الحقائق التاريخية وراء ما عُرف بـ "أقصر حرب في التاريخ"
تاريخ النشر: 26th, August 2024 GMT
ناصر بن عبدالله الريامي **
يُقال إن أقصر حرب عرفها التاريخ، هي تلك الحرب غير المُتكافئة، التي دارت رحاها بين جيش سلطان زنجبار خالد بن برغش، المكوَّن من عددٍ من جنودِ الحرس السُّلطاني، ومؤيديه من العُمانيين وغيرهم، المسلحين ببنادقهم التقليدية من ناحية؛ وبين الجيش البريطاني، ببوارجهِ وأسلحتهِ الثقيلة (رشاشات من طراز ماكسيم)، من ناحية أخرى، قبل 128 سنة من تاريخ هذا اليوم؛ وتحديدًا، في يوم 27 أغسطس من عام 1896م.
اندلعت هذه "الحرب"– إن جاز القول حربًا- على خلفِيَّة إصرار السيِّد خالد على المطالبة، وللمرةِ الثانية، بإرث أبيه في الحكم، بعدما وجد أنه أحق بالعرش من غيرهِ، بعد أن تُوفيَ ابن عمه، السلطان حمد بن ثويني عام 1896م. ولتغطية هذا الحدث التاريخي المهم، بِشكلٍ أوفى، نُشيرُ إلى أن هذا الصّراع المسلّح على العرش، سبقته إرهاصاتٌ تعود إلى عام 1893م؛ عندما اقتحم السيد خالد القصر، وشرع في فرض نفسه على الإدارة الإنجليزية، وتنصيب نفسه سُلطانًا على زنجبار - مُستندًا إلى الإرادة الشعبية، خلافًا لما تفرضه اتفاقية الحماية – بعد وفاة عمّه، السلطان علي بن سعيد بن سلطان. يُذكر، فإن إحساس السيد خالد بأنَّه الأحق بالحكم كان نابعًا من حقيقة كونه أكبر أحفاد السيد سعيد بن سلطان سنًا (18 سنة)، من أبنائه الذين تعاقبوا على عرش زنجبار.
فالمعروف أنه بموجب اتفاقية الحماية لعام 1890م، فإن تعيين سلاطين زنجبار يتم بموجب إرادة ملكية بريطانية، وليس للإرادة الشعبية الزنجبارية أي اعتبار في ذلك؛ وهو ما دفع بالإدارة الإنجليزية إلى اختيار العمل العسكري لإخراج السيد خالد من بيت الحُكم، الذي كان قد فرض نفسه عليه، هو وبعض من مستشاريه وأتباعه.
وبناءً على نصائح العمانيين، خرج السيد خالد من القصر، فاسحًا المجال للمُرشح الذي اختارته الإدارة الإنجليزية للعرش، وهو ابن عمه، السيد حمد بن ثويني بن سعيد بن سلطان، الذي نودي به سلطانًا على زنجبار، في اليوم نفسه.
يُذكر، أن خروج السيد خالد من القصر، كان حقنًا للدماء أيضًا، بعد أن لاحظ تأهُب القوات البريطانية لاستعمال القوة لإخراجِه وأتباعه من القصرِ عنوةً. يُصوِّر لنا (Lyne) هذا المشهد بالقول: إنه عندما سمعَ الجنرال ماثيوس بما فعله السيد خالد، استعان بعددٍ يصل إلى 160 من قوَّات مشاة البحرية البريطانية (Marines)، والقوات ذات السترات الزرق، المعروفة بالـ( blue-jackets)، الذين تقدموا نحو القصر، ووقفوا أمام بابه الرئيس، موجهين فوهات بنادقهم الآلية تجاهه، وتمت المناداة على من بالداخل بالاستسلام.
السلطان حمد بن ثويني، كان مُؤمنًا في قرارةِ نفسِه بأحقية السيد خالد منه بعرش زنجبار؛ إذ إنه، أي السيد خالد، ينحدرُ من فرع سلاطين زنجبار (بعد تقسيم الإمبراطورية)، فوالده كان من سلاطين زنجبار الأقوياء، وصنع مجدًا عظيمًا لبلاده؛ بينما هو ينحدِرُ من فرع سلاطين عُمان. لذلك أخذ السُّلطان حمد بن ثويني يُقَرِّب السيِّد خالد إلى بلاطهِ في الفترةِ السَّابقة لوفاتهِ، وكأنَّه يهيئه للحكم بطريقةٍ غيرِ مباشرة؛ ومن مظاهر هذا التقريب، تكليفه برعاية احتفال القصر بالمولد النبوي الشريف، عندما اشتدَّ به المرض في تلك الفترة (أنظر: المغيري، جهينة الأخبار، ط4، 384). ويُقال بأن السلطان حمد، وجد بأن السيد خالد يتمتع بشعبيةٍ وطنيةٍ قوية بين العُمانيين والعرب عامة؛ واعتقدَ خطأً، أن الإنجليز سيرضخون للإرادةِ الشعبية.
