سنغور.. قصة المسيحي الذي اختاره المسلمون لرئاسة السنغال
تاريخ النشر: 26th, August 2024 GMT
دكار- بعد انقضاء 20 يوما من شهر ديسمبر/كانون الأول 2001، أغمض شاعر "الزنوجة" عينيه إلى الأبد، وفاضت تلك الروح التي طالما عدّها المؤرخون ملهما متألقا لفكر الزنوجة، ولانعتاق الإنسان الأفريقي.
وبوفاته عن 95 سنة ربيعا أفريقيا، أنهى ليوبولد سيدار سنغور رحلته مع المداد والسياسة، ليأوي بعد قداس كاثوليكي إلى ضريح في العاصمة دكار التي احتضنته طالبا وسياسيا ورئيسا ذا قبضة قوية وتأثير مكين، ليتحول -لاحقا- بيته في العاصمة السنغالية دكار إلى متحف يتضمن كثيرا مما ترك الراحل من آثار ومقتنيات.
تقول الروايات إن سنغور ولد لأسرة ثرية من قومية السيرير التي تتوزعها الأديان السائدة في السنغال من إسلام ومسيحية ووثنية، لكنه سرعان ما نفض رداء الترف المخملي، وتحول إلى مناضل من أجل استقلال بلاده.
أبصر سنغور نور الحياة عام 1906، في جوال فاجوت وهي قرية قريبة من العاصمة السنغالية دكار، ونشأ في أسرة متدينة ذات ارتباط شديد بالكنيسة الكاثوليكية، وتلقى تعليمه الأول في سن مبكرة من حياته، وذلك في مدرسة دينية تابعة للبعثة الكاثوليكية في المنطقة.
ولم يصاحب دخوله إلى المدرسة كثيرا من الاحتفاء، إذ يشير في أحد كتبه إلى أن أباه كان يضربه ويقرّعه على تسكّعه الدائم فيقول "وانتهى كي يعاقبني ويربيني بإرسالي إلى مدرسة البيض، رغم معارضة أمي التي رأت أن السابعة سن مبكرة للتعليم".
أبرز منظري الزنوجة وحامل لوائهالقد كان أبرز عنصر في حياة الرجل وتكوينه هو تحويله "السواد" الأفريقي من "منقصة" يدوسها الإنسان الأبيض الذي جاس خلال الديار الأفريقية مستعمرا، إلى ميدان خصب للاعتزاز بالهوية والانتماء، وإلى مجال واسع لتشكيل الذات الأفريقية المفعمة بآثار الطوطم، وأنغام الموسيقى الصاخبة، وابتهاج الألوان الطينية المزركشة، وأغاريد الفلاحين، وأهازيج المقاتلين الأفارقة الفارعي الطول المفتولي العضلات.
ولأن الرجل لم يكن ينتمي إلى هذا الصنف الأخير، فقد كان مقاتلا من خلال الريشة والمداد والألق الشعري، وجعل من اللغة الفرنسية لسان البيان الأفريقي.
وقد أخذت الفرنسية جزءا أساسيا من هوية الرجل وتكوينه، بل لم يكن أمامه من مصدر للتكوين سواها، لكنه نال منها المستوى العالي الذي أهّله لأن يكون أحد مجتهدي لسان بلاد الغال، وذلك عندما أدخله والده مدرسة ابتدائية مسيحية، قبل أن ينتقل إلى ثانوية الأب ليبرمان في العاصمة دكار حيث نال الثانوية العامة سنة 1928 وهو في سن الثانية والعشرين من عمره.
وقد احتاج الشاعر الأفريقي المهووس بهموم بلاده 10 سنوات أخرى ليكون أول أفريقي يتخرج في السوربون، ولعله أيضا أول أفريقي ينال شهادة الدراسات المعمقة في تخصص الأدب والنحو الفرنسيين.
