الحقائق التاريخية وراء ما عُرف بـ "أقصر حرب في التاريخ"
تاريخ النشر: 26th, August 2024 GMT
ناصر بن عبدالله الريامي **
يُقال إن أقصر حرب عرفها التاريخ، هي تلك الحرب غير المُتكافئة، التي دارت رحاها بين جيش سلطان زنجبار خالد بن برغش، المكوَّن من عددٍ من جنودِ الحرس السُّلطاني، ومؤيديه من العُمانيين وغيرهم، المسلحين ببنادقهم التقليدية من ناحية؛ وبين الجيش البريطاني، ببوارجهِ وأسلحتهِ الثقيلة (رشاشات من طراز ماكسيم)، من ناحية أخرى، قبل 128 سنة من تاريخ هذا اليوم؛ وتحديدًا، في يوم 27 أغسطس من عام 1896م.
اندلعت هذه "الحرب"– إن جاز القول حربًا- على خلفِيَّة إصرار السيِّد خالد على المطالبة، وللمرةِ الثانية، بإرث أبيه في الحكم، بعدما وجد أنه أحق بالعرش من غيرهِ، بعد أن تُوفيَ ابن عمه، السلطان حمد بن ثويني عام 1896م. ولتغطية هذا الحدث التاريخي المهم، بِشكلٍ أوفى، نُشيرُ إلى أن هذا الصّراع المسلّح على العرش، سبقته إرهاصاتٌ تعود إلى عام 1893م؛ عندما اقتحم السيد خالد القصر، وشرع في فرض نفسه على الإدارة الإنجليزية، وتنصيب نفسه سُلطانًا على زنجبار - مُستندًا إلى الإرادة الشعبية، خلافًا لما تفرضه اتفاقية الحماية – بعد وفاة عمّه، السلطان علي بن سعيد بن سلطان. يُذكر، فإن إحساس السيد خالد بأنَّه الأحق بالحكم كان نابعًا من حقيقة كونه أكبر أحفاد السيد سعيد بن سلطان سنًا (18 سنة)، من أبنائه الذين تعاقبوا على عرش زنجبار.
فالمعروف أنه بموجب اتفاقية الحماية لعام 1890م، فإن تعيين سلاطين زنجبار يتم بموجب إرادة ملكية بريطانية، وليس للإرادة الشعبية الزنجبارية أي اعتبار في ذلك؛ وهو ما دفع بالإدارة الإنجليزية إلى اختيار العمل العسكري لإخراج السيد خالد من بيت الحُكم، الذي كان قد فرض نفسه عليه، هو وبعض من مستشاريه وأتباعه.
وبناءً على نصائح العمانيين، خرج السيد خالد من القصر، فاسحًا المجال للمُرشح الذي اختارته الإدارة الإنجليزية للعرش، وهو ابن عمه، السيد حمد بن ثويني بن سعيد بن سلطان، الذي نودي به سلطانًا على زنجبار، في اليوم نفسه.
يُذكر، أن خروج السيد خالد من القصر، كان حقنًا للدماء أيضًا، بعد أن لاحظ تأهُب القوات البريطانية لاستعمال القوة لإخراجِه وأتباعه من القصرِ عنوةً. يُصوِّر لنا (Lyne) هذا المشهد بالقول: إنه عندما سمعَ الجنرال ماثيوس بما فعله السيد خالد، استعان بعددٍ يصل إلى 160 من قوَّات مشاة البحرية البريطانية (Marines)، والقوات ذات السترات الزرق، المعروفة بالـ( blue-jackets)، الذين تقدموا نحو القصر، ووقفوا أمام بابه الرئيس، موجهين فوهات بنادقهم الآلية تجاهه، وتمت المناداة على من بالداخل بالاستسلام.
السلطان حمد بن ثويني، كان مُؤمنًا في قرارةِ نفسِه بأحقية السيد خالد منه بعرش زنجبار؛ إذ إنه، أي السيد خالد، ينحدرُ من فرع سلاطين زنجبار (بعد تقسيم الإمبراطورية)، فوالده كان من سلاطين زنجبار الأقوياء، وصنع مجدًا عظيمًا لبلاده؛ بينما هو ينحدِرُ من فرع سلاطين عُمان. لذلك أخذ السُّلطان حمد بن ثويني يُقَرِّب السيِّد خالد إلى بلاطهِ في الفترةِ السَّابقة لوفاتهِ، وكأنَّه يهيئه للحكم بطريقةٍ غيرِ مباشرة؛ ومن مظاهر هذا التقريب، تكليفه برعاية احتفال القصر بالمولد النبوي الشريف، عندما اشتدَّ به المرض في تلك الفترة (أنظر: المغيري، جهينة الأخبار، ط4، 384). ويُقال بأن السلطان حمد، وجد بأن السيد خالد يتمتع بشعبيةٍ وطنيةٍ قوية بين العُمانيين والعرب عامة؛ واعتقدَ خطأً، أن الإنجليز سيرضخون للإرادةِ الشعبية.