إحساسُ السيِّد خالد بأحقيتهِ بالعرش لم ينخَمِد في نفسِه، سيَّما وأنه وجد مَنْ يُنشِّط ويُحفِّز لديه هذا الإحساس، والمتمثل في شخصيةِ السُّلطان حمد بنفسِه. فبعد أن كان في وقتٍ سابقٍ يُهيّئه للحُكم بشكلٍ غيرِ مُباشر، دأبَ في الأيامِ الأخيرةِ لسلطنتِه على تحريضِه على التمرُّد على سُلطة الحماية، وفرْض النّفس عليها، حال شغور منصب السّلطان بوفاته. فعندما اشتدَّ على السُّلطان مرضُ الموت أرسل إلى السيِّد خالد بألاَّ يتأخر بعد وفاتِه عن ارتقاء عرش البلاد؛ وأوعز إلى رئيسِ حرسِه السُّلطاني، صالح مرباجني (Mramba Jini) القُمري بمعاضدة السيد خالد، وبطاعة أوامره (المغيري، الصفحة نفسها).
شَغَرَ منصب السلطان بوفاة السلطان حمد بن ثويني في عام 1896م؛ فعمد السيد خالد بن برغش إلى تكرارِ محاولته السَّابقة، وبعزيمةٍ أشد، حيث بادر هو ومؤيِّدوه بدخول بيت الحكم، قبل وصول المسؤولين الإنجليز – مُتحصِّنًا هذه المرة بقوةِ الحرس السُّلطاني، التي عزَّزَ من شوكتها السلطان حمد بن ثويني. يُذكر، فإن هذه القوة كانت مكونة من 200 جندي فقط، إلّا أن السلطان حمد بن ثويني رفع من عددها إلى ألف جندي، متجاوزة بذلك عدد القوات الحكومية التي كانت تحت قيادة الإنجليز. وبهذا، أعلن السسيد خالد نفسه سلطانًا على عرش زنجبار، بعد أن بايعه أنصار العرب، وأمر الفرقاطة السُّلطانية جلاسكو، بأن تضرب المدافع إعلانًا بذلك. وعليه، فلقد احتل الحرس السُّلطاني، مواقع دفاعية؛ وأرسل السُّلطان الجديد بيانًا إلى القناصل المعتمدين في البلاد، يُعلِمهم بِتَسَنُّمِه العرش، وأنه سيتخذ الإجراءات اللازمة للمحافظةِ على الأمن؛ مؤكدًا لهم عدم مسؤوليتِه عن الدماء التي ستُراق نتيجةً لتهورِ الإنجليز؛ كما ضمَّنَ بيانه طلبًا بالاعتراف به كسلطانٍ على البلاد. امتنع جميع القناصل عن الإعراب عن موقف بلادهم تُجاه ذلك الحدث، إلى حين استقراء ردة فعل سُلطة الحماية البريطانية.
وبسبب المعاضدة الشعبية القوية (عربية عامةً) التي حصل عليها للسلطان خالد؛ ناهيك عن مُساندة قوة الحرس السُّلطاني التي خلَّفها له السلطان حمد بن ثويني؛ لم يعبأ بالإنذارات التي وجِّهت إليه من القنصل العام البريطاني بالإنابة، بازل كيف، وإنما رد عليها: بأنه يُؤثر الموت على التنازل عن حقِه في العرش (المغيري، 381). يُذكر أنَّ السيد خالد استشار مُناصِريهِ من العرب قبل أن يتمسَّك بوقفتِه الشجاعة تلكْ، فكان ردُّهم: "المنِيَّة ولا الدَنيَّة"، مؤكدين له استعدادهم للقتال دون الرضوخِ للإنجليز، وذلك بقولهم، ما معناه، إن بنادقَهم لن تُغمَد قبل أن يفرضوا على الإنجليز إرادة شعب زنجبار في اختيارِ سُلطانه. ومما يّذكر أيضا، أن السيِّد خالد رأى من تسلُّط الإنجليز، انتهاكًا صارخًا، وتدخُلًا سافِرًا في سيادةِ الدولة، لا يمكن بحالٍ من الأحوال الرُّضوخ لهما. كما ينبغي كذلك أن نعلم أنه، إلى جانبِ مُطالبةِ السيِّد خالد بإرثِ أبيه في العرش، سعى من وقفتِه الشُجاعة المُتقدمة، إلى استنهاض بلاده، واستعادةِ استقلالها، وتخليصها من نَيرِ الاستعمار البريطاني. يُشار إلى أن إجمالي القوة التي احتشدَت في صفِ السيِّد خالد بلغ قوامها ألفي رَجُل. يذكر أيضًا، فإن القنصل البريطاني، السير آرثر هردنج، الذي كان يقضي إجازته في بريطانيا آنئذٍ، حرص على استبعاد السيد خالد عن العرش، بعد أن لمس صعوبة التحكم فيه، لما تمتع به من همّةٍ ونشاط (انظر: ريتشارد هول، إمبراطوريات الرياح الموسمية، ط1، ص ص 670 – 671).