وإذا كانت الهوية الزنجية قد خرجت باكرا من أصلها اللاتيني، وترافق صعود تيارها مع موجة الاستقلال في أفريقيا؛ فإن أوارها الأول قد اشتعل في نيويورك بالولايات المتحدة، ثم امتد إلى فرنسا ذات التاريخ العريق في قتل الهوية الأفريقية وفي تصفيد العنفوان الثقافي للإنسان الأسود.
وقد كانت مجلة "الطالب الأسود"، التي أسسها سنغور مع أستاذه الشاعر المارتينيكي إيمي سيزار (الذي كان أول من اشتق مصطلح أو تعبير الزنوجة)، بمنزلة صيحة احتجاجية ثورية، وكانت العنوان الإعلامي الأول للزنوجة التي تشير إلى الوعي بقضية الزنوج في أبعادها السياسية والثقافية والفكرية.
وتمكنت تلك المجلة من استقطاب عدد معتبر من كتاب وأدباء المداد الأسمر، وعبر صفحاتها كان سنغور ورفاقه ينشرون رؤيتهم الجديدة حول الخصوصية السوداء وما تحمله من قيم تتجسد في أنماط الحياة والثقافات الأفريقية، وضرورة القبول بهذه القيم وما تستبطنه من اختلافات وتباينات عن الآخر.
وبالإضافة إلى ذلك، أخذ سنغور على نفسه تقريب الزنوجة لكي تدخل في أهازيج الرعاة الأفارقة، وتهتز الأرض بها تحت أقدام المصارعين الأفارقة، وتغرسها النساء في الضفائر المجعدة.
أطلق سنغور عبارته الشهيرة "أنت سوداء إذن أنت جميلة" قبل أن يصوغ المطالب الزنجية برؤية كونية غير قابلة للاختلاف حولها وهي "الاعتراف البسيط بحقيقة الإنسان الأسود وقبول هذه الحقيقة، قدرنا أن نكون سودا، بتاريخنا وثقافتنا".
الشاعر الأسير.. تحت ثلج النازية ورصاصهارغم روح الزنوجة الهادرة في دم سنغور، فإنه وجد نفسه مجددا يقتفي خطى القوافل الأفريقية السمراء التي تعبر على دموعها ودمائها الحضارة الغربية المعاصرة، ليجد نفسه في سنة 1940 جنديا يخوض المعارك تحت راية فرنسا وفي مواجهة ألمانيا النازية، ليجد نفسه بعد ذلك أسيرا على مدى عامين، وهي المأساة التي خلّدها في بعض قصائده الذائعة.
ومن الأسر إلى النضال السياسي خرج سنغور مع نهاية الحرب العالمية، لينطلق كفرس أفريقي جامح في سعي إلى إرسال عدالة -لا أرضية لها في ذلك الحين- بين البيض والسود. ومن بوابة تلك المبادئ والأصوات النضالية كما يقول البعض، أو بفعل علاقته الوثيقة بالمستعمر السابق، دخل البرلمان الفرنسي نائبا عن السنغال سنة 1946، وهو المنصب الذي حافظ عليه في دورات 1951، و1956، وبدا أن فرنسا تهيئ الرجل لتسلّم مقعد الحاكم الفرنسي "في باريس الصغيرة"؛ ذلك اللقب الضخم الذي كان الأفارقة يطلقونه على دكار، درة المدائن الأفريقية.
المسيحي المستبد الذي انتخبه المسلمونمع رياح الاستقلال في الفضاء الأفريقي أواخر خمسينيات القرن الماضي وبداية ستينياته، أصبح السياسي السنغالي الشهير لمين غي رئيسا للجمعية الوطنية السنغالية. وتمهيدا للانتقال إلى نظام رئاسي، دعا غي -الذي كان الرجل السياسي الأهم في السنغال- سنغور إلى العودة إلى بلاده لكي تستفيد من خبرته، ولم تكن تلك الدعوة إلا بداية النهاية لطموح ومشروع لمين غي، والمصعد الأكثر سرعة لسنغور لكي يتربع على الحكم في السنغال، بعد أن نال ثقة الأكثرية المسلمة التي دعمتها على حساب ابنها لمين غي.
