إساءة فهم تأثير السياسة النقدية
تاريخ النشر: 26th, August 2024 GMT
كان القائمون على ندوة جاكسون هول الاقتصادية هذا العام، والتي ضمت محافظي البنوك المركزية من مختلف أنحاء العالم محقين في التركيز على آلية انتقال السياسة النقدية، فهي القناة التي تؤثر من خلالها السياسة النقدية على الظروف الاقتصادية والمالية في عموم الأمر. ورغم أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائدة بمقدار 500 نقطة أساس خلال الفترة من مارس 2022 إلى يوليو 2023، يبدو أن الضرر الذي لحق بالاقتصاد الحقيقي في الولايات المتحدة أو نظامها المالي كان ضئيلا.
الواقع أن تكلفة خفض التضخم الطفيفة هذه صادمة (وإن كانت موضع ترحيب بكل تأكيد). حتى لو كنا نستند إلى فرضيات قوية تفسر لنا في تقييم لاحق السبب وراء تمكن الولايات المتحدة من الجمع بين النمو وخفض التضخم خلال العامين الأخيرين ـ وخاصة ارتفاع معدلات الهجرة، وزيادة الإنتاجية، و(قبل كل شيء) توقعات التضخم الراسخة ـ فإن الافتقار إلى تأثير مباشر مرئي من زيادات أسعار الفائدة أمر لافت للنظر.
من الواضح أن السياسة النقدية الأمريكية الحالية أكثر تساهلا بدرجة كبيرة مما يتصور كثيرون من أعضاء لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية والمشاركين في السوق. أضف إلى ذلك أن تأثير السياسة النقدية على الاقتصاد مقيد بشروط، وربما يكون أضعف في المتوسط من المتصور عادة. هذا التقييم مرتبط بشكل مباشر باختيارات السياسة النقدية المقبلة التي قد تتخذها لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، لكنه أكثر صلة بعملية صُنع السياسات في المستقبل. في يونيو الماضي، أعرب عدد كبير من أعضاء لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية عن قلقهم من أن الظروف النقدية كانت تزداد إحكاما مع تسبب انخفاض معدلات التضخم في ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية. لكن هذا الرأي لا يفسر أحجام وقنوات الانتقال النقدي. وهنا، يكون التركيز على أداة السياسة، سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية، مضللا.
من الخطأ أن نفترض أن إعدادات هذه الأداة قريبة من المثالية في أي وقت بعينه، أو أنها يجب أن تُـضـبَـط بدقة مع كل منعطف في توقعات التضخم. يجب أن يركز تقييم الظروف النقدية بدرجة أكبر على نتائج الأسواق المالية الفعلية وليس على تصورات مُـسبَـقة للتأثير الذي تخلفه السياسية.
كما رأينا مع الأزمة المالية العالمية في عام 2008، فإن الأسواق المالية مفتتة، وكثيرا ما تضطر البنوك المركزية إلى التدخل بشكل مباشر في أسواق بعينها لإحداث تأثير. على سبيل المثال، يتأثر الإقراض التجاري من قِبَل وسطاء ماليين غير مصرفيين بأسعار الفائدة و(الافتقار إلى) الإشراف على نحو مختلف مقارنة بالإقراض المصرفي التقليدي. وتتفاعل الأسهم الخاصة والاستثمارات غير المدرجة بشكل مختلف مع تعديلات السياسات مقارنة بالأوراق التجارية والسندات، بل وحتى الأسهم المتداولة. وحتى في غياب القيود المفروضة على السيولة المالية، تعمل التنظيمات والحواجز الدولية على عرقلة انتقال تدفقات الائتمان بشكل موحد عبر دوائر الاختصاص.
وعلى هذا فإن الظروف المالية، باعتبارها مؤشرا للمستقبل، لا تقل أهمية عن الإشارات المرتبطة بأحداث سابقة والتي ترسلها سوق العمل. علاوة على ذلك، تظل المؤشرات المالية متساهلة إلى حد كبير. فقد عادت الأسهم إلى التقييمات المرتفعة، واستمر انحدار أسعار سندات الخزانة الأطول أجلا. واتسعت بعض الشيء الفوارق بين أسعار الفائدة (كتلك بين سندات الشركات الأدنى تصنيفا وسندات الخزانة المماثلة الآجال)، لكنها تظل شديدة الانخفاض وفقا للمعايير التاريخية، ناهيك عن نهاية دورة التشديد والإحكام من جانب الاحتياطي الفيدرالي.
ينطبق الشيء ذاته على قروض السيارات والمستهلكين المتأخرة وخسائر العقارات. فقد تحركت هذه القروض عن أدنى مستوياتها، ولكن ليس كثيرا. من الغريب أن نطلق على السياسة النقدية وصف «الإحكام» في حين يظل الائتمان سهلا والميزانيات العمومية متأزمة بالكاد.