في تمامِ التاسعة ودقيقتين، من صباح يوم الخميس، الموافق 27 أغسطس 1896، الذي وافق ثالث أيام حُكم السلطان خالد بن برغش؛ وبينما كانت قوَّات السلطان، "تنشد وتصدح بالأناشيد العسكرية الحماسية"، أطلقت البوارجُ البريطانية نيران عُدوانها ومدافعها تجاه بيت الحكم، وبيت العجائب، مُسقطةً أجزاءً كبيرةً من الأول، وألحقت بالثاني أضرارًا مُتوسطة؛ مُخَلِّفةً وراء الهجوم حوالي خمسمائة قتيل، وعددًا غير قليل من الجرحى؛ كما أُغرقت الفرقاطة السُّلطانية جلاسكو – كانت بقيادة القبطان عبدالله صالح قاسم الفارسي - والتهمت نيران المدافع ما يُقدَّر بنصف مساحة الجمارك، أو ما يُعرف "بالفُرضة". ومما يُذكر، أن الخسائر الإنجليزية تمثلت في جريحٍ واحدٍ فقط (أنظر، الإسماعيلي، زنجبار: التكالب الإستعماري وتجارة الرقيق، ص 50).
وبينما كان السلطان خالد وسط أنقاضِ بيتِ الحُكم، وقبل أن تمتدَ إليه يدُ الغدر، وصل إليه رئيس الحرس، صالح مرمباجِني القمري، بشجاعةٍ فائقة، وانتشله من فوهة البركان، التي كانت لا تزال تشتعل؛ وإذا بالشيخ القاضي محمد بن سليمان بن سعيد المنذري، يَزفّ إلى السلطان خالد نبأ حصوله على الحماية الألمانية، ليصطحبه، من فور ذلك، إلى مقرِ القنصليةِ، حيثُ الحماية والأمان، لينقله الألمان بعدئذٍ إلى دار السلام، التي كانت مُستعمرة ألمانية، وأبقته هناك كلاجئ سياسي.
ويقول المغيري، إن الأمانة التاريخية تقتضي عدم إغفال دور رئيس الحرس في وقفتِه بجانب السلطان خالد، التي تعكس مدى إخلاصه ووفائه للعائلةِ المالكة، وتنفيذه لوصية السلطان حمد بن ثويني في الانصياع لأوامر خليفته؛ فأصرَّ على مُرافقته إلى القنصلية الألمانية، بل وإلى دارِ السلام أيضًا؛ ومكث هناك، في خدمةِ سَيِّدهُ، إلى أن توفاه الله.
إلى جانب الانتصار الواضح للإنجليز، والرسالة الجليَّة التي تحقَّقَ لهم إيصالها إلى الأُسرةِ المالكة، على اعتبارِ أنها، هي فقط، من يملك تحديد سلاطين زنجبار، حسبما ورد في مُذكرة الحماية؛ تحقق للإنجليز كذلك إيصال رسالة مماثلة لعربِ زنجبار، فترسَّخ في أذهانهم مفهوم أن الإنجليز هم المسيطرون الفعليّون في البلاد. وهذا ما أشار إليه القنصل البريطاني في زنجبار، الميجور إف . بي . بيرس، بعد سنوات من القصف، حيث قال: "في التاسعة من صباح 27 أغسطس 1896، تعلَّمَ العربُ والسواحليون في زنجبار درسًا لن يَنْسوه" (انظر ريتشارد هول، ص 672). هكذا قَويت شوكةُ الإنجليز في زنجبار، وتجرَّأوا على وضعِ الشعار البريطاني (الأسد والحصان) ليس على كرسي العرش فحسب، كما كان عليه الحال في سلطنة السيد حمد بن ثويني، وإنما على مختلف الأوراق الصادرة عن الحكومة؛ كما عينوا نُظَّارًا (وزراء) إنجليز على رأس الوزارات المختلفة، بدلًا من العرب، الذين تمت تنحيتهم جانبًا؛ وتولَّد عن يوم الخميس الأسود هذا، مثلًا سواحيليًا: "مدفع الخميس"، يُستخدم للدلالة على القهر والمذلة.
وإذا كان من كلمة حقٍ، يجب أن تُقال في هذا الصّدد، ولأجل الأمانة التاريخية، فلابد من الإشارة إلى أنه من العبث، ثم العبث، تسمية هذه الواقعة بالحرب؛ فرغم أن كُتب التاريخ درجت على ذلك؛ فهو في تقديرنا، تدوين مغلوط للتاريخ، لا يخلو من الغرض والانحياز. ومن وجهة نظرنا، نرى أنه، ولأجل تسمية الأحداث بمسمّياتها الصحيحة والعادلة، فإن اعتداء دولة عظمى، وبأسلحتها الثقيلة، على دولةٍ تراجعت كثيرًا عمّا كانت، وبأسلحتها التقليدية المتواضعة؛ لا يمكن، بحالٍ من الأحوال، أن يُطلق عليه حربًا؛ وقد يكون الأقرب إلى الصّحة، الإشارة إليه بمصطلح "العدوان". نعم، إنه عدوانٌ غاشم؛ وفرض لإرادة القوّة. ولعلّ نتيجة "الحرب" السريعة، وخسائرها الفادحة، من طرفٍ واحد فقط، خير برهان على ذلك. وهذا هو عين ما يؤكده البروفسور إبراهيم بن نور البكري في مختلف المحافل الثقافية، العامة منها والخاصة.
