الصقر الليبرالي.. قصة أنتوني بلينكن الذي يضع إسرائيل أولا
تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT
قبل أيام، خرج وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين ليبدي تفاؤلا بشأن التقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس). هذه المرة كان التفاؤل الأميركي مستندا على المقترح الذي قدمته إدارة بايدن الأسبوع الماضي "لسد الفجوات"، ومن ثم موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على ذلك المقترح الذي يشمل استمرار بقاء جيش الاحتلال في معبر رفح ومحور نتساريم، رغم معارضة مصر وحماس معا.
فبعد أشهر من التصريحات حول "الضغط الأميركي" على نتنياهو لعقد صفقة، جاء مقترح الإدارة الأميركية ليوضح موقف "الوسيط"! فإثر هذا المقترح، نقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" عن مسؤوليْن عرب أن المقترح عزز مواقف نتنياهو وأوصل المفاوضات إلى طريق مسدود.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جاءت بأسلحتها الثقيلة.. هل تنزلق أميركا لحرب شرسة لا تريدها؟list 2 of 2"خاوة".. العالم كما يراه يحيى السنوارend of listأما صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فقالت إن بلينكن "ارتكب خطأ كبيرا عندما أعلن عن قبول نتنياهو بالمقترح الأميركي ونقل الكرة إلى ملعب حماس"، إذ "حرص بلينكن على إظهار تفاؤله لاعتبارات سياسية تخص الحزب الديمقراطي… وحكم على الصفقة بالإعدام".
يجيء هذا الموقف ليُعبِّر عن الوسيط الأميركي الذي يُمثِّله بلينكن بعد ما يزيد على عشرة أشهر من حرب الإبادة، وليؤكد موقفه الأول حين سارع بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول لزيارة إسرائيل، للقول إنه لم يأتِ بصفته وزيرا لخارجية الولايات المتحدة؛ بل بصفته "يهوديا فرَّ جده من القتل". لكن ما الذي يجعل بلينكن يُبدي كل هذا الدعم غير المشروط لإسرائيل؟ وكيف يمكن أن نفهم مواقف وزير الخارجية الأميركي؟ وهل يمكن اعتباره وسيطا حقا؟
قصة صعود غير مفاجئلم يكن العالم قد تخطى تماما آثار وباء كورونا (كوفيد) عندما قررت جامعة جورجتاون الأميركية في العاصمة واشنطن أن تُقيم احتفالها بالخريجين بمشاركة شخصية، وبلا تباعد، وبحضور إحدى أهم الشخصيات السياسية الأميركية، وزير الخارجية أنتوني بلينكن. وفي 21 مايو/أيار 2022، وبينما كان خريجو الجامعة المرموقة يتسلمون شهاداتهم ويسلمون على بلينكن، ظهر عدد من الطالبات والطلاب يرتدون الكوفيات الفلسطينية، ويحملون صور الصحفية شيرين أبو عاقلة، التي كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد قتلتها قبل ذلك بعشرة أيام أثناء تغطيتها لاقتحام مخيم جنين. ووسط هؤلاء، مرت خريجة بملامح عربية تلوِّح بالعلم الفلسطيني في هدوء، لتتسلم شهادة تخرجها، وبينما كان بلينكن يمد يده ليصافحها مهنئا، أشاحت بوجهها عنه، وتمتمت بكلمات بدت غاضبة وهي تهز رأسها يمنة ويسرة، سحب بلينكن يده سريعا في إحراج ظاهر لم تخفف منه ابتسامته التي لم تفارق وجهه، قبل أن يعود الحفل إلى مجراه، ويعود بلينكن إلى مكتبه في مقر وزارة الخارجية.
لا شك أن بلينكن، الذي كان قد أكمل عامه الستين قبل شهر واحد، فكر لاحقا فيما حدث، فقد انتشر مقطع الفيديو الذي تتجاهله فيه الطالبة انتشار النار في الهشيم. لكن الأرجح أنه لم ير فيما حدث سوى رد فعل غاضب سيخفت مع الوقت، ولعله ابتسم في قرارة نفسه لحفاظه على رباطة جأشه المعهود الذي سمح له بأن تمر اللحظة سريعا وبأقل خسائر ممكنة.