ومن المفارقات اللافتة أن سنغور تغلب على منافسه لمين غي ليس فقط بسبب الدعم الفرنسي القوي، وإنما بسبب دعم القيادات الدينية التقليدية، وذلك على الرغم من أن غي كان مسلما متدينا، بينما كان سنغور ينتمي لأقليتين: دينية (المسيحية الكاثوليكية)، وإثنية (السيرير).
وبعد أن تجاوز معركة انتخابه رئيسا للبلاد، بتوليه رسميا رئاسة السنغال في أكتوبر/تشرين الأول 1960، جاء تحدي البقاء والاستمرار؛ فاختار سنغور طريقا سياسيا قويا في تثبيت أركان حكمه عبر علمانية حمراء وقوية، وكان قلمه هو مبدع النشيد الوطني السنغالي الذي حمل عنوانا أسطوريا هو "الأسد الأحمر".
كان اللون الأحمر شعار الشيوعية، والكتاب الأحمر إنجيل الاشتراكيين في حقبة الستينيات، وحاول سنغور أن يحول المبادئ الاشتراكية إلى فلسفة في الحكم، ولم يكتف بجعلها عنوان رؤيته لأفريقيا الموحدة، أو بالأحرى أفريقيا الاشتراكية الفرنكفونية.
ويقول مناوئو سنغور إن النشيد الوطني الذي كتبه لم يعبر عن السنغال ثقافة وهوية، وخلا من كل الرمزيات الدينية والتاريخية التي تؤثر في وجدان معظم السنغاليين.
كما أن تلك الروح الشاعرة التي رفرفت بين جوانح سنغور لم تكن هي ذاتها التي أدار بها السياسة، فلم تكن نوافذ الحرية التي فتحها كافية لاستيعاب الخلاف والتنافس والتعدد في المجتمع والسياسة السنغالية، فدخل في خلاف شديد مع وزيره الأول مصطفى جا، قبل أن يتهمه لاحقا بمحاولة تنفيذ انقلاب عسكري، وليلقي به ورفاقه من عسكريين ومدنيين في سجن استمر لبعضهم أكثر من 12 عاما.
وإذا كانت السنغال قد تطورت وتعززت قدراتها الاقتصادية والتنموية والتعليمية والثقافية في عشرينية سنغور التي انتهت بتنازله عن السلطة سنة 1980، وتسلميها لتلميذه النجيب المسلم عبدو ضيوف، فإن المرحلة ذاتها كانت ظرفا زمانيا لكثير من التعسف وإرهاب السلطة الذي أقام بموجبه دون اختيار ولا راحة أكثر من 300 سياسي في السجون، مع أحكام بالمؤبدات والإعدام، بينما اختار آخرون المنافي والهرب خارج البلاد.
ولكن أنصاره -بالمقابل- يرون أن السنغال ارتبط بسنغور، وأن اسمه كان جواز سفر السنغال نحو العالمية، كما يقول الكاتب السنغالي أمادو لامين "سنغور هو تأشيرة دخولنا العالمية".
ويؤكد أحد كتاب سيرته الذاتية وهو مودي نيانغ أن الرجل جعل السنغال "دولة حديثة مستقرة وديمقراطية نسبيا؛ فلا قطاع في البلاد لا يحمل بصماته أكان اقتصاديا أم اجتماعيا أم ثقافيا".
غير أن خصوم سنغور ومناوئيه ينظرون إلى إرثه وتجربته من زاوية أخرى؛ حيث لا يرون فيه أكثر من "مجرد حاكم فرنسي في إهاب أسمر يمثّل دولة فرنسا وحضارتها ورسالتها الثقافية لدى الأمة السنغالية"، كما يقول الأستاذ الجامعي والأكاديمي السنغالي محمد سعيد باه، مشيرا إلى أنه لإسناد هذه الدعوى، يقدّم أصحابها عددا من الشواهد والإثباتات التاريخية مأخوذة من أقوال سنغور وأفعاله على الصعيدين الأدبي والسياسي.
