د. حامد محمود

خبير فى قضايا الشرق الأوسط و الشئون الدولية

القاهرة (زمان التركية)ــ “مساحة إسرائيل صغيرة وينبغي توسيعها” تصريحات ترامب تعيد إلى الأذهان مخاوف من مخططات إسرائيلية قديمة تستهدف الأراضي الأردنية في سياق ما يعرف بمشروع “إسرائيل الكبرى”.

أثارت تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، جدلاً وقلقاً في الأردن بعد حديثه عن مساحة إسرائيل الصغيرة ودعوته للحصول على مزيد من الأراضي لتوسيعها.

وقال ترامبفي كلمته أمام الجالية اليهودية خلال إطلاق تحالف “أصوات يهودية من أجل ترامب ” في أميركا، هل هناك طريقة للحصول على مزيد من الأراضي لإسرائيل، لأنها صغيرة على الخريطة مقارنة مع الدول الأخرى في الشرق الأوسط؟

حظي ترامب بدعم الكثير من الإنجيليين الأميركيين بسبب دعمه لـ”إسرائيل”.

ليس جديداً البحث في قضية الحركة الإنجيلية الصهيونية، أو المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية. فهذه الحركة موجودة وفاعلة منذ سنين طويلة، وطبعاً في الترويج لـ”إسرائيل” ودعمها في كل المجالات، وذلك من منطلقات دينية زائفة أو محرّفة، لا تزال مؤثّرة بقوّة حتى اليوم في الساحتين الدولية والإقليمية.

لكن يبقى لازماً وضرورياً البحث في مسارات العلاقة المعقّدة أو الملتبسة، التي تربط هذه الحركة الهجينة والمتطرفة بالكيان الإسرائيلي، في ظل الحكومات اليمينية التي تحكمه منذ عقود، والتي تستفيد من أشكال الدعم السياسي والمادي والمعنوي من قِبل تلك الحركة الآخذة في التوسع والنمو.

وفي البداية لا بدّ من نبذة تعريفية عن المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة، ومدى تأثيرها في دعم الكيان خلال العهود الأميركية المتعاقبة، والتي ارتبطت بعلاقات أكثر من وثيقة مع الكيان، على خلفية انتماء أو تأييد عدد من الرؤساء الأميركيين للحركة الإنجيلية أو المسيحية الصهيونية، أو ما دار في فلكها من جماعات دينية مسيّسة.

المسيحية الصهيونية

“المسيحية الصهيونية» هي «مجموعة المعتقدات الصهيونية المنتشرة بين مسيحيين، بخاصة بين قيادات وأتباع كنائس بروتستانتية، تهدف إلى تأييد قيام دولة يهودية في فلسطين بوصفها حقاً تاريخياً ودينياً لليهود، ودعمها بشكل مباشر وغير مباشر، باعتبار أن عودة اليهود إلى الأرض الموعودة – فلسطين – هي برهان على صدق التوراة، وعلى اكتمال الزمان وعودة المسيح ثانية. وحجر الزاوية في الدعم الشديد لهؤلاء المسيحيين لـ”إسرائيل” هو الصلة بين «دولة إسرائيل» المعاصرة و”إسرائيل التوراة”. لذلك أُطلِق على هذه الاتجاهات الصهيونية في الحركة الأصولية اسم الصهيونية المسيحية»

ويعرّف “والتر ريغنـز”، الأمين العام لما يسمّى “السفارة المسيحية الدولية”، وهي من أحدث وأخطر المؤسسات الصهيونية المسيحية، ومركزها في القدس، اصطلاح الصهيونية المسيحية بطريقةٍ سياسية، وعلى أنه ـ أي التعريف ـ “أيُّ مسيحي يدعم الهدف الصهيوني لدولة إسرائيل وجيشها وحكومتها وثقافتها”.

أما القس “جيري فالويل”، مؤسّس جماعة العمل السياسي الأصولي المسمّاة “الأغلبية الأخلاقية”، وهو الذي اتّهم دين الإسلام بأنه دينٌ إرهابي، فيقول: “إنّ من يؤمن بالكتاب المقدّس حقاً يرى المسيحية ودولة إسرائيل الحديثة مترابطتين على نحوٍ لا ينفصم. إنّ إعادة إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948 لهي في نظر كلّ مسيحي مؤمن بالكتاب المقدّس تحقيق لنبوءات العهدين القديم والجديد”

وحتى تُترجم حركة المسيحية الصهيونية أفكارها إلى سياسات داعمة لـ”إسرائيل”، فقد تطلب ذلك خلق منظمات ومؤسسات تعمل بجد نحو تحقيق هذا الهدف. لذا قامت حركة المسيحية الصهيونية بإنشاء العديد من المؤسسات، مثل “اللجنة المسيحية-الإسرائيلية للعلاقات العامة” ومؤسسة الائتلاف الوحدوي الوطني من أجل إسرائيل”؛ ومن أهداف هذه المؤسسات دعم “إسرائيل” لدى المؤسسات الأميركية المختلفة، السياسي منها وغير السياسي.

هناك ما يقرب من 40 مليوناً من أتباع الصهيونية المسيحية داخل الولايات المتحدة وحدها. ويزداد أتباع تلك الحركة، خاصة بعدما أصبح لها حضور بارز في كل قطاعات المجتمع الأميركي .

ويشهد الإعلام الأميركي حضوراً متزايداً لهم، حيث إن هناك ما يقرب من 100 محطة تلفزيونية، إضافة إلى أكثر من 1000 محطة إذاعية؛ ويعمل في مجال التبشير ما يقرب من 80 ألف قسّيس.