لكن ما لم يعرفه بلينكن أن الطالبة لم تكن سوى نوران الحمدان، الفلسطينية الأميركية، التي درست العلوم السياسية والاقتصاد في أحد أفضل برامج الدراسات الدولية في العالم، قبل أن تنخرط في دراسة الماجستير في الدراسات العربية. كانت نوران تحمل صورة أبو عاقلة وقد كُتب عليها بالإنجليزية "مقاومة حتى العودة والتحرير"، وقالت لاحقا إنها لم تخبر بلينكن غير أنها تطالب بتحقيق مستقل في استشهاد شيرين أبو عاقلة، وهي المواطنة الأميركية كذلك، وأن على الولايات المتحدة أن توقف كل الدعم لإسرائيل. لم تكن نوران تتحدث بدافع لحظة غضب عابرة كما أمّل بلينكن، فقبل أشهر قليلة من حفل التخرج، كانت نوران تتحدث في محاضرة من تنظيم النادي الطلابي للعدالة لفلسطين، وفي نهاية المحاضرة قالت نوران كلمة دفعت الجميع للتصفيق بحرارة وأمل: "إنني أعلم يقينا أننا سنشهد تحرير فلسطين في حياتنا، وسيكون ذلك قريبا".
لم يكن تعامل بلينكن مع الموقف الذي تعرض له في جامعة جورجتاون استثناء، فمسيرته الدبلوماسية الطويلة تشهد بـ "لطفه"، لكنها أيضا تشهد بتأخره كثيرا في تقييم الأمور على حقيقتها، فتجاهله لمقتل صحفية تحمل جنسية بلاده لأن القاتل إسرائيلي، كان لا بد أن يؤدي إلى ما هو أفدح كثيرا. ولهذا نرى أن أزمة بلينكن الكبرى لا تكمن في صياغة سياسات لطيفة، لا تُغضب أصدقاء الولايات المتحدة المارقين، بل في اضطراره التعامل مع تداعيات سياساته "اللطيفة" تلك، التي عادةً ما تقوده إلى ترك الولايات المتحدة في وضع إستراتيجي وتكتيكي أسوأ كثيرا مما وجدها عليه.
السياسة بالنسبة لبلينكن ليست مشروع نجاح شخصي فقط، بلهي مشروع عائلي أيضا. (رويترز)
والحقيقة أن صعود أنتوني بلينكن على رأس الدبلوماسية الأميركية لم يكن مفاجئا، فقد أتى الرجل من عائلة يهودية عريقة في المجال. فقد كان عمّه سفيرا للولايات المتحدة في بلجيكا، في الوقت الذي كان فيه أبوه سفيرا في المجر، كما أن زوج أمه لاحقا عمل مستشارا للرئيس جون كينيدي، وخدم كذلك مستشارا مع عدد من رؤساء فرنسا. بلينكن يتحدث فرنسية لا يعيبها إلا لكنة أميركية بسيطة يصعب ملاحظتها، فبعد طلاق والديه، انتقل بلينكن مع أمه وزوج أمه، صامويل بيسار، المحامي الأميركي البولندي الذي نجا من المحرقة النازية لليهود إلى فرنسا ليدرس في بعض المدارس الثانوية المرموقة في باريس.
نشأة بلينكن جعلته معروفا بهواه الأوروبي، فلن تخطئ توجهاته وانحيازاته في أي قضية كبرى، من التغير المناخي إلى برنامج إيران النووي مرورا بالحرب الروسية الأوكرانية، فدوما يُصرِّح الرجل بأولوية التنسيق مع حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين.
