرغم أن جنوب شرق آسيا يُعد إحدى أهم مناطق الاشتباك بين الولايات المتحدة والصين على الساحة العالمية، لم يظهر أمام الدول الآسيوية إلا التردد الأميركي المستمر الذي أبرزه الوضوح الصيني والحسم في القضايا، والاستقبال الحافل الذي شهده وزراء تلك الدول في بكين.
وهنا تبرز إحدى أكبر مشكلات بلينكن، فالمواقف الأميركية الضعيفة على الساحة الدولية ليست بسبب انعدام المعرفة أو الخبرة لدى رأس الدبلوماسية الأميركية، بل لأنه موظف ملتزم من الدرجة الأولى. فقبل عام واحد من تعيينه وزيرا للخارجية، كتب بلينكن مقالا في معهد بروكنغز للسياسات يعارض فيه سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب التي يقول فيها "أميركا أولا". في مقاله عدَّد بلينكن أربعة أركان تقوم عليها السياسة الأميركية المثالية، لكن المتابع للسياسة الخارجية الأميركية مع بلينكن يدرك البون الشاسع بين ما يعتبره بلينكن سياسة مثالية وبين ما يسير عليه في قيادته لوزارة الخارجية.
فمثلا، يقول بلينكن إن أول أعمدة السياسة الخارجية المسؤولة هي أن تكون الدبلوماسية وقائية لمنع الأزمات من الحدوث أو تحجيمها قبل خروجها عن السيطرة. ويؤكد بلينكن أن الدبلوماسية وحدها لا تكفي، فيجب أن يصحبها الردع العسكري. ونظرة سريعة على الدبلوماسية الأميركية خلال الأعوام الأخيرة، في مواقف مثل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، يدرك أن الولايات المتحدة قد فشلت في الوقاية من أي أزمة كبرى، بل وأخفقت تماما في منع تدهور الأوضاع، بل وأعطت الضوء الأخضر لاستمرار الجرائم الإسرائيلية، التي تجاوزت حدود فلسطين المحتلة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران.
كذلك يؤكد بلينكن أن المؤسسات الدولية التي صُممت بعد الحرب العالمية الثانية جعلت من الحكمة استخدامها، وبالتالي فإن السياسة المثالية تقتضي الاستعانة بهذه المؤسسات النقدية والاقتصادية والعدلية. لكن الإخفاق الأميركي، بل ما يراه كثيرون بـ "التواطؤ" من الخارجية الأميركية، في فرض عقوبات على المؤسسات الدولية الداعمة للفلسطينيين، مثل الأونروا، أو حتى دعم إسرائيل بوصفها دولة مارقة على الفرار من المسؤولية الدولية والقانونية أمام محكمة العدل الدولية، أو مجلس الأمن الدولي، كلها تؤكد أن بلينكن استبدل بشعار "أميركا أولا" شعار "إسرائيل أولا"، لا سيما مع الضرر المتحقق من هذا الدعم على علاقة الولايات المتحدة بالعالم وموقفها في المستقبل.
يبدو بلينكن في هذه اللحظة موظفا مؤدبا بتعبير صحيفة "بوليتيكو" الأميركية، ولطيفا، لا يريد أن يُغضِب أصدقاءه، ولا يبدو واعيا بتغير العالم من حوله وموقع الولايات المتحدة الجديد منه. لذلك، فإن السياسة الخارجية الأميركية تحت بلينكن تبدو معبرة بصدق عن اللحظة الأميركية الحالية؛ فشل متعدد الأوجه، يغلف بهدوء ظاهر، ويخفيه قوة عسكرية قاهرة. لكن إلى متى يمكن أن يستمر الوضع على تلك الحال؟
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد الخارجیة الأمیرکیة الخارجیة الأمیرکی الولایات المتحدة أنتونی بلینکن وزیر الخارجیة جنوب شرق آسیا مجلس الشیوخ کان بلینکن فی جامعة بلینکن ی الذی ی لم یکن
إقرأ أيضاً:
خيارات أوكرانيا بعد وقف إمدادات السلاح الأميركية
كييف– في وضع لا تحسد عليه، أصبح حال أوكرانيا بعد أن أوقفت الولايات المتحدة الأميركية إمدادات السلاح عنها، على خلفية المشادة الشهيرة بين الرئيسين دونالد ترامب وفولوديمير زيلينسكي، وخلافات بينية حول "شكل السلام" الذي يحيكه الرئيس الأميركي بين أوكرانيا وروسيا.