وامتدّ نفوذ الحركة إلى ساسة الولايات المتحدة بصورة كبيرة، وصلت إلى درجة إيمان بعض من شغل البيت الأبيض بمقولات الحركة والاعتراف بهذا علنياً. الرئيسان السابقان، جيمي كارتر “ديمقراطي” ورونالد ريغان “جمهوري”، كانا من أكثر الرؤساء الأميركيين إيماناً والتزاماً بمبادئ المسيحية الصهيوني .

“المجتمع المسيحي الإنجيلي طغى على الجالية اليهودية الأميركية كأهم الحلفاء السياسيين لـ”إسرائيل” في الولايات المتحدة.”

بين “أيباك” (AIPAC) والمسيحية الصهيونية

“أيباك” (AIPAC) هي اللجنة الأميركية- الإسرائيلية للشؤون العامة، وهي أكبر لوبي يستخدمه يهود الولايات المتحدة للتأثير على السياسة العامة الأميركية بهدف دعم مصالح “إسرائيل”.

وقد برز إلى اليمين من “أيباك”، منذ عقد تقريباً، ما يُسمّى بـ”اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل” (أو ما يُطلَق عليه كوفي أو CUFI). ويستند هذا الاتحاد إلى قاعدة عريضة من الإنجيليين، وبالتحديد من المسيحية الصهيونية والإنجيلية، باعتبارها المسيحية التبشيرية التي تنشر رسالة المسيح بين الشعوب، تضمّ بداخلها تياراً مسيحياً صهيونياً، خصوصاً في الولايات المتحدة. ويرى هذا التيار أن إقامة “إسرائيل” في العام 1948، وعودة اليهود إلى “أرض الميعاد”، مرحلة أساسية لقدوم المسيح المخلّص وتدشين نهاية الحياة الدنيا .

وعليه؛ تُعتبر المسيحية الصهيونية، والتي أفرزت “الاتحاد المسيحي لأجل إسرائيل”، مُناصرة للكيان الإسرائيلي الاستيطاني، وتدعم بشدة الاستيطان في الضفة الغربية وإعادة بناء “الهيكل” في القدس. في العام 2006، أعاد المُبشّر الإنجيلي الصهيوني، جون هيغي، تأسيس الاتحاد الذي ظهر لأول مرة في العام 1975، مُحوّلاً إيّاه إلى أكبر لوبي أميركي داعم لـ”إسرائيل”. وفي العام 2012، أعلن “اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل” عن تخطّيه المليون عضو، وتحوّل بذلك إلى أكبر لوبي مُناصر لـ”إسرائيل” في الولايات المتحدة. اليوم يضّم الاتحاد حوالى 7 ملايين عضو، ويُعتبر، بكلمات نتنياهو، “الصديق الأول لإسرائيل في الولايات المتحدة”

“الصهيونية المسيحية” بين إدارتي ترامب وبايدن

استمر الرؤساء الأميركيون، من دوايت أيزنهاور وحتى بيل كلينتون، في دعم الكيان الصهيوني، وإن بشكل متفاوت، إلى أن فاز جورج دبليو بوش، والذي تجمّعت لديه وفيه العوامل التالية:

العامل الأول: إيمانه والتزامه بعقيدة حركة الصهيونية المسيحية، الأمر الذي تجسّد في تقرّب قادة هذه الحركة منه.

العامل الثاني: نجاح المنظمات والمؤسسات والجمعيات التابعة لحركة الصهيونية المسيحية في تعزيز حضورها السياسي والإعلامي والديني، وتحوّلها إلى قوّة انتخابية، وإلى قوّة ضغط شديدة الفعالية والتأثير.

العامل الثالث: وقوع أحداث11 أيلول / سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، التي ألهبت مشاعر العداء ضد المسلمين والعرب، والتي قسّمت العالم إلى معسكرين: إما أن تكون مع الولايات المتحدة وإما مع “الإرهابيين” في نظر الأميركيين، فتحوّلت قضية الصراع العربي -الصهيوني، التي أصبحت محكومة بما تقبله أو ترفضه الحكومة الإسرائيلية، خاضعة للمناورات والأكاذيب السياسية التي تخترعها في الأصل آلة الأكاذيب الصهيونية، ثم لا تلبث أن تعتمدها أميركا بعد ذلك.

ترامب والإنجيلية الصهيونية

مع الإشارة إلى عدم تبنّيه فكر وتوجهات الحركة الإنجيلية الصهيونية علناً، لكن مواقف دونالد ترامب(وفريقه) السياسية المتطرفة وغير المسبوقة وتأييده المطلق للكيان الإسرائيلي، قبل وبعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، أظهرت توافقه السياسي و”الذهني والعاطفي” مع الكيان، كما تبيّن فيما بعد، بخصوص اعترافه بالقدس كعاصمة دينية (روحية) لما يسمّى الدولة اليهودية، ونقل سفارة بلاده إليها، وضم الجولان السوري المحتل، الخ..

لقد حصد ترامب، مرشّح الحزب الجمهوري، المعروف بتأييده المطلق للكيان الإسرائيلي، في انتخابات 2016، أصوات 81% من الناخبين الإنجيليين، طبقاً لاستطلاعات مركز “بيو” الأميركي للأبحاث. ومن هنا يعود انتصار ترامب الانتخابي وفوزه بالبيت الأبيض إلى أصوات الإنجيليين أساساً.

ورأى البعض أن ترامب اختار نائبه مايك بنس ليفتح الباب واسعاً أمام إقبال شديد من الطائفة الإنجيلية للتصويت له. ويتبنّى بنس خطاباً إنجيلياً متشدداً، فهو من أقصى اليمين المسيحي المؤيّد لـ”إسرائيل”

كما أن فريق ترامب للتسوية السلمية في الشرق الأوسط ضمّ يهوداً متشدّدين دينياً، مثل صهره جاريد كوشنر، وديفيد فريمان السفير الأميركي لدى “إسرائيل”، وجيسون غرينبلات مبعوث عملية “السلام”. وإضافة إلى بنس، عُدّ وزير الخارجية مايك بومبيو من الإنجيليين المتشددين داخل إدارة ترامب.