عاد بلينكن إلى الولايات المتحدة في منتصف الثمانينيات ليدرس في جامعة هارفارد، قبل أن يدرس القانون في جامعة كولومبيا، ولينتقل لاحقا للسياسة. عمل الرجل في حملات انتخابية رئاسية في الثمانينيات، وبدأت علاقته بوزارة الخارجية مساعدا فيما كان يُعرف "مكتب الشؤون الأوروبية والكندية"، وانضم لاحقا إلى إدارة بيل كلينتون حيث عمل مساعدا ومستشارا في مجلس الأمن القومي حتى بداية عام 2001 وتولي جورج بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة. لفترة محدودة، انضم بلينكن بصفته باحثا إلى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، وفي 2002، انضم بلينكن إلى مجلس الشيوخ بصفته مديرا لموظفي الحزب الديمقراطي في لجنة العلاقات الخارجية التابعة للمجلس، التي كان يترأسها السيناتور جو بايدن.
السياسة بالنسبة لبلينكن ليست مشروع نجاح شخصي فقط، بل هي مشروع عائلي أيضا. في الثاني من مارس/آذار عام 2002، وقف أنتوني بلينكن في حفل زفافه أمام حشد من الحضور وقال رافعا كأسه: "هذا نخب أربعين مليونا من الأميركيين الذين صوّتوا لبيل كلينتون في الانتخابات الرئاسية، فمِن غيرهم لم يكن لهذا الزواج أن يتم!".
قبل ذلك بسبع سنوات، كان بلينكن قد التقى زوجته المستقبلية إيفان ريان في البيت الأبيض. فقد كان بلينكن يكتب خطابات مجلس الأمن القومي، في حين كانت ريان تنظم جدول مواعيد السيدة الأولى حينها، هيلاري كلينتون. عندما تزوجا، قرر بلينكن وريان أن يجعلا زواجهما متعدد الخلفيات أيضا، فقد شارك في عقد الزواج حاخام يهودي من طرف بلينكن، وقس كاثوليكي من طرف ريان. أتت ريان من خلفية سياسية إلى حدٍّ ما، فقد عمل جدها لعشر سنوات رئيسا لجهاز الخدمة السرية المكلف بحماية الرئيس الأميركي ونائب الرئيس، وأسرهم، وبعض الشخصيات مثل مرشحي الرئاسة والرؤساء السابقين، وكبار الشخصيات الأجنبية التي تزور الولايات المتحدة. تعرّض الرئيس الأسبق جون كينيدي للاغتيال خلال فترة تولي ريان الجد لمنصبه في جهاز الخدمة السرية.
ومنذ 2002، لم يفارق بلينكن بايدن تقريبا. فقد صحبه في لجنة العلاقات الخارجية حتى عام 2008، وعندما انتُخب بايدن على بطاقة باراك أوباما نائبا للرئيس، لم ينتظر طويلا إلى أن انتقل إلى البيت الأبيض مستشارا للأمن القومي لنائب الرئيس. وفي الفترة الرئاسية الثانية لأوباما بعد إعادة انتخابه، أصبح بلينكن، حسب سيرته الذاتية الرسمية التي وفرتها وزارة الخارجية الأميركية، مساعدا لوزير الخارجية، ونائبا لمستشار الأمن القومي في إدارة أوباما. لذلك، عندما اختاره بايدن مرشحا لوزارة الخارجية الأميركية بعد أربع سنوات من السياسات الخارجية المضطربة لدونالد ترامب، حصل بلينكن سريعا على ثقة مجلس الشيوخ بأغلبية 78 صوتا مقابل 22 في المجلس ذي الغالبية الجمهورية.
TEL AVIV, ISRAEL – AUGUST 19: (—-EDITORIAL USE ONLY – MANDATORY CREDIT – ISRAELI MINISTRY OF DEFENSE – ARIEL HERMONI / HANDOUT’ – NO MARKETING NO ADVERTISING CAMPAIGNS – DISTRIBUTED AS A SERVICE TO CLIENTS—-) US Secretary of State Antony Blinken (L) meets with Israeli Defense Minister Yoav Gallant (C) and Israeli Army Chief of Staff Herzi Halevi (R) in Tel Aviv, Israel on August 19, 2024. ( Ariel Hermoni/IMoD – Anadolu Agency ) الصقر الليبرالي اللطيفلكن لماذا يُصوِّت الجمهوريون لصالح أنتوني بلينكن بأغلبية مريحة بعد معركة انتخابية شديدة الشراسة بين ترامب وبايدن؟ لعل الأمر يرتبط بوجود بلينكن السابق في مجلس الشيوخ بصفته مستشارا للجنة العلاقات الخارجية، فهو وجه مألوف، لكن الإجابة الأوقع تكمن في مواقف بلينكن السابقة وشخصيته.