ولم يعد الأمر بالنسبة لأوكرانيا كما كان عليه في الأسابيع الأولى من حربها ضد روسيا قبل 3 سنوات، حين تدفق الدعم الغربي بالمال والسلاح بمليارات الدولارات، وخاصة من أميركا التي زودتها خلال عام 2024 فقط بنحو 40% من حاجتها للسلاح.
"هامش أمان"وهزَّ وقف إمدادات السلاح الأوكرانيين، ودفعهم للاستنفار على عدة صعد، فسارعوا إلى طمأنة الداخل، واستعجال قرارات أوروبية غربية تسد الفراغ الأميركي، تزامنا مع تزايد الجهود لرأب شرخ العلاقات مجددا مع واشنطن.
ويقول عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان الأوكراني، فيودر فينيسلافسكي، إن "لدى أوكرانيا هامش أمان يكفيها نصف عام دون مساعدة منتظمة من الولايات المتحدة، وأن السلطات تبحث عن بدائل".
وهو ما أكده رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميهال، حين أعلن "بناء مجمع صناعي دفاعي جديد، وتضاعف حجم الصناعات الدفاعية 35 مرة منذ بداية الحرب، وأن بلاده حددت 20 مجموعة للتفاوض مع الشركاء الغربيين حول الإمدادات".
إعلانومن جهته، ناشد البرلمان الأوكراني كلا من الرئيس الأميركي دونالد ترامب والكونغرس والشعب الأميركيين، وثمَّن "جهود ومبادرات ترامب" الشخصية، حسب وصفه، وأكد رغبة الأوكرانيين بتحقيق السلام، وشدد على أهمية "الشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة".
وبدت ردود الفعل الأوكرانية هذه وكأن البلاد أقرت بالعجز ورضخت لإرادة ترامب، الذي يضغط على أوكرانيا بحرمانها أكثر ما تحتاج حاليا، وتبدو أيضا كذر للرماد في عيون الأوكرانيين، لأنها لا تغير شيئا من حقيقة الوضع.
ويقول فاليري رومانينكو الباحث في جامعة "ناو" للطيران في كييف للجزيرة نت "المشكلة أكبر بكثير مما يتخيل البعض، فهي لا تقتصر على ذخيرة الجبهات، صواريخ نظام الدفاع الجوي "باتريوت" تنتج فقط في الولايات المتحدة، وكذلك صواريخ طائرات "إف 16" (F16)، ونظم "ناسامز" (NASAMS) و"هايمارس" (HIMARS)، وهي تحديدا الصواريخ التي تحمي المدن والمواقع الحيوية أكثر من غيرها، ونضرب بها مواقع الروس الحساسة بنجاح".
وأضاف "إذا ما قررت أميركا حرمان أوكرانيا أيضا من المعلومات الاستخباراتية التي نحتاجها لاستهداف المواقع الروسية، ستكون تلك الخطوة ضربة قوية جدا بالنسبة لنا، آمل أن نتمكن مع أوروبا من التغلب على هذا الأمر، الذي يُعقِّد قدراتنا الدفاعية دون شك".
بدائلوبعد القرار الأميركي لم يبق أمام أوكرانيا سوى طريق أوروبا للحصول على مزيد من المساعدات العسكرية، ولكن، كيف سيكون ذلك؟ وهل سيسد حاجتها الدفاعية كما ونوعا؟
ووفق الخبير فاليري رومانينكو، فإن هذا ممكن إلى حد ما، ودلَّل على ذلك بقوله للجزيرة نت إن شركة نرويجية متخصصة "خططت لإنتاج صواريخ أنظمة الدفاع الجوي "ناسامز" على أراضي أوكرانيا، ربما يكون ذلك، وربما سينقل المشروع إلى النرويج بسبب مخاطر القصف، المهم أنه مشروع ضخم، يعوض إلى حد كبير الخسائر الناجمة عن تعليق إمدادات الصواريخ الأميركية".