وخلال مؤتمر، قال نائب الرئيس الأميركي: “نحن ندعم إسرائيل بسبب الوعد التاريخي المقدّس أن من يدعمهم الآن سينال بركة الرب”.

واستطراداً، فقد حقّق ترامب، خلال انتخابات عام 2016 الرئاسية، معدّل قبول وصل إلى 80 بالمئة بين المسيحيين الإنجيليين البيض، فيما حقّق معدّل قبول أقلّ وسط الإنجيليين من أصول لاتينية أو إفريقية. لكنّ مجلّة “كريشتيانيتي توداي”، ذات التأثير الكبير وسط المسيحيين الإنجيليين، أعلنت في افتتاحية، دعمها لإجراءات عزله، ما عكس شرخاً في صفوف أتباع هذه الكنيسة، خاصةً بين الأجيال المختلفة. يمثّل الناخبون الإنجيليون 15 في المئة فقط من عموم الناخبينالمئة فقط من عموم الناخبين الأميركيين، مقارنة بالكنائس البروتستانتية الأخرى، التي تمثّل الأغلبية المسيحية في البلاد، والكاثوليك، وغير الدينيين، واليهود .

بايدن والمسيحيون الصهاينة

قد يستغرب المرء، للوهلة الأولى، صدور مواقف سياسية متشددة من الشخص الذي حاول إظهار “اعتداله وتميّزه” عن سلفه ترامب، بعيد تسلّمه منصب الرئاسة في الشهر الأول من العام 2020 مباشرة، وإظهاره وداً زائداً عن الحد للكيان الإسرائيلي، من منطلقات دينية وسياسية في آنٍ واحد.

لكن هذا الاستغراب يزول سريعاً فيما لو استقرأ المراقب حركة بايدن السياسية الرئاسية منذ البداية. فقد قالت صحيفة الغارديان البريطانية، إن أكثر من 1600 من القادة الدينيين في الولايات المتحدة دعموا بايدن علانية قبيل انتخابات الرئاسة في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2020، في ظل إشارات على أن بعض الناخبين الإنجيليين تحوّلوا بعيداً عن ترامب.

وجاء التأييد بشكل أساسي لبايدن من الكاثوليك والإنجيليين والبروتستانت الرئيسيين، ومن بينهم غروشا دون فورد، حفيدة بيلي غراهام، المبشّر الشهير، وسوزان جونسون كوك، السفير الأميركية السابقة للحرية الدينية، ومايكل كينامون، الأمين العام السابق للمجلس الوطني للكنائس، وجين روبنسون، الأسقف السابق في الكنيسة الأسقفية.

كذلك، تحدّث بايدن في مناسبات عدة بفخر واعتزاز عن والديه اللذين “غَرَسا فيه القِيم الكاثوليكية”. أما في الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الأميركي إلى الكيان الإسرائيلي، في منتصف يوليو/ تموز 2022، فقد ذكّر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يائير لابيد الصحافيين بمقولة شهيرة لجو بايدن حينما كان نائباً للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تقول: “إذا كنتُ يهودياً فسأكونُ صهيونياً. والدي أشار إلى أنه لا يُشترط بي أن أكون يهودياً لأصبح صهيونياً؛ وهذا أنا.. إسرائيل تُعتبر ضرورية لأمن اليهود حول العالم”.

بايدن بهذه المقولة يعلن أمام الملأ أنه صهيوني يفتخر بصهيونيته، وإن لم يكن من اليهود. وهو بذلك يؤكد أن الروح الصهيونية، بعد أن حلّت في الكثير من أتباع الكنيستين البروتستانتية والإنجيلية، انتقلت أيضاً إلى بعض أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وحلّت في رئيس الدولة العظمى في العالم، ونعني بها الولايات المتحدة الأميركية

في السياق، قال بايدن، خلال استقباله رئيس الكيان الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، إنه “لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان علينا اختراعها”. وأرجع بايدن موقفه هذا إلى “القِيم والدوافع والمبادئ المشتركة” بين البلدين؛ لكنه ربط بشكل لافت بين التزامه تجاه “إسرائيل” “والقِيم المسيحية” المزعومة التي حملها عن والده، مشيراً بذلك إلى العلاقة البنيوية بين المسيحية الإنجيلية الأصولية، أو المسيحية الصهيونية كما تُسمى اصطلاحاً، وقيام “إسرائيل”.

المسيحية الصهيونية وحكومة نتنياهو

على خلفية توسع هيمنة اليمين الصهيوني، بكلّ أطيافه، على مؤسسات وآليات صنع القرار في الكيان الإسرائيلي خلال العقود الأخيرة، تبرز أهمية التركيز على فهم العلاقة الوثيقة والمتنامية بين اليمين الأميركي المتصهين واليمين الصهيوني في “إسرائيل”، والمتمثل اليوم في حزب الليكود وأحزاب دينية وقومية متطرفة.

لقد ساعد فوز “الليكود” الإسرائيلي بانتخابات 1996 على إعادة إحياء التحالف المسيحي الصهيوني مع اليمين الصهيوني، خاصة مع صعود بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة. وقد أقام نتنياهو علاقات وطيدة مع المنظمات المسيحية الصهيونية خلال خدمته كمندوب “إسرائيل” الدائم في الأمم المتحدة في نيويورك، في العام 1985.