إحساسُ السيِّد خالد بأحقيتهِ بالعرش لم ينخَمِد في نفسِه، سيَّما وأنه وجد مَنْ يُنشِّط ويُحفِّز لديه هذا الإحساس، والمتمثل في شخصيةِ السُّلطان حمد بنفسِه. فبعد أن كان في وقتٍ سابقٍ يُهيّئه للحُكم بشكلٍ غيرِ مُباشر، دأبَ في الأيامِ الأخيرةِ لسلطنتِه على تحريضِه على التمرُّد على سُلطة الحماية، وفرْض النّفس عليها، حال شغور منصب السّلطان بوفاته. فعندما اشتدَّ على السُّلطان مرضُ الموت أرسل إلى السيِّد خالد بألاَّ يتأخر بعد وفاتِه عن ارتقاء عرش البلاد؛ وأوعز إلى رئيسِ حرسِه السُّلطاني، صالح مرباجني (Mramba Jini) القُمري بمعاضدة السيد خالد، وبطاعة أوامره (المغيري، الصفحة نفسها).
شَغَرَ منصب السلطان بوفاة السلطان حمد بن ثويني في عام 1896م؛ فعمد السيد خالد بن برغش إلى تكرارِ محاولته السَّابقة، وبعزيمةٍ أشد، حيث بادر هو ومؤيِّدوه بدخول بيت الحكم، قبل وصول المسؤولين الإنجليز – مُتحصِّنًا هذه المرة بقوةِ الحرس السُّلطاني، التي عزَّزَ من شوكتها السلطان حمد بن ثويني. يُذكر، فإن هذه القوة كانت مكونة من 200 جندي فقط، إلّا أن السلطان حمد بن ثويني رفع من عددها إلى ألف جندي، متجاوزة بذلك عدد القوات الحكومية التي كانت تحت قيادة الإنجليز. وبهذا، أعلن السسيد خالد نفسه سلطانًا على عرش زنجبار، بعد أن بايعه أنصار العرب، وأمر الفرقاطة السُّلطانية جلاسكو، بأن تضرب المدافع إعلانًا بذلك. وعليه، فلقد احتل الحرس السُّلطاني، مواقع دفاعية؛ وأرسل السُّلطان الجديد بيانًا إلى القناصل المعتمدين في البلاد، يُعلِمهم بِتَسَنُّمِه العرش، وأنه سيتخذ الإجراءات اللازمة للمحافظةِ على الأمن؛ مؤكدًا لهم عدم مسؤوليتِه عن الدماء التي ستُراق نتيجةً لتهورِ الإنجليز؛ كما ضمَّنَ بيانه طلبًا بالاعتراف به كسلطانٍ على البلاد. امتنع جميع القناصل عن الإعراب عن موقف بلادهم تُجاه ذلك الحدث، إلى حين استقراء ردة فعل سُلطة الحماية البريطانية.
وبسبب المعاضدة الشعبية القوية (عربية عامةً) التي حصل عليها للسلطان خالد؛ ناهيك عن مُساندة قوة الحرس السُّلطاني التي خلَّفها له السلطان حمد بن ثويني؛ لم يعبأ بالإنذارات التي وجِّهت إليه من القنصل العام البريطاني بالإنابة، بازل كيف، وإنما رد عليها: بأنه يُؤثر الموت على التنازل عن حقِه في العرش (المغيري، 381). يُذكر أنَّ السيد خالد استشار مُناصِريهِ من العرب قبل أن يتمسَّك بوقفتِه الشجاعة تلكْ، فكان ردُّهم: "المنِيَّة ولا الدَنيَّة"، مؤكدين له استعدادهم للقتال دون الرضوخِ للإنجليز، وذلك بقولهم، ما معناه، إن بنادقَهم لن تُغمَد قبل أن يفرضوا على الإنجليز إرادة شعب زنجبار في اختيارِ سُلطانه. ومما يّذكر أيضا، أن السيِّد خالد رأى من تسلُّط الإنجليز، انتهاكًا صارخًا، وتدخُلًا سافِرًا في سيادةِ الدولة، لا يمكن بحالٍ من الأحوال الرُّضوخ لهما. كما ينبغي كذلك أن نعلم أنه، إلى جانبِ مُطالبةِ السيِّد خالد بإرثِ أبيه في العرش، سعى من وقفتِه الشُجاعة المُتقدمة، إلى استنهاض بلاده، واستعادةِ استقلالها، وتخليصها من نَيرِ الاستعمار البريطاني. يُشار إلى أن إجمالي القوة التي احتشدَت في صفِ السيِّد خالد بلغ قوامها ألفي رَجُل. يذكر أيضًا، فإن القنصل البريطاني، السير آرثر هردنج، الذي كان يقضي إجازته في بريطانيا آنئذٍ، حرص على استبعاد السيد خالد عن العرش، بعد أن لمس صعوبة التحكم فيه، لما تمتع به من همّةٍ ونشاط (انظر: ريتشارد هول، إمبراطوريات الرياح الموسمية، ط1، ص ص 670 – 671).