ومن الأمثلة على ذلك -كما يقول محمد سعيد باه- الحبّ الشديد الذي بلغ حدّ الوله، والذي ظل سنغور يكنّه إلى آخر لحظة من حياته للبعثة التنصيرية في دكار التي تربّى في أحضانها؛ بسبب التأثير القوي الذي تركته في نفسيته، وهو ما جعله يتساءل حين انتهى من المرحلة الإعدادية "ترددت بين أن أكون راهبا وبين أن أمتهن التعليم، لكنني في النهاية اخترت أن أكون الاثنين".
ومن مظاهر حبّ سنغور لهذه البعثة -وفق ما يذكر باه في مقال له- تعلّقه الشديد بالأب ليبرمان مؤسسها ورئيسها وصاحب المقولة الشهيرة التي كثيرا ما كان سنغور يرددها في كتاباته الفلسفية والفكرية، حيث يلخّص الرجل رؤيته لرسالة المنصّرين الأوروبيين المنتدبين للعمل في أفريقيا "كونوا زنوجا مع الزنوج لتكسبوهم لعيسى المسيح".
وبشأن موقف سنغور من الإسلام، "من حيث وجوده الحضاري والتاريخي في هذه المنطقة، ومن المسلمين بوصفهم واقعًا بشريا يجب عليه التعامل معه من موقعه في قمة هرم السلطة السياسية السنغالية، نجد أن سنغور يسلك نهجًا أقل ما يُقال عنه إنه لم يكن وديا، على الرغم من الزعم الأجوف بأن الرجل كان متعاطفًا مع الإسلام! إلى درجة أن أحد المشايخ الذين كان سنغور يتكئ عليهم بهدف الاستمرار في حكم شعب مسلم بأغلبية كاسحة تتجاوز 95% يقول عنه "سنغور كافر بقلب مسلم".
خلفاء سنغور.. رحلة الخروج من معطف المؤسسسلم الرئيس سنغور كرسي الحكم إلى خليفته عبدو ضيوف الذي تربى على عينه، وتدرج بسرعة كبيرة في المناصب والمواقع السامية، حتى وصفه معلمه وأستاذه (سنغور) ذات مرة بأنه يملك محركا بقوة 100 حصان من نوع "سنغور".
أخذ الخليفة -الذي تولى الحكم في الخامسة والأربعين من عمره بعد 20 سنة من الخدمة المستمرة تحت رعاية سنغور- في هدم تراث أستاذه، خصوصا أن سنغور حاول لعب دور رئيس الظل، وظل يدسّ أنفه في يوميات الحياة في القصر الرئاسي ويقترح التعيينات، وهو ما أدى سريعا إلى خروج ضيوف من معطف أستاذه، والتخلص من "السنغوريين" واحدا تلو الآخر.
وكان تخليص النظام التعليمي من إرث سنغور أولى وأعمق محاولات طمسه من الذاكرة، قبل أن يعود مجددا مع انعطافة اعتراف بالجميل بدأت منذ سنوات الرئيس السابق عبد الله واد الذي قارع سنغور طوال عشرينيته في الحكم قبل أن يتولى الكرسي الرئاسي بعد 40 سنة من النضال ضد حكام القصر الرئاسي السابقين عليه، عين خلالها مرتين وزيرا في تسعينيات القرن الماضي.
وخلال العقدين المنصرمين بات سنغور أكثر شهرة من ذي قبل لدى الأجيال التي استقبلت الدنيا وهو يغادرها أو يغادر السياسة على الأقل، وخصوصا بعد أن آوى إلى منزل فخم في ضاحية باريس حيث عاش بقية أيامه إلى حين توقف عداد السنين لديه عند الخامسة والتسعين.