وعند بداية خدمته، طلب نتنياهو من المنظمات المسيحية الصهيونية جمع التبرّعات المالية لـ”إسرائيل”، بعد انخفاض تبرّعات المنظمات اليهودية الأميركية جرّاء خلافات اعترت المجتمعات اليهودية بأميركا

وقد شجّع نتنياهو حلفاءه في اليمين المسيحي على شنّ الحملات الإعلامية ضد مسيرة التسوية السلمية. في هذا السياق، قام نتنياهو بدعوة القيادات المسيحية الأصولية الأميركية لعقد مؤتمر في الكيان الإسرائيلي لإعلان دعم موقفها المعادي لعملية التسوية. وعند عودة هذه القيادات إلى الولايات المتحدة، شنّت تلك المنظمات حملة إعلامية ركّزت على انتقاد مقترح تقسيم القدس. كما ردّدت ادعاءات إسرائيلية عن سوء معاملة السلطة الفلسطينية للمسيحيين

إذاً، بعد وصول نتنياهو إلى رأس السلطة التنفيذية في الكيان، في العام 1996، تطوّرت العلاقة بينه وبين المسيحيين الصهيونيين في الولايات المتحدة، الذين عدّوا وصوله إلى قمّة الهرم السياسي في “إسرائيل” تحقيقاً لنبوءات الإنجيل والتوراة، وتمهيداً لمعركة هرمجدون الكبرى التي سيقودها المسيح بعد نزوله إلى الأرض وبداية حكم الألفيّة الموعود، بحسب اعتقادهم.

لكن خروج نتنياهو من الحكم في العام 2021، ولو لفترة قصيرة (أقل من عامين)، أثّر كثيراً على تلك العلاقة، والتي لم تعد إلى سابق عهدها حتى اليوم، مع عودة نتنياهو إلى السلطة، في ظل العلاقة الفاترة التي تربطه بإدارة بايدن الديمقراطية في الولايات المتحدة.

فقد سلّطت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية الضوء على الدعم الذي تلقّته “إسرائيل” خلال فترة رئاسة ترامب، والتي تزامنت مع تولّي نتنياهو رئاسة وزراء “إسرائيل”، من جانب المسيحيين الإنجيليين الأميركيين، والذين احتلّوا مكانة أعلى من اليهود الأميركيين أنفسهم لدى “إسرائيل”. وبحسب المجلة، فإنه بالنسبة لمايك إيفانز، القس المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة كان سقوط رئيس نتنياهو أكثر من مجرّد انتكاسة سياسية للحركة التي أقامت علاقات عميقة معه. كما كانت خيانة مريرة للنبوءة التوراتية من قِبل الناخبين الإسرائيليين وجيل جديد من القادة السياسيين

وفي رسالة ناقمة مليئة بالكلمات النابية، نقلت المجلة جانباً منها، انتقد إيفانز رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد نفتالي بينيت، لانضمامه إلى تحالف برلماني من الوسطيين الإسرائيليين وممثلي العرب الإسرائيليين (فلسطينيي 1948) الذين يُخشى أن يدعموا دولة فلسطينية.

وفي مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي، قال مبعوث نتنياهو إلى الولايات المتحدة، السفير رون ديرمر، إن المجتمع المسيحي الإنجيلي قد طغى على الجالية اليهودية الأميركية كأهم الحلفاء السياسيين لـ”إسرائيل” في الولايات المتحدة

وقال ديرمر: “على الناس أن يفهموا أن العمود الفقري لدعم إسرائيل في الولايات المتحدة هو المسيحيون الإنجيليون. نحو 25% من الأميركيين مسيحيون إنجيليون، وأقل من 2% من الأميركيين هم من اليهود. لذا، إذا نظرتَ إلى الأرقام فقط، يجب أن تقضي وقتاً أطول بكثير في التواصل مع المسيحيين الإنجيليين أكثر ممّا تقضيه مع اليهود”.

وقال نتنياهو أمام تجمّع للمسيحيين الإنجيليين في عام 2017، في مؤتمر سنوي استضافه “المسيحيون المتّحدون من أجل إسرائيل”: “ليس لإسرائيل صديق أفضل منكم في أميركا”

مشروع قانون حول الدعوة للمسيحية في “إسرائيل”

في خطوة تكشف حقيقة العداء اليهودي والصهيوني للدين المسيحي، وخوف المستوطنين الإسرائيليين من التأثير المسيحي في أوساطهم، برغم العلاقة الوثيقة والروحية “العميقة” بين “إسرائيل” والمسيحيين الصهاينة الأميركيين، قدّم حزب “يهودوت هتوراه” الديني، الشريك في الحكومة الإسرائيلية، في آذار / مارس 2023، مشروع قانون يحظر على المسيحيين الإسرائيليين والأجانب مشاركة إيمانهم بالدين المسيحي مع إسرائيليين آخرين.

واستناداً إلى نص مشروع القانون، فإن “الشخص الذي يلتمس (يتواصل) شخصاً، بشكل مباشر أو رقمي أو عن طريق البريد أو عبر الإنترنت، من أجل إقناعه بتغيير دينه، تُفرض عليه عقوبة السجن لمدة عام”. ويعلّل مشروع القانون ذلك بأنه “في الآونة الأخيرة، ازدادت محاولات الجماعات التبشيرية، وخاصة المسيحيون، لإغراء تغيير الدين”

وقد أثار مشروع القانون ردود فعل غاضبة في أوساط الإنجيليين في الولايات المتحدة. وكتب حاكم كانساس السابق وعضو مجلس الشيوخ الأميركي السابق، سام براونباك، في تغريدة على تويتر: “لا تحظر الدول الحرّة والديمقراطية ببساطة التبادل الحرّ للأفكار؛ وهذا يشمل المعتقدات والمعتقدات الدينية”.