في تمامِ التاسعة ودقيقتين، من صباح يوم الخميس، الموافق 27 أغسطس 1896، الذي وافق ثالث أيام حُكم السلطان خالد بن برغش؛ وبينما كانت قوَّات السلطان، "تنشد وتصدح بالأناشيد العسكرية الحماسية"، أطلقت البوارجُ البريطانية نيران عُدوانها ومدافعها تجاه بيت الحكم، وبيت العجائب، مُسقطةً أجزاءً كبيرةً من الأول، وألحقت بالثاني أضرارًا مُتوسطة؛ مُخَلِّفةً وراء الهجوم حوالي خمسمائة قتيل، وعددًا غير قليل من الجرحى؛ كما أُغرقت الفرقاطة السُّلطانية جلاسكو – كانت بقيادة القبطان عبدالله صالح قاسم الفارسي - والتهمت نيران المدافع ما يُقدَّر بنصف مساحة الجمارك، أو ما يُعرف "بالفُرضة". ومما يُذكر، أن الخسائر الإنجليزية تمثلت في جريحٍ واحدٍ فقط (أنظر، الإسماعيلي، زنجبار: التكالب الإستعماري وتجارة الرقيق، ص 50).
وبينما كان السلطان خالد وسط أنقاضِ بيتِ الحُكم، وقبل أن تمتدَ إليه يدُ الغدر، وصل إليه رئيس الحرس، صالح مرمباجِني القمري، بشجاعةٍ فائقة، وانتشله من فوهة البركان، التي كانت لا تزال تشتعل؛ وإذا بالشيخ القاضي محمد بن سليمان بن سعيد المنذري، يَزفّ إلى السلطان خالد نبأ حصوله على الحماية الألمانية، ليصطحبه، من فور ذلك، إلى مقرِ القنصليةِ، حيثُ الحماية والأمان، لينقله الألمان بعدئذٍ إلى دار السلام، التي كانت مُستعمرة ألمانية، وأبقته هناك كلاجئ سياسي.
ويقول المغيري، إن الأمانة التاريخية تقتضي عدم إغفال دور رئيس الحرس في وقفتِه بجانب السلطان خالد، التي تعكس مدى إخلاصه ووفائه للعائلةِ المالكة، وتنفيذه لوصية السلطان حمد بن ثويني في الانصياع لأوامر خليفته؛ فأصرَّ على مُرافقته إلى القنصلية الألمانية، بل وإلى دارِ السلام أيضًا؛ ومكث هناك، في خدمةِ سَيِّدهُ، إلى أن توفاه الله.
إلى جانب الانتصار الواضح للإنجليز، والرسالة الجليَّة التي تحقَّقَ لهم إيصالها إلى الأُسرةِ المالكة، على اعتبارِ أنها، هي فقط، من يملك تحديد سلاطين زنجبار، حسبما ورد في مُذكرة الحماية؛ تحقق للإنجليز كذلك إيصال رسالة مماثلة لعربِ زنجبار، فترسَّخ في أذهانهم مفهوم أن الإنجليز هم المسيطرون الفعليّون في البلاد. وهذا ما أشار إليه القنصل البريطاني في زنجبار، الميجور إف . بي . بيرس، بعد سنوات من القصف، حيث قال: "في التاسعة من صباح 27 أغسطس 1896، تعلَّمَ العربُ والسواحليون في زنجبار درسًا لن يَنْسوه" (انظر ريتشارد هول، ص 672). هكذا قَويت شوكةُ الإنجليز في زنجبار، وتجرَّأوا على وضعِ الشعار البريطاني (الأسد والحصان) ليس على كرسي العرش فحسب، كما كان عليه الحال في سلطنة السيد حمد بن ثويني، وإنما على مختلف الأوراق الصادرة عن الحكومة؛ كما عينوا نُظَّارًا (وزراء) إنجليز على رأس الوزارات المختلفة، بدلًا من العرب، الذين تمت تنحيتهم جانبًا؛ وتولَّد عن يوم الخميس الأسود هذا، مثلًا سواحيليًا: "مدفع الخميس"، يُستخدم للدلالة على القهر والمذلة.
