تحظى السيدة مريم العذراء بمكانة رفيعة فى الثقافة الإسلامية على كل المستويات الرسمية متمثلة فى النصوص الدينية الصريحة، والمقولات الفقهية، والعطاء الصوفى الروحاني، وعلى المستوى الشعبى متمثلا فى الاعتقادات والموروثات المتجلية فى الممارسات الشعبية، جميعها يعترف بالمكانة المرموقة التى تحتلها السيدة البتول.


وفى الحديث الشريف، اعتبرها نبى الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، أنها واحدة من أربع سيدات وصفن بالكمال والاصطفاء، وقمن بأدوار جليلة فى مسيرة الأديان بحسب ما تقوله المرويات الدينية. 
ومن المعروف أن القرآن الكريم أفرد لها وحدها سورة باسم «مريم»، وحكى قصتها بشيء من التفصيل بداية من ميلادها حيث وهبتها أمها لله، وأنه تعالى تقبلها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا، ثم كانت من نصيب النبى زكريا عليه السلام الذى تكفل بها، ثم تربت فى المحراب، وكانت تحصل على طعام الصيف فى الشتاء وطعام الشتاء فى الصيف، وهكذا تبدو الرعاية الإلهية محيطة بمريم منذ الولادة وصولا للمرحلة التى أنجبت فيها السيد المسيح عليه السلام، كلمة الله التى ألقاها لمريم البتول.
تجادلت الكتابات الإسلامية حول رتبة السيدة مريم، هل هى حازت مرتبة النبوة، أم أنها لم تصل إليها بينما كانت فى مرتبة الولاية؟ وذلك بعدما اختلفوا فى تسمية الأمور الخارقة التى حدثت لها، فهى الوحيدة التى نزل إليها الوحى وحدثها، وبشرها بولادة استثنائية، وهى التى تحدث طفلها فى المهد ليدافع عنها أمام شكوك أهل بلدتها فى سلوكها، وهى أيضا التى هزت جذع النخلة الجافة فأثمرت وألقت لها التمر الحلو «الرطب الجنية»، كل هذه الأمور جعلت المسلمين يتساءلون حولها أهى من قبيل المعجزات أم هى من قبيل الكرامات؟ وما كان ليحدث هذا الجدل لولا أن مكانتها عند المسلمين عالية.

عيسى ومريم فى التصوف الإسلامي

فى كتابها «عيسى ومريم فى التصوف الإسلامي» من ترجمة د. لميس فايد، وصادر عن دار الكتب خان للنشر، عام ٢٠١٧، تتبعت المستشرقة الألمانية آنا مارى شمل صورة عيسى عليه السلام فى عيون وكتابات المتصوفة المسلمين، وقسمت صوره إلى فصول فى كتابها، فجاءت على هذا النحو: عيسى الرحالة الطاهر، عيسى الخير الوضاء، عيسى والدنيا، عيسى كثير الصلاة، عيسى والشريعة، عيسى الطبيب، عيسى محيى طيور الصلصال، إحياء الموتى، مائدة عيسى العظيمة، عيسى وحماره، عيسى والألوان، عيسى السارى على الماء، القاطن فى السماء الرابعة، عيسى والإبرة، عيسى السابق على محمد، عيسى فى ثيوفية ابن عربي، عيسى فى الحلم. وهكذا إلى أن وصلت إلى فصلها قبل الأخير وعقدته لصورة مريم العذراء. وهى فى كتابها هذا تستجلى تعامل المسلمين المتصوفة مع السيدة العذراء وابنها السيد المسيح. وترى «شمل» أن مريم تحتل مكانة كبيرة ليس فقط فى التراث الصوفي، ولكن بالأحرى فى تراث وتدين المسلمين بشكل عام، فلم يصرح القرآن باسم امرأة أخرى غيرها، كما تحتشد العديد من كتب التراث بالمديح لها.
وبالنسبة للنماذج التطبيقية التى رصدتها «شمل»، نجد من الشعراء مثل الباقلى من جعلها رمزا للروح الإنسانية التى قدر لها أن تحمل بأعلى درجات الحكمة المدهشة من فضل الله، ذلك أنه جعل فائدة خلوة المحتجب تقابل حمل السيدة مريم، كلاهما حمل من فضل الله الحكمة، وهكذا يقول الباقلي: «من له أن يتأمل فى خلوة المحتجب، له أن يحمل مثل مريم من الروح القدس بعيسى حيه».
تطرقت «شمل» للناقشات التى دارت حول مكانتها الرفيعة والإعجازية، فنوقشت إذا ما كانت معجزاتها كرامات مما تحدث للأولياء أم معجزات مما تحدث للأنبياء؟ هل مريم ولية أم لها رتبة النبية بالرغم من افتقارها إلى قوة تشريعية مثل التى لولدها عيسى الرسول؟ ويرفض معظم اللاهوتيين «علماء الكلام» كونها نبية، إلا أن المفكر الصارم ابن حزم الأندلسي، فى اسبانيا، اعترف بوصولها إلى رتبة النبوة، وهذا بحسب ما تذكره المستشرقة الألمانية «شمل». 
وأعجبت «شمل»، مؤلفة الكتاب المشار إليه سابقا، بالسرد الشعرى لقصة لقاء الوحى بمريم، إذ تغنى بها مولانا جلال الدين الرومى فى موسوعته البديعة «المثنوي» ووصفتها المؤلفة بأنها من أجمل التصورات، والتى يقول فيها: «رأت مريم فى غرفتها (صومعتها) هيئة مذهلة ورائعة وتفتحت الأرض أمامها عن جبريل/ الروح المؤمنة الساطعة كالقمر والشمس/ جميل هو من دون حجاب مثلما تشرق الشمس فى المشرق/ واعترض أوصال مريم رعدة/ فغاصت مريم وقالت: إنى أرتمى فى حمى الله وحده/ هكذا كانت من لم تمس تاركة أحمالها على الله». 