ونقل موقع “أول إسرائيل نيوز” عن جاك غراهام، كبير القساوسة في كنيسة “بريستون وود المعمدانية” في مدينة دالاس بولاية تكساس قوله: “نظراً إلى صداقة نتنياهو وتحالفه طويل الأمد مع المسيحيين والتزامه الراسخ بالحريّة الدينية وحريّة التعبير، أدعو الله أن يوضح قريباً أن مشروع القانون المزعج هذا لن يصبح قانوناً في عهده”

لكن لاحقاً، تدخّل نتنياهو، وكتب في تغريدة باللغتين العبرية والإنجليزية: “لن نقدّم أي قانون ضد المجتمع المسيحي”. وأعرب يورغن بولير، رئيس “السفارة المسيحية الدولية” في القدس، عن رضاه من بيان نتنياهو. وقال: “نحن نقدّر تأكيدات رئيس الوزراء نتنياهو بأن مشروع القانون المقترح لمكافحة التبشير لن يمضي قُدماً، ونشكره على الإسراع في وضع حد لهذه المسألة”. وأضاف: “لقد فعل الكثير خلال مسيرته السياسية الطويلة لتقوية وحماية علاقات إسرائيل مع المسيحيين في جميع أنحاء العالم، وعاد احتضاننا لهذه الأمّة بحرارة”

ان محاولة قراءة واقع العلاقة القائمة بين الإنجيليين أو المسيحيين الصهاينة في الولايات المتحدة الأميركية واليمين المتطرف الحاكم في الكيان الإسرائيلي، شائكة بعض الشيء، لأن الإدارة الأميركية “الديمقراطية” التي يرأسها جو بايدن تختلف إلى حدٍ ما عن إدارة دونالد ترامب “الجمهوري والإنجيلي”، على الأقل من جهة تغليب البعد الديني المسيحي المحافظ على البعد السياسي أو البراغماتي، كما كانت عليه العلاقة بين إدارة ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية قبل عامين ونيّف، والذي تجسّد في اعتراف ترامب بالقدس كعاصمة أبدية للكيان، وبإحاطة نفسه بالإنجيليين الصهاينة خلال عهده.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن تأثير البعد الديني أو الروحي في مسألة العلاقة التحالفية الاستراتيجية بين الإدارات الأميركية المتعاقبة وبين الكيان الإسرائيلي، هو تأثير مهم وخطير، ولكنه يظل خاضعاً لتأثير المصالح الجيوسياسية والجيواقتصادية للطرفين المعنيين، من دون أن نتجاهل حقيقة أن بايدن وسلفه ترامب، وأغلب الرؤساء الذين سبقوهما، لم يكونوا في الواقع أشخاصاً متدينين أو ملتزمين، ووفق منهج ديني أو تنظيمي واضح؛ وهكذا الحال بالنسبة لزعماء وقادة الكيان الإسرائيلي، منذ “المؤسّس” ديفيد بن غوريون، ووصولاً إلى نتنياهو.

وقد كشفت محاولة إقرار قانون ضد أي عمليات لـ”تنصير” اليهود، أن صهاينة الكيان يختلفون في جوهر عقائدهم أو ثوابتهم مع المسيحيين الصهاينة في الولايات المتحدة، ويلتقون فقط عند مسألة حماية “إسرائيل” وتثبيت وجودها، ليفترقا قبيل معركة هرمجدون الكبرى، والتي ستجلب الموت والدمار فقط للكفّار (المسلمون وغيرهم)، ومن يرفض التحوّل إلى “الدين الحق”، أي إلى المسيحية، في آخر الزمان.

وما يؤكد على غرابة هذه العلاقة وعدم ارتكازها إلى قواعد فكرية أو أخلاقية متينة، هو الاعتداءات الإسرائيلية التي تصاعدت خلال الأعوام الأخيرة، ضد كنائس وأديرة ومقابر للمسيحيين الفلسطينيين، وتحديداً في منطقة القدس وجوارها، والتي حاول نتنياهو التنصل منها أو الحد من تأثيراتها، للحفاظ على علاقاته “المميّزة” مع المسيحيين الصهاينة في أميركا، والتي درّت على كيانه مئات المليارات من الدولارات خلال العقود الماضية، تحت عناوين المساعدات الإنسانية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

ونهاية .. فإن من المهم على الرأي العام الأميركي والنخب المثقفة والمسيّسة أن تعيد التفكير حول أسس وفوائد العلاقة غير الطبيعية التي تربط الجماعات المسيحية الصهيونية المتشددة في الولايات المتحدة بالكيان الإسرائيلي العنصري، الكاره للآخرين، والأكلاف الباهظة التي يتحملّها في النتيجة دافع الضرائب الأميركي , كما أنه يتعين على العرب ان يعيدوا التفكير فى طبيعة تواجدهم وتأثيرهم على الناخب الامريكى , من أجل الحفاظ على المصالح العربية ككل وليس القضية الفلسطسينية فقط .

Tags: المسيحية الصهيونيةبايدنترامبترامب والصهيونية

المصدر: جريدة زمان التركية

كلمات دلالية: المسيحية الصهيونية بايدن ترامب فی الولایات المتحدة للکیان الإسرائیلی الکیان الإسرائیلی مشروع القانون دولة إسرائیل مع المسیحیین أجل إسرائیل نتنیاهو إلى لـ إسرائیل ل نتنیاهو من الیهود فی الکیان فی العام أکثر من من أجل

إقرأ أيضاً:

فوضى القيادة: كيف ستقود “الترامبية” إلى تراجع النفوذ الأمريكي عالمياً؟

 

في ضوء ما تتصف به شخصية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من الاندفاع وصعوبة القدرة على التنبؤ بأفعاله، والولع بتحقيق إنجاز؛ اتجه منذ اليوم الأول في ولايته الثانية إلى اتخاذ العديد من القرارات المثيرة للجدل داخلياً وخارجياً، مستنداً إلى شعار “أمريكا أولاً”. وعلى الرغم من قصر المدة منذ دخول ترامب المكتب البيضاوي في 20 يناير 2025، فإن قراراته، ولاسيما الخارجية، قد أثارت الكثير من الصخب وعززت حالة عدم اليقين، كونها لم تطل الخصوم فقط، وإنما امتدت إلى الحلفاء أيضاً، فضلاً عما حملته القرارات من إعادة تأطير وربما تقويض لأسس وقواعد السياسة الأمريكية على الساحة الدولية، وهو المشهد الذي يُثير العديد من التساؤلات بشأن الانعكاسات السلبية المتوقعة لهذه القرارات على النفوذ الأمريكي عالمياً.