وإذا كان من كلمة حقٍ، يجب أن تُقال في هذا الصّدد، ولأجل الأمانة التاريخية، فلابد من الإشارة إلى أنه من العبث، ثم العبث، تسمية هذه الواقعة بالحرب؛ فرغم أن كُتب التاريخ درجت على ذلك؛ فهو في تقديرنا، تدوين مغلوط للتاريخ، لا يخلو من الغرض والانحياز. ومن وجهة نظرنا، نرى أنه، ولأجل تسمية الأحداث بمسمّياتها الصحيحة والعادلة، فإن اعتداء دولة عظمى، وبأسلحتها الثقيلة، على دولةٍ تراجعت كثيرًا عمّا كانت، وبأسلحتها التقليدية المتواضعة؛ لا يمكن، بحالٍ من الأحوال، أن يُطلق عليه حربًا؛ وقد يكون الأقرب إلى الصّحة، الإشارة إليه بمصطلح "العدوان". نعم، إنه عدوانٌ غاشم؛ وفرض لإرادة القوّة. ولعلّ نتيجة "الحرب" السريعة، وخسائرها الفادحة، من طرفٍ واحد فقط، خير برهان على ذلك. وهذا هو عين ما يؤكده البروفسور إبراهيم بن نور البكري في مختلف المحافل الثقافية، العامة منها والخاصة.
تابع في الحلقة القادمة: "ماذا بعد الحماية الألمانية".
** مؤلف كتاب "زنجبار: شخصيات وأحداث"
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
آبل تطلب الانضمام في محاكمة غوغل التاريخية بشأن الاحتكار
طلبت شركة آبل المشاركة في محاكمة غوغل المقبلة في الولايات المتحدة، بشأن مكافحة احتكار البحث عبر الإنترنت.
وقالت آبل إنها لا تستطيع الاعتماد على غوغل للدفاع عن اتفاقيات التشارك في الإيرادات التي تحصل بموجبها الشركة المصنعة لهواتف آيفون على مليارات الدولارات سنوياً، مقابل جعل غوغل محرك البحث الرئيسي على متصفح سفاري الخاص بها.
وذكر محامو الشركة في وثائق قدموها للمحكمة في واشنطن، الاثنين، أن آبل لا تخطط لإنشاء محرك بحث خاص بها لتنافس غوغل، التابعة لشركة ألفابت، سواء استمرت المدفوعات أم لا.
وحصلت آبل بموجب اتفاقها مع غوغل على نحو 20 مليار دولار في عام 2022 وحده.
وتريد آبل استدعاء شهود في محاكمة أبريل (نيسان). وسيسعى المدعون إلى إظهار أن غوغل يجب أن تتخذ تدابير عدة، من بينها بيع متصفح كروم ونظام التشغيل أندرويد، لاستعادة المنافسة في نشاط البحث عبر الإنترنت.
وقالت آبل "لم يعد بإمكان غوغل تمثيل مصالح آبل بالشكل المناسب. على غولغ حالياً الدفاع في مواجهة جهود واسعة تستهدف تفكيك وحدات أعمالها".
واقترحت الشركة تخفيف الاتفاقيات التي تعقدها مع مطوري وسائل التصفح ومُصنعي الأجهزة المحمولة وشركات الاتصالات اللاسلكية لجعل غوغل محرك البحث الرئيسي، ولكن ليس إنهاء اتفاقياتها لتشارك عوائد الإعلانات التي تجنيها من البحث عبر الإنترنت.
وأحجم متحدث باسم غوغل عن التعليق، اليوم الثلاثاء.
وتعد الدعوى التي أقامتها وزارة العدل الأمريكية على غوغل قضية تاريخية يمكن أن تعيد تشكيل طريقة حصول المستخدمين على المعلومات عبر الإنترنت.