تابع في الحلقة القادمة: "ماذا بعد الحماية الألمانية".
** مؤلف كتاب "زنجبار: شخصيات وأحداث"
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
السلطان قابوس بن سعيد..وعُمان جديدة
العقد الوطني
(شعبي.. أتحدث إليكم كـ«سلطان مسقط وعمان»؛ بعد أن خلفت والدي يوم 18 جمادى الأولى 1390هـ الموافق 23 يوليو 1970م. كنت ألاحظ بخوف متزايد وسخط شديد عجز والدي عن تولي زمام الأمور، إن عائلتي وقواتي المسلحة قد تعهدوا لي بالطاعة والإخلاص. إن السلطان السابق قد غادر السلطنة، وإني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية، وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها.
أيها الشعب.. سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل، وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب. كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإنْ عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى، وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي، وإني متخذ الخطوات القانونية لتلقي الاعتراف من الدول الخارجية الصديقة، وإني أتطلع إلى التأييد العاجل والتعاون الودي مع جميع الشعوب؛ وخصوصًا مع جيراننا، وأن يكون مفعوله لزمن طويل والتشاور فيما بيننا لمستقبل منطقتنا.
أصدقائي.. إني أستحثكم الاستمرار في معيشتكم المعتادة، وإني سأصل إلى مسقط خلال الأيام القليلة القادمة، وهدفي الرئيسي ما سأخبركم به.
شعبي.. إني وحكومتي الجديدة نهدف لإنجاز هدفنا العام.
شعبي وإخوتي.. كان بالأمس ظلام، ولكن بعون الله غدًا سيشرق الفجر على مسقط وعمان وعلى أهلها.
حفظنا الله وكلل مسعانا بالنجاح والتوفيق).
جلالة السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد، الحاكم الثالث عشر من البوسعيديين، والمولود بتاريخ 18 نوفمبر 1940م.. مخاطبًا الشعب العماني في أول صوت يسمعه منه، إذ تم تأهيله من قبل والده السلطان سعيد بن تيمور (ت:1972م) بعيدًا عن الاختلاط بالشعب. ومع ذلك؛ فإنه كان يدرس مجتمعه وشعبه، ويشعر بآماله وآلامه، ويتوق إلى تغيير الأوضاع المضطربة التي دخلت فيها بلاده منذ نهاية حكم الإمام سلطان بن سيف اليعربي الثاني عام 1131هـ؛ أي أكثر من قرنين ونصف، شهدت عمان خلالها حروبًا طاحنةً، وانقسامات قبلية متنافسة، وتدخلات خارجية.. بل منذ عام 1913 حتى 1954م انقسمت عمان إلى نظامين: إمامي عاصمته نزوى، وسلطاني عاصمته مسقط، وقد أورثت الانقسامات تغييرًا في اسم البلاد؛ فأصبحت اسمها «سلطنة مسقط وعُمان».
نتيجة هذه الأوضاع.. ساد عمان ثالوث التخلف: الجهل والمرض والفقر، وهاجر كثيرٌ من العمانيين طلبا للرزق ولحياة أفضل. وفي الستينيات الميلادية.. للخلاص من هذه الأوضاع دخلت أفكار ثورية لا تنتمي إلى الأرض العمانية، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع، وأمام الأطماع الدولية كادت تسقط عمان في هاوية التقسيم ومرحلة من الصراع؛ لا يُعرف مداها ومنتهاها. فحانت ساعة الصفر للنهضة التي ينتظرها الشعب بفارغ الصبر، وما إن سمع العمانيون من السلطان قابوس هذا الخطاب من مدينة صلالة حتى انتفضت عمان عن بكرة أبيها من شمالها حتى جنوبها. لقد مثّل خطاب جلالته الأول «عقدًا وطنيًا»، والذي كان بمثابة الإيجاب، في حين مثّل خروج الشعب في مسيرات الولاء والطاعة القبول.
في هذا «العقد الوطني».. خاطب السلطان قابوس بن سعيد العمانيين بألفاظ المساواة والمشاركة والكرامة: (شعبي، أيها الشعب، أصدقائي، إخوتي)، من أول يوم يعلن السلطان انتهاء التمييز في عمان الجديدة، وبداية عهد يقوم على الإنسانية والأخوة والمواطنة. وأعلن فيه.. مسؤوليته قبل مسؤولية الشعب (إني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي)، (وأول هدفي أن أزيل)، (سأعمل بأسرع ما يمكن)، (وإني متخذ الخطوات القانونية). جاء السلطان إلى حكم عمان وهو مدرك تأريخها، كما أنه مصمم أن يستعيد مجدها الماضي: (كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإنْ عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى).
طور جديد لعُمان
عُمان.. ذات عمق حضاري ضارب في القدم، فحضارتها قائمة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، هذا العمق لم يكن حركة تاريخ عابرة.. بل ترك أثره على العماني، فعندما تدرس وضعه المعاصر تجد تراكمات التاريخ وضعت بصماتها عليه. والسلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- كان قارئًا جيدًا للتأريخ العماني، ومن يريد أن يبصر نجاحه في إدارة المجتمع والدولة؛ فما عليه إلا أن يقرأ ما قام به في ضوء التاريخ، لقد كان التاريخ مفتاح السر في إدارة السلطان للدولة العمانية المعاصرة.