عقيدة ترامب:

خلال القرن العشرين، أدركت واشنطن أن لها دوراً يجب أن تؤديه على الساحة الدولية، وهو الدور الذي رأى السياسي الأمريكي المحنك، هنري كيسنجر، أنه يهدف إلى بناء “إجماع أخلاقي قادر على جعل العالم التعددي عالماً مبدعاً وليس مدمراً”، موضحاً أن أي تصور رصين للمصالح الأمريكية “يجب أن يأخذ في الاعتبار الاهتمام الواسع النطاق بالاستقرار والتغيير السلمي”؛ ومن ثم يتضح أن الولايات المتحدة ليست إمبراطورية بالمعني التقليدي الذي عكسته الإمبراطوريات المتعاقبة على مدار التاريخ؛ فالقوة الأمريكية لا تعتمد فقط على القوة الخشنة، وإنما تعتمد أيضاً على القيم والأفكار والمؤسسات؛ ما يعني استنادها إلى “النموذج المُلهم” الذي سعت إلى تلميعه وبلورته عبر قوتها الناعمة.

وعلى النقيض من ذلك واستناداً إلى شعاري “أمريكا أولاً” و”جعل أمريكا عظيمة مجدداً”، أطلق الرئيس ترامب العديد من التصريحات الشائكة، مثل تلك المتعلقة بالسيطرة على قناة بنما وجزيرة غرينلاند وقطاع غزة، واتخذ عدداً من القرارات المثيرة للجدل، مثل الانسحاب من منظمة الصحة العالمية وفرض رسوم جمركية ضد الحلفاء والخصوم على السواء. ويمكن تفسير هذه القرارات والتحركات وفق أُطر فكرية وفلسفية قديمة في العقلية الأمريكية مثل “عقيدة القدر المحتوم” التي ظهرت لأول مرة كمصطلح عام 1845، والتي تعتبر أن الولايات المتحدة مُقدر لها توسيع أراضيها عبر أمريكا الشمالية، أو اعتبارها محاولة لتبني نهج وطني لتعزيز المصالح الأمريكية من خلال إعادة تفعيل “مبدأ مونرو” الذي ظهر لأول مرة في عام 1823.

انعكاسات سلبية:

يحمل الطابع الترامبي، الذي بات يغلف السياسة الخارجية الأمريكية حالياً، في طياته انعكاسات سلبية على النفوذ الأمريكي عالمياً، بل وربما يؤدي إلى تراجعه، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- خفوت بريق النموذج الليبرالي الأمريكي: لطالما سعت الولايات المتحدة إلى تقديم تأكيدات متكررة مفادها أن هيمنتها وقوة نفوذها على الساحة الدولية نابعة من قوة النموذج الليبرالي الذي تتبناه وتستند إليه سياسياً واقتصادياً، داخلياً وخارجياً، إلا أنه بات من الواضح أن هذا النموذج يخضع حالياً للتشكيك والمراجعة من قِبل ترامب؛ إذ لم يتوقف الأمر عند حد اعتبار ترامب مسؤولاً عن حادثة اقتحام الكابيتول في يناير 2021، وإنما اتجه منذ يومه الأول في البيت الأبيض إلى العمل على تصفية حساباته مع خصومه السياسيين، وهاجم بقوة المعارضين ووسائل الإعلام والموظفين المدنيين، واستخدم بعض الوكالات والمؤسسات الحكومية كأدوات للانتقام، وهو ما اعتبرته الكاتبة ليبي وينكلر، في تحليلها المنشور على موقع (Medium) الأمريكي في 12 فبراير الجاري مثيراً للمخاوف بشأن التزام واشنطن بـ”المبادئ التي طالما روجت لها”. وهذا يتصل بما أكده عالم السياسة الأمريكي، جوزيف ناي، من أن القوة الناعمة الأمريكية تعتمد في جانب منها على “كيفية ممارسة الديمقراطية في الداخل”.

وعلى النقيض مما طرحته بعض التحليلات حول بناء الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين لنفوذ واشنطن عالمياً على الفكرة المتعلقة بـ”التقدم الجماعي للأسواق المفتوحة والمجتمعات المفتوحة” بالاستناد إلى أهميتها في تحقيق الثروة والأمن لواشنطن والدول الأخرى، اتجه ترامب إلى زيادة التعريفات الجمركية ضد الحلفاء والخصوم على السواء. فعلى سبيل المثال، أعلن ترامب، في مطلع فبراير الجاري، فرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا بنسبة 25% وعلى الصين بنسبة 10%، قبل أن يُعلن لاحقاً تأجيلها على المكسيك وكندا لمدة شهر، كما أكدت الإدارة الأمريكية أن الزيادات قد تشهد مزيداً من الارتفاع حال اتجهت هذه الدول إلى اتخاذ إجراءات للرد. إضافة إلى ذلك، كشف ترامب عن نيته زيادة التعريفات الجمركية على الصلب والألومنيوم لتشمل جميع الواردات؛ مما سيؤدي فعلياً إلى إلغاء صفقات مع الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة واليابان وغيرها.