إذا جاز لنا تصنيف السياسيين الأميركيين إلى صقور وحمائم، وإلى محافظين وليبراليين، فعادة ما يُنظر إلى رموز الحزب الجمهوري باعتبارهم من الصقور المحافظين، في حين يقدم الديمقراطيون أنفسهم باعتبارهم من الحمائم الليبراليين. أما أنتوني بلينكن، فيمكن اعتباره صقرا ليبراليا. يعارض بلينكن الجمهوريين، لكن هل هذا يعني أنه يعارض كل سياسات الحزب الجمهوري؟ في الحقيقة، يبدو بلينكن متفقا مع الصقور الجمهوريين ودعاة الحرب، لا حول بعض السياسات فحسب، بل كلها غالبا.
فمثله في ذلك مثل بايدن، كان بلينكن من أشد المؤيدين للحرب الأميركية على العراق، وكذلك كل الحروب الأميركية والتدخلات العسكرية، ومعظمها في المنطقة العربية، خلال العشرين عاما الماضية. فقد دعم التدخل العسكري الأميركي في ليبيا، وفي سوريا، وكذلك لا يختلف موقفه تجاه الصين أو روسيا عن مواقف معظم الجمهوريين، من حيث السعي لإثبات الهيمنة الأميركية بلا كثير نظر للقوى الصاعدة في العالم.
وبحسب بعض المعلقين، فإن هذا الموقف يأتي، جزئيا، بسبب أن بلينكن من ذلك الجيل من الدبلوماسيين والسياسيين الأميركيين الذين لم يضطروا للتعامل مع الاتحاد السوفياتي، فمنذ تخرجه في جامعة هارفارد عام 1988، لم يعرف بلينكن عن العالم إلا أنه أحادي القطب، وهذا ما لا يمكن التعامل معه بوصفه حقيقة واقعة في الوقت الحالي ولسنوات مضت.
أما العلاقة مع إسرائيل، فتلخصها كلمات بلينكن في زيارته الأولى لإسرائيل بعد بدء حرب الإبادة على غزة في أعقاب هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين قال: "إنني لا أقف أمامكم بصفتي وزير خارجية أميركا فحسب، بل بصفتي يهوديا"، وأكمل الدبلوماسي اللطيف قائلا: "لقد هرب جدي من اضطهاد اليهود في روسيا، ونجا زوج أمي من محارق النازية"، وتابع ملتفتا إلى نتنياهو: "إنني أعرف الألم الذي تسببت فيه مذبحة حماس شخصيا، لا ليهود إسرائيل فحسب، بل لليهود في العالم كله"، وهو الأمر الذي علقت عليه صحيفة "جيروزالم بوست" بالقول إن بلينكن يرى "تدمير المجتمعات اليهودية في جنوب إسرائيل [مستوطنات غلاف غزة] بالعين نفسها التي يرى بها الهولوكوست".
ربما لم يكن بإمكان أي صقر جمهوري، ولا حتى دونالد ترامب، أن يقدم دعما لنتنياهو مثل ذلك الذي قدمه بلينكن وإدارة بايدن، ولعل ذلك أهم الأسباب التي رآها الجمهوريون مسبقا وشجّعتهم على منحه الثقة في مجلس الشيوخ بمجرد اقتراح اسمه لوزارة الخارجية.