ويضيف "في إطار رؤيتهم للسلام، لمَّح البريطانيون إلى إغلاق المجال الجوي الأوكراني، وناقشوا بعض تفاصيل ذلك، وعلى الأرجح ستلعب مطارات بولندا القريبة جدا الدور الأكبر، وخاصة مطار "مينسك مازوفيتسكي" العسكري، ففيه قد تتمركز طائرات قادرة على دخول الأجواء لإجراء دوريات، أو لاعتراض الصواريخ والمسيرات الروسية".
وبتفاؤل حذر، يعتقد المحلل العسكري والخبير في "المعهد الأوكراني للمستقبل" إيفان ستوباك، ومستشار سابق لشؤون الأمن العسكري في البرلمان الأوكراني، أن "قرار وقف المساعدات مؤقت"، هدفه الضغط على زيلينسكي وإجباره للاعتذار أو الموافقة على "خطة سلام ترامب".
إعلانوتابع ستوباك "ليس في مصلحة أميركا خسارة أوكرانيا بعد كل ما قدمته، وانتصار ساحق لروسيا لا يجبرها على السلام فعلا".
ولم يتوقف التعويل على الأميركيين، وهو ما دللت عليه تصريحات حول ذلك، ودعت آراء إلى "التماشي" مع "منطق ترامب".
وصرَّح الرئيس زيلينسكي بأنه مستعد للجلوس على طاولة المفاوضات عاجلا غير آجل، والتوقيع على "اتفاقية المعادة النادرة" مع أميركا.
لا خيارات
ويقول المحلل السياسي سيرهي تاران للجزيرة نت "لا نملك خيارا مثاليا، بل علينا الاختيار بين الأفضل والأسوأ، والأفضل هنا أن توضع العواطف ونوبات الغضب جانبا، وأن تتحسن العلاقات مع واشنطن، وتستأنف الإمدادات".
ويضيف "منطق عملية السلام من وجهة نظر ترامب هو وقف إطلاق النار، ثم الحديث عن الضمانات الأمنية، التي يجب على الأوروبيين أن يلعبوا دورا جديا فيها".
ويرى أن الضمانات الأميركية المنشودة ترتبط بمصالحها الاقتصادية الجديدة في أوكرانيا (اتفاقية المعادن وغيرها)، "وكذلك رفع العقوبات وتعاون اقتصادي واسع النطاق مع روسيا، يضمن تفكيك التحالف الروسي الصيني، الأمر الذي يعتبر جزءا من إستراتيجية السياسة الخارجية الرئيسية لترامب".
ويواصل تاران "ترامب لن يقدم أي ضمانات واسعة النطاق قبل وقف إطلاق النار، ولن يتمكن ترامب من إجبار روسيا على تقديم تنازلات من خلال التفاوض فقط، نريد عكس ذلك طبعا، ولكن هذا سيتناقض مع إستراتيجية تدمير التحالف الإستراتيجي الروسي الصيني، الذي حدد ترامب ثمنه المغري لروسيا، رفع العقوبات والاستثمار في موادها الخام".
ويقول تاران "وفقا لذلك كله، قد يكون كل شيء على ما يرام، يستند هذا المنطق إلى نماذج سابقة لوقف الحروب يعرفها الغرب جيدا".
ويضيف مستشهدا بالحرب الكورية "توقف إطلاق النار بين الكوريتين دون توقيع اتفاق سلام حتى الآن، ومع ذلك، عقود من السلام حلت على كوريا الجنوبية، أصبحت خلالها تحت جناح الغرب، وبفضل المال الغربي أيضا، باتت واحدة من أقوى اقتصادات العالم".
إعلان