لوحة للسيدة مريم ممسكة بجذع النخلة

قصة عيسى ومريم كانت مجالا فسيحا للرمز فى شعر جلال الدين الرومي، إذ أشاد الرومى بموقفها مع الملاك جبريل وجعله سببا ليرفعها الله فوق سائر البشر، ويضيف إلى القصة أحداثا ترددها المؤلفات الصوفية دون أن يكون لها تأسيس فى النصوص الصريحة مثل القرآن الكريم أو الحديث الشريف، مثل التقاء زوجة زكريا بمريم لتخبرها أن الطفل الذى تحمله سجد فى بطنها للطفل الذى تحمله مريم، وهى قصة تدعم المعانى الباطنية التى تزدهر فى الكتابات الصوفية التى تحترم كثيرا اللقاء الروحانى والرؤية الروحانية. ويستفيد الرومى من قصة الحمل بفائدة صوفية أخرى، تتمثل فى قلب مريم القلب الإنسانى الضعيف، تحمله لحادثة الحمل بعيسى وهو أمر ذو أسف وهم واضطراب، وفى تصوره رأى الرومى أن جبريل يأتى إلى قلب الرسل بالغم، لأنهم يتحملون بعده أمرا عظيما وصعبا للغاية، لكن هذا الغم والأسف يعقبه النور، يعقبه الحكمة، قائلا: «إذا ما حل كنز الهم لأجل خاطره فى قلبك، سيصبح القلب نورا على نور». وعموما، تلعب الإشارات إلى العذرية وفى نفس الوقت حمل مريم، دورا فى تعزيز الرمز والخيال الأدبي، ولا سيما عندما يتحدث الشعراء عن عذرية أفكارهم، وما تنجبه هذه الخواطر من أفكار حية وكلمات حلوة، وتقتبس «شمل» هنا من فريد الدين العطار، الشاعر المتصوف، قوله: «إن بنات أفكارى أشبه بالعذروات كمريم/ وهكذا تنجب عذراء أشعارى العذبة».
من الصور الجميلة المحببة فى الشعر، الربط بين صمت مريم العائدة إلى أهل بلدتها وقد نذرت الرحمن صوما، وبين عيسى صاحب المهد الذى تكلم دفاعا عن براءة أمه بفصاحة. ومن الصور الشعرية أيضا تشبيه مريم بالعنب وحملها بالنبيذ، وهو تصوير كثيف المعنى كما ترى مؤلفة الكتاب، ومن الصور أيضا تشبيه مريم وعيسى بالربيع الذى معه تتفتح الأزهار والورود، وهنا تنقل عن أحد الشعراء الفرس المبكرين، وهو الكسائي، قوله: «يبدو أن نسمة منتصف الليل أصبحت جبريل، حتى أضحت جذور وأغصان الشجرة الجدباء مريم»، وقريبا من هذه الصور نجد تشبيه مريم بالحديقة التى تنبت بها البراعم، وتشبيهها بالسحاب الذى الذى يحيى الأرض الميتة بالمطر.
أما الصورة التى نظر إليها محيى الدين بن عربي، المتصوف الشهير، والملقب بالشيخ الأكبر، نظرة اهتمام هى امتثال مريم لطاعة الله حتى تكون على علاقة بإظهار القدرة الإلهية فى نشاط الخلق، فكما ظهرت الأنثى من الذكر دون وسيط الأم كما الحال مع حواء، ظهر الذكر من الأنثى دون وسيط الأب، وظهرت مريم فى صورة مثالية حيث حضورها مع الأمر الإلهى وهى مطيعة ومسالمة. وهكذا، فإن قصة السيدة مريم كانت محل إعجاب من المسلمين، وخاصة الأدباء والشعراء المتصوفة الذين وضعوها فى عدة تشبيهات بليغة كلها تتصل بعملية الحمل والولادة والاستسلام والصبر على الإيذاء، وانبثاق الحكمة والنور وروح الله وكلمته المتمثلة فى ابنها السيد المسيح عليه السلام.