الموظف المثالي والسياسي المترددلم يكن الخامس والعشرون من مايو/أيار 2021 يوما جيدا للدبلوماسية الأميركية في جنوب شرق آسيا. فقد اجتمع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في أول اجتماع افتراضي لهم مع وزير الخارجية الأميركي الجديد أنتوني بلينكن. وبعد انتظار دام نحو ساعة، علموا أن خللا فنيا من شأنه أن يمنع بلينكن من المشاركة في المكالمة، التي كان من المقرر أن ينضم إليها من طائرته أثناء توجهه إلى الشرق الأوسط. لكن بعد بضعة أسابيع، طارت المجموعة نفسها من وزراء رابطة دول جنوب شرق آسيا إلى الصين ليستمتعوا بمعاملة خاصة للغاية بعد أن فُرشت لهم السجادة الحمراء، ونُظم اجتماع شخصي مثمر وخالٍ من الفوضى والمشكلات التقنية مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي. ولم يكن صعبا على أي مراقب رصد الفرق الكبير بين الحادثتين.
فرغم أن جنوب شرق آسيا يُعد إحدى أهم مناطق الاشتباك بين الولايات المتحدة والصين على الساحة العالمية، لم يظهر أمام الدول الآسيوية إلا التردد الأميركي المستمر الذي أبرزه الوضوح الصيني والحسم في القضايا، والاستقبال الحافل الذي شهده وزراء تلك الدول في بكين.
وهنا تبرز إحدى أكبر مشكلات بلينكن، فالمواقف الأميركية الضعيفة على الساحة الدولية ليست بسبب انعدام المعرفة أو الخبرة لدى رأس الدبلوماسية الأميركية، بل لأنه موظف ملتزم من الدرجة الأولى. فقبل عام واحد من تعيينه وزيرا للخارجية، كتب بلينكن مقالا في معهد بروكنغز للسياسات يعارض فيه سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب التي يقول فيها "أميركا أولا". في مقاله عدَّد بلينكن أربعة أركان تقوم عليها السياسة الأميركية المثالية، لكن المتابع للسياسة الخارجية الأميركية مع بلينكن يدرك البون الشاسع بين ما يعتبره بلينكن سياسة مثالية وبين ما يسير عليه في قيادته لوزارة الخارجية.
فمثلا، يقول بلينكن إن أول أعمدة السياسة الخارجية المسؤولة هي أن تكون الدبلوماسية وقائية لمنع الأزمات من الحدوث أو تحجيمها قبل خروجها عن السيطرة. ويؤكد بلينكن أن الدبلوماسية وحدها لا تكفي، فيجب أن يصحبها الردع العسكري. ونظرة سريعة على الدبلوماسية الأميركية خلال الأعوام الأخيرة، في مواقف مثل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، يدرك أن الولايات المتحدة قد فشلت في الوقاية من أي أزمة كبرى، بل وأخفقت تماما في منع تدهور الأوضاع، بل وأعطت الضوء الأخضر لاستمرار الجرائم الإسرائيلية، التي تجاوزت حدود فلسطين المحتلة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران.
كذلك يؤكد بلينكن أن المؤسسات الدولية التي صُممت بعد الحرب العالمية الثانية جعلت من الحكمة استخدامها، وبالتالي فإن السياسة المثالية تقتضي الاستعانة بهذه المؤسسات النقدية والاقتصادية والعدلية. لكن الإخفاق الأميركي، بل ما يراه كثيرون بـ "التواطؤ" من الخارجية الأميركية، في فرض عقوبات على المؤسسات الدولية الداعمة للفلسطينيين، مثل الأونروا، أو حتى دعم إسرائيل بوصفها دولة مارقة على الفرار من المسؤولية الدولية والقانونية أمام محكمة العدل الدولية، أو مجلس الأمن الدولي، كلها تؤكد أن بلينكن استبدل بشعار "أميركا أولا" شعار "إسرائيل أولا"، لا سيما مع الضرر المتحقق من هذا الدعم على علاقة الولايات المتحدة بالعالم وموقفها في المستقبل.