وفي سياقٍ موازٍ، ثمة مؤشرات متزايدة على استناد أعمدة السياسة الخارجية الأمريكية إلى الأفكار الدينية المتشددة، وليس إلى قيم الحرية والقانون وحقوق الإنسان؛ فلم يتوقف الأمر عند حدود تبني رواية الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتشددة وإنما أسهم الدور المتصاعد للإيفانجيليكيين (الإنجيليون الأصوليون) في تأطير بعض القرارات والسياسات؛ وهو ما انعكس بشكل واضح في موقف إدارة ترامب الداعم لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وكذلك الحديث عن ضم الضفة الغربية تحت مسمى “يهودا والسامرة”. وقد مثّل اختيار ترامب للقس مايك هاكابي، حاكم ولاية أركنساس السابق، لمنصب السفير الأمريكي في إسرائيل مؤشراً واضحاً على تنامي هذا التوجه، فقد قال في أحد تصريحاته السابقة: “لا يوجد شيء اسمه فلسطيني”.

2- التشكيك في مصداقية واشنطن كحليف موثوق: على مدار عقود، ارتكزت الولايات المتحدة في دعم قوتها وتعزيز نفوذها على الساحة الدولية، إلى شبكة من الحلفاء والشركاء، وهو ما أبرزه كل من هال براندز وبيتر د. فيفر، في تحليلهما بعنوان: ما فوائد تحالفات أمريكا؟ المنشور في المجلة الفصلية لكلية الحرب التابعة للجيش الأمريكي “باراميترز” في صيف 2017؛ إذ أوضحا أن التحالفات توفر مزايا جيوستراتيجية وسياسية ودبلوماسية واقتصادية تعمل على تدعيم القوة الأمريكية وتحقيق الأهداف الوطنية؛ ومن ثم أشارا إلى أن مثل هذه التحالفات تجعل واشنطن بوصفها القوة العظمى “أكثر نفوذاً”؛ وهو ما يبدو متعارضاً لدرجة بعيدة مع رؤى وأفكار ترامب التي لا تُعوّل على التحالفات، فضلاً عن منحاها القائم على استهداف الحلفاء بنفس وسائل استهداف الخصوم.

لقد أدى الموقف العدائي لترامب تجاه الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو إلى توتر العلاقات مع حلفاء واشنطن الرئيسيين. وهو ما علق عليه ماكس بيرغمان في تحليله بـ”مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” (CSIS)، قائلاً إن العلاقات عبر الأطلسي قد شهدت على مدار التاريخ بعض الخلافات، لكنه اعتبر أن ما تقوم به إدارة ترامب مثل التعريفات الجمركية والإنفاق الدفاعي وتسوية الحرب الأوكرانية؛ سيتسبب في “تغير هذه العلاقات إلى الأبد” بطريقة قد تدفع أوروبا إلى “رسم مسارها الخاص”. كما أشار بيرغمان إلى أن التوصل لصفقة بين جانبي الأطلسي بات غير مرجح في ضوء إصرار ترامب على إعادة صياغة الشراكة “بطريقة تجدها أوروبا غير مقبولة”. إضافة إلى ذلك، فقد وضعت التصريحات المتعلقة بضم جزيرة غرينلاند الدنماركية علامات استفهام حول الالتزام الدفاعي الأمريكي في إطار حلف الناتو بالتوازي مع رغبتها في الاستيلاء على أراضي الحلفاء.

وهو الأمر الذي يمتد إلى كندا والمكسيك اللتين تواجهان قرارات شرسة بفرض رسوم جمركية على الرغم من التفاوض على اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA) قبل بضع سنوات. بالإضافة إلى التعبير عن الرغبة في السيطرة على قناة بنما على الرغم من الاتفاقية الموقعة بين البلدين، وكذلك إجبار كولومبيا على استقبال المهاجرين غير المسجلين. وفي السياق ذاته، فإن اتخاذ ترامب قرارات من شأنها سحب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية أو التخلي علانية عن تايوان، سيسهم في امتداد هذه الحالة إلى آسيا، بما قد يحمل انعكاسات تعزز النفوذ الصيني هناك. ويدلل هذا المشهد على تزايد احتمالات النظر إلى واشنطن كحليف غير موثوق بطريقة قد تدفع الحلفاء للقيام بتحركات مضادة إما من خلال بناء أُطر إقليمية أو متعددة الأطراف، وإما من خلال التقارب مع خصوم الولايات المتحدة.

3- انكماش الانخراط الأمريكي متعدد الأبعاد: اعتمدت الولايات المتحدة لعقود طويلة في تعزيز نفوذها العالمي، على المساعدات الخارجية التي تقدمها للدول المختلفة في مجالات متنوعة. ووفقاً للرئيس الأمريكي الأسبق جون إف كينيدي، فإن الفشل في الوفاء بالتزامات المساعدات الخارجية من شأنه أن يؤدي إلى “كارثة”، فضلاً عن فرض تكاليف باهظة على المدى البعيد؛ مما سيؤدي إلى تعرض “أمن وازدهار الأمة الأمريكية للخطر”. وهو ما يختلف كلية مع رؤية ترامب، الذي اتهم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) بـ”الاحتيال”، معتبراً أن إدارتها تتم من خلال “مجموعة من المجانين الراديكاليين”. واتصالاً بذلك، اتخذ ترامب قراراً بتجميد تمويل الوكالة.