لندرك مقدار عمل السلطان قابوس في تأسيس الدولة الحديثة؛ وعظمة ما قام به، علينا أن نقف على السمات الثقافية والحضارية للتاريخ العماني؛ والذي ينقسم إلى سبعة أطوار كبرى:
1. طور ما قبل التاريخ: يبدأ من أول وجود الإنسان على الأرض العمانية حتى نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، وهذا الطور على امتداده الكبير ما زالت المعلومات عنه قليلة، تنتظر مزيدا من التنقيبات الآثارية والبحوث الحضارية.
2. طور التأسيس: يبدأ مع نهاية الطور السابق لينتهي برأس الميلاد، وهو طور من أهم الأطوار العمانية؛ إذ فيه تشكلت حضارة عمان الأولى وأنظمتها الثقافية، والتي بقي بعضها إلى عصرنا.
3. طور الانقلاب الثقافي: يبدأ بالميلاد وينتهي بظهور الإسلام، وفيه تحولت عمان من العالم القديم إلى العالم الوسيط، استقبلت فيه هجرات عديدة من عرب الشمال والجنوب، وحصل فيه تحول في الأنظمة الدينية والسياسية والقبلية والثقافية.
4. طور التحول الإسلامي: يبدأ بدخول أهل عُمان الإسلام لينتهي بفتنة عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي عام 272هـ، ومعروف الأثر الهائل الذي أحدثه الإسلام في العرب والعالم، وكان العمانيون ممن سارعوا للدخول فيه، وإعادة بناء مجتمعهم وفقا لأنظمته، ومن أهم ما أنجزوه في هذا الطور؛ أنهم ولأول مرة تتشكّل لديهم دولة مركزية، امتد نفوذها إلى خارج الإقليم العماني الكبير.
5. طور الاضطراب السياسي: يبدأ من انهيار الدولة المركزية، ويمتد حتى نهاية الاستعمار البرتغالي، حيث شهدت عمان تدخلات خارجية؛ عباسية وفارسية وسلاجقة وقرامطة وبرتغاليين، وتفككت عُمان إلى إمارات قبلية، لم يستطع العلماء خلاله نظم العمانيين في حكم قوي جامع.
6. طور مواجهة الاستعمار: يبدأ بقيام الدولة اليعربية، حيث قيّض الله لعُمان الإمام ناصر بن مرشد اليعربي؛ فوحّد البلاد وطرد المستعمر البرتغالي، وينتهي بنهاية حكم السلطان سعيد بن تيمور. وهو ينقسم إلى قسمين؛ من حيث القوة والضعف: العهد اليعربي الأول، وما بعد العهد اليعربي الأول، ومن حيث الأسر الحاكمة: اليعاربة وآل بوسعيد، بيد أن المعالم الثقافية والأنظمة السياسية والقبلية كانت متشابهة.
7. طور الدولة الحديثة: الطور الذي نعيشه، بدأ بحكم السلطان قابوس بن سعيد عام 1970م. لقد أدرك السلطان قابوس أن على سلطنة عمان أن تلحق بالركب العالمي، الذي خرج منذ أمد من العصور الوسطى ودخل العصر الحديث، فكان لا بد من إقامة دولة عصرية ذات مؤسسات. كان السلطان ذا رؤية واضحة مكّنته من افتتاح طور كبير في عمان، في سياق التحولات العمانية الكبرى، وعلى غرار ما قام به الإمام ناصر بن مرشد اليعربي والسلطان سعيد بن سلطان.
تجاوز نظريتي
ابن خلدون وولكنسون
عبدالرحمن بن خلدون (ت:808هـ)، في «مقدمته» قرأ الدولة وأنظمتها، وخرج بنظرية مفادها أن أعمار الدول لا تزيد عن 120 عامًا، وطبّق نظريته على بعض الدول التي قامت في العالم الإسلامي. ومن دون الدخول في تفاصيل النظرية؛ فبالإمكان أن نلحظ انطباقها على بعض الدول التي قامت بعُمان. الأولى دولة اليحمد المركزية، التي بدأت عام 177هـ بحكم الإمام محمد بن أبي عفان اليحمدي، وانتهت بعزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي عام 272هـ، استمرت حوالي 95 سنة. والثانية دولة اليعاربة المركزية، ابتدأت عام 1034هـ بحكم الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، وانتهت بموت الإمام سلطان بن سيف اليعربي الثاني عام 1131هـ، واستمرت حوالي 97 سنة.