يبدو بلينكن في هذه اللحظة موظفا مؤدبا بتعبير صحيفة "بوليتيكو" الأميركية، ولطيفا، لا يريد أن يُغضِب أصدقاءه، ولا يبدو واعيا بتغير العالم من حوله وموقع الولايات المتحدة الجديد منه. لذلك، فإن السياسة الخارجية الأميركية تحت بلينكن تبدو معبرة بصدق عن اللحظة الأميركية الحالية؛ فشل متعدد الأوجه، يغلف بهدوء ظاهر، ويخفيه قوة عسكرية قاهرة. لكن إلى متى يمكن أن يستمر الوضع على تلك الحال؟
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد الخارجیة الأمیرکیة الخارجیة الأمیرکی الولایات المتحدة أنتونی بلینکن وزیر الخارجیة جنوب شرق آسیا مجلس الشیوخ کان بلینکن فی جامعة بلینکن ی الذی ی لم یکن
إقرأ أيضاً:
الإسلاميون في مواجهة الحل الليبرالي
لسنا بصدد إعادة تعريف الليبرالية، فقد استقر المفهوم في الأذهان وفي التداول اليومي بمعانيه السياسية والاقتصادية، لكن في سياق وضع تصورات ممكنة/ احتمالات/ اجتهادات لانتقال أحزاب وجماعات الإسلام السياسي العربي من خطابها الإسلامي إلى الليبرالية؛ نلتقط اختصارات معادية لليبرالية تركز بالخصوص على المسائل الأخلاقية الوافدة من المجتمعات الليبرالية الغربية في العقود الأخيرة، وتركز على قضايا التعامل البنكي والربا الذي بنيت عليه التجارب الليبرالية الغربية. لذلك نستعيد أسئلة جوهرية في محاولة فهم وإعادة بناء التصور الليبرالي الممكن في تجارب عربية مستقبلية، منطلقين من التشوهات الحادثة على التصور الليبرالي عامة، وتشوهات التجارب السياسية العربية التي لا يمكن بحال تصنيفها ضمن سياقات الليبرالية ولا سياقات الدولة الاجتماعية/الكينزية. وقد يظهر هذا الكلام كفتح أبواب مفتوحة، ولكن حق الاجتهاد والتفكير مكفولان فيما نظن.
هل الليبرالية بيئة غير أخلاقية؟
لم تنتج الليبرالية في التجارب الغربية لحظة ميلادها سلوكيات التحرر الجنسي ولا حرضت على الإباحية، بل تحملت توصيفات المحافظة التي سلطت عليها من تيارات اليسار الأوروبي الذي لم تكن قضايا التحرر الجنسي على أجنداته، بل كان مشغولا بقضايا العدالة في العالم. لقد كان التقسيم الكلاسيكي إلى يمين ويسار يحمل كل ليبرالي نعت المحافظ أو الرجعي، فصار اليمين عنوان المحافظة.
عرفت تيارات اليسار وأحزابه بما في ذلك الحزب الديمقراطي الأمريكي بداية من النصف الثاني من القرن العشرين تحولات عميقة، فتخلت عن قضايا العمال وتخلت عن مطالب العدالة الاجتماعية، وطرحت قضايا الحريات الفردية وقضايا الجندر، ودفعت إلى أقصى أشكال التحرر الفردي وفي المقدمة تحرير الجسد من كل قيد أخلاقي محافظ.
ولدت حركات الإسلام السياسي وترعرعت في ظل هذه التشوهات فلم تر في الليبرالية إلا جانبها الأخلاقي الفاسد وجانبها السياسي القمعي، فاتخذت منها مواقف معادية ولم تعمل على إعادة بناء مفاهيم الليبرالية بمفردات محلية كما لم تستوعب نماذج الدول الاجتماعية الكافلة فحملت في فكرها تشوهات مزدوجة
لذلك ومن داخل بؤر اليسار الجديد وليس من الأحزاب الليبرالية، ظهرت قضايا المثلية وتحولت إلى مطالب انتخابية وبرامج حكم في كل بلد وصل فيه اليسار إلى السلطة. والمثير للاهتمام أن هذه القضايا صارت ملتصقة فكريا بالليبرالية، حيث يقع خلط متعمد بين ما هو ليبرالي وما هو تحلل أخلاقي. وقد كان اليسار الأوروبي يرى الشركة الليبرالية تنتج البرنوغرافيا بكل ما تحمله من امتهان للجسد، فيوفر لها الغطاء الأيديولوجي باسم حرية الجسد. ووصلت هذه الصورة المشوهة إلى البيئة الفكرية والسياسية العربية والإسلامية منها بالخصوص، فحصل نفور كامل من كل توصيف ليبرالي.