تتمثل مشكلة أخرى تعيب التركيز في المقام الأول على التغيرات في أسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية الحقيقية (بافتراض بقاء كل شيء آخر على حاله) في تجاهله لمعيار أكثر أهمية لتأثير السياسة النقدية: حيث يكون سعر الفائدة هذا نسبة إلى سعر الفائدة المحايد (r*)، وهو المعدل حيث لا تكون السياسة النقدية «متساهلة» ولا «مُـحكَـمة» في اقتصاد ينمو قريبا من الاتجاه. وبالتالي فإن الفجوة بين العائد الأساسي الطويل الأجل على رأس المال الآمن في الاقتصاد وما يحدده بنك الاحتياطي الفيدرالي باعتباره الحد الأدنى لسعر الفائدة على القروض الأقصر أجلا تعكس قوة تأثير السياسة النقدية على الاقتصاد. وإذا تحرك المعدل المحايد إلى أعلى كثيرا، فقد يكون أي ارتفاع في أسعار الفائدة الحقيقية مع انخفاض التضخم أكثر من كاف للتعويض.
كما أشار رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بحق في مؤتمرات جاكسون هول السابقة، فإن النجوم الاقتصادية (أسعار الفائدة المحايدة ومعدلات البطالة) لا يمكن ملاحظتها بشكل مباشر، أو حتى تقديرها واقعيا. ومع ذلك، لا يخلو الأمر من أسباب قوية تحملنا على الاعتقاد بأن سعر الفائدة المحايد ارتفع بشكل كبير فوق مستويات ما قبل كوفيد، وهذا يعني أن إعدادات السياسة النقدية أصبحت في الواقع أكثر تساهلا بمرور الوقت.
الأمر الأكثر أهمية هو أن العجز الفيدرالي الأمريكي أعلى كثيرا وعلى أساس أكثر استدامة، وسوف يعمل الإنفاق على السياسات الدفاعية والبيئية والصناعية على إبقائه مرتفعا. سوف تؤدي هذه النفقات الإضافية إلى دفع أسعار الفائدة على الاقتراض الحكومي إلى الارتفاع، وهو عامل رئيسي في تحديد سعر الفائدة المحايد.
من ناحية أخرى، يعمل المسؤولون الصينيون والأمريكيون على حد سواء على تثبيط تدفقات رأس المال من المستثمرين الصينيين إلى الأسواق الأمريكية، مما يؤدي إلى تقليص مجمع المدخرات المتاحة لتمويل العجز الأمريكي - كما يتسبب هذا في زيادة أسعار الفائدة الطويلة الأجل. ولكن بعد الجائحة، انخفضت معدلات الادخار في الولايات المتحدة مع اتجاه المستهلكين إلى تبني عقلية «أنت تعيش مرة واحدة» واستيعاب درس مفاده أن الدعم الحكومي سيوجد دوما في أوقات الأزمات (لحسن الحظ). مرة أخرى، سيؤدي هذا إلى ارتفاع الأسعار مع ارتفاع مستويات الديون.
أخيرا، إذا استمر التسارع الأخير في نمو الإنتاجية - ربما لأن الذكاء الاصطناعي أو التكنولوجيات الخضراء أصبحت أكثر انتشارا - فإن هذا أيضا سيزيد من العائد الحقيقي على رأس المال، وبالتالي سعر الفائدة المحايد.
أيا كانت الطريقة التي نزن بها هذه العوامل المختلفة، فإن كل الاتجاهات تشير إلى زيادة سعر الفائدة المحايد بنسبة تصل إلى 1.5%. لا ينبغي لحقيقة أن السياسة النقدية الأمريكية أكثر تساهلا مما يعتقد كثيرون أن تثني الاحتياطي الفيدرالي عن خفض أسعار الفائدة في سبتمبر ونوفمبر.
من منظور إدارة المخاطر، إذا كان من المتوقع أن يستمر التضخم في اتجاه هابط مع ارتفاع البطالة، فإن تخفيف قيود السياسة لمنع العودة إلى الركود تصرف حكيم (على الأقل إلى أن يتضح في العام المقبل التأثير الاقتصادي المترتب على الانتخابات الأمريكية المرتقبة في نوفمبر). لكن التحذيرات من أن سياسة الاحتياطي الفيدرالي قد تجر الاقتصاد إلى أسفل غير مبررة.