وبعد حوالي سبعة قرون جاء المؤرخ البريطاني جون ولكنسون ليتخصص في دراسة تاريخ عُمان والأنظمة السياسية والقبلية والدينية والاقتصادية التي تعاقبت عليها. في كتابه «الإمامة في عمان» درس نظام الحكم فيها، وخرج بنظرية أسماها «دورة الإمامة»، ملخصها أن الإمامة القوية لا تقوم إلا بعد أن تكون هناك صراعات داخلية وتدخلات خارجية وانقسامات قبلية، ثم تقوم دولة قوية تستمر أمدًا حتى تحدث خلافات في أجنحة الحكم فتنهار الدولة، مخلّفةً صراعات مدةً طويلة حتى تقوم الإمامة من جديد. وبرأيي؛ أن الأمر لا يقتصر على الإمامة وحدها.. بل الأجدر أن يقال «دورة الحكم في عُمان».
لقد استوعب السلطان قابوس بن سعيد التاريخ العماني، وعمل على ألا تقع عُمان في حتمية تنظير ابن خلدون وولكنسون، ونظر إلى أن تلك الدول؛ وإن كانت قوية إلا أنها لم تشيد لها مؤسسات تحفظ استمرارها، ولذلك؛ عندما يحصل الخلاف سرعان ما تنهار، وتدخل في انقسام عميق بين تيارين متصارعين، كما حصل الانقسام الأول إلى اليمانية والنزارية بعد دولة اليحمد، والانقسام الثاني إلى غافرية وهناوية بعد دولة اليعاربة. لقد وضع السلطان قابوس ما يكفل استمرار الدولة من بعده، وانتقالها السلس إلى خلفه، وهذا ما حصل عام 2020م عندما استلم جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله وأدام مجده- مقاليد الحكم في سلطنة عمان.
وبالحديث عن ترسيخ دولة المؤسسات؛ فبالإمكان أن نرى مرحلتين كبريين ساس بها السلطان قابوس دولته:
بناء الإنسان وتوحيد الرؤية
أدرك السلطان قابوس بن سعيد بسياسته الحكيمة أن الدول لا تقوم إلا بالإنسان، فعمل على إخراجه من ثالوث التخلّف المقيت ليكون عضوًا في شعب يتشارك مع الحكومة في بناء الوطن، وأعلن منذ أول يوم وصل فيه إلى عاصمته مسقط بتاريخ 30 يوليو 1970م: (أن الحكومة والشعب كالجسد الواحد، إذا لم يقم عضو منه بواجبه اختلت بقية الأجزاء في ذلك الجسد). وكما كان العمانيون محتاجين إلى الصحة والتعليم والرفاه واليسر؛ فقد كانوا كذلك بحاجة إلى أن تتوحد رؤيتهم لبناء مستقبل أفضل لوطنهم، فقد ورثت الحكومة الجديدة ثقلًا من الماضي المتشعب بالأفكار، المتشتت إلى حد الصراع، فقد وجدت الماركسية والقومية طريقهما إلى سلطنة عمان، فعمل السلطان على توحيد الرؤية بين شعبه، حتى غدا العماني نَفْسًا واحدةً أيًّا كان بلده.. بل ويحمل شعوره العماني في أسفاره.
أما مبادئ الدولة الحديثة التي استوعبها العماني فهي:- الوحدة الوطنية لا تقبل المساس، في ظل قيادة واحدة على رأسها السلطان حاكم البلاد، ولا يسمح أن تتكوّن أية قوى داخلية خارج إطار مؤسسات الدولة وقوانينها، ولا يجوز لمكونات الوطن الارتباط بأية جهة خارجية، من دون أن تنشئه الدولة أو تسمح به.
- الإسلام هو دين البلاد، ومن روحه تستمد الأنظمة والقوانين. والعربية هي اللغة الرسمية التي لا يجوز أن تؤثر عليها أية لغة أخرى.
- الدولة تقوم على التدرج في بناء المؤسسات الدستورية والقانونية والإدارية؛ بغية الوصول إلى مشاركة كافة شرائح الوطن في إدارتها، كلٌ في مجال تخصصه، وفيما يتناسب مع توجهات المجتمع العماني.
- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وأن تكون العلاقة معها في أطر الاتفاقيات والمواثيق الدولية، تحت مظلة الأمم المتحدة وهيئاتها.
- التسامح وحرية الفكر والتعبير هي العقيدة الأخلاقية التي يجب أن تسود بين جميع من يقطن عُمان. والسلام والتعاون وعدم المشاركة في الحروب عقيدتها السياسية التي تتعامل بها مع الدول، وفي إطارها تسعى سلطنة عمان للمساهمة في حل النزاعات الدولية.
- عدم التنكر للمنجز العماني عبر التاريخ؛ دينيًّا وحضاريًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، بما في ذلك تجارب الحكم السابقة وتطور نظرياتها السياسية.. وإنما الاستفادة من هذا المنجز ليحقق التوازن في الانتقال إلى الدولة الحديثة، وجعله هُوية تشكّل الثقافة العمانية التي تؤمن بالتعدّد في إطار الوحدة.
- التواصل الحضاري مع الشعوب، وتجنّب العزلة الدولية، عبر التمثيل السياسي، والتبادل الاقتصادي، والاستفادة من التجارب العلمية والتعليمية والثقافية، والحضور من خلال الفعاليات والمناشط الإقليمية والدولية، في كل مناحي الحياة.