في ذات الوقت، تحولت الأنظمة العربية التي نشأت بعد معارك التحرير من مشاريع دول اجتماعية كافلة تهتم بشعوب مريضة وجاهلة وفقيرة؛ إلى أنظمة لا يمكن تصنيفها في الليبرالية الاقتصادية ولا يمكن حشرها ضمن مشاريع الدول الكافلة. فهي أنظمة هجينة ومشوهة، لكنها أفلحت في المزج بين دكتاتورية التجارب السياسية السوفييتية وبين التحريض على سلوكيات فردية ليبرالية دون أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية عن ذلك، إذ أنها تواصل التخفي وراء خطاب محافظ لا يتورع عن استعمال الدين في تغطية فشلها في كل مجال.
ولدت حركات الإسلام السياسي وترعرعت في ظل هذه التشوهات فلم تر في الليبرالية إلا جانبها الأخلاقي الفاسد وجانبها السياسي القمعي، فاتخذت منها مواقف معادية ولم تعمل على إعادة بناء مفاهيم الليبرالية بمفردات محلية كما لم تستوعب نماذج الدول الاجتماعية الكافلة فحملت في فكرها تشوهات مزدوجة. غني عن القول أن جماعات اليسار العربي وأحزابه تعيش هذه التشوهات بدرجة أعمق فلا هي اشتراكية ولا هي ليبرالية، ومن نافلة القول إن جماعات اليسار على ضآلة حجمها جرت وراءها جماعات الإسلام السياسي فعمقت تشوهاتها. وقد تجلت هذه التشوهات في صراعات الربيع العربي، حيث لم تتقدم أية تجربة في أي اتجاه ففشلت هذه الجماعات في إنقاذ الثورة من براثن منظومات الحكم السابقة.
عقدة الاقتصاد الربوي
تحتكم الأحزاب الإسلامية إلى نص صريح وقطعي في تحريم الربا، وقد ابتدعت مشاريع الاقتصاد اللاربوي منذ السبعينيات وأسست البنوك الإسلامية على أساس المرابحة، ولكن التجربة كشفت أن المرابحة أعلى كلفة من الربا فلم تُحدث تحولا في أية تجربة اقتصادية عربية. وإلى ذلك لم تنشأ كتل سياسية عربية على غرار السوق الأوروبية المشتركة قادرة على بناء أسواق وأنظمة تبادل بينية تحرر اقتصاد العرب من الإلحاق بنظام المصارف الربوية الغربية، فظلت تابعة الحكومات تتعامل مع المقرضين الدوليين بالربا، وظلت الأحزاب الإسلامية تحرمه على الأفراد.
وقد شكل هذا عقدة في منشار الأحزاب الإسلامية التي رأت التحريم ولم تر سبل الخروج من اقتصاد عالمي ربوي بالأساس، وقد واجهت المعضلة بمجرد وصولها إلى السلطة على قصر التجربة في تونس والمغرب ومصر. وحتى حماس البعض لمشروع بريكس الساعي إلى التشكل يغفل أنه مشروع اقتصاد ربوي آخر، وليس تجربة مختلفة وإن زعم التبادل بالمقايضة. إنه حماس عاطفي للتحرر من الهيمنة الأمريكية والأوروبية لكنه يقع في نفس المطب الربوي.
في ذات الوقت، فإن الأحزاب الإسلامية واقعة في مشكل آخر هو خيار الدولة الاجتماعية الذي يقدم الاجتماعي على النجاعة الاقتصادية، وهذا النموذج مهما حظي بالدعاية اليسارية هو نموذج ليبرالي مخفف يقوم على قواعد ربوية منذ نشأته.
هل يمكن للإسلامي تجاوز التحريم والقبول بالاندماج في اقتصاد ربوي؟ هذا سؤال جوهري لا تمكن معالجته بالشطح على النصوص القطعية أو بفتاوى (نص كم)، فإما قبول واندماج إلى حين أو الخروج من العمل السياسي بلا تردد، رغم أن كل خروج سيجعل الفرد الإسلامي مجبرا على التعامل الربوي أو البقاء خارج كل دورة اقتصادية محلية، ولا يمكنه بحال إنشاء منظومة غير ربوية صغرى داخل منظومة ربوية شاملة.