منزل سنغور.. ذاكرة بعمر الرئيسحولت الحكومة السنغالية منزل رئيسها سنغور إلى متحف منذ عام 2010، نافضة عنه غبار الهجر والنسيان الذي غرق فيه بيت الرئيس الأول منذ أن غادره إلى فرنسا سنة 1993، ويقع المنزل المكون من طابقين في حي فان ريزيدانس في الساحل الغربي لمدينة دكار على مساحة 800 متر، وتحول إلى قبلة للسياح منذ افتتاحه للزوار سنة 2014، لكنه لم يشهد إقبالا حثيثا، فزواره في حدود بضعة آلاف سنويا.
ويقوم على المنزل عنصر من الدرك كان مرافقا عسكريا خاصا للرئيس سنغور طوال 17 سنة، ويقدم شروحا للزوار، تجمع بين شرح ما يتضمنه المتحف، وقصص أخرى متنوعة، يرويها الرجل عن كل غرفة وكل قطعة وكل زاوية في منزل "شاعر أفريقيا".
تسلمك عتبة المنزل إلى سنغور في تفاصيل حياته، في يوميات شروده الشعري، وثقافته الواسعة، ومكتبته المختارة التي تشمل عناوين هائلة من مختلف الثقافات والأديان، واللوحات المختلفة التي ترسم جزءا من اهتمام الأسرة المختلفة الألوان؛ سنغور وكوليت الشابة البيضاء التي تزوجت رجلا أسود يكبرها بأكثر من 18 عاما، وعاشت معه حياته كلها قبل أن تلتحق به إثر وفاتها سنة 2019.
يحتفظ المنزل بصور وذكريات من العائلة، وفي الطابق العلوي تنتشر صور زوجة الرئيس وأبنائه، حيث تقفز التفاصيل والفروق بين ميولات سكان البيت الراحلين عنه، تبعا لغرف البيت الذي كان يؤويهم ويجمع شملهم الذي فرّقته الحياة في أسر ومدن مختلفة.
لا يمثل المتحف الجزء الكامل من لوحة سنغور لكنه يحتفظ بكثير من تفاصيلها التي عبث بها الزمن وتغيُّر موازين القوى واتجاهات الثقافة، دون أن تقتلع جذور شاعر الزنوجة من لوحة التاريخ الكبيرة، باعتباره الصوت الأكثر عنفوانا للإنسان الأسود، والصورة الأكثر جمعا للمتناقضات بين الذات الأفريقية التي لا تعرف غير المستعمر لسانا للتعبير عن هويتها الثقافية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الذی کان کما یقول أکثر من قبل أن
إقرأ أيضاً:
فيلم وولف مان.. الذئاب تبكي أحيانا
لا يُعد العمل الفني إبداعًا حقيقيا ما لم يُضف قيمة فنية جديدة، وهذا ما حققه المخرج الأميركي لي وانيل في فيلمه الجديد "رجل ذئب" (Wolf Man) لعام 2025. ففي هذه النسخة، لم يكن تحوّل البطل إلى ذئب غاية في حد ذاته، كما هو معتاد في أفلام المستذئبين، بل كان تجليًا لأزمة وجودية تتعلق بالماضي والحاضر الذي يعيشه البطل.
تخلى وانيل عن الصورة النمطية للمستذئب ذي الشعر الكثيف والملامح الحيوانية البارزة، وفضّل استخدام جسد البطل ذاته كوسيط بصري للتحول، ليجعل من هذا التحول مجازًا فنيًا يعكس معاناة رجل مثقل بذكريات طفولة قاسية وواقع أسري مضطرب.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2رحلات سينمائية.. كيف تُحول أفلام السفر إجازتك إلى مغامرة؟list 2 of 24 أفلام عائلية للمشاهدة مع أطفالك في العيدend of listويُعد هذا الفيلم إعادة تصور حديثة لفيلم "الرجل الذئب" (The Wolfman)، الذي أخرجه جو جونستون عام 2010 وتدور أحداثه في أوائل القرن التاسع عشر.