- الموازنة في توزيع الثروة لبناء كل محافظات وقطاعات سلطنة عمان، عبر توزيع المؤسسات الخدمية في مختلف الولايات، وتحقيق الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي لكل سكان عمان.
صوت الشعب يصل للحكومة
لقد وعد السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- شعبه بإشراكهم في بناء عمان، فصدق فيما وعد، فلم يقتصر على وجودهم العملي في مؤسسات الدولة، إلى حد أنه منع عمل الأجانب في القطاع العام، إلا للضرورة؛ عندما لا يوجد العماني المقتدر على سد الفراغ الوظيفي، وكان ذلك إجراءً مؤقتًا بترقيه في مدارج العلم واكتساب للخبرة، فيحل محل الأجنبي بالتدريج. لم يقتصر على ذلك؛ وإنما سعى منذ العقد الأول من حكمه إلى تشكيل مجلس يشرك فيه فئة من المواطنين استدعى الوضع حينها للاستفادة من رأيهم في إدارة قطاع من مهام الدولة، فصدر مرسوم سلطاني برقم (19/ 79) في21 أبريل 1979م بإنشاء مجلس الزراعة والأسماك والصناعة، وقد ورد التسبيب بإصداره: (حرصًا منّا على إشراك المواطنين في مسؤولية رسم وتوجيه المستقبل الاقتصادي للبلاد، وإيمانًا بأهمية تكاتف وترابط جميع الجهود في سبيل تحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطنين في الحاضر والمستقبل).
لم يدم هذا المجلس طويلًا؛ فقد كانت التحولات التي أثبت فيها العماني قدراته سريعة، فصدر مرسوم سلطاني برقم (84 /81) في 18 أكتوبر1981م، بإنشاء مجلس استشاري للدولة، ليضم تحت قبّته: رجال الأعمال والمراكز الاجتماعية، وكبار مسؤولي الدولة الذين أحيلوا إلى التقاعد من الأجهزة المدنية والعسكرية والأمنية، والخبرات العلمية والعملية، يُعيَّنون بمرسوم سلطاني. وكان من اختصاصاته: إبداء الرأي في القوانين الاقتصادية والاجتماعية، وفيما تعرضه عليه الحكومة من سياسة عامة في مجال التنمية، والنظر فيما يواجه القطاع الخاص المشتغل في المجالين الاقتصادي والاجتماعي من مشكلات والتوصية بوسائل العلاج المناسب لها.
ويأتي عقد التسعينيات فتكتمل فيه مؤسسات الدولة بسلطاتها الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية. حيث صدر المرسوم السلطاني رقم (94 /91) في تاريخ 12 نوفمبر1991م بإنشاء مجلس الشورى، وجاء في تسبيبه: (انطلاقًا من مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء وتأكيدًا للنهج الإسلامي في الشورى. واستمرارًا لسياستنا في إعداد المواطنين للمشاركة فيما تبذله الحكومة من جهود في سبيل التنمية الشاملة للبلاد. ورغبةً في توسيع قاعدة الاختيار بحيث تشمل تمثيل مختلف ولايات سلطنة عمان وبما يحقق المشاركة الفعلية للمواطنين في خدمة وطنهم ومجتمعاتهم المحلية).
بتاريخ 6 نوفمبر 1996م صدر مرسوم سلطاني برقم (101/ 96)، بإصدار «النظام الأساسي للدولة»، جاء تسبيب إصداره: (تأكيدًا للمبادئ التي وجهت سياسة الدولة في مختلف المجالات خلال الحقبة الماضية، وتصميمًا على مواصلة الجهد من أجل بناء مستقبل أفضل يتميز بمزيد من المنجزات التي تعود بالخير على الوطن والمواطنين، وتعزيزًا للمكانة الدولية التي تحظى بها عمان ودورها في إرساء دعائم السلام والأمن والعدالة والتعاون بين مختلف الدول والشعوب). وفي 16 ديسمبر 1997م صدر مرسوم سلطاني برقم (86/ 97) قضى بإنشاء مجلس عمان؛ متكونًا من مجلسَي الدولة والشورى. ليكون مجلس الشورى ممثلًا للشعب العماني عبر التصويت الحر والمباشر، ويواصل مجلس الدولة الدور الذي كان يقوم به المجلس الاستشاري.
إن كانت السلطة التنفيذية قد تحددت فلسفتها واستبانت أجهزتها منذ منتصف السبعينيات الميلادية بصدور المرسوم السلطاني برقم (26/ 75) القاضي بتنظيم الجهاز الإداري للدولة، واكتملت السلطة التشريعية منتصف التسعينيات؛ فإنه بنهاية التسعينيات صدر قانون السلطة القضائية برقم (90/ 99) بتاريخ 21 نوفمبر 1999م. وهكذا اكتمل بناء سلطات الدولة الثلاث، لتنتقل الدولة إلى مرحلة جديدة.