السيدة مريم في الثقافة الإسلامية

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: السيدة مريم العذراء الثقافة الإسلامية السیدة مریم علیه السلام

إقرأ أيضاً:

الوزير والمثقفون

لا تزال هناك ملفات ساخنة ومهمات أمام مكتب وزير الثقافة الجديد؛ أولا: إعادة تشكيل لجان أدباء الأقاليم وإذا راجعنا تقارير وشكاوى مؤتمرات وندوات أدباء الأقاليم منذ ربع قرن على الأقل؛ سنرى تشكيلات كثيرة من السلبيات التى لم يتم دراستها ولا حلها.

من بينها تشتت الاختصاصات الفنية والأدبية التى تحدد مكانا عن الآخر؛ لأن احتياج أدباء صعيد مصر يختلف عن أدباء حلايب وشلاتين وعن حاجة أدباء الشمال. وهكذا.. مؤتمرات أدباء الأقاليم من أهم الملفات التى لا يمكن تأجيلها أو ضمها إلى مسئول آخر؛ قبل أن تحسم فيها اساسيات هذه المؤتمرات وجذور أزماتها.

من الملفات العاجلة مناقشتها أزمته النشر. تلك التى ندور ونلف حولها دون أن يتم حسمها أو دراستها بتان وهى ايضا تتطلب المزيد من البحث حول النشر العام فى القاهرة والنشر فى الأقاليم. أيضًا هناك ازمة التوزيع؛ فتوزيع الكتب على القرى والبلدان لم يزل قاصرًا وإمكانياته ليست حديثة ولا تتسع لمزيد من النشاط والاستفادة من الإمكانيات العالمية.

مسرح الدولة فى حاجة ماسة إلى خريطة ثورية للإصلاح والتغيير وحذف الكثير من الأزمات والملاحقات التى عرقلت نمو المسرح الحقيقى الذى عرفناه رائدا يعلم ويغير من فكر الأجيال؛ على مدى تاريخنا القديم والمعاصر. نحتاج إلى تطوير المسرح الكلاسيكى ومسرح الطليعة ومسرح العرائس وصولا إلى تطوير مسرح التجريب والإبقاء على مهرجان المسرح التجريبى الذى أسسه فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق.

كم من الهجوم انتشر عقب بداية مهرجان المسرح التجريبى؛ وأعرف أن كثيرا مما كتبه المخرج المسرحى الكبير جلال الشرقاوى حول هجومه على هذا النوع الجديد الوارد علينا نحن المصريين والعرب عامة. كان يحوى ويتضمن برنامجا لإصلاحه، ما جعل فاروق حسنى يشكل لجنة خاصة لدراسة سلبيات المهرجان بعد خمس دورات من بدايته. وتوصلت اللجنة إلى جوانب التطوير وعلينا اليوم مناقشة أفكار ومشاريع جديدة عن التجريب بعد أكثر من ثلاثين عاما من تأسيس المهرجان ليكون عالميًا منافسا لأكبر مهرجانات العالم.

المسرح المتحول الذى أشرف عليه بإخلاص شديد المخرج الكبير عبدالغفار عودة يحتاج إلى إحياء بعد موات سنوات.

المخرج الجاد أحمد إسماعيل أحد أعمدة مسرح الجرن الذى كان يدخل المدن الصغيرة والقرى وتحمل أعباء إضافة عشرات التبعات والمسئوليات حتى حوله إلى كيان مسئول.

أتخيل أن كل هذا الجهد المبذول لسنوات طويلة؛ من الظلم أن يموت كما ماتت آلاف الأحلام والطموحات التى سعت واجتهدت دون جدوى وسط ضجيج بعض الموظفين وأسلوب الفهلوة والقفز على الموائد. ووسط كروت الوساطة والسعى غير الأمين لشغل أماكن ليست من حقهم!

أزمات أخرى كثيرة وأوراق عمل فى حاجة إلى علاج أو تطهير أو تطوير. القضية ليست شخصية أو مجرد قضايا مؤجلة؛ ولكنها قضية وطن نريد أن نشارك فى بنائه مع القيادة السياسية التى تسعى إلى الجمهورية الجديدة. التى نترقبها جميعا.

[email protected]

 

مقالات مشابهة

  • الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف تحتفي بالهجرة النبوية
  • كشف حساب حكومى
  • فكر جديد
  • أزمة مباراة!!
  • خانه الجميع (1)
  • التفكير بالتمنى وسكرة ينى
  • تصريحات مفاجئة لرئيس الرابطة الإسلامية العالمية تثير التفاعل (شاهد)
  • مِحَن.. ترمى علينا بشرر!
  • الوزير والمثقفون
  • عادل حمودة يكتب: في صحة أحمد زكي