يمكنه أن يدعو وينظم فعليا حياة اجتماعية محافظة معتمدا على توجيهات دينية تعلى من شأن الأسرة، حيث تحفظ الأخلاق والجسد لكن الجانب السلوكي الشخصي لا يكفي لتنظيم حياة اجتماعية شاملة.
فإذا أصر على التفكير والعمل خارج منظومة الربا الكونية فإنه ملزم بالبدء من نقطة أخرى؛ هي وضع مشروع التحرر السياسي والاقتصادي الشامل، أي أن يعود إلى وضع حركة تحرر أصلية وبوسائل التحرر السياسي بما في ذلك الكفاح المسلح (أو نموذج حماس)، وهو أمر لم يعد متاحا في دول قائمة ولها أنصار لا يتفقون مع هذه الرؤية التحريرية، بل يطيب لهم الاندماج بشكله الجاري الآن. فضلا عن ذلك، فإن وضع التشتت القُطري الحالي لا ينتج حلا شاملا، فتحرير قُطر وحيد لا ينتج سوقا فوق قُطرية غير ربوية، بما يعسر مهمة كل الأحزاب الإسلامية في كل قُطر.
مشروع تربوي فقط
لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية الزاحفة والتي وصلت إلى العرب مشوهة بيسارية مزيفة، فإما البقاء في هذا المستوى من العمل التربوي الفردي أو التحلل من كل التزام سياسي لا يتجاوز نص التحريم ويسقط في مشروع اقتصادي ليبرالي
من هذه الزاوية لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية الزاحفة والتي وصلت إلى العرب مشوهة بيسارية مزيفة، فإما البقاء في هذا المستوى من العمل التربوي الفردي أو التحلل من كل التزام سياسي لا يتجاوز نص التحريم ويسقط في مشروع اقتصادي ليبرالي أي ربوي بالقوة.
نظن يقينا أن الأحزاب الإسلامية لو قدر لها أن تحكم (وهي مطاردة دوما) ستجد نفسها في نفس الوضع التي وجدت فيه الأنظمة العربية نفسها لحظة الاستقلال. لقد طاوعت تلك الدول الناشئة التيار السائد، مقدمة النجاعة الاقتصادية على سلامة الأسس النظرية أو الفقهية لبناء اقتصادياتها. لم تكن تلك الأنظمة ليبرالية بمحض اختيارها، فقد نشأت أضعف من أن تواجه الاقتصاد العالمي فاندست فيه بما تيسر لها.
ونختم بصورة ذات دلالة على المأزق الذي وجدت في الأحزاب الإسلامية نفسها عندما استلمت جزءا من السلطة، لقد تم جر نائبة متحجبة من حزب النهضة في تونس إلى زيارة معصرة خمور، وكان أقصى ما استطاعت فعله لتجنب الحرج أن بقيت خارج المعصرة تنتظر بقية الفريق التفقدي. لم يمكن لإسلامي حكم أن يذكر بتحريم الخمر إنتاجا وترويجا، وقد كان هذا على أجندته النظرية.
مفردات الواقع المبنية قبله جعلت مهمته السياسية القائمة على نصوص قطيعة الورود قطيعة الدلالة عائقا في طريق نجاحه السياسي. لم يكن الحرج ظاهرا وهو يعارض الأنظمة، لكنه لما واجه المعضلات الواقعية وواجه النص المؤسس أيضا وهو في وضع ملتبس؛ فإما الحكم بشروط الواقع القائم أو البقاء في سلامة نصه خارج كل مشاركة. إذا فتح فشل الربيع العربي على مشاريع تفكير من هذا القبيل فإنه يكون قد مهد لمرحلة فكرية متطورة تؤدي إلى مستقبل مختلف تقوده أحزاب ليبرالية. ليت النقاشات تتركز هنا.