التعددية الثقافية
شكّل لقاء السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد -رحمه الله- في جامعة السلطان قابوس بتاريخ 2 مايو 2000م.. يومًا فارقًا في مسيرة الدولة العمانية؛ حيث أعلن جلالته من صرح جامعته العريقة عن تدشين مرحلة جديدة أعقبت مرحلة توحيد الرؤية؛ وهي مرحلة التعددية الثقافية. نشطت في حقبة التسعينيات الميلادية على مستوى العالم دعوة إلى التنوع الفكري والتعددية الثقافية، وكانت سلطنة عمان مستعدة لهذه المرحلة باكتمال هيكلة الدولة فيها، فأعلن السلطان بأن (مصادرة الفكر والتدبر والاجتهاد من أكبر الكبائر، ونحن لن نسمح لأحد أن يصادر الفكر أبدًا، من أي فئة كانت)، وتوجه إلى المخاطَبين بقوله: (فإياكم إياكم من أحد يصادر لكم أفكاركم بأي طريقة كانت؛ أكانت دينية أو غير دينية).
أصبحت سلطنة عمان حينها مستعدة لإعادة النظر في أجهزتها الإدارية، حيث سبق هذا الخطاب في عام 1997م تغيير اسم وزارة العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، مع إنشاء وزارة خاصة بالعدل. وفي عام 2002م غُيّر اسم وزارة التراث القومي والثقافة إلى وزارة التراث والثقافة، كل ذلك؛ حتى تتمكن الحكومة من توسيع تعاملاتها باتجاه التعددية الثقافية والتنوع الفكري والتسامح الديني. كما فسحت الدولة المجال لمؤسسات المجتمع المدني، حيث أشهرت بتاريخ 23 يونيو 2002م الجمعية العمانية للسينما، وفي21 نوفمبر 2004م أُعلِن قيام جمعية الصحفيين العمانية، وفي 8 أكتوبر 2006م أُشهِرت الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء، وفي 25 سبتمبر 2009م أنشئت الجمعية العُمانية للمسرح.
دولة مستمرة ونهضة متجددة
مساء الجمعة 10 يناير 2020م.. رحل السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- عن هذه الحياة، رحل وقلوب العمانيين مكلومة عليه، إذ لم يكن حاكمًا عاديًّا.. بل كان مُفتَتِح طور جديد لتاريخهم، أخرج البلاد من ثالوث التخلّف، وأنقذها من التمزق الذي كادت أن تدخل فيه، وأعادها إلى الواجهة العالمية بعد غياب طويل. واليوم.. ونحن ننظر إلى خمسين سنة من حكمه الرشيد، ندرك أنه أراد ألا تقع بلاده في فخ التضعضع الحضاري، وألا تعود إلى ما كانت عليه قبله، مدركًا التحولات الكبرى في العالم، فبنى دولته على أسس تتجاوز بها ما نبَّه عليه الفلاسفة والمؤرخون من أمثال ابن خلدون وولكنسون من سقوط الدول، فكما أن متوسط عمر البشر تضاعف من خلال المعطيات المدنية، فبالإمكان أن يمتد عمر الدول ما دام أبناؤها يمدونها بأسباب البقاء، فوضع السلطان الراحل أربعة شروط موضوعية لاستمرار الدولة:
- تأهيل الإنسان العماني، وجعله يشعر بعزته وكرامته، واثقًا بقدرته على بناء بلاده؛ بالعِلم والحرية والتمكين.
- بناء دولة المؤسسات والقانون، وقد استكملها في عشرين عامًا، ثم انتقل بها بثقة إلى التفاعل العالمي من خلال التنوع الفكري والتعدد الثقافي.
- جعل السلام المذهب الذي يؤمن به العماني نحو الإنسانية، والتسامح المعتقد الذي يتعامل به مع إخوانه، لتتسع عمان الجميع؛ بمختلف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم وثقافاتهم.
- التوصية بسلطان يخلفه، واعٍ بمسار التاريخ العماني، مقتدر على الإبحار بالسفينة العمانية نحو غدٍ أفضل، يتجاوز بها عواصف الزمن وتقلبات الأيام، يُحب الشعب والشعب يُحبه، قريب من نفوسهم، ويرون فيه أملهم، فكانت توصيته بـ«سمو السيد هيثم بن طارق» ليكون سلطانًا على عُمان؛ لأنه رأى فيه الضمانة لاستمرارها قوية عزيزة، رأى فيه السلطان الرحيم الذي يحتوي كل أطياف الشعب، والسلطان الحكيم الذي يحرك النفوس نحو بناء الوطن والإخلاص له، والسلطان القوي الذي يقتلع الفساد من جذوره، والسلطان الملهَم الذي يبصر مستقبل عمان، لتبقى من بعده أدهرًا تواكب فيه التقدم العالمي، فكان صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- وكانت نهضة عمان المتجددة؛ فجاء خطابه إلى شعبه بعد استوائه على عرش سلطنة عمان: (أبناء عمان الأوفياء: إن الأمانة الملقاة على عاتقنا عظيمة والمسؤوليات جسيمة، فينبغي لنا جميعًا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه، وأن نسير قدمًا نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل، ولن يتأتى ذلك إلا بمساندتكم وتعاونكم وتضافر كافة الجهود، للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى، وأن تقدموا كل ما يسهم في إثراء جهود التطور والتقدم والنماء).