ونظراً للحجم الكبير للمساعدات الدولية الأمريكية؛ فإن أي تغييرات تتعلق بعملها تجد أصداءها في أنحاء واسعة من العالم؛ ومن ثم فإن إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية يعني تعريض المبادرات الإنسانية العالمية للخطر؛ إذ تواجه البرامج التي تعالج أزمات الصحة العامة وسوء التغذية وحقوق الإنسان والاستدامة البيئية والقضاء على الجهل والتعافي من الصراعات وغيرها، حالة من عدم اليقين، بطريقة يمكن أن تحمل تداعيات واسعة وخطرة. على سبيل المثال، فإن إنهاء المساعدات الأمريكية لمنطقة مثل القرن الإفريقي قد يؤدي إلى اضطرابات وعدم الاستقرار وزيادة كبيرة في تدفقات اللاجئين.

لذا، تم إطلاق عدد من التحذيرات المحلية والدولية مفادها أن تحجيم عمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ينطوي على تهديدات للأمن القومي الأمريكي، فضلاً عن النيل من نفوذ واشنطن، وهي المسألة التي فسرتها بعض التحليلات وفق “منطق الفراغ” الذي ستتركه واشنطن، كونه سيسهم في تعزيز فرص الخصوم في توظيفه لصالحهم. فقد اعتبر مايكل شيفر، المدير المساعد السابق لمكتب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في آسيا، أن تعليق إدارة ترامب للمساعدات الخارجية يهدد بإفساح المجال على مصراعيه أمام الصين لتوسيع نفوذها، وربما تسعى روسيا أيضاً إلى استغلال الفراغ الناجم عن انسحاب واشنطن من المساعدات الخارجية.

4- النيل من قوة وتماسك النظام الدولي: دأبت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة على اتهام خصميها الصين وروسيا بالعمل على تغيير النظام الدولي، بوصفهما “قوى مراجعة” أو “قوى تعديلية” (Revisionists)، وذلك في ضوء ما يمثله النظام الدولي بشكله الحالي من رافعة للنفوذ الأمريكي في ضوء كون واشنطن القوة العظمى المهيمنة. ومن المفارقة أن الإدارة الأمريكية الحالية هي من تُشكك في النظام الدولي، وتنال من دوره الذي سعت لتعزيزه على مدار سنوات طويلة. فقد بات واضحاً أن ترامب لا يؤمن بالنظام الدولي القائم على القواعد، ويرى أن نصف الكرة الغربي يمثل مجالاً للنفوذ الأمريكي كما تنظر بكين لتايوان وموسكو لأوكرانيا.

واستناداً إلى ذلك، أطلق ترامب تصريحاته المثيرة للجدل، والتي تمثل انتهاكاً واضحاً لمبادئ الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، ومن أبرزها الاستحواذ على جزيرة غرينلاند، وضم كندا، والتعامل مع غزة كـ”صفقة عقارية” والمطالبة بتهجير الفلسطينيين منها بما يمثل دعوة للتطهير العرقي. وقد ذهب ترامب أبعد من ذلك عبر توقيع مرسوم يقضي بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، على خلفية مذكرة التوقيف الصادرة بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. إضافة إلى ذلك، فقد قرر ترامب، ضمن الأوامر التنفيذية التي وقّعها في يومه الأول بالبيت الأبيض، أن ينسحب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ. وهكذا، يتضح أن رؤية ترامب للنظام الدولي لن تحمل انعكاسات سلبية فقط على قوة وتماسك هذا النظام، وإنما يمكن أن تؤدي أيضاً إلى عزل الولايات المتحدة بشكل متزايد فيما يتعلق بالقضايا العالمية المهمة والرئيسية، بل وربما تعزيز جهود بناء نظام دولي جديد أكثر عدالة بعيداً عن الهيمنة الأمريكية.

الخلاصة أنه من المُتوقع أن تحمل ولاية ترامب الثانية تأثيرات سلبية في صورة الولايات المتحدة ونفوذها عالمياً بالاستناد إلى ما بدا كحالة من تراجع الثقة التي تسبب فيها الرئيس الأمريكي بسبب سلوكه كزعيم متقلب ومندفع، وذلك على الرغم من تركيزه المستمر على هدفه المتعلق بـ”استعادة العصر الذهبي الأمريكي”. لكن سوف تتوقف حدود تراجع النفوذ الأمريكي على عدد من الأمور، منها مفاضلة ترامب بين الاستمرار في سياسة الصخب والفوضى أو اتجاهه لمزيد من التعقل والتريث، وأيضاً حدود اعتماده على نظرية “الرجل المجنون” كوسيلة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب والنطاقات المتوقعة لتوظيفها، إضافة إلى قدرته على إعادة ضبط بوصلة التفاعلات في الساحات المختلفة كبديل عن الانسحاب وتقليل الانخراط، وأخيراً، قدرة الخصوم على استغلال تراجع النفوذ الأمريكي في سبيل تعزيز نفوذهم.

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


مقالات مشابهة

  • “السودان والصومال” ترامب لم يتراجع.. الولايات المتحدة تقترح تهجير سكان غزة إلى أفريقيا
  • ‏وزير المالية الفرنسي: تهديدات ترمب بزيادة الرسوم الجمركية على بعض السلع “حرب حمقاء”
  • “تحالف الراغبين”.. المعارضة الأسترالية تنتقد سعي الحكومة لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا
  • نتنياهو ووزير الخارجية الإسرائيلي يعلنان عن تحالف حزبي جديد
  • ترامب يستخدم وصف “فلسطيني” للإهانة
  • ترامب يعترف بأن حلف “الناتو” يخوض حربا ضد روسيا في أوكرانيا
  • قناة “كان” الصهيونية: سلاح الجو يستنفر تحسباً لصواريخ ومسيّرات من اليمن
  • المعارضة الصهيونية: نتنياهو يرفض دفع الثمن السياسي لوقف الحرب
  • لماذا يهز تعليق الولايات المتحدة للتعاون الاستخباراتي مع أوكرانيا عالم التجسس؟
  • فوضى القيادة: كيف ستقود “الترامبية” إلى تراجع النفوذ الأمريكي عالمياً؟