لقد تطور مفهوم "الرجل الذئب" في الأدب والسينما على مدى قرون، لكن ظهوره السينمائي منحه طابعًا جماهيريا استند إلى اللعب الهوليودي التقليدي على مخاوف الإنسان البدائية من الوحوش والظلام، وحتى الدماء.
الرجل الذئب في الأدب والسينماتعود أقدم الإشارات إلى تحول البشر إلى ذئاب إلى القرن الأول الميلادي، وتحديدًا في كتاب التحولات للشاعر الروماني أوفيد، حيث يروي حكاية الملك "ليكاون" الذي حوّله كبير الآلهة زيوس إلى ذئب عقابًا على كفره وجحوده.
إعلانوفي العصور الوسطى، ظل موضوع المستذئبين حاضرًا كما يظهر في رواية "بتر الأنف" للكاتبة الفرنسية ماري دو فرانس في القرن الثاني عشر، التي تحكي عن رجل نبيل يتحوّل إلى مستذئب بعد أن تخونه زوجته.
شهد القرن التاسع عشر انفجارًا في أدب الرومانسية والخيال والمخلوقات الخارقة، وكان للذئاب فيها حضور لافت. من أبرز تلك الأعمال "زعيم الذئاب" للكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس، و"فاغنر الذئب الضاري" (1847) للروائي والصحفي البريطاني جورج دبليو إم رينولدز، وكلاهما استخدم شخصية الذئب في سرد يجمع بين الرعب والعاطفة.
أما أول تجسيد سينمائي لمفهوم الرجل المستذئب، فكان في فيلم "ذئب لندن" (Werewolf of London) عام 1935، لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع فيلم "الرجل الذئب" (The Wolf Man) عام 1941، والذي وضع الأسس التي سار عليها كثير من صناع أفلام الرعب لاحقًا، مثل فكرة التحول عند اكتمال القمر والتأثر بالفضة، وهي عناصر أصبحت من ثوابت تراث المستذئبين في الثقافة الشعبية.
ويثير اختيار الذئب تحديدًا دون غيره من الحيوانات المفترسة تساؤلًا مهما: لماذا الذئب؟ ربما تكمن الإجابة في التشابه اللافت بين الذئاب والبشر في السلوك الاجتماعي خاصة، إذ تعيش الذئاب في قطعان منظمة، تقوم على الولاء والتسلسل الهرمي، تمامًا كالمجتمعات البشرية. كما أن خروج الذئب للصيد يوازي حياة الإنسان البدائية حين كان يعتمد على الصيد والالتقاط.
وفي العديد من الثقافات، تعد الذئاب مساحة خوف خالصة باعتبارها تهديدات محتملة للإنسان وللماشية، مما دفع الإنسان لتحوّل شكلي تضمّن قوة جبارة وغضبا لا يمكن السيطرة عليه. ولعل الأصل في ذلك التحول قد داعب الخيال السينمائي لأول مرة مع مشهد شخص أصيب بالسعار بعد "عضة كلب"، فتحوّل سلوكه إلى ما يشبه سلوك الذئب.
ذئب شرس وأب طيبعرض فيلم "الرجل الذئب" 2010 و"الرجل الذئب" 2025 أسطورةَ الذئب الكلاسيكية، لكنهما يختلفان بشكل كبير في البيئة وتركيز الشخصية والعمق الموضوعي.
إعلانتدور أحداث النسخة الأصلية من فيلم "الرجل الذئب" في إنجلترا عام 1891، وتحكي قصة لورنس تالبوت، الممثل الشهير الذي يعود إلى قريته بلاكمور عقب الوفاة الغامضة لشقيقه، في حبكة تجمع بين الرومانسية والرعب الكلاسيكي.