عندما يثبت الاقتصاد الأمريكي مرونته وقدرته على الصمود مرة أخرى، ويعود أوان رفع أسعار الفائدة، يجب أن تكون لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية مستعدة ليس فقط لرفع أسعار الفائدة بدرجة أكبر من المعتاد، بل وأيضا لتتبع كيفية انتقال زياداتها عبر الأسواق المالية المتنوعة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاحتیاطی الفیدرالی أسعار الفائدة الفائدة على
إقرأ أيضاً:
إعادة هندسة السياسة السودانية- نحو ليبرالية رشيدة وتجاوز إرث الفوضى
من المعلوم أن التحزب والانقسام غير الموضوعي هما من الأسباب الأساسية التي ساهمت في تخلف السودان السياسي. فمنذ الاستقلال، لم تشهد البلاد بيئة سياسية مستقرة تؤسس لحكم ديمقراطي رشيد، بل ظلت تتأرجح بين النظم العسكرية والانقلابات، وبين الأحزاب المتصارعة التي لم تستطع تقديم رؤية متماسكة لخدمة الوطن والمواطنين.
إن الممارسة الديمقراطية الحقيقية تستند إلى تمثيل بعض المواطنين للكل عبر تنظيمات سياسية قوية تتبنى رؤى واضحة حول قضايا الحكم، بحيث يتمتع الجميع بالحرية والسلام والعدالة. غير أن المشهد السياسي السوداني ظل يعاني من تعددية حزبية مفرطة تفتقد للبرامج الواقعية، مما أدى إلى ضعف الأداء السياسي وعدم القدرة على تحقيق الاستقرار.
نحو هيكلة جديدة للحياة السياسية
تجارب الدول الكبرى أثبتت أن وجود حزبين رئيسيين يمثلان الاتجاهات الفكرية العامة في البلاد يحقق استقرارًا سياسيًا أفضل، في حين أن نظام الحزب الواحد قد يؤدي إلى تسلط السلطة وغياب المحاسبة، كما حدث في الاتحاد السوفيتي سابقًا. ورغم أن النموذج الصيني يقدم مثالًا على نجاح الحزب الواحد، إلا أن هذا النجاح مرتبط بعوامل ثقافية وسياسية خاصة بالصين، ولا يمكن استنساخه في السودان.
إن السودان اليوم في مفترق طرق خطير، وإذا استمر على نهجه الحالي فإنه قد يسير نحو مزيد من الفوضى والانهيار. لذا، تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة المشهد السياسي عبر تأسيس نظام حزبي جديد يعتمد على:
تحديد عدد محدود من الأحزاب التي تستند إلى برامج سياسية واقتصادية واضحة، وليس على الولاءات القبلية أو العقائدية.
إعادة تعريف النخب السياسية بحيث يتم استبعاد الأجيال التي كانت جزءًا من الخراب السياسي، وإتاحة الفرصة للشباب القادرين على طرح رؤى جديدة ومتطورة.
وضع دستور واضح المعالم يحدد الإطار العام للممارسة السياسية ويمنع تعدد الأحزاب غير المنتج.
مقترح لنظام حزبي جديد
يمكن اقتراح نظام حزبي يتكون من حزبين رئيسيين:
حزب الاتحاد الفيدرالي (FUP): يقوم على مبدأ سيادة الدستور والقانون كأساس للحكم الرشيد.
حزب الاتحاد والتنمية (UDP): يركز على التخطيط الحديث، والتنمية المستدامة، والعدالة في توزيع السلطة والثروة.
قد توجد أحزاب صغيرة أخرى لإثراء الساحة السياسية، ولكن بشرط أن تقدم أفكارًا مبتكرة، لا أن تكون مجرد أدوات لانقلابات أو صراعات على السلطة.
إزالة الولاءات التقليدية
ينبغي أن يقوم هذا النظام الجديد على إنهاء هيمنة الطائفية والقبلية والوراثة السياسية، واستبدالها بمنظومة حديثة تعتمد على الكفاءة والقدرة على تحقيق تطلعات المواطنين. كما ينبغي استيعاب المجددين من مختلف الخلفيات الفكرية في هذه الأحزاب، شرط أن يكون تأثيرهم قائمًا على الإقناع الفكري لا على الإقصاء والهيمنة.
مستقبل السودان السياسي
من المتوقع أن تكون المنافسة بين الحزبين الرئيسيين قائمة على اختلاف الرؤى حول آليات التنمية وسياسات الحكم المحلي، ولكن ليس حول المبادئ الأساسية للحكم الرشيد. فبهذه الطريقة، يمكن أن تتحقق الديمقراطية الفاعلة التي تستند إلى اختيار القيادات على أساس الإنجاز والكفاءة وليس على أساس الولاءات الضيقة.
الخطوة التالية في هذا المشروع الطموح هي صياغة هذه المبادئ في دستور جديد وقوانين واضحة تنظم العمل الحزبي، بحيث يتم تجاوز أزمات الماضي والانطلاق نحو مستقبل سياسي مستقر ومزدهر.
zuhair.osman@aol.com