أما نسخة عام 2025، فتنتقل إلى الريف المعاصر في ولاية أوريغون الأميركية، حيث يرث بليك لوفيل (يؤدي دوره كريستوفر أبوت) منزل طفولته، وينتقل للعيش فيه مع عائلته على أمل بدء حياة جديدة تساعده في تجاوز أزماته الزوجية ومواجهة ذكريات الطفولة المؤلمة التي جمعته بوالده.
في نسخة 2010، يواجه لورنس تالبوت أيضًا ماضيا قاسيا، يشمل وفاة والدته وابتعاده عن والده السير جون تالبوت. ومع عودته إلى مسقط رأسه، يجد نفسه مضطرًا لمواجهة هذه الجراح القديمة، والتي تتعقّد مع تحوله إلى رجل ذئب.
يتعامل بليك في نسخة 2025 مع التوترات العائلية، وخاصة مع زوجته شارلوت (الممثلة جوليا غارنر)، وإرث والده المنفصل عنه جرادي (الممثل سام جايغر)، ويعمل تحوله إلى ذئب كاستعارة للصدمة الموروثة والخوف من أن يصبح مثل والده.
تركز القصة في النسخة القديمة من الرجل الذئب على ما يسببه التحول من رعب لعالمه الخارجي، كما تجسد صراعه مع وحشه الداخلي، وفي النسخة الأحدث، يغوص صناع العمل عميقا في الجوانب النفسية لتحول البطل إلى ذئب، إذ يتابع المشاهد التغيير التدريجي لبليك مع التركيز على رعب الجسد وتآكل إنسانيته، مما يشير إلى قسوة الأزمة النفسية التي يعاني منها وهشاشة حالته.
ويتجلى الخصم الرئيسي في شخصية الأب بنسخة عام 2010، الذي يتبيّن لاحقًا أنه هو نفسه مصدر اللعنة التي حولت ابنه إلى مستذئب، لتبلغ ذروة الصراع في مواجهة دامية بين الأب والابن، محمّلة برمزية عميقة لصراع الأجيال.
أما في النسخة المعاصرة، فينقلب المشهد؛ إذ يتمثل العدو في كائن خارجي يهاجم البطل ويسيطر عليه من الداخل. وعلى مدى نحو ثلث زمن الفيلم، يناضل البطل لحماية أسرته من ذلك الوحش الكامن في داخله، أو من ذاته، حتى وإن كلفه ذلك حياته.
يقف الفيلمان على طرفي رمزين متباينين: في النسخة القديمة، ترمز اللعنة إلى عبء الإرث العائلي والمصير المحتوم، في حين تعكس النسخة الجديدة قلق البطل من التحول إلى نسخة أخرى من والده. وكلا الفيلمين يعيدان إحياء واحدة من أبرز الثيمات التي طغت على الثقافة الغربية في ستينيات القرن الماضي، وهي ثيمة "قتل الأب"، لا بمعناها الحرفي، بل بوصفها تمردًا على الميراث الذكوري التقليدي وسعيًا للتحرر من سلطته الرمزية والثقافية.
إعلان أزمة إيقاعقدّم المخرج لي وانيل في نسخة 2025 معالجة بصرية مميزة لتحول البطل إلى ذئب، أضافت عمقا فنّيا واضحا، لكنه لم ينجح في الحفاظ على إيقاع متوازن؛ إذ بدأ الفيلم بسرعة لافتة، ثم تباطأ بشكل ملحوظ خلال مشاهد التحول الجسدي المفصلة، مما أضعف تماسك التجربة.
تميز وانيل أيضا في توظيف عناصر البيئة المحيطة، مثل الظلام والغابة الكثيفة، لخلق أجواء رعب فعّالة مدعومة بتصوير ذكي لتفاصيل الوجوه وردود الأفعال. وقدّم كريستوفر أبوت أداءً مفعمًا بالألم الداخلي حتى في لحظات الصمت، في وقت انسجم فيه الحزن الطبيعي في ملامح جوليا غارنر مع النبرة الكئيبة التي طغت على أغلب مشاهد الفيلم.